الفصل الثاني عشر نشيد المباركة

الفصل الثاني عشر
نشيد المباركة
1: 67- 79

مبارك الربّ الاله.. هذا هو نشيد المديح الذي أطلقه زكريا ساعة "انفتح فمه وانطلق لسانه فتكلّم " (1: 64). نشيد يفسّر ساعة تاريخ الخلاصّ التي بدأت مع يوحنا. أنار روح الله زكريّا فانطلق من أناشيد معروفة في عصره ليتحدّث عن رسالة الصبي وعن المستقبل الذي ينفتح امامه. إن زكريا يمدح الله بكلمات قديمة يملأها بمضمون جديد. يمتدح أوّلاً أعمال الله في تاريخ الخلاص، ثمّ يعبّر عن تمنياته للمولود الجديد، ويعلن مسبقًا ما تكون رسالته: يتقدّم (يسير أمام) الربّ ليهيّئ الطريق له ويعلم شعبه أن الخلاص هو في غفران خطاياهم (آ 76- 77).
يتحدّد نشيد زكريّا تحديدًا واضحًا، فنعرف بدايته ونهايته. تسبق البداية مقدمة لوقاويّة خاصة: "إمتلأ زكريّا من الروح القدس فتنبّأ قائلاً" (آ 67). وبعد النهاية نستعيد الخبر نثرًا: "وكان الطفل ينمو ويتقوّى في الروح " (آ 80).
حين نقرأ نشيد المباركة هذا نحسّ وكأنه أُقحم اقحامًا في خبر سبقه. فإن آ 80 تتبع مباشرة آ 66 فلا نشكّ بأن شيئًا ما يبدو ناقصًا: "لأن يد الربّ كانت معه... " (آ 66). "وكان الطفل ينمو" (آ 80). ولكنِ إن يكن من اقحام فهو لا يبدو مصطنعًا. فمضمون النشيد يرتبط ارتباطًا متينَا بالقرائن المباشرة. مثلاً نرى في آ 76- 79 التي تصوِّر مسبقًا دور الصبي ورسالته، الجواب على السؤال المطروح في آ 66: "ما عسى أن يكون هذا الطفل "؛ ثم، إذ تورد آ 66- 75 كلمات مباركة زكريّا، فهي تجيب على ملاحظة قرأناها في آ 64: "وفي الحال انفتح فمه وانطلق لسانه فتكلّم وبارك الله ".
ومهما يكن أصل هذا النشيد، فهو الآن حاضر في الخبر النثري وهو يلعب دورًا هامًا. انه يعبّر بشكل مباركة ومديح عن البعد اللاهوتي ومعنى الاحداث المصوّرة هنا.

1- تبارك الله لأنه صنع...
يمتدح الانسان الله لأنه غمره بانعامه. هذا ما نقرأ في نهاية أقسام المزامير: "تبارك الرب الاله، إله إسرائيل منذ الأزل الى الأبد" (مز 41: 14). "تبارك الرب الاله، إله إسرائيل، صانع المعجزات وحده. وتبارك اسمه المجيد الى الأبد، ولتمتلئ الارض كلّها من مجده " (مز 72: 18؛ رج 89: 53؛ 106: 48). تنشد المزامير أعمال الله في الخلق وتاريخ الخلاص، وهذا ما يفعله زكريّا كما يفعله المنشدون في العهد القديم وفي العهد الجديد.
مثلاً، نقرأ في تك 24: 27 صلاة اليعازر، خادم إبراهيم: "تبارك الربّ إله مولايّ إبراهيم، فرحمته ووفاؤه لم يتركا مولاي، وهو قادني في الطريق حتى أوصلني إلى بيت اخي مولايّ ". وقالت النساء لنعمي بعد أن ولد عُوبيد جدّ يسَّى والد داود: "تبارك الربّ ألذي لم يحرمك اليوم من شخص يتولى أمرك ويذكر إسمك في إسرائيل ". وأعلن احيماعص امام داود: "تبارك الربّ إلهك ألذي أسلم إليك الذين رفعوا أيديهم عليك، يا سيدي الملك " (2 صم 18: 28؛ رج تك 9: 26؛ 14: 20؛ خر 18: 10؛ 1 صم 25-32؛ 1 مل 1: 48؛ 5: 21؛ 2 أخ 2: 11؛ عز 7: 27).
تُتلى المباركة في بداية (1 مل 15:8؛ 1 أخ 29: 10؛ طو 3: 11؛ 8: 5) الصلاة أو في نهايتها (2 صم 47:22؛ 1 مل 56:8؛ مز 118: 46 ) فتدلّ على خيرات الله وتدخلاته من أجل شعبه واتقيائه. ولا ننسى في العهد الجديد بداية الرسالة إلى إهل أفسس: "تبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحيّه... " (أف 1: 3- 14).
ونجد عبارة المباركة في الصلاة اليهودية، ولاسيما الصلاة التي تُتلى في المجمع. فصلاة الثماني عشرة مباركة تبدأ: "مبارك أنت أيها الربّ إلهنا واله آبائنا... الذي تذكر أعمال آبائنا الحسنة فأقام فاديًا لأبنائهم ". كم نحن قريبون من نشيد زكريّا: "مباركٌ الربّ (آ 68)... ليرحم آباءنا ويذكر عهده المقدس (آ 72)... اقام لنا قوة الخلاص " (آ 29).
ما يميّز المباركة في مختلف صلوات العهد القديم، هي أنها مديح المؤمن الذي أنعم الله عليه بخيراته. المباركات عديدة في العهد القديم، ولكننا لا نجدها وحدها، بل تمتزج بالطلب والتوسّل. تبدأ الصلاة بالمباركة وتمتدّ في أمور اخرى. مثلاً، صلاة سليمان في تدشين الهيكل التي بدأت بالمباركة: "تبارك الربّ الذي وهب الشعب الراحة بحسب كل مواعيده: لم تسقط كلمة واحدة من كل الأقوال الصالحة التي قالها على لسان موسى عبده " (1 مل 8: 56). ونقول الشيء عينه عن نشيد داود (2 صم 22) حيث تمتزج المباركة بالمديح. اما صلاة المباركة في أف 1: 3- 14 فهي تنحصر في المباركة ولا تتضمّن أي طلب.

2- صلاة في قسمين
تقسم صلاة زكريّا قسمينّ. قِسم أوّل في صيغة الغائب (تفقد هو، أقام هو)، يتحدّث عن تدخلّ الله في حياة شعبه (آ 68- 75). وقسم ثانٍ في صيغة المخاطب (آ 76- 79) وفيها يتحدث زكريّا إلى الصبيّ بإسم الله فيحدّد له مهمته كسابق للمسيح: "وأنت أيها الطفل... تسير قدّام الربّ ". لا يحافظ النصّ على الغائب والمخاطب، ولكن هاتين الصيغتين مسيطرتان. هناك أفعال في صيغة الماضي: تفقد، عمل فداء (افتدى) (آ 68)، اقام (آ 69)، قال (وعد) (آ 70). اقسم (آ 73). انها تدلّ على تدخلّ الله. ونتيجة هذا التدخل نجدها في أفعال ترد في صيغة المصدر: رحمة منه، ذكرًا لعهده (آ 72)، لأعطائنا (بأن يعطينا) (آ 73) لخدمته (حتى نخدمه، نعبده) (آ 74). هذا في القسم الأوّل.
وفي القسم الثاني نجد أفعالا في صيغة المضارع وهي تدلّ على المستقبل الذي يعرفه هذا الطفل. نحن هنا أمام نظرة إلى الوراء. كُتب الانجيل بعد موت يوحنا المعمدان بعشرات السنين. فأراد أن يقرأ بعين الله ما قام به النبيّ
السابق ليسوع المسيح. "ستُدعى، ستسير قدّام) (تتقدّم) (آ 76). ثم في صيغة المصدر" كما في قسم الأوّل: لتهيئة (آ 76)، لأعطاء معرفة (التعلم) (آ 77)، ليضيء، ليهدي (ا 79).
نشير هنا إلى أن لوقا أشار بنفسه إلى تقسيم هذا النشيد قسمين وذلك في آ 64 وآ 67. نقرأ في آ 64: " تكلم وبارك الله ". وهكذا حمل القسم الأوّل (آ 68- 75) موضوع المباركة. ونقرأ في آ 67: "إمتلأ زكريّا من الروح القدس وقال هذه الأقوال النبوّية"، تكلم بإسم الله الذي دعا يوحنا وهو في حشا أمه. ولهذا جاء القسم الثاني يحدثنا عن "نبوءة زكريّا".

3- مقابلة بين القسمينّ
قلنا ان القسم الأوّل، الذي دوّن في صيغة الغائب يتحدّث عن تدخلّ الله، والقسم الثاني الذي ورد في صيغة المخاطب يتحدّث عن رسالة يوحنّا. واذا أمعنّا النظر نرى أيضًا ان القسم الثاني يتكلّم عن تدخلّ الله: فبالنظر إلى تدخل الله في حياة يسوع، يتحدّد موقع رسالة يوحنا ويتوضّح عمله. ولهذا نقول: في الواقع يتضمن كل من القسمين رسمة واحدة نتعرف إليها من خلال إشارات أدبيةْ وموضوعية كما في هذه اللوحة.
القسم الأوّل القسم الثاني
صيغة الغائب صيغة المخاطب
آ 68- 75 آ 76- 79
أ أ أ
1- تدخل الله
مبارك الربّ وأنت أيها الطفل
إله إسرائيل تدعي نبيَّ العليّ
لأنه تفقد لأنك تسير أمام الربّ
وخلص شعبه (آ 68) لتهيّئ الطريق له (آ 76)
وأقام لنا قوّة خلاص ليعطي معرفة
في بيت داود عبده (آ 19) الخلاص لشعبه (آ 77 أب)
2- تحقيق المواعيد
كما قال (وعد) بفم
انبيائه القدّيسين
من قديم الزمان (آ 70)
3- نتائج الخلاص
خلاص بعيد عن أعدائنا في غفران خطاياهم (آ 77 ج)
وأيدي جميع مبغضينا (آ 71)
ب - تدخل الله ب ب

ويصنع رحمة بأحشاء رحمة
لآبائنا ويتذكر إلهنا التي فيها يتفقدّنا
عهده المقدّس (آ 72) من الله، الشمس الشارقة (آ 78)
2- تحقيق المواعيد
القَسَم الذي أقسمه لابراهيم أبينا بأن يعطينا (آ 73)
3- نتائج الخلاص
لكي دون خوف، ننجو من يد ليضيء للّذين هم
أعدائنا، لحدمه (ا 74) في الظلام وظلال الموت
في القداسة والبّر لكي يهدي خطانا
طوال كل أيامنا (آ 75) في طريق السلام (آ 79)

إذن، إن عدّنا إلى القسم الأوّل (آ 68- 75)، نرى أن الله يتدخل حين يقيم قوة خلاصّ (آ 68- 69) وحين يرحم (آ 72). وذلك حسب ما وعد به شعبه وألزم نفسه بمواعيده (آ 70) بأن يحققها (آ 73). وتَبْرُز نتائج الخلاص (آ 71) عندما ننجو من أعدائنا (أمور سلبية) لكي نعبده (أمور إيجابيّة) (آ 74- 75).
ونجد المواضيع عينها في القسم الثاني. أوّلاً: تدخلّ الله في آ 76- 77، تم في آ 78. ثانيًا: وهذا التدخلّ يمنح الخلاص، غفرانًا للخطايا (آ 77 ج، أمر سلبي) وإنارة للناس وتوجيه خطاهم (آ 79، أمور ايجابية).
فمن درفة إلى أخرى تتجاوب العناصر. ففي أ (آ 68- 69) كما في أ أ (آ76- 77) يصوّر لنا تدخل الله في كلمة "خلاص ". وفي ب (آ 72) وفي ب ب (آ 78) في كلمة "رحمة". في أ وفي أ أ ترد كلمة "الربّ " (آ 68، آ 76 ب) وكلمة "نبيّ " (آ70، آ 76 أ).
في أ وفي أ أ يصوَّر لنا الخلاص بشكل سلبيّ: من جهة نتحرّر من أعدائنا (آ 71). ومن جهِة ثانية، ننال غفران الخطايّا (آ 77 ب). وفي ب كما في ب ب يتميّز الخلاصّ أوّلا بالطابع السلبيّ. من جهة، تحرّر من الأعداء (آ 74). ومن جهة ثانية، تحرّر من الظلمة وظلال الموت (آ 79 أ). ثم يتميّز بطابع إيجابي. من جهة، القداسة والبرّ (آ 75) ومن جهة ثانية، السلام (آ 79 ب).

4- تنوّع في التعابير
وهناك إشارة تؤكد قسمة النشيد إلى قسمين: التنوّع في التعبير عن الفكرة. في آ 68- 75 اللغّة والتصورات هي لغّة وتصورات العهد القديم. اما آ 76- 79 فتأخذ تعابير من العهد القديم ولكن الفكرة صارت مسيحيّة في معناها ومبناها.

أ- الجديد في كلمات قديمة (آ 68- 75)
إن الدّرفة الأوّلى (آ 68- 75) تقدّم في كلّ آية (ما عدا آ 70) إستشهادًا بالعهد القديم. لا يأخذ الكاتب آية التوراة كلها، بلّ كلمة، طريقة تعبير، أو مناخ عامّ. في هذا المعنى يقترب نشيد المباركة من الصلوات اليهوديّة في عصره مثل صلاة الثماني عشرة بركة. ونتوقف على شقيّ هذه الدرفة الأولى.

أوّلاً: الشقّ الأوّل: آ 68- 71
يصوَّر تدخل الله في آ 68- 69 في افعال يجمعها حرف العطف (كاي في اليونانيّة): أفتقد، واعطى خلاصًا واقام. فعناصر التأكيد الثلاثة تستنير وتتوّضح الواحد بالآخر. كيف زار الله شعبه؟ حين اعطاه الخلاص. وكيف أعطاه الخلاص؟ حين أقام قوّة خلاص في بيت داود.
"الله تفقّد"، افتقد، زار. عبارة متواترة في العهد القديم، وهيٍ تدلّ على تدخّلات الله من أجل شعبه، أو من أجل أفراد في هذا الشعب. مثلا مز 80: 15: "يا إله الأكوان إرجع، تطلع من السماء وانظر، وتفقّد (تدخلّ من اجل) هذه الكرمة". صف 2: 7: "يكون الساحل لبقيّة يعقوب. هناك يرعون قطعانهم ويرتاحون في بيوت أشقلون عند المساء، لأنّ الربّ إلههم يفتقدهم (يتدّخل من أجلهم) ويحوِّل مصيرهم ".
وغالبًا ما تأتي هذه التدّخلات لتُخرجَ المؤمنين من ضيقهم: من العبوديّة. قال الربّ لموسى. "قررت أن اتدّخل من اجلكم" (أن افتقدكم) (خر 3: 16). من الجوع: "الربّ افتقد (تدخّل من أجل) شعبه ورزقهم طعامًا" (را 1: 6). من الضيق كما في سفر يهوديت (4: 15)، من العقم كما تدّخل من أجل حنّة أم صموئيل: "افتقد الربّ حنّة فحملت وولدت ثلاثة بنين وابنتين " (1 صم 2: 21). ويرى الكتاب في هذه "الزيارات " تتميمًا لمواعيد سابقة. "افتقد الربّ سارة، كما قال. وصنع لها كما وعد" (تك 21: 1). وقال يوسف لاخوته (تك 50: 24): "الله سيفتقدكم (يزوركم)، يتدّخل من أجلكم في أرض مصر ويصعدكم إلى الأرض التي وعد (أقسم) بها إبراهيم وإسحق ويعقوب ".
عرف العالم اليهوديّ هذه الطريقة التوراتيّة في تصوير تدخلات الله. ولنا شهادة في ذلك: بداية وثيقة دمشق (1: 3- 12): "مال بوجهه عن شعبه ومعبده. ولكنه تذكّر عهده (رج لو 1: 72)... فافتقدهم وأخرج من إسرائيل وهارون نبتة... وأقام لهم (= لو 1: 69) معلّم البرّ ليقودهم في طريق قلبه".
وفي وَلي آ 68- 69 يستلهم لوقا أيضًا العهد القديم. ففي آ 69 ب نترجم حرفيًّا: الله "صنع خلاصًا لشعبه ". فاللفظة اليونانيّة (ليتروسيس) التي تترجم الخلاصّ (او الفداء) لا نجدها إلا في موضعين في كل العهد الجديد. ولكننا نقرأها في التوراة اليونانيّة ما يقارب العشر مرات ولا سيما في مز 111: 9: "أرسل الخلاص لشعبه ". ونلاحظ أيضًا أن لغّة نشيد المباركة تتوافق في 1: 73 مع لغّة هذا المزمور في آ 5: "تذكر عهده الأبدي ".
"اقام قوّة (حرفيا= قرن) خلاص "، نحن هنا أيضًا أمام تعبير مأخوذ من العهد القديم، الذي استعمل فعل أقام (ايغايرو) وربطه بأشخاص اقامهم الربّ من أجل خلاص شعبه، مثل القضاة. "وصرخ بنو إسرائيل فأقام الربّ لهم مخلّص (هوعتنيئيل) فخلّصهم " (قض 9:3؛ رج 3: 5 مع أهود). ونجد الفعل في صلاة "الثماني عشرة": "أقام لنا فاديًا (مخلصًا) لأبناء ابنائهم ".
أعلن الإِِيمان اليهودي: تبارك الله الذي أقام لنا مخلصاً. وهتف نشيد المباركة: "تباركَ الله الذي أقام لنا قوّة خلاص ". هتف وكأن الجديد العظيم في تدخل الله الحاسم قد حصل. وإذ أراد أن يعبّر عن هذا الجديد، إستقى من الإِرث القديم كما فعلت صلاة "الثماني عشرة": "إنمِ نبت داود عبدك، وارفع مجدَه بخلاصك الذي نرجوه النهار كله. مبارك أنت يا ربّ لانّك أنميتَ قرن خلا ص" (المباركة الخامسة عشرة). وقال مز 3:18 (= أم 3:22): "أحتمي به وهو صخرتي وترسي وقرن خلاصي وحصني وملجأي ".
ولكنّ الاستقراضات من نشيد داود هذا لا تنحصر في هذه العبارة. فنشيد المباركة قد انطبع في العمق بهذا المزمور. في آ 47 نجد عبارة: "تبارك الله " التي تفتتح نشيد زكريا (آ 68). ويعبّر زكريا عن الخلاص والتحرر من الاعداء. كما في آ 3 (قرن الخلاص)، 36 (الخلاص مجن)، 47 (تعالى خلاصي)، 51 (يعطي الخلاص لملكه)، وكما في آ 4، 18، 49 التي تتحدّث عن "أعدائنا". ونقرأ عبارة: "من يد جميع في آ 1، وعبارة "الذين يبغضوننا" في آ 18. وأخيرًا إن مقدمة المزمور تسمّي داود "عبد الله "، وهذا ما يقوله نشيد المباركة: "في بيت داود عبده" (آ 69).

ثانياً: الشق الثاني: آ 72- 75.
"ليصنع رحمة لآبائنا". يتواصل الشق الثاني مع هذه العبارة التي نجدها أيضاً في نهاية صلاة داود: "أعطى ملكه الخلاص، صنع رحمة (للملك) مسيحه، لداود ونسله الى الأبد" (مز 18: 51).
حين أقام الله في نسل داود حاملَ خلاصه، دلّ على أنه إله الأمور الجديدة، الإِِله الذي يتدخّل بشكل حاسم وبطريقة لم يُسمَع بها من قبل. ويشدّد نشيد المباركة في الوقت عينه على أن الله هو الذي يتذكّر ولا ينسى، ويحقّق ما جعل الإِنسان يستشفه منذ الماضي السحيق.
وترجع آ 72 ب إلى ما بعد داود، إلى الميثاق (العهد) الذي عُقد مع آبائنا. فأي ميثاق يعني هذا الكلام؟ هل ذلك الذي عقده مع إسرائيل في سيناء؟ ولكنّه يرجع بالحري إلى الميثاق الذي عقد مم إبراهيم وهو المذكور في الآية التالية. فعبر ميثاق مع ابراهيم، "عقد الله ميثاقًا (عهدًا) مع آبائنا، أي كل الذين سبقونا في مسيرة الإِِيمان، أي كل نسل ابراهيم المؤمن. وهذا ما تشير إليه نهاية نشيد التعظيم: "ذكر رحمته (رج آ 72 أ) كما كلم آبانا من أجل ابراهيم ونسله إلى الأبد" (54:1).
وسيكون كل هذا واضحًا في أع 25:3: "فانتم ابناء الانبياء والعهد الذي عقده الله مع آبائنا حين قال لابراهيم: بنسلك أبارك كل شعوب الأرض ".
فعبر العهد الخاص الذي عقده الله مع موسى وتعلق باسرائيل، يرجع نشيد المباركة إلى الله الذي عقده الله مع ابراهيم الذي يتعلق بكل "عشائر الأرض ". اللغة خاصة بشعب من الشعوب: آباؤنا، أبونا، أعداؤنا. ولكن الفكرة تبدو شاملة في مضمونها فتعمّ البشرية كلّها.
ولكن حين تحدّث نشيد المباركة عن الميثاق مع ابراهيم فهو لم يجدّد شيئًا. فالعهد القديم نفسه في أجزائه المختلفة يعود مرارا إلى الميثاق الذي عقد مع الآباء. نقرأ في خر 2: 24 عن شعب الله: "سمع الله أنينهم. تذكر الله ميثاقه مع ابراهيم واسحق ويعقوب " (رج خر 3:6- 5). ونقرأ في لا 42:26 جواب الربّ الى توبة شعبه: "سأتذكّر ميثاقي مع يعقوب. سأتذكّر أيضاً ميثاقي مع إسحق. وميثاقي مع ابراهيم. سأتذكّر الأرض" (التي طرد منها الشعب). وفي مز 8:105- 9: "تذكّر دوماً ميثاقه، الكلمة التي أوصى بها إلى ألف جيل، الميثاق الذي بتّه مع ابراهيم وأكّده بقَسَم لاسحق" (رج مز 106: 45؛ 111: 5؛ 1مك 1 :2؛ 4: 10). وتبقى النظرة إلى الميثاق هي هي في العالم اليهودي. هنا نتذكّر مثلاً كتاب اليوبيلات (14: 1- 24؛ 15: 1- 10) والقديميات البيبلية (7: 4؛ 8: 3؛ 9: 4) وسفر عزرا الرابع (3: 15).
ويشهد نشيد المباركة أيضاً على إرتباطه بالعهد القديم حين يشير إلى القَسَم الذي اقسمه الله لابراهيم (آ 73). هي مفردات استعملها الكتاب المقدّس وربطها بالوعد المعطى لابراهيم بنسل وأرض. وهكذا تبدو آ 73 قريبة جدًا من تك 26: 3: "اقم في هذه الأرض فأنا أكون معك وأباركك. واعطي هذه الأرض لك (= اسحق) ولنسلك، وأفي بالقسَم الذي أقسمته لابراهيم أبيك". يرد فعل "أقسم " مراراً في سفر التثنية، وهو مرتبط بالوعد بأرض تعطى للشعب. وهذا واضح بصورة خاصة في تث 6-7 حيث نجد أفكار ومفردات لو 1: 72- 75: القسم للآباء، الخلاص من الأعداء، خدمة الله. "فالربّ الهك تخاف وإيًاه تعبد... تعمل ما هو حقّ وصالح أمام الربّ الهك لتكون سعيداً وتمتلك الأرض الطيبة التي أقسم الله لك بأن يطرد منها جميع اعدائك من أمام وجهك (تث 13:6، 18- 19). ونقرأ في تث 23:6- 24: "الأرض التي أقسم (= لو 1: 73) لآبائنا (= 1: 72) أن يعطينا إيّاها (= 1: 73 ب) لنخاف الرب ونكون سعداء كل أيامنا (= 1: 75، أيام حياتنا) (رج تث 8:7- 9، 12).
وهكذا يبدو القسم الأول (آ 68- 75) من نشيد المباركة متشرباً من مناخ العهد القديم ومفرداته. والشواذ الوحيد، كما قلنا هو آ 70. وهنا نكتشف مواضيع لوقا ومفرداته الخاصة. فالعبارة "قال بفم قديسيه الانبياء في الزمن القديم " نقرأها حرفياً في أع 3: 21 بلسان بطرس في خطبته في الهيكل. وتعود لفظة "بفم " في أع 18:3؛ 7:15. ثم إن مواضيع الوعد والبشارة وتتمّة الوعد معروفة عند القديس لوقا. نجدها مثلاً في خطبة بطرس التي يتحدّث فيها أيضاً عن الانبياء القديسين: "والأنبياء كلهم الذين تكلّموا من صموئيل إلى الذين جاؤوا بعده، قد أنبأوا أيضاً (بمجيء) هذه الأيام " (أع 3: 24).
لا شك في أن لو 1: 70 يشير بصورة خاصة إلى النبي ناتان حين يتحدّث عن "الأنبياء في الزمان القديم ". في آ 69، دلّ الانبياء على مخلّص يخرج من نسل داود، وهذا هو بالضبط موضوع نبوءة ناتان (2 صم 7: 5- 16). وفي خطبة العنصرة سيُعلن بطرس: "وبما ان داود كان نبياً عرف أن الله أقسم له يميناً بأن يقيم (يجلس) على عرشه نسلاً (= المسيح) من صلبه " (أع 30:2). إن الكلمات التي تحتها خط أُخذت من مز 132: 11 الذي يحيلنا الى نبوءة ناتان. وسيكون كلام لوقا فيما بعد صدى لهذه النبوءة في مقطع تبدو كلماته قريبة من كلمات لو 1: 70: "من نسله (= داود) حسب الوعد، أقام الله لاسرائيل يسوع مخلصاً" (أع 13: 23).
كل هذا يدفعنا إلى الاعتقاد بأن آ 70 ألّفها لوقا نفسه. والأمر معقول، ولا سيما وأن هذه الآية تشكل انقطاعاً بين آ 69 وآ 71 اللتين ذَكرتا "الخلاص" فاوضحت الواحدة ما في الأخرى.

ب- كلمات لوقا والجماعات المسيحية (آ 76- 79).
ونصل إلى الدرفة الثانية من النشيد. تتألّف، كما قلنا، من شقين: أ أ (آ 76- 77)، ب ب (آ 78- 79). تصوِّر مسبقاً رسالة يوحنا المعمدان فتقدّم الجواب على سؤال طرحه لوقا في 1 :66: "ما عساه يكون هذا الصبي"؟
تختلف هذه الدرفة الثانية اختلافاً كبيراً عن الدرفة الأولى في التعبير عن الفكرة التي يريد لوقا أن يوصلها إلينا. تحقّقنا أن الدرفة الأولى نُسجت من تذكرات أخذتها من العهد القديم. ولكن هذه التذكرات ستغيب هنا فيحلّ محلّها (كما في آ 70) لاهوت القديس لوقا. وإن يكن هناك من استشهادات فهي "تقليدية" بمعنى أن الإِِيمان المسيحي تبنّاها وكيّفها حسب التعليم الجديد.

أولاً: لغة لوقا ولاهوته
إن الاعلان الذي يوجّهه زكريّا ليوحنّا في آ 76 أ ("تدعى نبي العلي") هو صدى لما أعلنه الملاك لمريم بالنسبة الى يسوع: "سيدعى ابن العلي " (1: 32). إذن، العودة إلى الله ستحدّد منذ البداية دعوة الطفلين: يسوع هو ابن العلي ويوحنا هو نبي العلي. وستوضح آ 76 ب فيما بعد: "تسير أمام الرب". تعود كلمة "سار، مشى" (بوريوماي) 88 مرة عند لوقا، والظرف وأمام " (انوبيون) 35 مرة. وهذا يدلّ على أنّنا أمام تعبير يرد مرارًا عند لوقا.
وفي آ 77، تصوَّر رسالة يوحنا كما ستصوَر رسالة الرسل في سفر الأعمال. قال لو 1:77: "ليعطي شعبه معرفة الخلاص في غفران الخطايا". ونقرأ أوّلاً في أع 4: 10، 12: "فاعلموا جميعاً، وليعلم شعب اسرائيل كله: لا خلاص إلا بيسوع. فما من اسم آخر تحت السماء وهبه الله للناسٍ نقدر به أن نخلص". وقال بطرس أيضاً:. "إن الله رفعه بيمينه رئيساً ومخلصا ليمنح اسرائيل التوبة وغفران الخطايا" (أع 5: 31). وأخيراً حدّث بولس أهل انطاكية بسيدية فقال: يا اخوتي، يا أبناء ابراهيم ويا أيها الحاضرون هنا الذين يتقون الله، اليكم أرسل الله كلمة الخلاص... اذن، ليكن معلوماً عندكم، أننا بيسوع نبشّركم بغفران الخطايا" (أع 13: 26، 38).
فموضوع غفران الخطايا بصورة خاصة، مع موضوع عطية الروح، يعبّران في سفر الأعمال عن بُعْدَيْ الخلاص الذي منحه المسيح لنا (رج أع 43:10؛ 18:26). وهكذا يبينّ نشيد المباركة أن رسالة المعمدان وكرازته هما استباق لرسالة الكنيسة وكرازتها.
وتصوير تدخّل الله وأثره فِي آ 78- 79 يدلّ أيضاً على أننا أمام تعبير لوقا ولاهوته. ففي هاتين الآيتين تبرز مختلف مركّبات خلاص الله وكأنّها تنبع من "أحشاء الرحمة". كلُّنا يعلم أن الرحمة تشكّل صفة الله الرئيسية في لوقا، وأن فعل "تحركت احشاؤه " (اشفق) يرد في ثلاثة مقاطع خاصة بلوقا. في 13:7: يسوع أمام وحيد الأرملة في نائين. في 33:10: عاطفة السامري تجاه الجريح المرمي على جانب الطريق. في 15: 20: تحرّكت أحشاء الأب (أو تحرّكت فيه العاطفة حتى عمق احشائه) حين رأى ابنه عائداً إلى البيت الأبوي.
ونقول الشيء عينه عن موضوع السلام الذي تُماثل آ 79 بينه وبين إحدى وجهات الخلاص. وهذا أيضاً يقابل نظرة لوقا الذي سيحدّثنا في الفصل الثاني عن خلاص الله يعلنه الملائكة بلغة السلام: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام للناس الذين يحبّهم " (14:2). وحين يتكلّم بطرس أمام كورنيليوس سيستعمل الكلمات عينها على ضوء سر الفصح: "إن الله أرسل كلمته إلى أبناء اسرائيل يعلن بشارة السلام بواسطة يسوع المسيح " (أع 36:10). قد نجد في كلام القديس بطرس صدى لما ورد في أش 7:52: "ما أجمل أقدام حامل البشارة على رؤوس الجبال. يخبرنا بالسلام. يبشّرنا بالخير. يخبرنا بالخلاص ".
كل هذا يقودنا الى الوجهة الثانية التي أعلنا عنها: كيف استعمل لوقا الكتاب المقدّس في القسم الثاني من نشيد المباركة؟

ثانياً: عودة الى العهد القديم.
في المقاطع القليلة من القسم الثاني (آ 76- 79) التي نجد فيها استشهادات من العهد القديم، نجد أن هذه الاستشهادات تعكس استعمالاً مسيحياً للأسفار المقدسة.
وهكذا حين تعلن آ 76 عن يوحنا: "تسير أمام الربّ لتهيئ طرقه ، فهي تشير إلى أش 3:40: "صوت صارخ في البرية: هيّئوا طريق الربّ، واجعلوا سبل الهنا قويمة". ونتذكّر هنا أن الأناجيل الأربعة تعود إلى هذا المقطع (مت 3:3؛ مر 1: 2- 3؛ لو 3: 4؛ يو 1: 23). وهكذا يكون نشيد المباركة قد أخذ باستعمال مسيحي تقليديّ.
وتعود آ 79 إلى مقطع آخر من أش 9: 1-2 يتحدّث عن نور عظيم ظهر لينير "الشعب الذي يسير في الظلمة" والذين "يسكنون في ظلال الموت ". وهذا المقطع يرد بوضوح في مت 4: 16: "الشعب الجالس في الظلمة رأى نوراً ساطعاً، والجالسون في أرض الموت وظلاله أشرق عليه نور". وهذا يعني مرّة أخرى أننا أمام استعمال تقليديّ.
في آ 78 ب يدلّ نشيد زكريا على المسيح أنه "كوكب (نجم) العلاء" (اناتولي إكس هبسوس). هذه التسمية الخاصة بالمسيح تجد أصلها في مقطع ار 23: 5 كما نقرأه في السبعينية اليونانية: " ها إنها تأتي ايام، يقول الربّ، فأقيم لداود نبتا عادلاً ويحكم كملك... ويجعل الحق والعدل على الأرض ". إنطلاقاً من هذا النصّ، نرى أن "أناتولي " تعني "النبت" (في العبرية: جمع) والنور او الكوكب الذي يشرق. وهذا صار في العهد القديم اسم المسيح المنتظر في الآتي من الأيام (رج زك 8:3؛ 12:6، المغارة الرابعة في قمران 1: 11 مع تفسير مسيحاني لنص ار 5:23).
في نشيد المباركة، نحن نفهم "اناتولي" بمعنى الكوكب او "الشمس المشرقة"، لا سيما وأن وَلْي النص يصوّر دور الانارة: فكوكب العلاء يساعد الانسان على أن يرى (آ 78 أ) وأن يفتح طريقه (آ 79 أ) حيث تسود الظلمة وظلال الموت. وتطبيق هذه الصورة على يسوع المسيح ظاهر في العهد الجديد. فإليها يعود، ولا شكّ خبر المجوس في مت 2:2: "رأينا نجمه عند شروقه (اناتولي) فجئنا لنسجد له ".

ج- من اللغة إلى الفكر.
إذا كان ما رأيناه صحيحاً، فنحن أمام ملاحظة لافتة للنظر: فهناك انقطاع واضح بين قسمي نشيد المباركة على مستوى التعبير. نرى في الدرفة الأولى (آ 68- 75) تعبيرًا يهوديًا يستلهم العهد القديم. أما في الدرفة الثانية (آ 76- 79) فنجد تعبيرًا مسيحيا او انطبع بالطابع المسيحيّ.
ولكننا سنكتشف هذا الانقطاع أيضاً على مستوى الفكر واللاهوت. فنحس وكأن آ 76-79 تترجم في كلمات مسيحيّة نظرة اليهود إلى الخلاص كما عبّرت عنه آ 68- 75. كأن القسم الثاني من هذا النشيد هو تفسير مسيحي للرجاء اليهوديّ الذي أعلنه القسم الأول.
فإن آ 68- 75 تدلّ على نظرة "وطنيّة" الى المسيح الذي يحرّر اسرائيل شعبه (آ 68) من أعدائهم (آ 71- 74). وهو بهذا يمنحهم الخلاص (آ 71 أ) أو يكون "قرن الخلاص" الذي أقامه الله (آ 69 أ).
هذه النظرة إلى المسيح ظاهرة في العالم اليهودي. يكفينا مثلاً أن نشير إلى مزامير سليمان (23:17- 27) أو ترجوم التكوين (49: 15- 11). نورد هنا مز 17 من مزامير سليمان: "أنظر يا رب، وأقم لهم ملكهم ابن داود في الوقت الذي تعرفه يا الله ليملك على اسرائيل عبدك. ومنطِقْه بالقوّة لكي يحطّم الرؤساء الظالمين. طهّر أورشليم من الأمم التي تدوسها وأهلكهم. ليُطرد بحكمة وعدل الخطأة من الميراث ".
أما نشيد المباركة، فلا يتطلّع إلى الخلاص من. الاعداء في حد ذاته، بل من أجل خدمة الله: "لكي ننجو من أعدائنا فنخدمه في البرّ والقداسة أمام وجهه كل أيّام حياتنا" (آ 74- 75). أجل، هذه النظرة الى دور المسيح تحتفظ بمكانة مهمة للبعد السياسي الوطني. وهذه النظرة يعرفها لوقا وهو الذي كتب في 2: 25: " وكان في أورشليم رجل اسمه سمعان. كان هذا الرجل بارُّا وتقيُّا، وكان ينتظر عزاء اسرائيل ". ونقرأ على لسان تلميذي عماوس (24: 21): "كنا ننتظر انه هو الذي يخلص اسرائيل ". وسيقول التلاميذ ليسوع قبل صعوده: "أفي هذا الزمن تعيد الملك إلى اسرائيل " (أع 1: 6)؟
هذه النظرة سيصححها لوقا فيبينّ في أي معنى يسوع هو المسيح، وما هو نمط الخلاص الذي يحمله. يكفينا هنا أن نقرأ خطب بطرس في بداية الأعمال. "فليعلِم بنو اسِرائيل كلّهم علم اليقين ان الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم ربا ومسيحاً" (أع 2: 36). وقال في المجلس: "إله آبائنا أقام يسوع هذا الذي علقتموه على خشبة وقتلتموه. فهو الذي رفعه الله عن يِمينه " (أع 30:5-31).
تصحيح مهم قام به لوقا. فيسوع هو المسيح حقا، وهو يحمل الخلاص. ولكن هذا الخلاص روحي قبل كل شيء. وهكذا صححت الدرفة الثانية ما كان في الدرفة الأولى من نظرة وطنية متطرفة. تكلّم القسم الأوّل عن خلاص مسيحاني يكمن في نصر على الاعداء (آ 71). فتكلّم القسم الثاني عن غفران الخطايا (آ 77 ب). شدّدت الدرفة الأولى على خلاص من أيدي أعدائنا (آ 74)، أما الثانية فاحتفلت بتحريرنا من الظلمة والموت. ما فهمناه عن القسم الأول بمعنى مسيحانيّة يهوديّة، قد تصحَّح في القسم الثاني وفُسِّر في خط روحي يتوافق واللاهوت المسيحيّ.

5- من أين جاء نشيد المباركة؟
تكاثرت الافتراضات حول أصل نشيد المباركة. وها نحن نذكر ثلاثة مواقف رئيسيّة.

* الموقف الأول: أصل يهودي.
يقول بعض الشرّاح: نحن أمام نشيد أخذه لوقا كلّه او أخذ قسماً منه من العالم اليهودي واقحمه في خبر الطفولة بعد أن نسبه إلى زكريّا الكاهن اليهودي.
ولكن، هذا الافتراض قد ينطبق على القسم الأول من النشيد (آ 68- 75) ما عدا آ 70 التي نكتشف فيها اسلوب لوقا وأفكاره. ولكنه لا ينطبق إطلاقًا على القسم الثاني في تعابيره وأفكاره المسيحيّة.

* الموقف الثاني: أصل مسيحي متهوّد.
هناك مسيحيّون من أصل يهوديّ قد أنشدوا هذا النشيد فأقحمه لوقا في خبره. أما البرهان الأهمّ الذي يسند هذا الموقف فهو أن آ 68-69 تحتفلان بالخلاص وكأنّه حصل منذ الآن فلم يعد لنا أن ننتظر شيئاً. يقول النصّ: "الله افتقد، الله خلّص شعبه، الله أقام قوة خلاص ". هذا يفترض اقتراضًا من أوساط مسيحيّة (متهوّدة) لا من أوساط يهوديّة، كما قال الافتراض الأول. ومن جهة ثانية، إن تذكرات العهد القديم والتصوّرات القريبة من التصوّرات المعروفة في العالم اليهودي تفترض اتصالاً بهذا العالم اليهودي. إذن، انتقل نشيد المباركة الى لوقا من أوساط مسيحيّة تأصّلت في العالم اليهودي.
ولكن، هل تتضمّن فرضيّة الاقتراض ان لوقا أورد النصّ حرفياً كما وصل إليه؟ ما الذي يمنع أن يكون كيّفه وصحّح تعابيره، ولا سيّما حين انتقل منِ المقبل الى الماضي؟ ما هو أكيد هو أن القسم الثاني يعكس تقوى مسيحيّة وافكاراً مأخوذة من العهد الجديد. يرى البعض أن لوقا أخذ جوهر القسم الأول من العالم اليهودي، ثمّ ألّف القسم الثاني مفسِّرًا ما سبق من الوجهة اللاهوتيّة المسيحيّة.

* الموقف الثالث: تأليف لوقا.
يرى أصحاب هذا الموقف أن لوقا ألّف النشيد كلّه، وهو المعروف بتقليده لأسلوب السبعينية اليهوديّة في القرن الأول المسيحي، وأخذ بأسلوب الصلاة التي تُمارس في تلك الأوساط.
لا شك في أن لوقا يقدر أن يؤلف خطبة كاملة بلباقة يعجز عنها أكبر الكتّاب. مثلاً، خطب سفر الأعمال التي تتوجّه إلى اليهود (أع 13: 16- 41) أو الوثنيّين (أع 22:17- 32). ولكن لوقا لا ينطلق من لا شيء ليؤلّف الخطبة. فمضمون الخطب يقابل مضمون الكرازة كما نستطيع أن نتعرّف إليها في أماكن أخرى. إذن نستطيع أن نقول إن لوقا استعمل مرجعا يهوديا توقّفت نظرته إلى المسيح عند حقبة سابقة للمسيحيّة.
ولكن لوقا لم يتوقّف عند القسم الأول، بل أوصلنا إلى المسيح الذي أقامه الربّ نوراً للأمم الوثنيّة، وأرسله ليفتح عيون العميان ويحرّر المحبوسين من سجونهم (اش 42: 6 ي). أجل، المسيح هو شمس الخلاص الذي يحمل الفداء لبشر تسحقهم الخطيئة والموت.
تحدّث نشيد المباركة عن هذا السابق الذي يهيئ الدرب لمن يقود خطانا في طريق السلام. وقبله تحدّث نشيد التعظيم عن الإِِله الذي ينظر الى خائفي الله، الى المتواضعين، الى الجائعين. إنه يسوع المسيح الذي لا يحمل خلاصاً إلى شعب واحد، بل إلى كل الشعوب، وهو الذي أرسل كنيسته لا إلى اليهوديّة والسامرة فقط، بل حتى أقاصي الأرض.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM