الفصل السادس والعشرون: الانجيل الرابع وأثره في القرن الثاني

 

الفصل السادس والعشرون
الانجيل الرابع وأثره في القرن الثاني

حين ندرس الأثر الذي تركه انجيل يوحنا في القرن الثاني نتجاوب مع اهتمامين. من جهة نتعرّف إلى الذين ساروا في خطّ يوحنا فنفهم الجدالات اللاهوتيّة التي جاءت بعد العهد الجديد. لم تقبل جميع الكنائس بهذا الانجيل إلاّ في نهاية القرن الثاني. فنستطيع أن نتساءل كيف نفسّر الفسحة الزمنيّة التي تفصل تدوين الانجيل عن القبول به في الكنائس الاولى. ومن جهة ثانية، حين نتشرّب من مناخ هذه الحقبة، نعود بعض الشيء إلى الوراء لتكون لنا إلى هذا الانجيل نظرةٌ إجمالية قد تضيع عندنا ساعة نغرق في التفاصيل.
هناك تأكيدات قاسية في رسائل يوحنا. "كل روح يعترف بأن يسوع المسيح جاء في الجسد هو من الله. وكل روح يشقّ يسوع ليس من الله" (1 يو 4: 2-3). "انتشر مضلّون عديدون في العالم: هم لا يعترفون بمجيء يسوع المسيح في الجسد" (2 يو 7). حين نعود إلى إيرادات من النصوص المنحولة أو الأدب المسيحي الاولاني، ندرك أن الفهم اليوحناويّ لسرّ التجسّد (يو 1: 13-14)، لم تقبل به جميعُ ميول المسيحيّة القديمة. فإن كان كاتب الرسائل اليوحناويّة قد ركّز هجومه على الذين ينكرون "جسد المسيح" (كان من لحم ودم. ما تظاهر بأنه بشر)، فهو يعارض الذين يرفضون حياة يسوع العلنيّة على الأرض، أو أولئك الذين يريدون أن يحذفوا من بشريّة يسوع موته على الصليب.
إن الرسائل مثَل يعلّمنا كيف نفهم التعليم اليوحناويّ. ونقول الشيء عينه عن سفر الرؤيا. أما نحن فننطلق من الانجيل لكي نكتشف الأثر الذي تركه في أدب الآباء الأولين في الكنيسة.

1- انجيل يوحنا في أقدم النصوص
حين نتطلّع إلى العقود الاولى في المسيحيّة التي تلت العهد الجديد، تعترضنا صعوبة ملازمة للنصوص التي نحن بصددها. فقبل أن "تُقفل" لائحة الاسفار القانونية (أو القانون) لم يكن الكتّاب المسيحيون الاولون يوردون النصوص الكتابية عائدين إلى الفصل والآية. بل كانوا يستعيدون هذا المقطع أو ذاك بشكل حرّ. كما كانوا يذكرون عددًا من أقوال الربّ. لهذا يبدو من الصعب أن نعرف بدقّة السفر الذي يلمّح إليه نصّ من النصوص. والتعرّف إلى إيراد من يو أو تلميح يبقى في منتهى الصعوبة. وقد نخاطر حين نريد أن نبيّن أننا أمام تذكّر، أمام تلميح أو أمام فكر مشترك بين مؤلّفين استقيا من الينبوع الواحد.
أ- في انجيل توما
ونبدأ مع انجيل توما الذي تألّف من 114 قولة ليسوع. يعود على ما يبدو إلى نهاية القرن الأول أو بداية الثاني. ولكنه يعود في أصله إلى زمن تكوين مجموعات أقوال يسوع التي استُعملت في تدوين الأناجيل. فإن قابلنا انجيل توما بإنجيل يوحنا، قد نحاول أن نفسّر عبارة "لن تروا الآب" (قولة 27) بواسطة تلميح يوحناوي (14: 9: من رآني رأى الآب). أو عبارة "شرب الماء الحيّ" (قولة 13) بنصوص مثل يو 4: 10ي؛ 7: 38. أو عبارة "ترمونني بالحجارة" (ترجمونني) مع يو 8: 12.
غير أننا لا نستطيع في جميع هذه المقاطع التومائيّة أن نتحدّث عن تلميحات يوحناويّة انطلاقًا من كلمة دون وجود آثار أخرى لسياق هذا التلميح أو ذاك. ثم إن هذه الألفاظ وهذه العبارة لا تدلّ على لغة إنجيلنا ولا على أسلوبه. وإن استطعنا أن نتكلّم عن تلميحات، لا نستطيع أن نقول بتأثير نصّ على آخر. كل ما نستطيع أن نفكّر فيه هو عودة إلى مرجع واحد أو محيط واحد. وكل هذا يحتاج إلى برهان.
ب- في العهد الجديد نفسه
ولكن لا براهين. لهذا نعود إلى نصّ العهد الجديد نفسه دون أن نعالج المسائل الدقيقة حول علاقات يو مع الازائيّين. فنهاية إنجيل مرقس (16: 9- 20) التي جاء تدوينها متأخرًا عن تدوين سائر الكتاب، تشير إلى ظهور يسوع لمريم المجدليّة، وتفترض بالتالي خبر يو 10: 11-18 (ق مت 28: 9). وتشير 2 بط 1: 14 إلى موت بطرس القريب كما عرّف به الربّ وكأن الاعلان النبويّ لاستشهاد بطرس (يو 21: 18-19) كان معروفًا لدى كاتب الرسالة.
وقابل بعض الشرّاح مواضيع من أف مع الانجيل الرابع. وحدة الكنيسة (أف 1: 10؛ 13:2-22؛ 6:3؛ 3:4-6؛ ق يو 16:10؛ 52:11؛ 17: 21). نزول المسيح على الأرض ثم صعوده (أف 4: 8- 10؛ يو 3: 13). الوصول إلى الآب بالابن في الروح (أف 2: 18= يو 1: 18؛ 4: 24). النور والظلمة (أف 8:5-13= يو 1: 4 ي؛ 12:8). وكانت مقابلة على مستوى الاسرار بين يو 3: 5 مع تي 3: 5. وتحذير من تكاثر المجموعات الغنوصيّة كما في 1 تم 1:6-7؛ 4: 1-7. يبدو أن أف تمثّل موقفًا وسطًا بين يوحنا وبولس. والرسائل الرعائيّة التي هي محطة في مسيحية آسية الصغرى، قد نربط بها إنجيل يوحنا.
وإذ نتوقّف عند الوثائق القديمة، نفرد مكانة خاصّة لنصّين حُفظا على ورق البرديّ. الأول هو بردية رايلندس 457 المسمّاة "برديّة 52" (نُشرت في منشسشر من أعمال انكلترا، سنة 1935). نجد فيها أجزاء من يو 18: 31-33، 37-38 في خطّ يعود إلى الربع الأول من القرن الثاني. هذه البردية هي شاهد قيّم جدًا. وفيها أقدم جزء نعرفه من انجيل يوحنا، بل من كل العهد الجديد. وتدلّ هذه البرديّة الصغيرة أيضًا على أن الانجيل الرابع وصل باكرًا إلى مصر، في بداية القرن الثاني.
والنصّ الثاني هو برديّة اغرتون الثانية. يعرفها أخصّائيو النصوص المنحولة أكثر من مؤوِّلي الكتب المقدسة. أما مضمونها فيشبه الاناجيل، وهذا ما يدهشنا. كما يذكّرنا بعدّة مقاطع محدّدة. ففي حوار بين يسوع ومعلّمي الشريعة، نكتشف تلميحات إلى يو 39:5، 45؛ 29:9؛ 59:8؛ 10: 31؛ 7: 30، 44؛ 39:10. بعد شفاء المخلّع (مر 10: 40 ي وز)، يطرح خصوم الربّ على يسوع سؤالاً لكي يجرّبوه (مر 12: 14-15 وز، إيراد من أشعيا، رج مر 6:7-7)، فنكتشف تلميحًا إلى يو 2:3؛ 25:10.
وتنتهي أجزاء هذا النصّ بما يمكن أن يكون خبر معجزة على شاطئ الأردن. لسنا هنا أمام إيراد من انجيل يوحنا، ولا أمام تفسير. غير أن القرابة الأدبيّة بين هذا النصّ ويو، تطرح سؤالاً حول العلاقة بين الاثنين. أما الحلّ الابسط فيدعونا إلى القول بأن هذه الاجزاء وإنجيل يوحنا قد استقت من الينبوع الواحد. وهناك فرضيّة أخرى تقول إن صاحبَي الاجزاء وانجيل يوحنا قد عادا إلى شكل من التقليد اليوحناويّ السابق الذي نعرفه اليوم في الانجيل الرابع.
ج- في انجيل بطرس
نجد في هذا الانجيل وضعًا مماثلاً لما في برديّة اغرتون الثانية. فهذا النصّ الاجزائيّ (يقف بين منحولات العهد الجديد) يقدّم خبرًا عن الآلام (أو الحاش) والقيامة قريبًا جدًا ممّا في الأناجيل. اكتشف منذ مئة سنة تقريبًا فاعتُبر أنه يعود إلى القسم الأول من القرن الثاني. هو يلتقي مع يو في عدّة نقاط مشتركة. اليهود مسؤولون عن موت يسوع كما في الأناجيل الازائيّة. وبدت مجموعة المسيحيين وقد انقطعت عن العالم اليهوديّ انقطاعًا لا نجده في سائر الاناجيل (عيد الفطير هو عيدهم، 2/ 5؛ ق يو 5: 1؛ 4:6؛ 2:7). سيجلس الربّ ليدين البشر في مشهد الهزء (3/ 7= 13:19). على الصليب سمّرت يداه فقط (6/ 21= 20: 20، 25، 27). لا يستطيع المصلوب أن يبقى على الصليب بعد غياب الشمس (5/ 15= يو 19: 31 أ). لم تُكسر ساقا المصلوب (4/ 14= يو 19: 31-37). ثمّ الدفن في بستان يوسف (6/ 24= يو 19: 41) وظهور لبطرس بقرب "البحر" (14/ 16= يو 21: 1).
هذه المقاربات ليست بعدُ كافية لتؤكّد ارتباط انجيل بطرس بانجيل يوحنا. ولكن حين نتفحّص مجمل علاقات هذا النصّ المنحول مع الأناجيل الاربعة، نستطيع أن نستخرج بعض النتائج. يبدو أنه كان أمام الكاتب تقاليد قديمة جدًا. كما نفهم أنه عرف كيف يتعامل أفضل معاملة مع استشهادات عديدة من العهد القديم. لكنه لم يكن موفَّقًا في الحديث عن عوائد عرفتها فلسطين.
يقول ناشر إنجيل بطرس إن الكاتب تبع الازائيين في نسج لحمة خبر الآلام. ولكنه استلهم اللاهوت اليوحناويّ لكي يفسّر خبر موت الرب وقيامته. فمسيح الحاش (أو الآلام) يسمَّى دومًا الربّ وقد رُفع (5/ 19= يو 3: 14؛ 8: 28؛ 12: 32-34؛ لو 9: 51) منذ موته على الصليب، وساعة صرخ: "يا قوّتي، يا قوّتي، تخلّيت عني" (تركتني) (5/ 19= مر 15: 34-35 وز). فموتُ الربّ يقابل صعوده وتمجيده.
اعتبر بعض شرّاح انجيل بطرس أن صرخة الرب على الصليب (رج مز 22: 2) قد تأثّرت باتجاهات غنوصيّة أو ظاهريّة، ترفض واقع آلام المسيح وتحوّل بشريّة المسيح إلى مظهر وحسب. فآباء الكنيسة قد هاجموا بقساوة أولئك الذين ينكرون القيامة، ويؤكّدون في الوقت عينه استقبال النفوس في السماء حالاً بعد الموت. وفي انجيل بطرس 4/ 10 يقال أن الرب في الصلب "كان صامتًا وكأنه لا يشعر بالألم".
في هذا المجال قابل بعضهم أيضًا هذا القول مع أقوال الغنوصيّين حول لاتألّم المسيح. قال ايريناوس إن الهرطوقي باسيليدلس قد أكّد أن "المسيح لم يتألّم آلامه بنفسه، بل شخص اسمه سمعان القيريني سخِّر وحمل الصليب عنه. وسمعان هذا قد صُلب جهلاً أو خطأ بعد أن حوِّل بيده لكي يعتبروا أنه يسوع. أما يسوع نفسه فأخذ سمات سمعان، ووقف هناك هازئًا" (الهراطقة 1/ 2: 4، 4).
تجاه هذا النوع من الكلام الذي نجده أيضًا في مقتطفات من تيودوتس (45/ 2-3؛ 61: 3)، وعند ايريناوس (الهراطقة 1: 7: 22) وقف اغناطيوس الانطاكي وأعلن بقوّة: "أصمّوا آذانكم حين لا يحدثونكم عن يسوع كمسيح وُلد من داود، وكان ابن مريم. ووُلد ولادة حقيقية. أكل وشرب. واضطهد حقًا في أيام بيلاطس البنطيّ، وصُلب ومات حقًا في وجه السماء والأرض والاسافل. الذي قام من بين الأموات" (إلى الترليّين 9: 1-2).
إن تشديد أغناطيوس، أسقف أنطاكية، الذي عاصر القرّاء الأوّلين لانجيل بطرس، على آلام يسوع الحقيقيّة وموته، يدلّ على الحدّ الذي وصلت إليه بعضُ الاتجاهات المسيحية في محاولتها لكي تلغي عثار الصليب، أو لكي تميّز بين عدّة مسحاء: المسيح الحقيقيّ الذي لا يعرف الألم، وذاك الذي تألّم جسده وحده (رج 1 يو 4: 3 والذين يمزّقون، يشقّون يسوع).
رغم الاهتمام بالجدالات اللاهوتيّة المعارضة لانجيل بطرس، نظنّ أن المقاطع التي أوردناها (4: 10؛ 5: 19) لا تدلّ على ميول غنوصيّة أو ظاهريّة. فقد نستطيع أن نشرحها بشكل عرض انطلاقًا من النصّ نفسه واستعماله للعهد القديم. لا انطلاقًا من وثائق خارجيّة لا ترتبط به. هذا لا ينفي أن يكون انجيل بطرس قد عُرف في أوساط غنوصيّة أو ظاهريّة بسبب التباس هذه المقاطع.
نستطيع القول بعد هذا إن إنجيل بطرس قد استعمل انجيل يوحنا في فهمه لموت الرب كارتفاع وتمجيد. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، نستشفّ مع هذا النصّ المنحول حقبة من تاريخ الكنيسة الأولى عرفت المنازعات اللاهوتيّة حول معنى مجيء المسيح.
خاب أملنا في بحتنا عن استعمالات يو في الوثائق القديمة. وهذا النقص في الشهادات الايجابيّة (ما عدا انجيل بطرس) يجب أن يفسّر. في زمن أوّل لم يُنشر الانجيل الرابع ولم يُعرف بما فيه الكفاية. لهذا، لم يستعمله الكتّاب المسيحيّون الاولون. وهذا رغم شهادة البردية 52 التي وصلت إلى مصر في بداية القرن الثاني. يبقى أن نلاحظ أن التقاربات التي أشرنا إليها توجّهنا إلى الاوساط الغنوصيّة. هذا ما سوف نعود إليه.

2- الآباء الرسوليّون
قد نستطيع أن نواصل بحثنا في الوثائق الادبيّة الاولى التي تركها آباء الكنيسة. وهنا أيضًا يصعب علينا أن نكتشف استشهادات حقيقيّة وتلميحات إلى الانجيل الرابع. لهذا، سنمرّ بشكل سريع على الآباء الرسوليّين الأوّلين.
أ- الآباء الرسوليون الأولون
نلاحط في الرسالة إلى الكورنثيين التي دوّنها اكلمنضوس الروماني في نهاية القرن الأول، ألفاظًا ذات رنّة يوحناويّة (أو ربّما يهوديّة). مثل: "صنع الحقّ" (31: 2= يو 3: 21). "عمل أعمال البرّ" (33: 8= يو 6: 28). "أحبّ تتميم الوصايا (49: 1= يو 14: 15، 23، 24). أما أهمّ التقابلات الممكنة فهي بين رسالة اكلمنضوس ويو 17. في 59: 3: "لكي يعرفوك أنت وحدك" (يو 3:17). في 6:43: "مجّد اسم الاله الحقيقيّ والوحيد" (يو 3:17). في 2:60: "نقِّني بحقّك" (يو 17:17 مع فعل آخر). في 42: 1: "بعث الربُّ يسوع المسيح الرسل كحاملي البشرى. ويسوع المسيح قد أرسله الله" (يو 17: 18؛ 20: 21، مع فعل آخر).
في "عظة اكلمنضوس الثانية" (منتصف القرن الثاني تقريبًا)، لا نحتاج إلى أن نلجأ إلى يو لكي نفهم عبارة "المسيح صار بشرًا" (9: 5= يو 1: 14) أو "صنع مشيئة الآب" (4:8؛ 10: 11= يو 34:4). مع "راعي هرماس" (منتصف القرن الثاني تقريبًا) لا تبدو التقاربات مع انجيل يوحنا حاسمة. فالاستعمال الكرستولوجيّ لألفاظ مثل "صخر"، "باب" (يو 10: 7)، "كرم" (يو 15: 4)، "شريعة" (15: 4)، "طعام السماء" (6: 50، 58)، ليس خاصًا بيوحنا. ما نستطيع أن نحتفظ به هو صور الولادة الجديدة إلى الحياة، والدخول إلى ملكوت الله بالماء، واسم الابن (يو 3: 1ي).
وتبرز "رسالة برنابا" (سنة 130 تقريبًا) مرات عديدة ظهور المسيح في الجسد (5: 6؛ 6: 7، 9، 14؛ 12: 10= يو 1: 14؛ 1 يو 3: 5، 8). ظهور ابن الله (6: 9). الإشارة إلى نظرة ابراهيم على يسوع (9: 7= يو 8: 56). الرباط بين سمع، آمن، عاش (11:11؛ 2:9= يو 24:5؛ 15:3؛ 20: 31). وقد نتساءل: أما نكون قريبين من يو حين تُذكر القيامة والظهورات وصعود المخلّص (9:15= يو 17:20؛ 21: 1)؟ وظهورُ مجد يسوع مع حدث الحيّة التي رفعها موسى (7:12؛ رج عد 21= يو 3: 14؛ 28:8؛ 12: 32، 34). كل هذا يجعلنا نفكّر بالانجيل الرابع. ولكن إن تمعنّا في هذه المقاطع تبدو المقاربات سطحيّة ولا تدلّ على اتّصال أدبيّ مباشر أو غير مباشر مع الانجيل الرابع.
ويدلّ "تعليم الرسل الاثني عشر" أو "الديداكيه" (بداية القرن الثاني وربّما نهاية القرن الأول) على تقارب مع يو في إطار ف 9- 10، بالنسبة إلى الصلوات الافخارستية. "كرمة داود المقدّسة" قد تحيلنا إلى يو 15. وفعل "عرَّف" (19: 2، 3؛ 10: 2) نقرأه أيضًا في يو 15: 15؛ 17: 26. ومع مقدّمة الصلاة التي نقرأها في 10: 1-2، نستطيع أن نجد تقاربات عديدة.
"بعد أن تشبعوا (يو 6: 12)، اشكروا هكذا: نشكرك أيها الآب القدوس (يو 17: 1) لأجل اسمك المقدّس (يو 17: 6، 11، 26) الذي جعلته يقيم في قلوبنا (يو1: 14) للمعرفة والايمان والخلود" (يو 20: 31؛ 17: 3؛ 6: 69= ديداكيه 9: 3؛ 10: 3).
وفي ديداكيه 10: 3 يذكّرنا طعام الحياة الابديّة بالخطبة في يو 6. أما ما يلي هذه الصلاة (10: 5) فنوازيه مع يو 17: "أذكر يا ربّ كنيستك لكي تنجّيها من كل شرّ (يو 15:17)، لكي تكمّلها في حبّك (يو 23:17)، إجمعها، قدِّسها" (يو 19:17؛ رج 52:11).
لا تتيح لها الديداكيه، أكثر من سائر كتابات الآباء الرسوليين، أن نكتشف اتّصالات أدبيّة مع انجيل يوحنا. ولكن بما أن النقّاد يعتبرون بشكل عام أنها دوّنت في سورية، نصبح قريبين على المستوى الجغرافي من نمط مسيحيّة يصوّره بوليكربوس الازميري (الرسالة إلى الفيلبيّين حوالي سنة 130. استُشهد بوليكربوس حوالي سنة 155) أو اغناطيوس الانطاكي (بعد هذا الوقت بقليل).
سبق لنا وقرأنا اغناطيوس الانطاكي في ردّه على الاتجاهات الظاهريّة. والرسالة إلى الفيلبيين التي دوّنها بوليكربوس تدلّ على ردّة الفعل عينها (7: 1): "من لا يعترف أن يسوع المسيح جاء في الجسد هو انتكرست، مناوئ للمسيح" (1 يو 2:4-3؛ 2 يو 7-9. "من لا يعترف بشهادة الصليب هو من الشيطان. من يعوّج كلمات الرب بحسب نزواته ولا يعلن القيامة ولا الدينونة، هو بكر الشيطان".
مثل هذا الايراد المأخوذ من الرسائل اليوحناويّة ليس بغريب في رسالة كتبها بوليكربوس. فهذا الاسقف يُعتبر تلميذ يوحنا حسب ايريناوس (رسالة إلى فلورين نقرأها في التاريح الكنسيّ لاوسابيوس، 5: 20). ونجد أيضًا في الرسالة إلى الفيلبيّين تحريضًا على الحبّ المتبادل في تلميح إلى انجيل يوحنا (13: 34؛ 15: 12، 17؛ رج روم 8:13؛ 1 بط 8:3). ونقرأ عبارة "الثمار التي تحملونها تكون ظاهرة أمام الجميع" (يو 15: 16؛ 1 تم 4: 15).
ب- أغناطيوس الانطاكي والوسط اليوحناويّ
كان اتصال متبادل بين اغناطيوس وبوليكربوس، كما تقول رسائلهما. أما رسالة اغناطيوس إلى الازميريين فتحارب بشدّة الاتجاهات الظاهريّة. فالقرابة الروحيّة التي تربط اغناطيوس بالكتابات اليوحناويّة والبولسيّة واضحة. فاغناطيوس هو وحده بين الآباء الرسوليين الذين قيل عنهم أنهم اتّصلوا اتّصالاً أدبيًا بالانجيل الرابع. وإليك براهين تدلّ على تأثير يوحنا في كتابات اغناطيوس.
في الرسالة إلى أهل فيلدلفية (7: 1) نقرأ: "لا نغشّ الروح الذي يعطينا الله إياه. فهو يعرف من أين يأتي وإلى أين يذهب، وهو يفتح الاسرار" (يو 3: 8؛ 8: 14). في 9: 1 نجد صورة "باب" الآب (يو 10: 7، 9؛ رج 14: 6). وفي رسالة اغناطيوس إلى الرومانيين (7: 3) وإلى الافسسيين (5: 2) نجد خطبة حول "خبز الله" وخبز الحياة (يو 6: 26-59، خصوصًا آ 33). وفي الرسالة إلى المغنيزيين (7: 1) نقرأ: "لا يعمل الربّ شيئًا بدون الآب" (يو 5: 19-30؛ 8: 28). وفي 7: 2: "خرج من الآب وعاد إليه" (يو 13: 3؛ 16: 28). وفي الرسالة إلى الافسسيين (9: 1): "رفع بصليب يسوع المسيح" (يو 12: 7، 38). وفي الرسالة إلى الرومانيين (7: 2): "الماء الحيّ الذي يتكلّم فيّ" (يو 4: 10؛ 7: 38).
في النهاية، ومهما يكن من أمر هذه الاستشهادات، فنحن نستطيع أن نقابل اغناطيوس مع يوحنا في معالجة مفاهيم: الجسد والروح. الحياة والموت. الارسال. المجيء. الظهور. الايمان. المحبّة.
وهكذا يبدو أغناطيوس أقرب الشهود إلى مناخ الاوساط اليوحناويّة. فقد أكّد في رسائله على لاهوت يسوع المسيح، الذي لا ينفصل عن واقع تجسّده. وشدّد في وجه الاتجاهات الظاهريّة على واقع الكنيسة في تراتبيّتها وحياتها الاسراريّة. أما بالنسبة إلى مجمل أدب الآباء الرسوليّين والوثائق المسيحية القديمة، فقد لاحظنا أن انجيل يوحنا انتظر بضعة عقود قبل أن يُعرف. عُرف أولاً في الاوساط التي وُلد فيها، أي سورية وآسية الصغرى. وتوقّف الكتّاب بشكل خاص عند يو 3، 6، 15، 17، أو عند المطلع والخاتمة. أما الموضوعان البارزان فهما: هويّة المسيح والواقع الاسراريّ.

3- يوحنا في زمن الآباء المدافعين
حين نتقدّم فنصل إلى منتصف القرن الثاني أو نهايته، نكتشف آثار ظهور متنام للانجيل الرابع. هنا صارت الاستشهادات المأخوذة من يو أكثر وضوحًا وأكثر تواترًا.
ففي نزاع حول تاريخ الاحتفال بالفصح الذي جعل رومة تواجه آسية الصغرى، كان إنجيل يوحنا المستند للذين يريدون أن يحتفلوا بموت يسوع يوم الفصح. راجع "رسالة الرسل" (حوالي 160). أبوليناريوس أسقف هيرابوليس (أو: منبج) (حوالي 170). مليتون السرديسي وبوليكربوس الافسسي (حوالي 190). وتضمّنت "أعمال يوحنا المنحولة" والرسالة إلى كنائس ليون وفيينا (في فرنسا) (سنة 177. احتفظ بها أوسابيوس القيصري في التاريخ الكنسي 5: 1) تلميحات يوحناويّة محدّدة. ومع تنسيق الاناجيل (دياتسارون) الذي دوّنه تاتيانس حوالي سنة 170، احتلّ يوحنا مكانته بجانب الازائييين. وتوسّع تيوفيلوس الانطاكي (حوالي سنة 180) في لاهوت كلمة الله عائدًا إلى إنجيل يوحنا ولاسيّما إلى المطلع. وقد أورد تيوفيلوس في كتابه إلى أوتوليكوس إنجيل يوحنا، واعتبره بين "الكتب المقدّسة لجميع البشر الذين يحملون الروح. وواحد منهم، يوحنا، قال: في البدء كان الكلمة" (2: 22).
وكان يوستينوس (+ 165) معلّم تاتيانس، أهم الآباء المدافعين في القرن الثاني. بقي لنا منه دفاعان وحوار مع تريفون. نجد في هذه المؤلَّفات الثلاثة تلميحات عديدة إلى يو، بل استشهادات.
في الدفاع (61: 4) أورد يوستينوس كلمة الربّ كما نقرأها في يو: "لأن المسيح قال: إن لم تولدوا من جديد، لن تدخلوا ملكوت السماوات. فمن الواضح لجميع الناس أن الذين وُلدوا مرّة واحدة لا يستطيعون أن يدخلوا من جديد بطن أمّهم". وفي الدفاع 6: 2 تحدّث عن عبادة الآب في الروح والحقّ (يو 4: 24). وفي 27:88، استعاد كلمات المعمدان بحسب يو 1: 20-23. وفي الحوار (91: 3؛ رج 93: 2)، نجد صورة الحيّة التي رُفعت بيد موسى (يو 3: 14-15). وتظهر صورة الماء الحيّ مرّات عديدة (114: 3؛ 69: 6؛ 14: 1 = يو 10:4، 14).
ويعود يوستينوس، شأنه شأن اغناطيوس الانطاكي، إلى خبز الحياة (يو 6: 54، 57) فيصل بنا إلى الأسرار (الدفاع 66: 2). كما يلمّح إلى مطلع يو في الدفاع 63: 15؛ (يو 1: 4). في الحوار 123: 9 (يو 1: 12). في الحوار 135: 6 (يو 1: 13). في الحوار 127: 4 (يو 1: 18). ونشير بشكل خاص إلى دور الابن الخالق (يو 1: 14) كما في الدفاع 32: 1؛ 66: 2.
كانت اهتمامات يوستينوس دفاعيّة، فردّ على القائلين بأن المسيحيّة تعارض الفلسفة. لهذا توسّع في لاهوت كلمة الله، الوسيط بين الله والبشر، الاقنوم الالهيّ الخاضع للآب. إستلهم الفلسفة الوثنيّة فاكتشف فيها عناصر حقيقة: "المسيح هو بكر الله وكلمته، ويشاركه جميع البشر... فالذين عاشوا حسب الكلمة هم مسيحيّون" (دفاع 1: 46). "كل المبادئ العادلة التي اكتشفها الفلاسفة والمشرّعون، وعبّروا عنها، فقد اكتشفوها وتأمّلوها في الكلمة" (دفاع 2: 10). لن نعجب بعد ذلك، أن يكون مطلع يو قد لعب دورًا كبيرًا بين النصوص الكتابية حول عمل الكلمة وصفاته.

4- انجيل يوحنا والغنوصيّة
وظهرت أهميّة يو (ولاسيّما المطلع) في التيّارات الغنوصيّة حيث وُلد أول تفسير لهذا الانجيل هو تفسير هرقليون. حتى الآن تبعنا خطّ الكتابات الارثوذكسيّة ملاحظين أن عددًا من الاستشهادات تُوجّهنا إلى ميول ظاهريّة أو غنوصيّة. هنا نسير في مدى القرن الثاني فنكتشف آثار تفسير النصّ اليوحناويّ عند الغنوصيّين، وهكذا نفهم تأثيرهم المتنامي في الكنيسة الأولى. نتوقّف عند أربعة لها معناها. فلغة يوحنا وأسلوبه والمحيط الذي وُلد فيه كل هذا بدا مؤاتيًا للغنوصيّين. ولاحظ ايريناوس في ردّه على الهراطقة (3/ 11: 7) أن كل انجيل وجد متشيّعين له لدى الهراطقة. "فالابيونيون لا يستعملون إلاّ انجيل متّى. ومرقيون يعود إلى انجيل لوقا. والذين يفصلون يسوع عن المسيح يفضّلون انجيل مرقس. وجماعة ولنطينس يأخذون بانجيل يوحنا".
ولقد ردّ آباء الكنيسة على الهراطقة مستعملين سلاحهم وما يوردون من نصوص كتابيّة. وهكذا اشتهر يو بفضل الغنوصيّين، كما اشتهر بفضل آباء الكنيسة الذين لجأوا إلى نصوصه ليحاربوا الغنوصيّة. نذكر على سبيل المثال: ايريناوس والردّ على الهراطقة (نهاية القرن الثاني). أوريجانس وتفسير انجيل يوحنا (بداية القرن الثالث).
أ- إنجيل الحقّ
مع هذا الكتاب الذي انبثق من الولنطينيّة، ندخل في مناخ قريب من اليوحناويّة. وهذا ما يدلّ عليه المطلع (16: 31 ي): "إنجيل الحقّ هو فرح للذين قبلوا النعمة من آب الحقّ الذي يتصرّف بحيث يعرفونه بقدرة الكلمة، هو الذي جاء من الملء، هو الذي يلازم فكر الآب وفهمه، الذي يُعلَن مخلِّصًا لأن هذا هو اسم العمل الذي يجب عليه أن يتمّه لخلاص الذين جهلوا الآب...".
بما أن الفنّ الأدبيّ لهذا النصّ هو خطبة وحي يرسلها المخلّص لخلاص الغنوصيين، لا نستطيع أن نعرف إن كانت عبارة من العبارات، يوحناوية أو غنوصيّة أو شيئًا آخر. فالمقطع الذي يقول: "من امتلك المعرفة (غنوسيس) هكذا، يعرف من أين جاء وإلى أين يذهب" (12:22)، يذكّرنا بما في يو 8:3؛ 8: 14. ولكننا هنا أمام كلام شائع حتى الابتذال في العالم الغنوصيّ (تيودورس 78). والمقطع الذي يقول: "هذا هو الآب الذي منه خرج المبدأ، والذي إليه يعود جميع الذين خرجوا منه" (38:37-39)، يذكّرنا بما في يو 13: 3؛ 16: 28. غير أننا أمام فكرة شائعة في الفلسفة اليونانيّة القديمة.
هناك مواضع عديدة يبدو فيها نصّ إنجيل الحقيقة "قريبًا من التقاليد الانجيليّة". فمثَل الخراف الضّالة هو مزيج من التقاليد الازائيّة والتقاليد اليوحناويّة (31: 35 ي؛ رج مت 18: 12 ي وز؛ يو 10). غير أن تفسيره الذي ينطلق من الأرقام، يختلف عن تفسير الكتب القانونيّة. فالطريق الواجب اتّباعها هي الحقيقة التي يعلّمها يسوع المسيح (18: 19ي؛ يو 6:14). غير أن هذا المسيح، وإن علِّق على الخشبة (18: 24)، لم يعد مسيح الأناجيل. أخذ "شبه جسد" (كما قال الظاهريون، 31: 5 ي؛ رج 8:26؛ ق يو 1: 14)، وانحصرت رسالته في نقل المعرفة. ورغم بعض التلميحات إلى مواضيع تضمنّها مطلع يو (آ 3 في 37: 21 ي؛ آ 5 في 17:18؛ آ 18 في 9:24 ي؛ 8:27)، نحن مع "انجيل الحقيقة" في نصّ يشبه برديّة اغرتون الثانية، في نصّ قريب من تقاليد مكتوبة أو شفهيّة أنجبت أناجيل العهد الجديد، نصّ دوّن في القرن الثاني ساعة لم يكن بعد يو قد عُرف بما فيه الكفاية. فيبقى أن انجيل الحقيقة يقابل أدبًا صيغ صيغة محكمة، وقد امتزجت فيه اعتبارات حول صفات الآب الالهية، على مستوى الخلاص ودور المخلّص، مع عناصر من الكرازة الرسوليّة الأولى. هذا يعني أن الغنوصيّة كانت نهجًا منظّمًا في زمن اغناطيوس الانطاكي.
ب- إنجيل فيلبس
جاء إنجيل فيلبس بعد انجيل الحقيقة فصيغ بشكل أفضل. ونحن نجد فيه كما في كتابات يوستينوس بعض الايرادات من يو. فالقولة 96 تبدو يوحناويّة ما عدا الخاتمة. "كان الآب في الابن والابن في الآب. ذاك هو ملكوت السماوات" (يو 1: 1؛ 17: 21). والقولة 123: "إذا عرفتكم الحقيقة حرّرتكم الحقيقة" (يو 8: 32 مع ذات الألفاظ). ونجد في القولة 23 جدالاً حول معنى الجسد، قيامة الجسد، خبز الحياة (رج قولة 15، 93؛ يو 1: 14؛ 53:6 ي). كما نجد استعمال صورة الباب (قولة 27؛ يو 10: 1) واليتيم (قولة 6؛ يو 14: 18).
وهناك مواضيع عديدة مشتركة بين انجيل يوحنا وانجيل فيلبس، وهي ترد مرارًا. الحقيقة والضلال (قولة 11؛ 16-17؛ 63؛ 67؛ 90؛ 93؛ 123- 125). الموت والحياة (قولة 3- 4؛ 90- 91). النور والظلمة (قولة 10؛ 56). الاتّحاد بالمعرفة (قولة 96). الولادة الجديدة (قولة 74). غير أن كل هذه الاشارات لا تكفي لتدلّ على تأثير التفسير اليوحناويّ على انجيل فيلبس. فهذا الانجيل، شأنه شأن انجيل الحقيقة وبعض النصوص الارثوذكسية التي تعود إلى القرن الثاني، قريب من الفنّ الادبي الذي نجده في الانجيل الرابع، ولكنه دون ساعة لم يكن يو قد انتشر بما فيه الكفاية.
ج- مقاطع من تيودوتس
* مع تيودوتس وهرقليون، تلميذَي الغنوصيّ ولنطينس في منتصف القرن الثاني، سيكون الوضع مختلفًا جدًا. فمقاطع تيودوتس التي احتفظ بها اكلمنضوس الاسكندراني وأجزاء من تفسير يوحنا لهرقليون، التي جمعها تفسير أوريجانس، تعطينا فكرة واضحة عن الاستعمال الغنوصيّ لهذا الانجيل. إن تفسير هاتين المجموعتين من النصوص تبقى صعبة، ولاسيّما بالنسبة إلى تيودوتس مع المقاطع الستة وثمانين التي لا ترد في ترتيبها وتُخرج من سياقها. فاكلمنضوس يضيف تفاسير عديدة إلى "مقاطع تيودوتس".
إذن، يجب أن نفسّر هذه النصوص بمساعدة ما نستطيع أن نعرف عن الولنطينيّة بشكل عام (آثار تعليم ولنطينس، تعاليم تلاميذه مثل بطليموس ومرقس المجوسي، كتابات الآباء مثل ايريناوس...).
* من جهة، وعلى مستوى الايرادات اليوحناويّة في "مقاطع تيودوتس"، نلاحظ أن يو يرد أكثر من سائر الأناجيل بما فيها مت. أما الايرادات الصريحة فهي التاليِة: يو 1: 1، 2، 3-4، 5، 9، 14، 18 (المطلع)؛ 2: 9 (عرس قانا)، 3: 29 (صديق العريس)؛ 10: 1، 7 (الباب)؛ 10: 11- 14 (الراعي الصالح)؛ 11: 25 (الحياة)؛ 14: 6 (الحقيقة)؛ 19: 34 (الجنب المفتوح)؛ 19: 36 (لم يكسر عظم)؛ 19: 37 (المسيح المطعون).
حين شرح اكلمنضوس هذه المقاطع، أورد المقاطع التالية من يو 1: 1، 3، 3-4، 5، 8، 14 أب، 18 أب؛ 8:3 (الريح تهب حيث تشاء)؛ 4: 24 (الروح والحقّ)؛ 6: 31 ي (خبز الحياة)؛ 8: 56 (ابراهيم)؛ 17: 11، 17 (الصلاة الكهنوتيّة). نلاحظ أن هذه اللوائح تقابل تقريبًا الاستشهادات اليوحناويّة التي وقعنا عليها حتى الآن: المطلع، صور العرس والاسرار (تلميح إلى المعموديّة)، المواضيع الكرستولوجيّة (الباب، الحياة، الحقّ، الاسم، يو 19: 37).
* ومن جهة ثانية، وعلى المستوى التعليمي، يدلّ الاهتمام بالمطلع على مسيرة غنوصيّة تستعين بالتفاصيل العديدة لكي تبني نهجًا لاهوتيًا متشعّبًا، فيه تتوسّع سوابق مجيء المخلّص على الأرض بواسطة السطر والاعتبارات الفلسفيّة حول الآب الذي هو ملء الكيانات السفلى، حول المراحل السابقة لخلق العالم، حوله أصل الشرّ وامكانيّات الخلاص على الأرض بواسطة زروع روحيّة توزّعت وسط البشر.
ونقرأ تفسير يو 1: 1 في 3:6-4: "وهذا الكلمة الذي هو في البدء، أي في الابن الوحيد، في العقل والحقّ، يشير إليه (يوحنا) على أنه المسيح والكلمة والحياة. لهذا السبب يسمّيه (يوحنا) وبحقّ الله هو أيضًا، هو الذي هو في الاله العقل. وما صُنع فيه، أي الكلمة، كان حياة، كان زوجته. لهذا قال الرب: أنا الحياة". نكتشف، من خلال هذه العبارات، تلميحات إلى نهج ولنطينس اللاهوتيّ، وفيه تسبق مجيءَ المخلّص سلسلةُ تزاوج الكيانات الالهيّة في الحقبة التي تهيّئ الخلق بواسطة إله أدنى هو خالق سفر التكوين في العهد القديم.
ينتج عن هذا تمييز كرستولوجي أساسي. فالمسيح الكلمة والحياة (2-3) لا ينحصر في وظائف دنيا، وظائف خلق الكون (47-48). بل هو لم يُجبر على المجيء إلى الأرض لأنه الله. وهكذا تُوجد صورة ثانية للمخلّص، يسوع الأرضيّ الذي بمجيئه (74-75) يجمع (26: 3) العناصر الروحيّة الموزَّعة وسط البشر الموزّعين في ثلاث فئات (54-55): الماديّون، النفسيّون (يصلون إلى خلاص من الدرجة الثانية)، الروحيون (الغنوصيون) المعدَّون للخلاص الحقيقيّ بعد أن يعبروا في مراحل ولادة ترافقها طقوس محدّدة (77-78).
إن مثل هذا النهج يحاول أن "يفهم" صعوبات لاهوتيّة محدّدة شعرت بها المسيحيّة الأولى باكرًا: تعارضٌ بين العهد القديم والعهد الجديد، أصل الشرّ، لاهوت المسيح الذي نعلنه في الوقت الذي فيه نعلن ناسوته. انطلقت جماعة ولنطينس من الانجيل الرابع لتقدّم الجواب على مثل هذه الاسئلة. هذا ما نجده في "مقاطع تيودوتس".
د- أجزاء من هرقليون وتفسير أوريجانس
تلقّى أوريجانس حوالى سنة 230 رسالة من شخص اسمه امبروسيوس، ارتدّ حديثًا من الولنطينيّة، وقد طلب منه في هذه الرسالة محاربة التعاليم الولنطينيّة ولاسيّما تفسير هرقليون لانجيل يوحنا. وهكذا أورد أوريجانس نصوص هرقليون ليقدّم ردًا حسب الأصول. ومع تفسيره ليوحنا الذي بقيت منه أجزاء ولم يصلنا كاملاً، نشهد مرحلة جديدة في التأويل اليوحناوي. ونلاحظ أن هرقليون الذي عاصر تيودوتس، دوّن تفسيرًا حقيقيًا لنص يوحنا، ولم يكتف بشرح هذا النصّ أو ذاك. وعشر سنوات بعد تدوين هذا الشرح الغنوصيّ، أعلن أوريجانس سلسلة من الحقائق الارثوذكسية استخرجها من الانجيل الرابع ضدّ تفاسير هرقليون.
في ما تبقّى لنا من تفسير أوريجانس (ثلث النصّ الاصلي)، نعجب أن يمتدّ الكتابان الأوّلان على سبع آيات من مطلع انجيل يوحنا. ومع الكتاب السادس نصل إلى نهاية المطلع، بل نهاية ف 1 (مجيء يوحنا المعمدان، وعماد يسوع). ويقدّم الكتاب العاشر تأويل عرس قانا والباعة المطرودين من الهيكل (يو 2). توقّف الكتاب الثالث عشر عند قسم من يو 4. ومع الكتابين 19-20 نصل إلى نهاية ف 18 ويتوقّف التفسير في الكتاب الثاني والثلاثين مع يو 13: 33. وهكذا لا تكون نظرتنا كاملة إلى تفسير أوريجانس، وبالحري إلى تفسير هرقليون.
يحتلّ الكلمة والروح في تعليم ولنطينس مكانة مميّزة. فبعد يو 1: 3 أكدّ هرقليون تماهي الكلمة والمخلّص (اللامنظور، السماويّ) الذي به تدخّل خالق الكون. ولكن هناك أيضًا صورة أخرى للمسيح، التي بها يقوم بجمع المختارين ذوي الطبيعة الروحيّة، وهكذا نجد ثلاثة أنواع من الشخصيّات الكرستولوجية: واحد يعمل في دوائر ملء الآب. والثاني في الدوائر المتوسطة (خارجًا عن الكون). والثالث في الكون حيث يعمل الكلمة ليجعل الزروع الروحيّة، الموزّعة وسط البشر، تنضج. عندئذ يمثِّل يو 4 (السامرية) استعارة عن مختلف مراحل البلوغ إلى المعرفة الحقّة (جهل، نداء بالماء، وعي، تنشئة متدرّجة، انتظار المسيح، رسالة المرتدّ).
تجاه هذه الكيانات الالهيّة المتعدّدة، والتفاصيل اللاهوتيّة، قدّم أوريجانس براهينه منطلقًا من الكتب المقدّسة ليدلّ على وحدانيّة الله. لا شكّ في أن الغنوصيّين حاولوا أن يفهموا كيف يمكن أن يكون يسوع الله، إذا كان الله واحدًا. وإذ أكّد أوريجانس وحدة الله، حافظ على التمييز بين الآب والابن، وغلى لاهوت الابن (11: 12 ي). وبدلاً من أن يعارض إله العهد القديم باله العهد الجديد، وبدلاً من أن يجعل الواحد أدنى من الآخر، دافع عن وحدة الوحي (82:1؛ 206:11 ي).
وحين رفض أوريجانس أن يقسم البشر ثلاث فئات، أكّد أيضًا وحدة الطبيعة البشريّة المدعوّة إلى الخلاص. مثل هذا التفسير سبق النزاعات الكرستولوجيّة والثالوثيّة في الكنيسة الأولى، وجاء قبل أن تقدّم المجامعُ المسكونيّة عبارات التوافق حول التجسّد ولاهوت المسيح. وسوف نرى في القرن الرابع وبداية الخامس عددًا من التفاسير اليوحناويّة، ساعة استعرت النزاعات الكرستولوجيّة.

خاتمة
وهكذا اكتشفنا بعض الشيء أن انجيل يوحنا احتاج إلى قرن من الزمن لكي يعترف به كتّاب الكنيسة ساعة كان الغنوصيون قد استولوا عليه منذ بداية القرن الثاني. وإن كان قانون موراتوري (نهاية القرن الثاني تقريبًا) قد أكّد قانونيّة انجيل يوحنا وسلطته الرسوليّة، مع عدد من التفاصيل، فهذا يدلّ على أنه لم يصل بعد إلى الثقة التي سيصل إليها مع إيريناوس وترتليانس وأوريجانس. كان قبوله في الكنيسة القديمة بطيئًا. وقد استُعملت منه مقاطع ولاسيّما المطلع والخطب قبل أن يفسَّر كله.
هذا ما يطرح سؤالاً على مفسّري إنجيل يوحنا وعلاقته بالعالم الغنوصي، وما ظهر من آثار غنوصيّة في فنّ أدبيّ قريب من ذاك الذي دوّن فيه الانجيل الرابع. وعلى مستوى اللاهوت شدّد الكتّاب المسيحيّون الأوّلون، الغنوصيون منهم والآخرون، على المطلع ومعنى التجسّد والآلام، فبيّنوا أن الانجيل الرابع قد دافع منذ ظهوره عن موقف أصيل بين نصوص العهد الجديد. هذا ما يجب أن نأخذه بعين الاعتبار لنفهم ما أراد يوحنا أن يقوله حين أعلن: "يسوع هو المسيح. هو ابن الله" (20: 31). هو مسيح. هو يسوع. إله حقيقيّ وإنسان حقيقيّ.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM