الفصل العاشر نشيدالتعظيم خطبة عن الله

الفصل العاشر
نشيد التعظيم خطبة عن الله
1: 46- 55

1- المقدِمة
يبدو " تعظّم نفسي للرب " للوَهْلة الأولى نشيدًا له رنّات متعدّدة.
أوّلاً: يُعطى على أنه تعبير عن عواطف مريم بعد الكلام الذي نقله إليها الملاك في مشهد البشارة فاضطربت (1: 26- 38)؛ وجوابٌ مباشِر على مديح وجّهته إليها أليصابات (1: 42- 04). فالكلمات البسيطة التي بها ترجمت مريم إيمانها حين قبلَت كلام الملاك "أنا خادمة للربّ، فليكن لي كما قلت " تتقبّل هنا تكبيرا غنائيًا يكشف ما تتضمّنه من عمق. لقد قابل تانهيل هذا الدور بقسم ينشده مُغَنٍّ فرد في حفلة غنائيّة: تتوقّف الحركة، ويأتي توسّع شعريّ وموسيقىّ يتعدّى اللغة العاديّة، فيبرز مدلول الحدَثِ الذي يحصُل. فتعليم الملاك عنى جوهريًّا الطفل الذي سيُولَدْ (آ 32- 33، 35). ومدائح أليصابات حملت إنتباهنا إلى الأمّ. ولقد أعطيت هذه الأمّ الآن أن تتكلّم، وهي في وضع يتيح لها أكثر من أيّ شخص أن تفسّر ما حصل.
ثانيًا: ندرك حالاً أنّ النشيد منسوجٌ من أوّله إلى آخره بخيوط مأخوذة من التقليد البيبليّ: لا تستطيع مريم أن تعبّر عن ذاتها إلا بالعودة إلى خبرة شعبها. فالعواطف التي تعبّر عنها تميّز أنقى ما في التقوى اليهوديّة، وهي تتكلّم هنا كأفضل ممثلّة لشعبها، كشاهدة لحبّ الله وأمانته لسُلالة إبراهيمَ خليلِه.
ثالثًا: ولكن من الواضح أنّنا لا نستطيع أن ننسى أن الانجيليّ لوقا وضع هذا النشيد في انطلاقة تاريخ ينهيه باستشهاد من اش 6: 9- 10 يندّد بصَمَم وعمى "هذا الشعب " الذي رفض "خلاص الله " (أع 28: 26- 28). إن إقحام نشيد التعظيم في كتاب موجَّه إلى الكنيسة المسيحيّة يعطيه نغماتٍ خاصّة. فالخلاص الذي تُنشدُه مريم هو ذلك الذي ناله المسيحيّون من يسوع الذي يحتفل نشيدُ التعظيمٍ بمجيئه إلى العالم في حشا مريم. وما يَلفِت الانتباه هو أنّ النشيد لا يقول شيئا خاصًّا عن وضع الأمّ: إنه لا يحتفظ من خبرة مريم إلاَّ ما ترى فيه الجماعة المسيحيّة من خبرة خلاص خاصّة. وهكذا يصبح نشيد التعظيم نداءً إلى المؤمنين ليَعُوا النعمةَ التي مُنحت لهم، وليشهدوا لرحمة الربّ ويباركوه.
رابعًا: لا يتوجّه نشيد التعظيم إلى الله فيخاطبه في صيغة المتكلّم المفرد، كما يفعل نشيد الاستسلام الذي أطلقه سمعان الشيخ (2: 29- 32: "أطلق عبدكَ). إنه يتكلّم عن الله بصيغة الغائب. وهو لا يتوجّه إلى الآخرين كما في مزامير المديح: "سبّحوا، أنشدوا، هلّلوا". إنه يكتفي بأن يصوّر الله كما يظهر في عمله. وهكذا يرسمٍ لنا صورة الله، تلك الصورةَ التي أخذها العهد الجديد من العهد القديم، صورة تشبه إلى حدّ بعيد تلك التي نستشفّها في التطويبات (6: 20- 26؛ مت 5: 3- 12) أوفي نشيد التهليل (10: 21؛ مت 11: 25- 26: "أمجّدك يا أبتِ ربَّ السماءِ والأرض ") وفي أمثال عديدة تفوّه بها يسوع. وقبل أن نسعى إلى تحديد السِمات التي تميّز صورة الله هذه في نشيد التعظيم، نتوقّف عند ملاحظات أدبيّة لا بدّ منها. نحن أمام قصيدة غنائيّة، وأسلوبُها غيرُ أسلوب المقالة اللاهوتيّة.

2- ملاحظات أدبيّة
أ- علاقة بالقرائن المباشرة
ننظر إلى هذه العلاقة انطلاقًا من وُجهتين مختلفتين: ننطلق من القرائن، وننطلق من نشيد مريم.

أوّلا: من وُجهة القرائن
من هذه الوجهة يبدو نشيد التعظيم وكأنه زيادة وإضافة. فالتوازي بين مشهدَي البشارة لزكريا (1: 5- 20) ولمريم (1: 26- 38) هو من الوضوح بحيث لا يتطلّب تفسيرًا طويلاً. فبعد أن نال زكريّا بلاغ الملاك، خرج من المعبد وذهب إلى بيته (آ 21- 23). في هذا الوقت يهتمّ الخبر بأليصابات ويتحدّث عن حبَلها (آ 24)، ثم يورد ما قالته لتعبّر عن عواطفها: "هذا ما صنعه لي الربّ ساعةَ شاء أن يزيل عنيّ العار من بين الناس، (آ 25). وبعد أن تقبّلت مريم بلاغ الملاك، ذهبت إلى أليصابات (آ 39- 40). وتلقّت من فم مُضيفتها كلماتِ المديح (آ 42- 45)، هي كلمات تنتهي بتطويبة (آ 45: "طوبى للتي آمنت ") تعارض التوبيخ الذي لقيه زكريّا من الملاك (آ 20). فالتوازي بين 1: 5- 25 وا: 26- 55 لا يترك مكانًا لزيادة هي نشيدُ التعظيم.
وإذا وضعنا جانبًا الموازاةَ بين البشارتين، نجد أَن زيارة مريم لنسيبتها ترتبط بكلمات الملاك، كما ترتبط زيارة الرُعاة إلى المذود (2: 15- 20) بأعلان مَولد المخلص (2: 8- 14). حين توجّه الملاك إلى مِريم، بدأ بالتهنئة وأعلنها "محظوظةً عند الربّ " (آ 28)، ثم قال: " وجدتِ حظوةَ عند الله " (آ 30). حينئذ أعلن لها أنها ستحبَل (آ 31)، ثم وصل إلى ما يشكّل جوهر بلاغه: إعلان كرامةِ الذي سيولد ليكون المسيحَ وابنَ الله (آ 32- 33، 35). وأعطيَت علامةً تدلّ على هذا الحبَل الذي ذكر في آ 31 وعادت إليه مريم في آ 34: إن إمكانيّة هذا الحبل تتأكد بإعلان حبل أليصابات (آ 36- 37). وينقص أيضًا بعضُ الشيء ليَظهر بوضوح الطابع ألمِحوري للبلاغ الكرستولوجيّ في آ 32- 35، وهو شيءٌ يوافق كلمتَيْ التهنئة اللتين وجّههما الملاك في البدء إلى مريم: هذا ما نجده في كلمتَيْ أليصابات التيٍ أعلنت أنّ مريم "مباركة بين كلّ النساء" (آ 42). ثم وجّهت لها تطويبة: "هنيئا لك، يا من آمنت " (آ 45). فبالنظر إلى هذا التأليف المتوازِن يبدو نشيد التعظيم وكأنه إضافة.
لنتأملّ الآن في حَدث الزيارة في ذاته. فبين بداية الخبر ونهايته، هناك توافُق كاملٌ . في البداية: "وفي تلك الأيامِ، قامت مريم وانطلقت مسرعةً" إلى منطقة جبليّة، إلى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريّا (آ 39- 40). وفي النهاية: "وأقامت مريم معها (مع أليصابات) نحو ثلاثة أشهر، ثم رجعت إلى بيتها" (آ 56). حين وصلت مريم إلى أليصابات، بادرتها أليصابات بالكلام، وأنشدت مدائح "أمّ ربّها" (آ 42- 45). والآية الأخيرة (آ 56) ترتبط ارتباطا تامُّا بهذا المشهد، غيرَ أنها لا تتوافق مع واقع آخر، وهو أنه خلال ذلك أنشدت مريمُ نشيدها. فبعد آ 46-55 التي تورد كلمات مريم، نحسّ أنّ آ 56 عادت إلى مريم وسمَّتها باسمها، وأشارت إلى أليصابات بضمير الغائب المؤنّث (عندها). من هذا القبيل أيضًا يبدو نشيد التعظيم وكأنه قطعة مَزِيدة في تأليف لم يحسب له حسابًا.

ثانيًا: من وُجهة النشيد
هنا نجد رباطاتٍ مع القرائن. في آ 47، إنّ فعل "ابتهج " (أغالياوو) روحي بالله مخلّصي هو صدًى لما في آ 44: "قفز الصبيّ من الابتهاج (أغالياسيس) في بطني. ثمّ الطريقة التي بها سمّت مريم نفسها في آ 48أ: "نظر الى حالة أمته (دولي) الوضيعة"، تذكّرنا بما قالته للملاك في آ 38: أنا أمة (دولي) الربّ ". وهذا ما يتميّز عمّا قالته أليصابات: "أمّ ربّي" (آ 43).
إن آ48 ب: "جميع الأجيال ستهنّئنى" (ماكاريزو) تكرّرُ تهنئة أليصابات لمريم: "هنيئًا (ماكاريا) لكِ يا من آمَنَت " (آ 45). وفي آ 49 أ نقرأ: "القدير (ديناتوس) صنع لي عظائم ". وهذا ما يقابل ما قاله الملاك: "ليس من شيء لا يقدر عليه (اديناتوس) الله " (آ 37).
وهكذا نلاحظ أنه إن بدا نشيدُ التعظيم وكأنه زيادة بالنسبة إلى الخبر، إلا أنه يفترض الخبر فيأخذ بعض سِماته يشدّد عليها ويبرزها. هذا ما ننتظره من المغنّي المفرد في المغناة: يوقف الحركة والعمل، وُيبرز مدلول ما حصل. نحن هنا أمام إنقطاع على مستوى الخبر، ولكن وظيفة هذا النشيد هي أن تدلّ على معنى الحدث الذي رويناه. تدلّ على أن الحبل بيسوع هو تدخّل إلهيّ في التاريخ.

ب- التأليف
أوّلاً: أسلوبُ التوازي
إن الجزئين المتوازيَين في آ 46- 47 يُشرفان على كلّ وَلْي النشيد الذي يتوسّع في البواعث التي دفعت مريمَ لتنشد عرفانها لله. وهما يتميّزان عمّا يلى، في أنّ مريم تتكلّم هنا عن نفسها (نفسي، روحي)؛ أمّا في سائر الأفعال (ما عدا آ 48 ب) فالفاعل هو الله. وإذا قابلنا هذا النشيد مع المزامير رأينا أننا أمام مقدّمة كلاسيكيّة: قبل أن يبدأ المرنم مديحه، فهو يعبّر عن عواطفه أو يدعو الحاضرين لمشاركته في صلاته. فمقدّمة نشيد التعظيم تذكّرنا بصورة خاصّة بنشيد حنة، أمِّ صموئيل: "تهلّل قلبي بالربّ وارتفع رأسي بإلهي، وانفتح فمي واسعًا" (1 صم 1:2).
ويبدأ جسم النشيد بأداة: لأن. قال زكريّا: "تبارك الربّ لأنه افتقد شعبه " (آ 68). وقال سمعان الشيخ: "أطلِق عبدَك لأن عينيَّ رأتا خلاصك " (2: 29 ي) وقالت مريم: "تعظم نفسي الرب... لأنه نظر". ويقدّم النشيد الأسباب التي تدفع المرنّم إلى الاحتفال بربّه، وستردُ الأداة السببّية مرّتين في نشيد التعظيم. في آ 48 (لأنه نظر)، وفي آ 49 (لأن القدير).
وترِد آ 49 ب- 50 من دون فعل: "اسمه قدوس، رحمته من جيل إلى جيل للذين يخافونه ". نحن هنا أيضًا أمام تَوازٍ في المعنى لا في المبنى، وطول العبارة الثانية تدعونا إلى الوقوف قبل الانطلاق في توسيع جديد.
نجد في آ 52- 53 تناقضاتٍ قويّة: "أنزلَ الجبابرةَ عن عروشهم ورفع المتّضعين. أشبع الجياع من خيراته وصرفَ الأغنياء فارغين ". يبرُز عمل الله تجاه المقتدرين والمُستضعفَين، تجاه الجائعين والأغنياء.
ثم آ 51: "أظهر شدّة ساعده فبدّد المتكبّرين في قلوبهم ". هناك تعارضٌ بين ذراع الله وما يفكّر به قلب المتكّبرين (القلب هو مركز التفكير والفهم في العالم القديم). وهناك تعارض أيضًا بين آ 50 و آ 51. أعلنت آ 50: "ورحمته من جيل إلى جيل للذين يخافونه ". المقابلة واضحة بين موقف الذين يخافون الله وموقف المتكّبرين، بين رحمة يظهرها الله للأوّلين وقدرةٍ يستعملها تجاه الآخرين. كما أنّ هناك تعارُضًا بين آ 51 و آ 54: "أعان إسرائيلَ (بقية إسرائيل التي عادت إلى الربّ) عبدَه (بايس، فتاه)، فتذكّر رحمته ". إنّه يقرّب إسرائيل من خائفي الله، ويقابلهم مع المتكبّرين في آ 51: تشتّت المتكبّرون؛ أما إسرائيل فنعِمَ بعون الله. وإذا كان تشتّتُ المتكبّرين هو عملَ قدرة الله، فالعون الذي منحه لشعبه يدلّ على رحمته.
نحن نرى هنا تدخّل الله في التاريخ (آ 54). والتذكّر يميّز أمانة الله لمواعيده: "كما قال (وعد) لآبائنا من أجل إبراهيم ونسلِه إلى الابد". "من جيل إلى جيل " (آ 50) تمتدّ رحمة الله، أو "إلى الابد" (آ 55) تدوم. أجل، لا حدود لرحمة الربّ؛ أمّا قدرته فتفعل فقط في أوقات حاسمة ومحدّدة.

ثانيًا: التكرار
إن أسلوب التكرار يعمل على توحيد هذا النشيد، وينقلنا من قسم إلى آخر. هناك فعل صنع في آ 49 أو آ 51 أ: "القدير صنعَ لي عظائم ". "صنع (عمل) قدرةً بذراعه". فإن نشْر "قدرة" الله (آ 51 أ) يقابل ما به نصف الله في آ 51 أ: انه القدير. وانتقلت آ 50 من فكرة القدرة التي أظهرها الله (آ 49 أ) إلى فكرة الرحمة. وتعود الرحمة (الايوس) في آ 54: "تذكّر رحمته". وأخيرًا تتجاوب "جميع الأجيال " (آ48 ب) مع عبارة "من جيل إلى جيل " (آ 50).
في آ 48 أ نتكلّم عن حالة مريم الوضيعة (تاباينوسيس). وهذا ما يقابلها في آ 52 ب: "رفع الوُضَعاء" (تاباينوس). وتدلّ آ 49 أ على الله "القدير" (ديناتوس) الذي "أنزلَ المقتدرين (دينستيس) عن عروشهم " (آ 52). ونلاحظ أخيرًا التقارب بين الفعل الأوّل: تعظّم نفسي أو تعلن عظائم (ميغالينو) الربّ "والاعلان في آ 49 أ: "صنع لي عظائم (ميغالا).

ثالثًا: تقسيم النشيد
آ 46- 47 المطلع
آ 48- 50: القسم الأوّل مع خاتمة القسم الأوّل في آ 50 والحديث عن الرحمة.
آ 51-: مقدمّة تكرّر آ 49 أ وتعارض آ 50: القدرة
آ 52- 53: القسم الثاني
آ 54-55: خاتمة تنطلق من آ 50 فتلقي ضوءًا على مُجْمل النشيد
هذا تقسيم، وهناك من يقول: إن آ 48- 55 تشكّل القسمَ الاخباريّ، وآ 51- 53 القسمَ التصويريّ (مونلوبو). واعتبر ريمون براون أن آ 49- 50 تتحدّثان عن صفات الله، وآ 51- 53 تنشد تدخّلاته. أمّا تانهيل فأشار إلى تدخّل الله من جهة الأمّ (في المقطع الأوّل، آ 48- 50) ثمّ من جهة إسرائيل (في المقطع الثاني، آ 51- 53).
ومهما يكن من أمر، فلا بدّ من الوصول إلى التفسير: إن نشيد التعظيم يتكلّم عن الله، فماذا يقول عنه؟

3- الله مخلّصي
إذا كان نشيد التعظيم يطرَح المسائل على مستوى التفسير، فهذا عائد إلى تأكيداته الثوريّة في آ 52- 53: أنزل الجبابرة عن عروشهم ورفع المتضعين. أشبع الجياع من خيراته وصرف الأغنياء فارغين (فارغي اليدين). هذه الأقوال تُفرح البعض وتُحزن البعض الآخر.
نتوقّف أوّلاً عند الاشارات التي تحدّد موقع عمل الله في الزمن، ثم نهتمّ بالذين هم موضوع هذا التدخّل. بعد هذا، نصل إلى صورة الله التي نكتشفها في ما يقال عن تدخله.

أ- على مستوى الزمن
نلاحظ العودة إلى الزمن في آ 48 ب: "منذ الآن تهنّئني (تعلن سعادتي) جميع الأجيال ". فمنذ الزمن الحاضر (تدخّل الله الذي حصل الآن، آ 48 أ وآ 49 أ) ننظِر إلى وجهةٍ لا حدود لها ("جميع الأجيال"). والمستقبل الذي لا حدود له يظهر أيضَا في عبارة "من جيل إلى جيل " (آ 50) و "إلى الأبد" (آ 55). التأكيد عامٌّ في آ 50؛ أمّا في آ 55 فلنا مِنظار على المستقبل انطلاقًا من الحدَث الجديد (آ 54 أ) الذي فيه يتحقّق الوعد القديم (آ 55 أ، نتحدّث عنه في صيغة الماضي). إن الزمن الحاضر قد ابتلعه ماضٍ مباشَرٌ هو نقطة انطلاقٍ حقيقيّة لمستقبل جديد.
وفي آ 49 ب- 50، ترتبط قداسة الله ورحمته بحاضر يضمّ في ذاته كلّ الأزمنة. الله قدوس ورحيم كلَّ يوم، لا في الماضي وحسب. وأعادتنا آ 49 أ إلى الماضي: "إن القدير صنع لي عظائم ". إن ما فعله الله من أجل مريم والذي نتحدّث عنه في صيغة الماضي، يوجّهنا نحو المستقبل، "إلى جيل فجيل " (آ 50).
نقرأ في آ 48 ب وآ 49 أ: "لأنه نظر إلى حالة أمته الوضيعة". "لان القدير صنع لي عظائم ". يبدو أنّ هذين الفعلين يعودان بنا إلى البشارة، إلى هذا الحدَث الذي بسببه سفَت أليصاباتُ مريمَ "أمَّ ربيّ " (آ 43). وفي آ 55: إن التدخّل الالهي الذي تحتفل به مريم يُتم ما أعلنه الله لآبائنا. نحن أمام وعدٍ ماض ننظر إليه من زاوية التكميل: اليوم تمَّ ما وعدَ به الله.
وتأتي سائر الأفعال فتشير إلى العمل الذي به يُتمّ الله وعدَه. هكذا يفعل بطريقة عاديِّة وصورة ثابتة. وعد الآباء في الماضي، وها هو يحقّق وعده في مريم.
ويسأل سائل: كيف تستطيع مريم أن تقول إنّ المتكبّرين تبدّدوا، والجبابرةَ انحدروا عن عروشهم، إنّ الوضعاء رُفعوا، والجائعين شبِعوا والأغنياءَ عادوا بأيد فارغة؟ هذا لم يتمَّ بعد، ولكننا أمام بدايةِ التمام: حين اختار الله أمتَه. الوضيعة بدأ العمل الذي ننتظر نتائجه في المستقبل، وهي منذ الآن حاضرة.

ب- المخلّصون والآخرون
كيف يسمّي النشيدُ الذين هم موضوع تدخّل الله؟ هناك ثلاثة مَجالات دلاليّة: الدينيّ، السياسيّ والاجتماعيّ، الاثنيّ.

اولا: المجال الدينيّ
هناك تعارُض بين "الذين يخافونه " (آ 50) و "المتكبّرين بأفكار قلوبهم " (آ 51 ب). ففي إطار التوراة، يتعارض هذان الموقفان: لا يستطيع الانسان أن يرتفع في نظره إلا إذا تحرّر من مخافة الله، والانسانُ الدينيّ لا يكون متكبّرًا والعكس بالعكس.
ونكتشف أيضًا لغة دينيّة في ما تقوله مريمِ عن نفسها: إنها "خادمة" الربّ (آ 48 أ)، وما تقوله عن إسرائيل "عبد" الله (آ 54). إن إسرائيل الذي يعبد الله يعارض الأمم الوثنيّة التي تعبد آلهة أخرى. إن عبارة آ 54 تستلهم اش 41: 8- 9 حيث نرى الله يُعين عبدَه ضدَّ أعدائه (آ 11).

ثانيًا: المجال الاجتماعيّ والسياسيّ
ترتبط بهذا المجال آ 52- 53 اللتان تعارضان الجبابرةَ الذين يُحْدرهم الله عن عروشهم، والوضعاءَ (نحن هنا أمام وضع سوسيولوجيّ، لا أمام استعدادات روحيّة) الذين يرفعهم؛ تعارضان الجائعين الذين يسكُب عليهم الربّ خيراته، والاغنياءَ الذين يَصرِفهم فارغين. هو لا يتكلّم عن الأقوياء بل عن المتجبّرين، لا يتكلّم عن الأغنياء بل عن الذين اغتنَوا فقَسا قلبُهم على إخوتهم. أمّا الوضعاء فهم أشخاص لا يَحسب لهم المجتمع أيَّ حساب. ويَلفِت النصّ انتباهنا إلى الذين نعِمُوا بتدخّل الله أكثرَ منه إلى الذين تحمّلوا دينونته.
نظر الله بعطف إلى الصغار والذين ليس لهم شيء (هم الجياع) كما نظر إلى مريم أمَتِه في حالتها الوضيعة. لا يشبه وضعُ مريم وضعَ هاجرَ المذلولةِ والخادمة التي تعامَل معاملةً سيّئة (تك 16: 11). كما لا تشبه ليْئة الزوجةَ التي لم يحبَّها زوجُها (تك 29: 32)، ولا حنّةَ المرأةَ العقيمة (1 صم 1: 11)، وإن استُعملت في السبعينيّة اليونانيّة لفظة "تاباينوس ". فمريم تنتمي الى فئة هؤلاء المساكين الذين يضعون كلّ رجائهم بالربّ: "طوبى للمساكين بالروح " (مت 5: 3).

ثالثًا: المجال الاثْنيّ
يبدو هذا المجال في الخاتمة التي تذكر "إسرائيل " وتماثله مع "زرع إبراهيم"، وترتبط "بآبائنا" الذين نالوا الوعد (آ 54- 55). نجد هذا التشديد على الشعب في نشيد زكريّا حيث يقف "إسرائيل " بوجه "أعدائه " (آ 71، 74). وفي نشيد سمعان يقابل إسرائيلُ الأممَ الوثنيّة (2: 32) أي غيرَ اليهود. إن الله أرسل ابنَه نورًا إلى شعب إسرائيل كما إلى الأمم الوثنيّة.
لا نجد المجال الاثنيّ في نشيد مريم، بل في القسم الأوّل من بلاغ ملاك البشارة لمريم عن ابنها: "يعطيه الربّ الالهُ عرشَ داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد" (1: 32- 33). وهكذا يتحدّد "موضع " تدخّل الله.
وإذ أراد نشيد التعظيم أن يحدّد هذا "الموضع "، انطلق من ثلاثة وقائعَ بشريّة مختلفة، وحاول أن يبرز بُعد حدَث البشارة ومدلوله، فلا يكفي مجالٌ واحد (دينيّ، سياسيّ واجتماعيّ، إثنيّ) ليفسّر الحدَث (كل مجال له فوائدُه ومحدوديّته)، بل تجتمع المجالات الثلاثة لتساعدنا على ولوج هذا السرّ العظيم. فالولد الذي تحمله مريم هو جوابُ الله على التوق الدينيّ لدى الذين يخافونه، على رجاء الضعفاء والمعدَمين، على آمال الشعب اليهوديّ. ولكن هذا الطفل تجاوز أيضا كلّ هذه المجالات.
- إن أمّ المخلّص قد اختيرت من بنات الشعب اليهوديّ، وانتمت إلى نسل إبراهيم والآباء، مع العِلم أنّ الخلاص الذي يؤمن به المسيحيّون ليست من لحم ودم (رج يو 1: 13). إن الخلاص الشامل جاء في الشعب اليهوديّ لتتّضح أمانة الله لمواعيده، والتواصل الذي يجعل من الكنيسة وارثةَ إسرائيل، بل وارثة البقيّة الباقية، لا هؤلاء الذين رفضوا تعليم الخلاص (أع 28: 26- 28).
- إختيرت أمُّ المخلّص من مجموعة المؤمنين الذين يتّقون (يخافون) الله، ويريدون أن يكونوا في خدمته (يتعبّدوا له)، مع أنّ الخلاص الذي أعلنه الانجيل لا ينحصر بأُناس يتميّزون بتقواهم: إن لوقا الانجيليّ سيشدّد أكثر من سواه على حبّ الله للخطأة، وكلّهم مدعوّون إلى التوبة.
- إختِيرت أمُّ الله في أوضِع طبقة اجتماعيّة، في طبقة الصغار والضعفاء والمساكين (الفقراء) فصارت أوّل شاهدٍ لخلاص موجّه إلى الفقراء، كما يقول الانجيل (4: 18؛ 6: 20؛ 7: 22). هذا لا يعَني أنّ الخلاص الذي يحمله المسيح إلى العالم ينحصر بطبقة اجتماعيّة واحدة، بل يدلّ على موقف إلهٍ لا يقبل بالظَلم الذي تتأسس عليه المجتمعات البشريّة، ولا يقول إن الاقوى هو الأفضل. موقفُ إلهٍ يميّز من يحتقرهم المجتمع ويرذُلهم. موقفُ إلهٍ يصير أوَّلو هذا العالم الآخرين في ملكوته، والآخرون الأولين.

ج- الاله الرحيم والقدير
يتحدّث نشيد التعظيم عن الله، ويتحدّث عنه خصوصًا بالنسبة إلى التدخّل الذي يدلّ على صفاته. ونلاحظ حالاً أن التأكيدات المتعلقة بصفاته الالهيّة ترتبط بمجالين مختلفين: الرحمة والقدرة؛ وهناك أيضًا مجالٌ ثالث يتحدّث عن التسامي.

أوّلا: مجال التسامي
نجده خصوصًا في التَسْميتين اللتين نجدُهما في المقدّمة: بالرب (كيريوس)
(آ 46)، "الله" (ثيوس) (آ 47). هاتان اللفظتان تدلاّن على اسم شخصيّ. وهذا ما نتأكده حين ننتبه إلى ان اسم "الله " ارتبط بصفة "المخلّص" (اسم فاعل) الذي يحدّد الوُجهة التي نقف عندها حين نتحدّث عن الله.
ونقرأ تأكيدًا في آ 49 ب: "اسمه قدوس ". فقداسة اسم الله تظهر في تدخلّه. حينئذ نُقِرّ أن يد الله هي هنا. وهذا اليقين ينتج من قدرة خارقة يفترضها الحدَث. ولكن لا شيء يمنع أن يرتبط هذا اليقين برحمة الله التي تخدمها قدرته.

ثانيًا: مجال الرحمة
يبرُز هذا المجالُ أيضًا في البداية، وحين يسمّى الله "مخلِّصي،. إذ يتدخّل الله ليخلّص الذين يهلكون لولا عونُه، فهو يدلّ وعلى رحمته. تُذكَر هذه الرحمة مرّتين. في آ 50: يمنَح الله رحمتَه لخائفيه. وفي آ 54 ب، يمارسها حين يعين إسرائيلَ عبدَه. ويصوَّر الشكل الملموس الذي تتّخذه رحمة الله بواسطة فعلين: "نظر بعطف إلى حالة أمَته الوضيعة " (آ 48). "أعان إسرائيلَ عبدَه " (آ 54 أ)، فتذكّر رحمته. ما يقابل التذكّر هو النسيان: الله ينسى ما لا يهتمّ به (12: 6: لا ينسى العصفور). ولكن أمانته لا تسمح بأن ينسى التزامات ارتبط بها حين وعدَ الآباء (آ 55)، بان ينسى العهدَ الذي قطعه معهم (آ 72). وهذا التذكّر الأمين هو الوجه الملموس لرحمة الله، كما أنه سبب التدخّل الذي به يدكِّ الله على هذه الرحمة.

ثالثًا: مجال القدرة
في آ 49 أ يسمَّى الله "القدير". نحن لا نجد هذه التسمية إلاَّ في موضع واحد في السبعينيّة، في صف 3: 17: "تشجعّي يا صهيون، ولا ترتخي يداك. الربّ إلهُك هو فيك، القديرُ يخلّصك ويجلب لك السعادة ويجدّدك في حبه ". إن الله حين يخلّص يُظهر قدرته.
حين تحدّثت مريم عن القدير أعلنت أنه فعل لها "عظائم " (ميغالا) (آ 49 أ). لا ترِدُ هذه اللفظة إلا قليلاً، وهي تدلّ على مآثرَ أتمَّها الله ليحرّر شعبه من عبوديّة المصريين: "هو فخرك وهو إلهك الذي صنع لك تلك العظائم والأمجاد (الامور العظيمة والمجيدة) التي رأتها عيناك " (تث 10: 21). قد تكون مفارقة في تقريب حدَث البشارة منٍ حدَث الخروج، ولكن هذا التقريب له مدلولُه: فمجيء المخلص لا يَقِلّ أهمية عن الخروج من مصر.
وإن تأكيد آ 49 أ ("القدير صنع لي عظائم ") يُعاد بألفاظ أخرى في آ 51 أ: "صنع عملَ قدرةٍ بذراعه ". إن العبارة تذكّرنا بما قالت التوراة عن التدخّل الذي به أخرج الله شعبه من مصر "بيد قديرة وذراع ممدودة" (تث 4: 34؛ 5: 15؛ 6: 21؛ 7: 8؛ 26: 8؛ مز 6:135 حسب السبعينية). وهكذا يرتسم تَوازٍ بين التحريرِ الأوّل للشعب المختار، وهذا التحريرِ الذي يدشّنه سرّ البشارة.
والصورة التي يشير إليها فعل "بدّد" (شتّت) في آ 51 ب هي صورة انتصار عسكريّ يتبدّد على إثره جيشُ العدوّ: "بدّدْتَ المتكبرين بأفكار قلوبهم". نتذكر هنا مز 88: 11 حسب السبعينية: "أذلَلْتَ المتعجرف كأنه جريح، وبدَّدتَ أعداءك بذراع قدرتك ". أما استعملَت حنّةُ أمُّ صموئيل أيضًا صُوَرًا حربيّة لتبارك الله من أجل ولادة ابنها (1 صم 2: 1- 4)؟
والتأكيدات الأربعة في آ 52- 53 هي صدً ى لنشيد حنة: "أنزل الجبابرةَ عن عروشهم (1 صم 2: 8 ج د) ورفع المتواضعين (1 صم 2: 7 ب). أشبعِ الجياعَ من خيراته (1 صم 2: 5 أب؛ مز 106: 9 حسب السبعينية) وصرف الأََََََغنياء فارغي الأيدي " (1 صم 2: 7 أ ). يستوحي نصُّ لوقا نَموذجَه بكلّ حريّة ويورد بترتيب تجلّيات قدرة الله: إن النتائج المؤلمة لتدخّل الله مع المقتدرين والأغنياء تحيط بالنتائج الخيّرة للصغار والمعدَمين. تحدّث النصّ عن فشل الأوّلين ليُبرز خلاص الآخَرين، ونحن نجد عُربون هذا الخلاص في اختيار الله لعذراء الناصرة الوضيعة.
قد يظنّ البعض أن القدرةَ تُمارَس ضدَّ المقتدرين، والرحمة مع الوضعاء. لا، فالقدرة تسير في اتجاه الرحمة: إنها أوّلا قدرة من أجل الوضعاء، ولن تكون "ضدّ" المتكبّرين إلا بصورة ثانوية. اللهجة واضحة في آ 49 أ: إن القدير صنع لي عظائم. ولن نجد الأعداء في الخاتمة ووقت الحديث عن الخلاص الذي حمله الله لشعبه.
نحن لا نقلّل من عنف الأقوال المتعلّقة بالمصير الذي يؤُول إليه المتكبّرون (آ 51 ب) والمقتدرون (آ 52 أ) والأغنياء (آ 53 ب). ولكننا نضعُ هذا العنف في موضعه الصحيح. إنه عند من يريد أن يخلّص المسحوقين فيُجبَر على معاقبة الذين يسحقونهم. وإذا أستعَدْنا صور أش 11 نقول: لا يمكن أن نُسْكن الذئب مع الحمَل إن لم نفرض على الذئب أن يغيّر سلوكه، ولن نجعل الأسد يأكل التِبن مثل الثور، وننسى أن الأسد لن يرضى بهذا الوضع الجديد. في هذا المعنى، لا يقدر الله أن يضع قدرته في خدمة رحمته من أجل الوضعاء، دون أن تتصارع هذه القدرة مع عظماء هذا العالم.

خاتمة
- إن الاله الذي يحتفل نشيدُ التعظيم بقداسته ورحمته وقدرته السامية، هو الذي يتعبّد له (يخدمه) الذين يخافونه. ولكنّ وَلْيَ الانجيل سيعلّمنا أنه يهتمّ بصورة خاصّة بالذين ابتعدوا عنه، فيطلب منهم أن يعودوا إليه ليغفر لهم كلّ خطاياهم.
- إن الاله الذي يحتفل به نشيد التعظيم هو إله إسرائيل، الذي دعا إبراهيم وقدّم المواعيد لشعبه. ولكن هذا الخلاص لا ينحصر في شعب واحد، بل في كل الشعوب مهما كانت إثنِيّاتُهم وأَعراقهم.
- إن الخلاص الذي يؤمّنه الله للبشر لا يترك جانبًا الواقعَ الملموس في حياتهم. إنه يبدّل الوضع الجائر الذي يفرضه المجتمع على الضعفاء والمعدَمين. لا يقف الله فوق الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ وكأن الأمور لا تهمّه، بل يقف بجانب الفقراء والذين لا سلطان لهم. إن كرامة اسمه هي على المِحَكّ. وعلى قدرته أن تُظهر رحمته وتتعامل مع المقتدرين والمتخَمين.
إن نشيد التعظيم لا يقدّم تحديدًا عن الله، بل يتكلّم عنه بالنظر إلى مختلف وُجهات تدخّله الخلاصيّ الذي بدأ مع البشارة، فكانت مريم الشاهدَ الأوّل له. نشيد التعظيم يُدخلنا في سرّ الله المخلّص. يبقى علينا أن نكون شهودًا له في عالمنا الحاضر.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM