الفصل السابع والعشرون: ملكوت الله

الفصل السابع والعشرون
ملكوت الله
في الانجيل الرابع وسفر الرؤيا

في الانجيل الرابع، لا نجد عبارة "ملكوت الله" سوى مرّتين. ولكن هذا لا يعني أن واقع الملكوت غائب عن إنجيل يوحنا. غير أن طريقة تقديم الانجيل الرابع تختلف عمّا في الأناجيل الازائيّة الثلاثة. فيوحنا ترك المفاهيم اليهوديّة وانفتح على الحضارة الهلنستيّة وروحانيتها. ثم إنه ركّز نظره على وجه يسوع الذي يأخذ على عاتقه الوظيفة الملكيّة ولاسيّما في وقت آلامه.
أما في سفر الرؤيا، فنشهد منذ البداية إلى النهاية، احتفالاً بملك الله والمسيح يشارك فيه المؤمنون. فمنذ الليتورجيا الافتتاحيّة، يقدّم لنا يسوع على أنه "أمير ملوك الأرض". اجتمع المؤمنون من أجل ليتورجية الكلمة، فهتفوا: "فللذي يحبّنا وقد غسلنا بدمه من خطايانا وجعلنا ملكوتًا وكهنة لإله وأبيه، المجد والعزة إلى دهر الدهور آمين" (1: 5-6). وفي نهاية الكتاب، يعد الله الشهداء بمُلك يدوم ألف سنة (20: 6)، يمتدّ من مجيء المسيح الأول إلى مجيئه الثاني، بل في الابديّة، ونبدأ مع إنجيل يوحنا.

1- انجيل يوحنا
نتوقّف هنا عند أربع محطّات: حوار يسوع مع نيقوديمس، شهادة يوحنا المعمدان، يسوع أمام بيلاطس، الملك المصلوب.
أ- الحوار مع نيقوديمس (3: 1- 21)
ترد عبارة "ملكوت الله" مرتين في الحوار مع نيقوديمس ولا تعود ترد في أيّ مكان آخر في يو. في 3:3: "يرى ملكوت الله". في 3: 5: "يدخل إلى ملكوت الله". إذا أردنا أن نفهم معنى العبارة، نرسم الخطوط الكبرى للبرهان في هذه المقطوعة. جاء نيقوديمس، ذاك الوجيه اليهوديّ إلى يسوع. وقدّم نفسه على أنِّه "المعلّم" (نحن نعرف) كما رأى في يسوع أيضًا "المعلم". "رابي، نحن نعلم أنك أرسلت من لدن الله معلّمًا". ثم يتنازل فيرى الأصل الالهيّ لرسالة يسوع: "جئتَ من الله". إن هذا الاعتراف الخارق بيسوع، يستند إلى أعمال صنعها يسوع خلال عيد الفصح. "لا يستطيع أن يصنع الآيات التي أنت تصنعها إن لم يكن الله معه" (يو 3: 2). نحن هنا في صدى لإجمالة 23:2: "وإذ كان في أورشليم، في غضون عيد الفصح، آمن كثيرون باسمه عند رؤيتهم العجائب التي كان يجريها". إذن، نحن هنا أمام تمثّل ينظر إلى يسوع، كمرسل من الله يستطيع أن يقوم بأعمال لا يستطيع أحد أن يعملها بسبب رسالته الالهيّة. أما جواب يسوع، فقام بتحوّلين اثنين في كرومه.
قال له نيقوديمس: "أتيتَ من لدن الله". قال يسوع: "يولد من علُ". يعني من الله. وهذا ما يفتح مساحة من أجل ولادة إلهيّة لا تقال في يسوع الذي أقرّ به نيقوديمس "أنه جاء من الله"، بل في آخر هو نيقوديمس سامع كلام يسوع، في كل قارئ للانجيل. وهذا ما فهمه المعلّم الفريسي، فاعترض قائلاً بأنه يستحيل على الانسان أن يعود إلى بطن أمه من أجل ولادة ثانية، ولاسيّما إذا كان شيخًا. ذاك.
قال نيقوديمس: "يصنع الآيات". فطبّق كلامه على يسوع. وتحدّث باسم عدد كبير من المشاهدين الذين ذُكروا في 3: 23. فاستعمل يسوع عبارة "يرى ملكوت الله". وهكذا كان انقلاب تام في النظرة: لم يتوقّف يسوع عند ما يعمله، بل عرض ولادة "من فوق" على من يرغب أن "يرى". فملكوت الله يدلّ على إجمال واقع الخلاص كما ظهر عبر الآيات التي أجراها يسوع. ولكن "الآية" تبقى ملتبسة وهي تحمل خطر إبقاء الناس بعيدين عن عمل الله: تثبّتهم في ماديّة العمل على حساب مضمونه الرمزيّ. لهذا دلّت عبارة "يدخل إلى ملكوت الله" في 3: 5، على نشاط ديناميكي يُطلب من المؤمن ساعة يخضع للولادة (من علُ) التي صارت ولادة "من الماء والروح". ومهما يكن من أمر التلميح إلى الممارسة العماديّة، فالانجيل الرابع ينظر إلى ملكوت الله لا كواقع في ذاته، بل كوضع خاص بالمؤمن الذي يقبل الارتباط بالله بحيث يصبح ابنًا له.
وسيدلّ ولْي الحوار على مقاومة منطقيّة وبشريّة، وعلى استقالة لدى المعلّم الفريسيّ أن يفهم المعنى الروحيّ لتعاليم يسوع. لهذا جاء القول على الحرية، على الريح التي لا نعرف من أين تذهب ولا إلى أين تعود: "هكذا كل مولود من الروح" (آ 8). والكلمة القاسية التي قالها يسوع: "أنت معلّم في اسرائيل ولا تعلم، ولا تعرف" (آ 10).
مهما يكن من أمر إقحام هذا الحدث في الانجيل الرابع، فعبارة "ملكوت الله" تبدو بشكل مشاركة بشريّة في واقع الخلاص. وهذا ما تدلّ عليه عبارة تأتي فيما بعد: "ملكوت الله" الذي يدلّ على ملء الله المُعطى للمؤمن بصليب المسيح. "فكما أن موسى رفع الحيّة في البريّة هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الانسان كي تكون الحياة الابديّة لكل من يؤمن به" (3: 14- 15). ونقرأ أيضًا: "هكذا أحبّ الله العالم حتى إنه بذل ابنه الوحيد، لئلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الابديّة" (3: 16). هذا الملء هو في النهاية الخلاص الذي يقدّمه الله. "فالله ما أرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلّص به العالم" (3: 17).
وعبارة "الحياة الابديّة التي ترد 17 مرة في انجيل يوحنا (3: 15، 16، 36؛ 4: 14، 36؛ 5: 24، 39؛ 27:6، 40، 47، 54، 58؛ 12: 25، 50؛ 17: 2، 3) وفي 1 يو (1: 2؛ 2: 25؛ 3: 15؛ 5: 11؛ 13: 30)، هي نادرة في الأناجيل الازائيّة. هي تقع دومًا في سياق اسكاتولوجيّ: لاشكّ في أن النصّ لا يستبعد الدينونة الآتية بشكل قاطع، ولكنه يشدّد بالأحرى على آنيّة الخلاص، وعلى اقتراب ملء هذه الحياة التي صارت في متناولنا في تجلّي المسيح. عند ذاك نتّخذ موقفنا منها، وإلاّ كانت لنا الدينونة. وما تبقّى من الخطبة مع نيقوديمس، يُدخلنا في الموضوع اليوحناويّ للاسكاتولوجيا المسبقة: "إن من يؤمن به لا يدان، ومن لا يؤمن به قد دين، لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد" (18:3).
ب- شهادة يوحنا المعمدان (19:1- 51)
إذا كانت عبارة "ملكوت الله" في الانجيل الرابع إحدى عبارات الواقع الاجماليّ الذي يسمّى الخلاص (أو: الحياة، النور، وهذا في استعارة)، فمُلك المسيح الشخصيّ يجد تعبيرًا قويًا عنه في التقليد اليوحناويّ.
ونبدأ بالمشهد التدشيني (1: 19- 51) الذي يقدّم شهادة المعمدان، ويورد نداء التلاميذ الأولين، ويعطي تفسيرًا أولا لوجه يسوع على خلفيّة انتظار مسيحانيّ متعدّد الأشكال. بدأ يوحنا فأعلن لمرسلي أورشليم الذين يسألونه عن هوّيته، فقال: "لستُ المسيح". وتوالت الاسئلة: "هل أنت إيليا؟ هل أنت النبيّ"؟ وكان جواب يوحنا: "كلا".
إن كلمات المعمدان الأولى التي تبدو بشكل اعتراف إيماني، تدلّ على أن شخصًا آخر غير يوحنا هو صورة المسيح الداودي. وهي صورة تتميّز عن صورة إيليا العائد إلى الأرض، والنبيّ الشبيه بموسى في روح سفر التثنية. فالمقطوعة كلها تحاول أن تجمع في شخص يسوع عددًا من الألقاب أو الصفات المسيحانية: هو حمل الله (1: 29). حلّ عليه الروح القدس، فولاّه الملك لكي يجمع شعب الله ويقوده. وسمّي "ابن الله" (1: 34) الذي هو في الأصل لقب داود والملوك الذين جاؤوا بعده قبل الحديث عن مساواته لله. هذا "الملك" يرتبط بالله على مستوى الخضوع والأمانة. ونستطيع أن نذكر ما قاله اندراوس لأخيه بطرس: "وجدنا المسيح" (1: 41). كما نذكر كلام نتنائيل ليسوع: "رابي، أنت ابن الله، ملك اسرائيل".
إن تسمية يسوع الملوكيّة هي أقدم ما في الكرستولوجيا اليوحناويّة. في هذا الاطار يكون المشهد التدشيني (1: 19- 51) صدى لبداية رسالة يسوع، وفي الوقت عينه لبدايات الجماعة اليوحناويّة التي قدّمت أولى تمتماتها عن شخص المسيح ساعة بدا اللقب المسيحاني والملوكيّ أفضل لقب للتعبير عن سر المسيح.
ج- المحاكمة أمام بيلاطس (28:18- 16:19)
إن لقب ملك اسرائيل الذي به انتهت سلسلة الألقاب المسيحانيّة التي طبِّقت على يسوع في المشهد التدشينيّ، ظهر أيضًا في مشهد الدخول إلى أورشليم. تميَّز يوحنا عن الانجيليين فوضع في فم الجمهور عبارة "ملك اسرائيل". قال لو 28:19: ملك. ومت 15:21: ابن داود. ومر 11: 10 تحدّث عن الملك الآتي، ملك أبينا داود. اختلفت الأناجيل الأربعة، ولكنّها أشارت كلها إلى تفسير واحد للحدث انطلاقًا من رجاء يهوديّ يتأسّس على انتظار مسيح ملوكيّ من أصل داود. ولكن كنية "الملك" قد تكون ملتبسة. ويوحنا نفسه قد أشار إلى خطر مسيحانيّة سياسيّة، وشدّد على تحفّظات يسوع تجاه نظرة الشعب. فحالاً بعد تكثير الارغفة، قال الانجيليّ: "وإذ علم يسوع أنهم يأتون ليختطفوه ويقيموه ملكًا، اعتزل أيضًا في الجليل وحده" (6: 15). لهذا عاد يوحنا في مشهد دخول يسوع المسيحاني إلى أورشليم، إلى زك 9: 9: "لا تخافي يا ابنة صهيون، ها هوذا ملكك يأتي إليك راكبًا على ابن أتان".
فهناك نمطيّة المطيّة المسيحانيّة التي تقرّبنا من النبيّ زكريا. كما أن هناك تأكيدًا أن ذاك المسيح يرفض العنف، فيتعارض كل المعارضة مع ملوك هذا العالم الذين قال فيهم زك 9: 10 (حسب السبعينيّة): "واستأصل من افرائيم المركبات ومن أورشليم الخيل. يَستأصل قوس الحرب. ويكون الوفر والسلام من قبل الأمم. يسود على المياه حتى البحر، وعلى الأنهر إلى أقاصي الأرض".
هذه الملكيّة التي تحمل طابع المفارقة، تبدو بشكل باهر في خبر يوحنا حول الآلام، ولاسيّما في المحاكمة أمام بيلاطس. هذه المحاكمة هي نصّ أصيل عند يوحنا الذي يفترق في هذا المجال عن الازائيّين. وهي تقع في قلب خبر الآلام. لاشكّ في أن يوحنا نظر إلى الآلام من زاوية المجد، منذ "أنا هو" الذي تلفّظ به يسوع فوقع الحرّاس على الأرض في سجدة شبه ليتورجيّة (18: 6) حتى ساعة الموت التي فيها تصرّف يسوع بحياته بحريّة، فأعلن نهاية رسالته وجعل من النفَس الأخير إفاضة سخيّة للروح القدس (38:19). ولكننا لا نجد إلاّ في مشهد المحاكمة أمام بيلاطس الاعلان الاحتفاليّ بأن يسوع هو ملك. وذلك بشكل خاص في أول مواجهة بين يسوع والوالي الروماني داخل دار الولاية (18: 33-37). ويتمّ الحوار في ثلاثة أوقات.
- نجد في آ 33-35 استجوابًا حول لقب ملك اليهود. لمَّح يسوع إلى موضوع اتّهام قاله اليهود، ولم يعتبر الكلام رأيًا من آراء بيلاطس. أعلن بيلاطس أنه يجهل هذا الموضوع. إذن، على هذا المستوى الأولى، لقبُ ملك اليهود هو موضوع جدال. اعتبر بيلاطس أنه لا يكفي للتعرّف إلى يسوع، فطرح سؤالاً آخر: "ماذا فعلت"؟
- في آ 36، حدّد يسوع طبيعة ملكه (ثلاث مرات مملكتي)، وقابلها مع ممالك هذه العالم بقواها الحربيّة. وأعلن: "مملكتي ليست من هذا العالم". ليست من هذه الأرض. هي مملكة سماويّة.
- في آ 37، كان استجواب ثان حول الملك: "إذن، أنت ملك". وهكذا ترك بيلاطس لفظة "يهود" (ملك اليهود) وأبقى على لفظة "ملك". قال يسوع: "أنت قلت". نحن هنا في صدى مع آ 34: "أتقول هذا من عندك"؟ الآن، اعتبر بيلاطس نفسه مسؤولاً عمّا يقوله. ويسوع يثبّته في رأيه، ويرسم الخطوط العريضة لرسالته الملوكيّة: جاء ليشهد للحقّ. جاء ليجمع تحت رايته كل "محازبي" الحقّ.
جاء العنصر الأول (آ 33-35) على المستوى السياسيّ: اتّهم اليهود يسوع أنه اعتبر نفسه ملكًا، وهذا ما يتعارض مع الامبراطور الذي هو الملك الوحيد في أمبراطوريته. هذا ما نجده في 19: 12: "من جعل نفسه ملكًا عارض قيصر". وفي 19: 15: "لا ملك لنا سوى قيصر".
أما العنصر الثاني (آ 37) فيتداخل مع التفسير اللاهوتيّ: بيلاطس هو صورة عن العالم الوثنيّ المستعدّ لأن يرى في يسوع ملكيّة روحيّة ترتبط بوحي الحقّ. منبع مثل هذه الملكيّة ليس طموحات هذا العالم ولا الاعتبارات الوطنيّة المتطرّفة.
هذا الملك ليس من هذا العالم، ليس من هنا. وحين يجمع المؤمنين، فهو لا يجعلهم جنودًا مستعدّين للقتال من أجل ملكهم، بل تلاميذ ينتبهون لصوت المعلّم ويقرّون أنه يشهد للحقّ.
د- الملك المصلوب (17:19-37)
إن الكتابة التي جاءت في ثلاث لغات (19: 19-20) تؤكّد ملك يسوع على العالم: هو الذي ليس من العالم. الذي لم يرَ فيه اليهود ملكهم مع أنهم استعدوا لاستقبال الملك المسيح. وبيلاطس قال الحقّ، وإن تهكّم على اليهود: "هوذا الرجل". رذله أخصّاؤه، فلم يعد رئيس شعب خاص. هو "ملك اليهود" هو "ملك اسرائيل" الحقيقيّ، وهو يمارس سلطانه على كل إنسان في ملكيّة الخدمة والحبّ.
ورغم تصرّف بيلاطس وعدم اهتمامه بعد أن سأل عن الحقّ (38:18)، فهو يمارس السلطة باسم الملك ويؤكّد أن هذا المسيح المصلوب هو ملك. "ما كتبت فقد كتبت". وأجلسه على عرشه. أما الصليب فبدا كعرش ملوكيّ يجمع حوله جميع أبناء الله المشتتين. أجل، إن الموت على الصليب ينهي مسيرة تنصيب يسوع ملكًا، كما بدأها سؤال بيلاطس حين قال ليسوع: "هل أنت ملك اليهود"؟
وهكذا يكون اعلان نتنائيل (رابي، أنت ابن الله، ملك اسرائيل، 1: 49)، الذي امتدّ في هتافات الجموع (هوشعنا. مبارك الآتي باسم الرب، ملك اسرائيل 13:12)، قد وصل بنا إلى ملكوت شامل للمخلّص. وهكذا تحقّق الوعد: "سترى أعظم من هذا... الحقّ الحقّ أقول لكم: سوف ترون السماء مفتوحة، وملائكة الله تصعد وتنزل على ابن البشر" (1: 51). أو: "ينظرون الذي طعنوه" (19: 37؛ رج زك 12: 10). هذه العبارة الأخيرة التي ذُكرت في ساعة الصلب، تُسند شهادة التلميذ: "من رأى شهد، وشهادته حقّ هي. وهو يعرف أنه يقول الحقّ لكي تؤمنوا أنتم أيضًا" (19: 35).
إن ملكيّة المسيح التي رفضها اليهود، وأقرّ بها بيلاطس، شهد التلميذ لها. ومثل هذه الشهادة تقود إلى الايمان: "كُتبت هذه الأمور لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، وإذا آمنتم كانت لكم الحياة باسمه" (20: 31). والألقاب المسيحانيّة (المسيح ابن الله) التي تنقّت في محنة الصليب، ما عادت تدلّ فقط على ملك اسرائيل، بل على مخلّص العالم (4: 42).

2- رؤيا يوحنا
يرد فعل "ملك" سبع مرّات في رؤ. والاسم (الملك) 21 مرّة. والملك أو المملكة 9 مرّات. فمسألة السلطة مسألة مركزيّة في نظر رؤ. ونحن لا نستطيع أن نعزل هذه الألفاظ عن "العرش" الذي يحتلّ مكانًا واسعًا في رؤ (47 مرّة من أصل 62 في كل العهد الجديد). "فالجالس على العرش" هو الملك. وارتقاء العرش يعني التوليّة الملوكيّة. ونذكر أيضًا كلمات مثل قوّة، قدرة، غلبة.
واعلان ملك الله يجد خلفيّة في شجب مملكة الشيطان ومعاونيه. وهكذا تجعلنا الرؤيا في خطّ دانيال. وقد قالت تجارب يسوع إن "الشيطان يعطي سلطانه لمن يشاء" (مت 8:4-9؛ لو 4: 5-6). وسمّاه يو 12: 31: "سلطان هذا العالم" (رج 14: 30؛ 16: 11).
إن التنديد بسلطان الشيطان في رؤ، يبدو آنيًا ودراماتيكيًا بسبب انتشار عبادة الامبواطور في آسية الصغرى. حتى في رومة، سمّى دوميسيانس نفسه: "الرب الاله". وفي الشرق، كان الناس قد تعوّدوا على عبادة تدلّ على روح وطنيّة وروح دينيّة معًا. ويبدو أن النيقولاويين ساوموا: في الخارج، نقدّم البخور. وفي الداخل، نبقى مسيحيّين. فندّد يوحنا بكذبهم (رؤ 2: 15، 20- 21). أما انتيباس فاعتبر أن الأمانة للمسيح تفرض عليه رفضًا قاطعًا لاعتدادات الامبراطور (13:2). في هذا المناخ من الانشداد، دعا يوحنا المؤمنين إلى قراءة سفر دانيال كبلاغ حاليّ يصل إليهم، بعد أن استنار بصورة الحمل المذبوح.
الله ملك لأنه خالق (ف 4). هذا ما نراه في ليتورجية الهيكل السماوي. ومع آ 11، لا نزال في نظرة العهد القديم: "مستحقّ أنت أيها الرب إلهنا أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة، لأنك أنت خلقت جميع الأشياء، وبمشئيتك كانت وخُلقت". إن هذا الاحتفال بملك الله بالنظر إلى الخلق، يشكّل خلفيّة سائر التوسّعات.
والحمل هو ملك يقيم من عن يمين الله. في إطار ليتورجيا هي امتداد ف 4، استعاد يوحنا هذا الهتاف بشكل جديد: في قلب الرؤية درْجٌ ختمه الله الملك (5: 1). فمن يحقّ له أن يفتحه؟ هذا الكتاب هو العهد القديم. ولا يستطيع أحد أن يفقه معناه. عند ذاك انطلق هتاف الظفر: "هوذا قد غلب الأسد الذي من سبط يهوذا" (رؤ 5: 5). هو إعلان يوجز الانتظار الملوكيّ الذي هو تقليديّ في أرض اسرائيل. والذي ظهر هو الحمل الذي ما زال يحمل آثار ذبحه. نحن هنا أمام ظهور للحمل الذي سوف نراه 28 مرة بعد ذلك.
وتجاه ليتورجيّة الغلبة التي قرأناها في ف 5، نجد صرخة الشهداء بما فيها من ألم: "حتى متى أيها السيّد القدّوس والحقّ، لا تقضي" (6: 10)؟ كيف نفهم صمت الله أمام تفاقم الشرّ؟ ولكن كما في كل ضيق، نحن ننتظر النهاية التي تبدو قريبة. والنصّ يقول مرارًا إن يسوع يأتي (7:1)، بعد قليل (2: 16؛ 3: 11؛ 7:22، 12: 20). وهو يملك ألف سنة. بل إن ملكه قد بدأ منذ موته على الصليب وسينتهي حين مجيئه الثاني في المجد. هو يملك، وسيملك المؤمنون معه بعد أن جعل منهم "ملكوتًا وكهنة" (1: 6).

خاتمة
تلك كانت نظرتنا إلى ملكوت الله عند يوحنا في الانجيل وسفر الرؤيا، بانتظار العودة إلى بولس. ثلاث نظرات مختلفة بعد أن جاءت نظرة لوقا فزيدت على نظرة مرقس ومتّى، فكوّنت لوحة متكاملة لهذا الموضوع الرئيسيّ في الكنيسة الأولى. هذا الملكوت الذي أعلنه يسوع في بداية رسالته، قد قدّم بولس أول التعابير عنه. وكان لكل انجيليّ اتجاه خاص بالنظر إلى الجماعة التي يكتب لها. في النهاية، الملكوت يدلّ على واقع الخلاص الذي يصل إلى حياة الجماعات، إلى حياة المعمّدين. الملكوت هو العالم الجديد الذي يُولد في قلب تاريخ البشر. بدأ مع يسوع ولن ينتهي إلى الكمال إلاّ بعودة يسوع. فلا يبقى لنا إلاّ أن نُشرك صلاتنا مع صلاة الابن ونتوجّه إلى الآب قائلين: "ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM