الفصل الثامن والثلاثون :شخص يسوع المسيح في رسائل بولس

 

الفصل الثامن والثلاثون
شخص يسوع المسيح
في رسائل القدّيس بولس

بولس الرسول هو أولا معلّم مسيحي تأمّل وتوسّع في التعليم الذي تسلّمه من جماعات أورشليم وأنطاكية. لم يكن تعليمه مجرّد بناء بناه بنفسه، وبولس الرسول مرتبط بالتقليد. ولكنه لا يكتفي بأن ينقل هذا التعليم نقلاً حرفيًا. هو يفكر فيه ويستعين بمعرفة عميقة للعهد القديم، باطلاع على فكر اليونانيين الديني، بالخبرة المسيحية والعمل الرسولي. لم يؤثّر بصورة خاصة على ما دوّنه الكتاب المتأخرون في العهد الجديد (الإنجيل الرابع، الرسالة إلى العبرانيّين). غير أن تأثيره كان عميقًا على الفكر المسيحي على مرّ العصور، وتعليمه أخصب كل ما قيل عن يسوع المسيح حتى أيامنا.
نقل إلينا بولس تعليمه في رسالات ظرفية لا في مقالات. وتوجّهت رسائله إلى كنائس تقع في مراكز هامّة من الامبراطوريّة الرومانيّة. طُرحت أسئلة، وُجدت حالات، فحاول بولس أن يجيب عليها. من هذه الرسائل سننطلق لنتعرّف إلى شخص يسوع المسيح. سننطلق من روم، 1 كور، 2 كور، غل، أف، فل، كو، 1تس 2 تس، فلم.

1- بولس والتقليد الأولاني
استند بولس إلى تقليد أورشليم وتقليد أنطاكية. فما هي علاقته بهذين التقليدين؟ ننطلق أولاً من الأسماء أو الألقاب التي أعطاها الرسول ليسوع. لن نجد تلك التي نقرأها في الأناجيل وأعمال الرسل: رابي، ربوني، معلّم، نبي، ابن داود، ابن مريم، ابن يوسف، ابن الانسان، ملك إسرائيل، الآتي، القدوس، البار. هذه الألقاب لا تتناسب في نظره مع الإكرام الذي يؤدّيه ليسوع.
أما الأسماء، التي أخذها من التقليد فهي: يسوع ثم المسيح، ثم الربّ. وقد يجمع اسم المسيح مع أسماء أخرى. وما يدهشنا هو أننا لا نجد لقب "ابن الله" إلاّ أربع مرّات، ولقب "الابن" إلاّ مرّتين، ولقب "ابنه" (أي ابن الله) سوى إحدى عشرة مرّة. وهناك أسماء أخرى: "رأس الزاوية" (أف 2: 20)، "الحجر" (روم 9: 32-33)، "الصخرة" (1 كور 10: 4)، "قدرة الله" (1 كور 1: 24).
"رأس الزاوية" هو المسيح يسوع نفسه"، هو "حجر عثار وصخرة زلل، ومن يؤمن به لا يخزى". هو "الصخرة الروحية" التي ترافق شعب الله في تجواله وترحاله، "هو قدرة الله وحكمة الله".
ويستنبط بولس ألقابًا جديدة. يسوع هو "صورة الله" (كو 1: 15)، هو "البكر" (روم 8: 29) بين إخوة كثيرين (كو 1: 15- 18)، هو "الحبيب" (أف 1: 6) الذي لنا فيه الفداء، هو "حكمة الله" (1 كور 1: 24)، وهو "آدم الآخر" (1 كور 15: 24).
هذا العدد القليل من الألقاب المستنبطة يدلّنا إلى أيّ حدّ يرتبط الرسول بالمفردات التي تسلّمها من الجماعات الأولى. وهو يحافظ على التقليد الأول إلى درجة أغفل فيها ألقابًا مثل: الراعي، الوسيط، الحمل، عظيم الكهنة، المحامي، اللوغوس (أو الكلمة). وهذه الألقاب ستنتشر فيما بعد انتشارًا سريعًا. لم يتحدّث بولس عن التكفير ولا عن إشعاع مجد يسوع، ولم يورد ما يتعلّق بالمواضيع اليوحناويّة: الخبز، الحياة، النور، الباب، الطريق، الحق. وإن لقبَ المخلّص عينه لا يرد إلاّ في مقطعين مع أنه متواتر في سائر كتب العهد الجديد. نقرأه في غل 3: 20 مع بعد اسكاتولوجي: "موطننا في السماوات التي منها ننتظر مخلصنا الرب يسوع". وفي أف 23:5: "المسيح هو رأس الكنيسة التي هي جسده، وهو مخلّصها".
أخذ بولس تعليم الكنيسة الأولاني وكيّفه وحاجة السامعين والأسئلة التي تراودهم. فهو يلاحظ مثلاً أن موت يسوع اعتُبر ذبيحة تكفير، فقال في روم 3: 24- 25: "جميع الناس نالوا البرّ مجّانًا بنعمته، ويعود الفضل إلى الفداء الذي قام به يسوع المسيح، وجعله الله كفّارة في دمه". وفي روم 4: 25: "ربّنا يسوع المسيح الذي أسلم إلى الموت من جرّاء زلاّتنا وأقيم من أجل برّنا".
وترتبط روم 1: 3 بعبارة تسلّمها بولس: "في شأن ابنه الذي وُلد من ذريّة داود من حيث إنه بشر". ثم إن لقب ابن الله الذي يدلّ على الملك المسيحانيّ يرد بتواتر في كتابات لوقا. والصلاة الاسكاتولوجيّة "ماراناتا"، أي تعال أيها الربّ (1: كور 16: 22) تشكّل إرثًا من الكنيسة الأولى.
ويشير بولس إلى فعل إيمان في روم 9:10: "فإذا شهدت بلسانك أن يسوع ربّ، وآمنت بجنانك أن الله أقامه من بين الأموات، نلت الخلاص". وفكرةُ العهد الجديد الذي يعتبر موت المسيح ذبيحة تدشينيّة، هذه الفكرة هي تلك التي عبّرت عنها ليتورجيّة عشاء الربّ كما تسلّمها الرسول: "وكذلك أخذ الكأس بعد العشاء وقال: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي" (1 كور 25:11).
وحدّثنا بولس عن المسيح كوسيط في الخليقة (فل 2: 6- 911 كما أشار إلى الربّ الذي هو صورة الله (2 كور 4: 4). فسّر بولس روم 6: 2 ي على أنه سرّ وكان أقدم شاهد عن سرّ عشاء الربّ.
كل هذا يدلّ على أن فكر القديس بولس يغوص في العالم المسيحي التقليدي. ومهما ارتفع فكره وحلّق، كما في 2 كور 12: 1-10، فهو يبقى على اتصال وثيق بإيمان المسيحيين الأوّل.
2- القديس بولس ويسوع التاريخ
ما الذي عرفه بولس عن يسوع كما كان في التاريخ؟
قال بعضهم: إن بولس رأى يسوع في أورشليم وشهد صلبه. ليس هذا بمستحيل وإن يكُن البرهان القاطع عنه صعبًا. ولكن إذا عدنا إلى تلميحات نجدها في الرسائل، نفهم أن بولس كان على علم بوقائع من حياة يسوع ورسالته. فهو يعرف مثلاً أنه من نسل داود (روم 1: 3)، يعرف مولده (غل 4: 4) واتضاعه الإرادي (فل 2: 6- 11؛ 2 كور 8: 9؛ روم 8: 3) ووداعته وصلاحه الغافر (2 كور 10: 1)، ورفضه أن يبحث عمّا يرضيه ويسرّه (روم 3:15). وهو يعرف خيانة يهوذا له، والعشاء السّري الذي ترأسه (1 كور 11: 23-25) وموته وقيامته وصعوده (أف 4: 8).
ثم إن النصائح التي يقدّمها في روم 12: 19- 21 تدلّ على معرفته بتعليم المسيح فيما يخصّ محبّة الأعداء (مت 5: 43-48). وهو يعرف أن يسوع أبدى رأيه بالنسبة إلى الطلاق (1 كور 7: 10)، وفي حق المرسلين أن يعيشوا على حساب الجماعة التي تقوم بنفقتهم (1 كور 9: 4؛ رج لو 10: 7). ويرد في فم بولس قول في أع 20: 35 لا نقرأه في أي مكان آخر: "والسعادة الكبرى في العطاء لا في الأخذ".
هذا ما عرفه بولس من حياة يسوع وتعليمه. ولكنه لا يشير إلى أحداث تمّت بين مولد المسيح وخيانة يهوذا. وإذا وضعنا جانبًا موضوعَ المحبّة، هو لا يلمّح إلى تعاليمه الهامة. وحين يتحدّث عن الشريعة، لا يورد أقوال يسوع في هذا المجال. هذا ما العلم أنه لا يجهل ما قاله المعلّم عن أعظم الوصايا (روم 13: 9- 10).
لم تهتمّ الجماعة الأولى بتدوين سيرة المسيح. وتبعها بولس، مع أنّه اهتمّ بإعطاء حياةَ يسوع وعملَه مدلولهما الكامل. وقد كتب في 2 كور 16:5: "فنحن لا نعرف أحدًا بعد اليوم معرفة بشريّة. فإذا كنا قد عرفنا المسيح يومًا معرفة بشريّة، فلسنا نعرفه الآن هذه المعرفة". هذا لا يعني أن بولس التقى بيسوع خلال حياته على الأرض. وهذا ليس بتلميح إلى رؤية طريق الشام. بل يبدو أن الكلمة تشير إلى معرفة الناس للمسيح في أيام جسده، يوم بدا لهم نبيًا ومعلّمًا. إن بولس لا يتوقّف إلاّ عند الوجهة العلوية لشخص المسيح والى سلطانه الخلاّق. وهذا ما تتضمّنه العبارة التالية: "إذا كان أحد في المسيح، فهو خلق جديد: قد زال كل شيء قديم، وها هوذا كل شيء جديد" (2 كور 17:5).
وهنا يُطرح السؤال: كيف يتصوّر بولس بشرية يسوع؟ لاشكّ في أنه يفكّر بإنسان واقعي حين يتكلّم عن المسيح (روم 5: 15: إنسان واحد هو يسوع المسيح، رج فل 8:2). ولكننا لا نجد عبارة مماثلة لعبارة القديس يوحنا (1: 14): "والكلمة صار بشرًا". فحين يلمّح إلى بشريّة الرب يورد العبارات التالية: "في شبه البشر"، "له هيئة إنسان" (فل 7:2)، "في شبه جسد (أو بدن) خاطئ" (روم 8: 3). رأى بعض الشّراح في هذه العبارات نفحة من الظاهرية (تنكر حقيقة التجسّد). وقالوا: "إن فكر بولس يتراوح بين بشريّة واقعية واتخاذ جسم بشري اتخاذًا خارجيًا وحسب. أراد بولس أن يتجنّب القول إن المسيح حمل مثلنا ثقل جسد متعبّد للخطيئة. ولو قالت هذا القول لظنّ أنه يجدّف. ولهذا تكلّم بطريقة ملتبسة.
ولكن الحقيقة هي أن بولس لا يشكّ إطلاقًا في أن يسوع كان إنسانًا حقًا. نقرأ في 2 كور 8: 9: "تعلمون جود ربنا يسوع المسيح: كيف افتقر لأجلكم وهو الغني لتغتنوا بفقره". وفي غل 4: 4: "فلما تمّ الزمان (أوان الخلاص)، أرسل الله إبنه مولودًا لامرأة، مولودًا في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة" (رج فل 2: 6- 11). فإن استعمل بولس عبارات ليتحدّث عن بشريّة الرب، فلأن "الجسد" (أو البدن) كما نعرفه هو دائرة تتحصّن فيه الخطيئة (روم 7: 14-25). هو يؤمن إيمانًا ثابتًا أن المسيح بلا خطيئة (2 كور 5: 1)، أنه لم يعرف الخطيئة، لهذا يستعمل عبارات تدلّ على أن بشريّته تشبه بشريّتنا ما عدا الخطيئة.

3- يسوع المسيح
إن موقف بولس تجاه مسيحانية يسوع يدلّ على النظرة اللاهوتية التي ينظر بها إلى يسوع المسيح.
حين يشير إلى مواعيد الخلاص التي أعطاها الله منذ زمن بعيد، يتكلّم عن "ابنه المولود من ذريّة داود بحسب الجسد" (روم 1: 3). ويقول في روم 9: 5 عن اليهود: "منهم وُلد المسيح بحسب الجسد".
ويقدّم لنا في 2 تس 8:2 الرب يسوع الذي يزيل الملحد بنَفَس من فمه ويَمحقه بضياء مجيئه. هذا يعني أنه ينسب إلى المسيح وظيفة الديّان المسيحاني ساعة مجيئه. ونقول الشيء عينه عن مقاطع أخرى يشدّد فيها أيضًا على دور المسيح الديّان: "لا بدّ أن نمثل جميعنا أمام منبر المسيح، لينال كل واحد على حسب ما صنع بالجسد، خيرًا كان أم شرًا" (2 كور 5: 10؛ رج روم 2: 16). فالمسيح الذي يتطلّع إليه بولس هو مسيح نهاية الأزمنة.
وإذا كان يسوع هو الديّان، فهو كذلك لأنه المسيح الموعود به، بل لأنه "الربّ المسيح" الذي تحق له العبادة والطاعة. فلو كان الأمر غير ذلك، لشدّد الرسول على مسيحانيته. ولكن هذه المسيحانية تبقى خلف أسماء المسيح يسوع، ويسوع المسيح، والمسيح، والربّ يسوع المسيح. أجل، كل ما في تعليم بولس يتركّز على شخص يسوع.

4- يسوع الربّ
المسيح هو الربّ. هذا التعليم الذي أخذه بولس عن التقليد الأولاني، يُشرف على لاهوته كلّه. فاللقب الخاص بيسوع هو الرب. وحين يستعمله الرسول فهو يعبّر عن فعل عبادة عميقة بحيث لا نميّزه عن اسم الله نفسه.
هناك أربعة مقاطع تشدّد على هذا الواقع.
الأول هو إعلان الارتفاع والاحتقار، نقرأه في 1 كور 8: 5-6. "وقد يكون في السماء أو في الأرض ما يزعم آنهم آلهة، بل هناك كثير من الآلهة وكثير من الأرباب (جمع ربّ). وأما عندنا نحن، فليس إلاّ إله واحد وهو الآب، منه كل شيء وإليه نحن راجعون، وربّ واحد هو يسوع المسيح، به كان كل شيء وبه نحن قائمون".
الثاني نقرأه أيضًا في 1 كور 12: 3 مع هذا الإعلان الواضح: "ولذلك أقول لكم: ما من أحد، إذا تكلّم بإلهام من روح الله، يقول: ملعون يسوع. ولا يستطيع أحد أن يقول: يسوع ربّ، إلاّ بإلهام من الروح القدس".
في الثالث، يشدّد بولس على معنى وبُعد الاعتراف بالايمان المسيحي: "فإذا شهدت بلسانك أن يسوع ربّ، وآمنت بجنانك أن الله أقامه من بين الأموات، نلت الخلاص" (روم 10: 9).
وفي الرابع، نقرأ المجدلة التي تختتم النشيد الكرستولوجي في فل 2: 6- 11: "كيما تجثو لاسم يسوع كل ركبة في السماء وعلى الأرض وفي الجحيم، ويشهد كل لسان أن يسوع المسيح هو الربّ، تمجيدًا لله الآب".
إن هذه الكلمات وغيرها تشدّد في فم بولس وفي الجماعات الهلّينيّة على أن الاعتراف الايماني "يسوع هو الربّ" يعبّر عن الموقف الديني الواجب اتخاذه.
هناك العبارة "نكون مع المسيح"، وهناك خبرة الربّ يسوع الحاضر في شعائر العبادة وفي حياة الجماعة. ثم إن تعلّق الرسول بالمسيح صار قويًا لا باتصاله بيسوع التاريخي فقط، ولا خلال الظهور على طريق الشام وحسب، بل بالأحرى أمام واقع الربّ (كيريوس) الظاهر في الجماعات الأولى العائشة في مناخ هلّيني (أي غير يهودي).
وعلاقات الرسول بالربّ الحيّ، هي علاقات عبد بسيده. نقرأ في 2 كور 4: 5: "لا نكرز بأنفسنا، بل بالمسيح يسوع الربّ. أما نحن فعبيد لكم من أجل يسوع". وفي روم 14: 9: "مات المسيح ثم عاد إلى الحياة ليكون ربّ الأموات والأحيِاء".
المسيح هو في نظر بولس الربّ الذي يملك، الذي يمارس سلطانه، الذي يفرض فرائض. وموقفُ المسيحي هو موقف المؤمن السامع لكلامه الخاضع لأوامره. لا بدّ من أخذ هذه الأمور بعين الاعتبار إذا أردنا أن نفهم بنوّة المسيح في حقيقتها.

5- يسوع ابن الله
يحيلنا بولس مرارًا إلى ربوبية المسيح، إلى المسيح الربّ. ويحدّثنا أيضًا عن بنوّته، عن يسوع الابن. هو يستعمل أربع مرّات عبارة "ابن الله" (روم 1: 4؛ 2: كور 1: 19؛ غل 2: 20؛ أف 4: 13) ومرّتين لقب "ابن" (1 كور 15: 28؛ كو 1: 13)، وإحدى عشرة مرّة يحدّثنا عن الله فيقول: "ابنه": "فالله الذي أعبد في روحي فأبلغ بشارة ابنه" (روم 1: 9؛ رج 1 :3). "فإن تمّ الصلح بيننا وبين الله بموت ابنه ونحن أعداؤه، فما أحرانا أن ننجو بحياته ونحن مصالحون" (روم 5: 10؛ 3:8، 29، 32؛ 1 كور 1: 9؛ غل 1 :16؛ 4:4، 6؛ 1 تس 1: 10).
نجد لفظة الربّ أقلّه 138 مرّة في رسائل بولس، هذا عدا عن عبارات مثل "ربّنا"، "يسوع المسيح" أو "الرب يسوع المسيح"... فإن جمعنا لفظة كيريوس وجدنا أن العدد يصل بنا إلى 222 مرّة. ويجدر القول أيضًا إن الرسول يتكلّم عن الله أبي يسوع المسيح: "تبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح" (2 كور 1: 3). "يعلم الله أبو ربّنا يسوع المسيح" (2 كور 11) 31) "لا ننقطع عن شكر الله أبي ربّنا يسوع المسيح" (كو 1: 3). "تبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح" (أف 1: 3).
نلاحظ أن عبارة "الابن" أو "ابنه" تنتمي إلى عالم التعليم لا إلى عالم العبادة، وأن المسيحيين الأوّلين آمنوا بالابن ولكنهم سمّوه الربّ حين رفعوا الدعاء إليه. وإذ استعملوا لفظة "ربّ"، دلّوا على علاقتهم الشخصية مع المسيح. أما حين تكلّموا عنه كالابن، فقد أشاروا إلى وضعه الإلهي.
هذا يدلّ على أن بولس كان رجلاً متدّينًا قبل أن يكون لاهوتيًا، فتأثّر بالتقليد الليتورجي في الجماعات الأولى. ثم نحن لا ننسى أن هذه الرسائل توجّهت إلى المؤمنين. إن لقب الربّ الذي ينتمي إلى لغة التقوى يتجاوب مع كل متعبّد للمسيح. ولكن حين يفكّر المؤمن بمدلول هذه الكلمة، فهو يحتاج إلى أن يوضحهما لنفسه أو لغيره. هو يقول في التأمّل: "ربّي". وفي إطار الشهادة يزيد: "الهي" (يو 28:20). حين يكلم مؤمنين آخرين عن المسيح يستطيع أن يسمّيه ببساطة: الربّ. ولكن حين يتوجّه إلى اللامؤمنين وإلى الموعوظين أو إلى مؤمنين لم يتعدّ تعليمهم الديني سنَّ المناولة الأولى، فهو يزيد ألقابًا أخرى على لقب الربّ.
توجّهت الرسائل إلى جماعات المؤمنين، ولقد وجّهها إليهم إنسان مشتعل بالإيمان. لهذا استعمل كلمة "الربّ" ليتوجّه إلى المسيح. وحين يريد أن يفهم ما يعني هذا اللقب فهو يلجأ إلى لفظة البنوّة، لاسيّما وأن يسوع سمّى نفسه "الابن".
لا ننسى الرنّة الوثنيّة في لقب "كيريوس" (الربّ)، كما في عبارة "ابن الله". فكل أسماء يسوع التي تحرّك صدى فكر سامعيه الوثنيين، كانت تعرِّض المؤمنين لتفاسير خاطئة. فلا بدّ من أخذ هذا الواقع بعين الاعتبار لكي نفسّر لماذا فضّل بولس لقب "الربّ" على لقب "الابن" أو "ابن الله". وحين ترد لفظة "ابنه" فهي تدلّ على علاقة حميمة بين الآب والابن.
فما هو في تعليم بولس مضمون العبارات التي تتحدّث عن البنّوة؟ وهل يوافق هذا المضمون الشرح الذي قدّمناه؟
نبدأ فنعود إلى النصوص التي أوردناها. حينئذ نكتشف الطابع التعليمي في المقاطع الأربعة التي ترد فيها عبارة "ابن الله".
روم 1: 4: "وجُعل ابنَ الله في القوّة بقيامته من بين الأموات". يتّفق الشّراح على القول إننا أمام قانون إيمان (نؤمن) عرفته الكنيسة الأولى.
غل 2: 20: "إن كنت الآن أحيا في الجسد، فإن أحيا في الايمان بابن الله الذي أحبّني وبذل نفسه عنّي". يستعمل الرسول اللقب ليحدّد الإيمان الذي يعيش منه. وهذا الإيمان يتأسس على ابن الله، على ذلك "الذي أحبّني".
2 كور 1: 19: "لأن ابن الله، المسيح يسوع، الذي كُرز بينكم على أيدينا". نحن هنا في إطار الكرازة والتعليم.
أف 4: 13: "إلى أن ننتهي جميعنا إلى الوحدة في الإيمان وفي معرفة ابن الله. إلى حالة الإنسان البالغ، إلى ملء اكتمال المسيح". إن بنوّة المسيح ترتبط بالمعرفة.
نرى في هذه النصوص الأربعة أننا أمام تعليم أو تحريض. ونستطيع أن نقول الكلام عينه عن نصوص أخرى (خاصة روم 1: 3، 8) تربط لفظة "الإنجيل" بالابن. نحن نجد هنا أيضًا علاقة مع التعليم.
ونشير إلى نقطة أخرى: حين يتكلّم بولس عن "الابن" أو "ابنه"، فهو يميّزه عن الله (الآب). ففي 1 كور 28:15، نستشف اليوم الذي فيه يخضع الابنُ لله بحيث يكون الله كلا في الكل. وفي كو 1: 13 نرى المسيح في علاقة مع الله. إنه ابن حبّه، ابنه الحبيب.
وحسب روم 8: 3، الله يرسل ابنه. في روم 8: 29 نقرأ أن الله يهيّئ البشر ليرسموا في ذواتهم صورة ابنه. وفي 8: 32 يقول لنا بولس: "الله لم يشفق على ابنه الخاص، بل أسلمه عنّا جميعًا".
ونورد أيضًا 1 كور 1: 9 التي تتحدّث عن "شركة ابنه يسوع المسيح" وغل 1: 16 حيث يقال لنا أن الله رضي أن "يعلن ابنه" وأن يرسله (غل 4: 4). و1 تس 1: 10، وفيها يدّلنا بولس على أن كلمة الرب تدين الذين تتوجّه إليهم "وهم ينتظرون ابنه الذي يأتي من السماء، يسوع الذي أقامه من بين الأموات".
ما هي علاقة المسيح بالله في هذه النصوص؟ ليست فقط صفة المسيح كما قال العهد القديم. ليست فقط بنوّة مسيحانية كتلك التي تُعطى للملك يوم يعتلي العرش. هذه العلاقة هي شخصيّة وحميمة. وهي تفترض مشاركة في الطبيعة بين الآب والابن. لاشكّ في أن عبارة ابن الله كانت لقبًا للملك الذي مسحه الله وأرسله. ولكن ابن الله الذي يتكلّم عنه بولس هو كائن علوي يرتبط مع الله برباط وثيق، برباط كياني. لم يبقَ بعد هذا إلاّ خطوة ستصل إليها الكنيسة فتتحدّث عن وحدة الطبيعة بين الأقانيم في الثالوث الأقدس، تتحدّث عن المساواة في الجوهر (أوموأوسيوس) بين الآب والابن.
ونتابع قراءتنا رسائل بولس العشر هذه لنكتشف تعليمه عن علاقة المسيح مع البشريّة، مع الكون، مع الروح، مع الله.

6- المسيح والإنسان بحسب القديس بولس
وتعليم بولس الذي نعالجه الآن يقدّم ثلاث وجهات تلفت انتباهنا: المسيح آدم الثاني، عمل الله في المسيح، علاقة الإيمان بين المؤمنين والمسيح.
أولاً: نقرأ عن الموضوع الأولى في روم 5: 12- 21 و1 كور 15: 21-22، 45-47. يرتبط هذا الموضوع بخبر سفر التكوين (ف 2-3). نجد من جهة عصيان آدم وتجاوزه للوصيّة، ومن جهة ثانية طاعة المسيح وعمل البرّ الذي قام به. وينسب بولس إلى آدم الأول وآدم الثاني دور التمثيل (آدم، المسيح يمثّلان البشريّة) بالنسبة إلى البشرية. ونجد الفكرة عينها في 1 كور 15: 45 حيث يقال لنا: جُعل آدم "نفسًا حية" وصار المسيح "روحًا محييًا".
هذا تعليم الرابّينيين (المعلّمين اليهود) في الشكل الخارجي. ولقد اعتبر بعضهم أن الرسول يلجأ إلى صورة الإنسان السماوي النازلة من العالم العلوي، من عالم النور، ليحرّر البشريّة من رباطات المادة (هذه الفكرة انتشرت كثيرًا بين الغنوصيّين في أيامه). ولكن يبدو أن عبارة الإنسان السماوي (الآتي من السماء رج 1 كور 15: 47) هي في نظر بولس عبارة توازي عبارة "ابن الانسان" التي لم يستعملها. أجل، لقد جاء المسيح ليحرّر الإنسان لا من مادة تخنقه بل من خطيئة تستعبده.
ومهما تكن هذه المسألة، فما يهمّنا من تعليم الرسول هو وظيفة التمثيل التي ينسبها إلى المسيح. والفكرة متضمنة في كل لاهوته، وهي تبرز خاصة في معرض حديثه عن عمل الله في المسيح. وبُعدها واضح بالنسبة إلى الكرستولوجيا. سيتحدّث اللاهوتيون فيما بعد عن المسيح الإنسان. ونحن نستنتج من تعليم بولس أنه جعل من المسيح ممثّل البشريّة فطبع بطابع علويّ تعليمه المتعلّق بالبنوّة وأشار إلى طبيعة الله نفسه وكيانه.
ثانيًا: ما يقوله بولس عن عمل الله في المسيح يقودنا إلى الاستنتاج عينه. فإن كان ينسب إلى الله عمل الخلاص (روم 8:5: دلّ الله على محبّته لنا، 34:8: أرسل ابنه في جسد)، إلاّ أنه يجعل المسيح الفاعلَ الحقيقي لهذا الخلاص، لا وسيطًا منفعلاً. مات المسيح لأجلنا (روم 8:5). مات لأجل خطايانا (1 كور 15: 3). وحين يصوّر دور المسيح التكفيري، فهو يبرزه قائلاً: "واحد مات عن الجميع" (2 كور 5: 14). أو: "الله جعله خطيئة لأجلنا" (2 كور 21:5؛ رج غل 13:3).
نصل هنا إلى التعليم عن الفديّة والفداء. ولكن لا ننسى أن بولس يشدّد على خبرة الاتحاد بالمسيح في الايمان. وهذا التعليم لا يُفهم إن لم يتضمّن بنوّة علويّة. فعند القديس بولس التعليم عن الخلاص (سوتيريولوجيا) لا يفترق عن التعليم عن يسوع المسيح (كرستولوجيا).
ثالثًا: ونستنتج الاستنتاج عينه من هذه المقاطع العديدة التي فيها يتحدّث بولس عن الاتحاد الإيماني بالمسيح. هناك عبارات تدلّ على أن المسيحي "يحيا في المسيح" أو "في الربّ"، أو يموت مع المسيح ويتألّم معه ويُصلب ويُدفن ويمجّد ويقوم معه. نحن أمام أسلوب صوفيّ ومستيكي يدلّ على وحدة المؤمن بالمسيح، ولكننا لا ننسى البعد الكرستولوجي لهذا التعليم. فإذا استعملناه حين نتحدّث عن معلّم أو نبي أو حتى عن إنسان مؤلّه، نكون أمام مبالغة وإفراط. لاشكّ في أننا نستطيع أن ندخل في شركة مع البشر. ولكن شركتنا مع المسيح، كما يصوّرها بولس، تتحقّق في الإيمان، في شعائر العبادة، في الأسرار، مع المحافظة على هويتنا الشخصية. هذه الشركة تتمّ مع شخص فائق الطبيعة. والمسيح الذي يعرفه بولس هو المسيح الموجود منذ الأزل والذي يعلو على الكون. كان غنيًا فافتقر لأجلنا. كان في صورة الله فاتخذ صورة العبد. هو ابن الله الذي جعله أبوه تقدمة وذبيحة. هو الذي أتمَّ أقوال الأنبياء ونفّذ المواعيد. أجل إن المؤمن يدخل في شركة مع هذا المسيح العلوي ويتّحد به.

7- المسيح والكون
إن علاقة المسيح بالكون ترتبط ولاشكّ بطبيعة بنوّته. وهذا الرباط واضح بصورة خاصة في إنجيل يوحنا (1: 3) وفي الرسالة إلى العبرانيين (1: 2-3). تحدّث بولس في كتاباته الأولى عن هذا الرباط الذي يبدو مهمًا من الناحية الكرستولوجية. نتذكّر الدور الوحيد والمحصور الذي ينسبه العالم اليهودي إلى الله في عمل الخلق (رج أش 44: 24)، ونتوقّف عند ثلاثة نصوص.
* النص الأول نقرأه في 1 كور 8: 6: "فنحن لنا إله واحد، الآب، الذي منه كل شيء ونحن إليه، وربّ واحد، يسوع المسيح، الذي به كل شيء ونحن به".
تتعلّق الجملة الأولى بالآب. ففيه يجد الكونُ أساسَ وجوده الأخير. هو الخالق الذي لا وجود لشيء بدونه. ويأتي بعد هذا تأكيد قوي ولكن من نوع آخر، يتعلّق بالمسيح. إنه السبب المباشر للكون وللإنسان نفسه، ذلك "الذي به كل شيء ونحن به". أما عبارة "ونحن به" فهي تلمّح إلى الخليقة الجديدة والروحانية في الإنسان. وعبارة "به كل شيء" تحدّد المسيح على أنه القدرة التي تنظّم الكون وتمنحه ديناميّته.
هذه النظرة قريبة من التعليم عن اللوغوس، عن الكلمة. وتبدو عبارة الرسول مدهشة، خاصة إذا قابلناها مع إعلانات أخرى. مثلاً: "وُلد من نسل داود" (روم 1: 3). "وُلد من امرأة، وُلد في حكم الشريعة" (غل 4: 4). هذه النظرة تتضمّن، في نظر بولس، الكرامةَ الإلهية لمسيح وُجد قبل الأزل.
* النص الثاني نقرأه في روم 36:11: "إن كل شيء هو منه وبه وإليه. فله المجد إلى الدهور. آمين". يتحدّث النص عن الآب لا عن المسيح، وهو يؤكّد أن الله هو ينبوع ومحرّك وغاية كل شيء. نحن هنا أمام إعلان إيماني عن الله الواحد. ولكن ما ينسبه بولس هنا من دور الله في الكون، ينسبه في أماكن أخرى للمسيح.
* النص الثالث، هو النص الكرستولوجي العظيم الذي نقرأه في كو 1: 16-17: "إذ فيه خُلق جميع ما في السماوات وعلى الأرض، ما يُرى وما لا يُرى، عروشًا كان أم سيادات أم رئاسات أم سلاطين: به وإليه خلق كل شيء. إنه قبل كل شيء، وفيه يثبت كل شيء".
نحن أمام نشيد قديم تبنّاه بولس فوضعه في رسالته، نحن أمام نص قريب من 1 كور 6:8. ولكنّه يقدّم أكثر مما في 1 كور 6:8 فيستعمل في جوابه إلى معلمي كولسي الكذبة، لغةً اعتادوا عليها ومارسوها.
فيه يثبت كل شيء. في المسيح يجد كلُّ شيء مكانَه. ويسوع هو حجر الغلقة الذي يحافظ على كل شيء. وعبارة "به"، بواسطته، تدلّ على خلق مع وسيط. وتُزاد فكرة جديدة مع لفظة "إليه" فتدلّ على الهدف والغاية. ما قيل عن الله في روم 11: 36 يقال الآن عن المسيح.
العبارة التي نقرأها هنا تشبه بعض الشيء تعليم الرواقيين عن اللوغوس. قد يكون الرسول تأثّر بهم فاتخذ تعابيرهم ليقول إن كل السلطات التي تعطي الكون كيانه وتحفظه في الوجود، تكمن في المسيح. أخذ بولس كلام هؤلاء الفلاسفة وفجّره ليرفعنا إلى المستوى الإلهي. أجل، إن كرستولوجيا القديس بولس تتجاوز بمضمونها العبارات التي بها تعبّر عن نفسها.

8- المسيح والروح القدس
هناك علاقة وثيقة بيت المسيح والروح القدس. تحدّث الشّراح عن تماثل بين الاثنين أو بالأحرى تشابه في الوظائف.
نلاحظ أولاً في تعليم القديس بولس وجهات من الخبرة المسيحية ترتبط مع المسيح والروح في الوقت عينه. فهو يقول مثلاً: المؤمن هو "في المسيح". وهو أيضًا "في الروح" (روم 14: 17). المسيح "يقيم" في المؤمنين والروح يفعل مثله (روم 8: 9؛ 1 كور 3: 16)، فالحب (كو 1: 8) والتبرير (1 كور 6: 11) والحياة (روم 8: 2، 11) ترتبط بعمل الروح كما ترتبط بعمل المسيح.
نقرأ في روم 8: 9 عن "روح المسيح" و"روح الله" وفي 2 كور 3: 17 يقال لنا بوضوح أن "الرب هو الروح" وأنه "حيث يكون روح الرب فهناك الحريّة". فسّر الشّراح هذه الاية الأخيرة: "حيث الرب هناك الروح". وقال آخرون: "حيث الروح هناك الحرية". ولكن يبقى أفضل تفسير هو الذي يقرِّب هذه الجملة من خر 34:34 التي تتحدّث عن موسى والحجاب الذي يضعه عل وجهه (رج 2 كور 3: 13- 16). والمعنى يكون: "كيريوس (أو الرب) يدلّ على الروح، وحيث هو روح الربّ فهناك الحرية".
وهناك نصوص تميّز تمييزًا كاملاً بين المسيح والروح. نقرأ في روم 8: 16- 17: "فهذا الروح عينه يشهد مع روحنا أنَّا أولاد الله. أولاد، فإذن ورثة أيضًا. ورثة الله، ووارثون مع المسيح، إن كنا نتألّم معه لكي نتمجّد أيضًا معه" (رج 1 كور 6: 11؛ 13:12؛ 2 كور 3: 14). ويقول لنا بولس في أف 18:2: "به، أي بالمسيح، لنا كلنا التوصّل إلى الآب بروح واحد".
علاقات فريدة بين المسيح والروح على مستوى الدرجة وعلى مستوى الوظيفة، وهذه العلاقات الحميمة تعلّمنا أن المسيح هو كائن إلهي وتدلّ على تمييز في الأشخاص داخل اللاهوت. لن نجد بعد العبارات الكاملة عن الثالوث، ولكن المقدمات موجودة في تعليم بولس، فلا يبقى على آباء مجمع نيقية إلاّ أن يستخلصوا منها النتائج.

9- المسيح والله
قال أحد الشّراح: إذا وضعنا جانبًا يو 1: 1 و20: 28، لا نجد تأكيدًا على لاهوت المسيح إلاّ في 2 تم 1: 12؛ تي 13:2؛ 2 بط 1: 1. ويزيد لا نستطيع أن نطبّق المجدلة في روم 9: 5 (ومنهم المسيح بحسب الجسد، الذي هو فوق كل شيء. إله مبارك إلى الدهور. آمين) على المسيح إلا بصعوبة. أما في يو 1: 18 و1 تم 3: 16 فلفظة "الله" تشكّل اختلافة ثانوية.
نشير هنا إلى أن روم 9: 5 قد ترجمت أيضًا: الله الذي هو فوق كل شيء، هو مبارك إلى الدهور. والبرهان الحاسم هو أن بولس لا يسمّي يسوع الله، حتى في 2 تس 1: 12 حيث يغيب التعريف (أل) فلا يمنعنا من أن نترجم الآية على الشكل التالي: "نعمة إلهنا (ونعمة) الربّ يسوع المسيح". ثم إن النصوص التي تتحدّث عن تبعيّة وخضوع (رج 1 كور 23:3؛ 11: 3؛ 15: 28؛ غل 4: 4) يسوع، تدفعنا إلى القول إننا حين نتحدّث عن المسيح وننسب إليه صراحة اسم الله، لا نكون منطقيّين مع لغة بولس الرسول.
إذا أخذنا بهذا التفسير الضيّق لنص روم 9: 5، نجد نفوسنا أمام المشكلة الأساسيّة في الكرستولوجيا البولسية. من جهة، لا يعطي بولس للمسيح اسم الله. ومن جهة ثانية، هو يدخله في الدائرة الإلهية حيث يتكلّم عن علاقته مع البشريّة، مع الكون، مع الروح القدس. ثم هو يستعمل، حين يتكلّم عن المسيح، نصوصًا من العهد القديم تتعلّق بالله. مثلاً، حين يورد يوء 3: 5 (كل من يدعو باسم يهوه يخلص) في 1 كور 1: 2، يقول "كل من يدعو باسم الربّ يسوع المسيح". وأخيرًا يعطي يسوع ألقابًا تجعل منه كائنًا يفوق كل الكائنات، كائنًا إلهيًا: هو "صورة الله" (2 كور 4: 4؛ كو 1: 15)، "البكر" (روم 8: 29؛ كو 1: 15)، "ربّ المجد" (1 كور 8:2)، "وقدرة الله وحكمته" (1 كور 1: 24).
والمسيح هو في نظره الكائن الموجود قبل الكون ومنذ الأزل. وإليك بعض النصوص: "تعرفون نعمة ربّنا يسوع المسيح، كيف أنه وهو الغني، قد افتقر من أجلكم لكي تستغنوا أنتم بفقره" (2 كور 9:8). كان "في صورة الله" (فل 6:2). "وحين جاء ملء الزمن، أرسل الله ابنه" (غل 4:4). "الصخرة هو المسيح" (1 كور 10: 4). "الإنسان الثاني يأتي من السماء" (1 كور 15: 47).
المسيح هو إله وإنسان معًا. هذا ما نستنتجه من نصوص القديس بولس. ولكن تبقى مشكلة النصوص التي تشدّد على تبعيّة المسيح وخضوعه لله.
الأولى، نقرأه في 1 كور 3: 22-23: "كل شيء لكم وأنتم للمسيح والمسيح لله". هناك تدرجُّ صاعد في الظاهر: المؤمنون، المسيح، الله. والثاني، نقرأه في 1 كور 11: 3: "أريد أن تعلموا أن رأس كل رجل هو المسيح. وأن رأس المرأة هو الرجل. ورأس المسيح هو الله". يذكر الإنسان أولاً. ولكن المعنى يتضمّن السلسلة الصاعدة، المرأة، الرجل، المسيح، الله.
ويأتي نص ثالث يلقي ضوءًا على المدلول اللاهوتي للنصّين اللذين ذكرنا. نجد في 1 كور 28:15: "ومتى أخضع له كل شيء، فحينئذ يخضع الابن نفسه للذي أخضع له كل شيء، ليكون الله كلا في الكل". أن نقول "كلا في الكل" أو "كل شيء إطلاقًا"، فالفكر يصل إلى ذروته حيث يشكّل الابن الرباط المباشر بين الأشياء والله. إنه يقف بين الأشياء والله.
وقد استلهم الرسول الخضوع الذي يتحدّث عنه هذا المقطع من مز 7:8: "وضعت كل شيء تحت قدميه". يقول الرسول: كل شيء يخضع للابن، وفي النهاية يَخضع هو نفسه لله. لسنا هنا أمام إله من الدرجة الثانية، كما تقول بعض الشيع. فمثلُ هذه الفكرة غريبة كل الغرابة عن الكرستولوجيا البولسية التي تشدّد بقوّة على أن المسيح هو صورة الله. فالتبعيّة التي يتحدّث عنها الرسول هي نسبية وجد بعيدة عمّا سيقوله آريوس الكاهن الذي سيحكم عليه مجمع نيقية سنة 325.
نحن نفهم اختلاف موقع الابن بالنسبة إلى الآب على مستوى المحبة. لا ننسى أن المسيح هو في نظر بولس ابن محبة الله (كو 1: 13)، والحبيب (أف 1: 6). يبرز هذا الحبُّ في كتابات يوحنا، ولكنه حاضر أيضًا في لاهوت القديس بولس. ونحن نتذكّر أن يسوع قال في يو 14: 18: "الآب هو أعظم منّي". هنا يلاحظ أوسابيوس القيصري أن المقابلة تتم بين أمور من طبيعة واحدة. فإن قابلنا الابن بالآب، هذا يعني أن الابن هو من ذات جوهر الآب.
هذا الاستشهاد يدلّ على ما يفصل تعليم العهد الجديد عن نظريات آباء الكنيسة. ففكر بولس لا يتّخذ في رسائله شكلاً تنظيميًا. هو يتكلّم عن المسيح على أنه كائن إلهي، ويطبِّق عليه ألقابًا وأسماء إلهيّة، وينسب إليه وظائف خلاصيّة لا يقدر أن يمارسها إنسان أو إله من الدرجة الثانية. وفي النهاية يعطيه دورًا في خلق الكون، ودون أن يماثل بينه وبين الروح القدس (أي إن الابن ليس الروح القدس). بالإضافة إلى ذلك، يسوع هو موضوع عبادة، ونستطيع أن نتصل به بالإيمان اتصالاً وثيقًا. لا يسمّيه الله (يحتفظ باسم الله للأقنوم الأول)، بل الربّ (كيريوس). إنه يميّزه عن الآب ويقدّمه في علاقة خضوع للآب.
في هذا الإطار تبرز أمامنا حقيقتان:
الأولى: المكانة المسيطرة للتوحيد في كرستولوجيا القديس بولس. فهو لا يمسّ الإيمان بالإله الواحد بهدف تمجيد المسيح. وهو يشدّد دومًا في عباراته الكرستولوجيّة على الله وعلى عمله. غير أنه يربط المسيح بالله، فيقول في كو 1: 19: "ففيه (أي المسيح) ارتضى الله أن يحلّ الملء كلّه". أو حسب ترجمة أخرى: "كل ملء الله ارتضى أن يحل فيه". ونقرأ أيضًا في 2 كور 5: 19: "كان الله في المسيح مصالحًا العالم" أو "صالح الله العالم في المسيح". فالنقطة الأساسية في هذا التعليم هي أنه حين حلّ الزمان "أرسل الله ابنه" (غل 4: 4). الثانية: ليس هذا التوحيد كما في العالم اليهودي وبالأحرى العالم الإسلامي. فلاهوت القديس بولس هو ثالوثيّ في مضامينه الأخيرة. لاشكّ في أننا لا نستطيع أن نورد مقطعًا من رسائله يعبّر بطريقة حرفية عن التعليم عن الثالوث، كما في مجمع نيقية. ولكن هناك نصوصًا توصلنا إلى هذا التعليم بسهولة تامّة. نقرأ مثلاً في 2 كور 13: 14: "نعمة الربّ يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس تكون معكم أجمعين". وفي أف 2: 18 نقرأ: "فيه (أي بالابن) لنا التوصّل إلى الآب بروح واحد".

خاتمة
لن نتأسّف إن أوقفنا تعليم القديس بولس عند هذا الحدّ، خاصة على مستوى علاقة يسوع المسيح باللاهوت. وحدهم الذين يحاولون أن يجدوا لاهوتًا واحدًا ووحيدًا في كل الكتاب المقدّس سيتأثّرون. ولكن إن انطلقنا من مجمع نيقية ورجعنا إلى الوراء سنرى كيف أن القديس بولس رسم لنا الخطوط الأولى من أجل لاهوت ثالوثي سنقطف ثماره في تعليم آباء الكنيسة والمجامع المسكونية الأولى. ثم إن اهتمامات بولس هي دينية قبل أن تكون فلسفية. وهو يهتمّ بالحياة الروحية قبل اللاهوت العقائدي. ولكن ما يقوله يكفينا لنتابع المسيرة بهدي الروح القدس. هذا ما فعلته الكنيسة وما تزال بفضل المعلّمين فيها.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM