الفصل الحادي عشر ميلاد يوحنا المعمدان

الفصل الحادي عشر
ميلاد يوحنا المعمدان
1: 57- 66

بعد لوحتيْ بشارة زكريّا وبشارة مريم العذراء، ها نحن من جديد أمام لوحتين ترسمان ولادة من بُشّر بهما. في اللوحة الاولى، مولد يوحنا وخبر ختانته. ثم نشيد المباركة والردّة عن النموِّ: "وكان الطفل ينمو ويتقوى في الروح " (1: 80). وفي اللوحة الثانية خبر ميلاد يسوع مع نشيد التمجيد يطلقه الملائكة ثم ذِكر الختانة. اما الردّة عن النموّ فستأتي بعد خبر تقديم يسوع الى الهيكل: "وكان الطفل يسوع ينمو ويتقوى ويمتلئ بالحكمة، وكانت نعمة الله عليه " (2: 40).
وجاء زمن الولادة بالنسبة الى اليصابات فولدت ابنًا. هكذا يبدأ الخبر المؤلَف من الولادة والختان ونشيد المباركة، وينتهي بإشارة سريعة إلى حياته في البريّة قبل أن يظهر لبني إسرائيل (1: 80). ولكننا سنتوقف عند الولادة والختان وتسميّة الولد، تاركين لفصل آخر نشيد المباركة ألذي يحتفل بعمل الله الخلاصيّ وينشد المهمة التي سيقوم بها يوحنا، دْلك النبيّ الذي يُهيئ طريق الربّ.

1- الولادة (1: 57- 58)
وحين جاء زمن الولادة. هذه العبارة نقرأها ايضًا في تك 25: 24 عن رفقة أمّ يعقوب وعيسو. ففرح الجميع لهذه الولادة كما سبق الملاك وأعلن ذلك لأبيه زكريّا: ستفرح انت به. سيفرح بمولده كثير من الناس (1: 14).
أجل، إن ولادة يوحنا يغمرها الفرح. فرِحت أليصابات، وفرِح جيرانها معها. الفرحة مثلّثة: وُلد طفل فِي البيت. هذا الولد هو ذَكَرْ. وهذه الولادة تمت لامرأة إنتظرت طويلاً قبل أن تلد فاعتُبرت عاقرًا. فلا نتخيّل الشيّخوخة في سنٍ السبعين او التسعين، فهناك بلدان في العالم الثالث يعتبرون الانسان صار شيخا في عمر الخمسين.
ولكن هذه الفرحة تجهل ساعة تاريخ الخلاص. دقّت اليوم فكانت إشارة خفيّة لولادة ثانية تحمل المجد لله في العلى وللارض السلام. تحمل إلى البشرّ "المسيح الربّ".
ويفيض فرح القلب في نشيد مديح لله: الله عظّم رحمتّه معها، أي أظهر عِظَمَ رحمتَه تجاهها. نحن هنا أمام بداية نشيد ستطلقه مريم بعد أن نظر الله إلى تواضع أمَتِه: "تعظم نفسي الربّ وتبتهج روحي بالله مخلصيّ “ (1: 46- 47).
فالشكر وعرفان الجميل لمآثر رحمة الله هما ينبوع فرح، لا لذلك ألذي كان موضوع رحمة الله وحسْب، بل للذين يكتشفون فِعلات الله أيضا، ويمجدّونه عليها. هذا ما نكتشفه عند القديس بولس في رسالته إلى أهل فيلبي (2: 7 1- 18): "فلو سفكت دميّ قربانًا على ذبيحة إيمانكم وخدمته، لفرحت وابتهجت معكم جميعًا. فأفرحوا أنتم أيضًا وإبتهجوا معي".

2- الختانة (1: 59 أ)
كانت الختانة تمارس ثمانيّة أيام بعد الولادة. تلك كانت فريضة الشريعة. "هذا هو عهدي (ميثاقي) الذي تحفظونه. يكون بيني وبينكم بيني وبين نَسلِك من بعدك: يختن كلّ ذكر منكم. تختنون القِلفَة من أبدانكم ويكون ذلك علامة عهد بيني وبينكم. يختن كلّ ذكر منكم وهو إبن ثمانيّة أيام " (تك 17: 10- 12). وقال لا 12: 3: "وفي اليوم الثامن تختن قِلفة المولود". وهكذا ينتمي الولد إلى الشعب عبر علامة في بدنه فلا ينسى انتماءه حتى الموت. ويسوع نفسه خُتِنَ فدخل في شعب من الشعوب بأنتظار أن يخلّص جميع الشعوب.
نشير هنا إلى أن شعيرة الختانة تطورت في شعب إسرائيل. كان الذكّر يُخْتَن قبل الزواج، أي في السنة الثالثة عشرة، فكانت ختانته تكريسًا للربّ. هذا ما حدث لأسماعيل بن إبراهيم (تك 17: 25). ولكن بعد الذهاب إلى المنفى وتضعضع الشعب المؤمن بالله الواحد بين الشعوب الوثنية، صارت الختانة تمارس في الذَّكر وهو أبن ثمانيّة أيام. فأهميّة أليوم ألثامن معروفة كأنطلاقة من أجل حياة جديدة. نشير هنا إلى عادة الكنيسة بأن تعمدّ الأولاد في أليوم الثامن، فتدلّ على إنتمائهم إلى عائلة الله وإلى جماعة شعب الله الجديد.

3- تسميّة الولد (1: 59 ب- 63)
يُعطى الاسم في إسرائيل عند الولادة. لا شك في أن لوقا تأثر بالعوائد اليونانيّة حيث يعطى الولد إسمه في أليوم الثامن أو في أليوم التاسع إذا كان المولود ذكرًا. هناك في الأوساط اليهوديّة طقسان متميّزان: طقس أوّل يعطى فيه الولد إسم، وهو يتمّ عند الولادة. وطقس ثانٍ يتمّ بعد ثمانيّة أيام فَيُخْتَن الصبيّ وينضمّ إلى جماعة العهد. أما لوقا فدمج الطقسيّن في طقس واحد.
بالإِضافة إلى ذلك بسِّط الوضع بعض الشيء حين تحدّث عن تسميّة الولدّ. قال: إن الجيران "أرادوا أن يسموه زكريّا باسم أبيه ". في العوائد الشرعية الأب هو ألذي يعطي الاسم لأولاده، وقد تتدخَّل الأم بعض المرات. أما الأسم الذي يُعطى فهو إسم الجدّ لا إسم الأبّ (الا قليلاً نادرًا). ولكن قد يتدّخل الجيران ويشاركون في إختيار هذا الأسم. هذا ما حدث لعُوبيد والد يسَّى جدّ داود: "قالت الجارات: ولد لنعمي (بواسطة راعوت كنتها) إبن وسمَيْنَهُ عُوبيد" (را 17:4). ثم إن طوبيا الشاب سُمّي بإسم أبيه (طو 1: 1، 9). وعلى هذا الأساس تدّخل الجيران واقترحوا إسمًا للولد كإسم أبيه: زكريّا، أي إن الله تذكّر أليصابات بعد أن حبس رحمها وأعطاها ولدًا.
هناك أمور عديدة يحدّدها التقليد والعوائد: "ما من أحد في عشيرتك تسمى بهذا الاسم ". ولكن السؤال الحاسم يبقى هو هو: ما هي إرادة الله؟ الله لا يختار الطرق المعبدة والعادات المألوفة. طرقه ليست طرق البشر وأفكاره ليست أفكار البشر (اش 8:55). البشر يتوقّفون عند منظر الجسم والعينين، أمّا الله "فإنه ينظر إلى القلب " (1 صم 16: 7 - 8). وهو ألذي إختار لهذا الولد إسم يوحنا منذ بشرّ به: "تسمّيه يوحنا" (1: 13). ولكن كيف السبيل إلى معرفة إرادة الله؟
إختارت أليصابات إسم "يوحنّا" لأنها عرفت إرادة الله بروحها النبوّية. امتلأت من الروح القدس فتعرفت إلى الصبيّ الذي في احشاء مريم (1: 41) وامتلأت من الروح فعرفت ارادة الله في ابنها. إنها تشبه إلى حدّ بعيد حنة إبنة فتوئيل في تعرفها إلى الطفل يسوع (2: 28).
يحكم الوالدون على الأمور بالإِستناد إلى التقليد. أما الآن فقد بدأ زمن جديد. وادركت أليصابات العلامات السابقة لهذا الزمن الجديد. اعطت حُكمها بصورة جديدة جدًا وهذا ما بدا غريبًا لدى المتجذرين في الأزمنة القديمة. ان الروح يتخّذ طرقًا جديدة لا نفهمها بسهولة، ولكنه يدعونا إلى السير فيها. في بداية الكنيسة سيأتي هذا الروح على الوثنيّيّن. قال لوقا: "فتعجب أهل الختان الذين رافقوا بطرس حين رأوا ان الله افاض هِبَة الروح القدس على الوثنيّين (غير اليهود) ايضا" (أع 10: 45). إن الروح لا يقود الناس دومًا حسب مخططات البشر، بل يعارضها اذا دَعَت الحاجة.
وسألوا زكريّا بالاشارة: ماذا يريد أن يسمّي الطفل؟ أجاب: يوحنّا. إتّفق الوالد والوالدة دون أن يتشاورا على الاسم الذي يُعطي للصبيّ. لا نتخيّل، كما قال بعض الشرّاح أنهما تفهّما مسبقَا. هذا يتعارض معارضة كلّيّة وهدف لوقا على مستوى الخبر. فإسم يوحنا في نظره إسم إلهيّ، أي أعطاه الله بنفسه. والحدث كلّه يجري في مناخ العناية الالهيّة الحاضرة. وأهمّيّة الخبر كلّه تستند جوهريّا إلى هذه التسمية العجيبة.
لا، لا يمكن أن يكون إسم الولد زكريّا. لا شك في أنه يقال عن امرأة تقدمت في السن قبل ان تَلِد ولدًا: "لقد تذكّرها الله ". لهذا يجب العبور من زكريّا إلى يوحنّا، من "الله تذكّر" إلى "الله تحنّن وأنعم ". نحن في مرحلة جديدة في تدبير الخلاص. لقد حصلنا على ملء النعمة، تعرفنا إلى إله الرحمة الذي جاء ليخلص العالم، لا ليدينه ويحكم عليه.
أصل إسم يوحنّا اصل إلهي (1: 13). وحين تقبله زكريّا على انه كلمة الله وصل إلى الايمان فصار فمه قادرًا على "مباركة الله " (آ 64) الذي أعطاه أن يُنجب ولدًا. وسيحلُّ عليه روح النبوءة، كما حلّ على امرأته، فينشد الطريق التي سيسير عليها الولد "بروح ايليّا وقوّته " (1: 17).

4- ما عسى ان يكون هذا الطِّفل (1: 64- 66)
"طلب لوحًا وكتب: اسمه يوحنّا". رأى الناس ان ما فعله غريب فدهشوا. ان ارادة الله وكلمته تفرضان على الناس المختارين لرسالة بأن يخرجوا من عوائدهم. هذا ما حدّث لابراهيم وموسى والأنبياء. والمسيح حين يعلن تعليمه الجديد كلّ الجدّة، ماذا سيحدث له؟ قال: "ما من أحد يشرب خمرًا معتقةً ثم يرغب في الخمر الجديدة لأنه يقول: الخمرة المعتقّة هي الأطيب " (5: 39). اجل، اعتاد الناس على القديم، فهل سيقبلون بالجديد الذي يقدمه يسوع؟ اعتاد اليهود على الشريعة والعبادة والوعود، ومنهم كان الأباء. ومنهم جاء المسيح بالجسد (روم 9: 4- 5). فهل سيتخلون عن كل هذا ليتبعوا "يسوع المسيح المصلوب " (1 كور 2:2) الذي هو "عثار أمام اليهود وحماقة في نظر اليونانيّين " (1 كور 1 :23).
ان الاسم الذي اعطاه زكريّا ليوحنّا يكشف عن سرّ الرسالة التي أوكل بها الطفل. فالله سيظهر حنانه ورحمته، بعد ان انتهت محنة زكريّا. لم يعد بحاجة إلى آية وعلامة. اغلق الله فمه عن الكلام ففتح قلبه للآية، لكي يتأمّل بها في سرّ قلبه. واما الآن فقد اعلن زمن الخلاص بمولد السابق حتى في محيط الاسرة الضيّق بانتظار ان تُعلن اعمالُ الله في الكون كله.
اتفق زكريّا وأليصابات على الاسم، فبدا اتفاقهما وكأنه تدّخل من الله. استولى العجب والدهشة. هذه هي ردّة الفعل العاديّة عند الناس أمام المعجزات. بعد ان هدّأ يسوع العاصفة، "خاف الرسل وتعجبوا" (8: 25). وحين قامت ابنة يائيرس، "تعجّب والداها" (8: 56). وتعجب الناس حين شفى يسوع صبيًا فيه روحٌ نجس (9: 43) وحين طرد شيطانًا أخرس (11: 14). ويتعجب الناس ايضًا أمام ظهورات الله. تعجّب بطرس حين رأى الأكفان وحدها في القبر ولم يجد جسد يسوع (24: 14) ودهش التلاميذ حين أراهم يسوع يديه ورجليه (24: 41)
وانطلق الخبر من عالم صغير هو عالم الأقارب والجيران، إنطلق من هذا البيت الكهنوتي وامتدّ إلى كلّ منطقة اليهوديّة الجبليّة. وسينتشر تعليم الخلاص
عبر القارات الواسعة. إن فيه من القوة ما يجعله قديرًا ان يحتل المسكونة كلّها. "فما من خفيّ إلا سيظهر، ولا من مكتوم إلا سينكشف ويعرفه الناس" (17:8).
ملأ الخوف الجيران. أمام تدّخل الله العجيب امتدّ الخوف إلى أبعد من قرية وأبعد من منطقة. سمع الناس بهذه الأحداث، ولكن لا يكفي بأن نسمع بأخبار تحمل الخلاص. يجب أن نحفرها في قلوبنا. لا ننسى. القلب هو مركز كل الحياة الحميمة، هو مركز الفكر والذاكرة والعواطف وقرارات الانسان (12: 34). فمن حفظ في قلبه هذه الأحداث أو هذه الكلمات، بدأ يسير في طريق التوبة التي جاء يوحنا المعمدان يدعو بني قومه إليها.
ما عسى أن يكون هذا الطفل؟ هذا هو سؤال الناس. أجاب لوقا: انه يُتمّ ما قاله الملاك لزكريّا: يمتلئ من الروح القدس، يهدي الكثيرين، يسير أمام الله، ليهيئ للربّ شعبًا مستعدًا. لهذا أعلن زكريّا اسمه: يوحنّا. حينئذ سطع ايمانه فانطلق لسانه.
"يدّ الربّ كانت معه ". هذه العبارة الخاصّة بلوقا (رج أع 11: 21) ترجع الى التوراة التي تعبّر عن حماية الله لمتقيّه. قال مز 80: 18: "اجعل يدك على الرجل الذي عن يمينك (الملك) على هذا الانسان الذي تؤيده بقوتك ". ويقول المرنّم في مز 139: 5: "انت ورائي وأمامي، تحيط بي عن قرب وتضيع يدك عليّ ".
كانت يدّ الله مع الأنبياء، مع ايليّا (1 مل 18: 46)، مع اليشاع (2 مل 3: 15) وحزقيال (1: 3؛ 3: 14، 22؛ 8: 1). وقال الربّ لأرميا: "أنا معك لكي انقذك " (1: 19)، فما عليك أن تخاف من الملوك والعظماء. وسيكون الربّ مع يوحنّا فيقول كلام الله إلى الشعب. وهو لا يخاف من قول الحقيقة لهيرودس فيكلفه كلامه هذا التضحية بحياته.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM