الفصل الخامس والعشرون: الخلفيّة التوراتيّة في إنجيل يوحنا

الفصل الخامس والعشرون
الخلفيّة التوراتيّة في إنجيل يوحنا

حين ندرس الانجيل الرابع لا بدّ من التوقّف عند الدور الذي لعبته تأثيرات خارجيّة سواء جاءت من الشرق أو من الغرب. ونتوقّف هنا بشكل خاص عند التأويل اليهوديّ كما يظهر لنا في المدارش الفلسطينيّة وغيرها.

1- كيف ندرس الخلفيّة التوراتيّة
أ- مسألة نهج
إن الاستشهادات الصريحة من العهد القديم، التي نجدها في يو، قليلة بالنسبة إلى ما في انجيل متّى مثلاً. هي تسعة عشر استشهادًا، وهي تختلف عمّا في الأناجيل الازائيّة. فكأن ليوحنا كنزًا خاصًا به. هذه الاستشهادات ليست مقولبة، بمعنى أنها لا ترد دومًا في القالب عينه. ففعل "غرابتاين" (كتب) يرد مرارًا. مثلاً، في 2: 17: "فذكر تلاميذ أنه مكتوب: غيرة بيتك أكلتني". وفي 6: 31: "إن آباءنا أكلوا المنّ في البريّة، على ما هو مكتوب". وفي 6: 45: "لقد كُتب في الأنبياء". رج 7: 42؛ 10: 34؛ 12: 14. وفي 38:7، 42 نجد "الكتاب" (غرافي): "ستجري من جوفه كما قال الكتاب". "أفلم يقل الكتاب، إنه من نسل داود ومن بيت لحم"؟
أما في كتاب الساعة فنجد فعل "تمّ" (بليرون). نقرأ في 18:13: "إني عالم بمن اخترت. ولكن لا بدّ أن يتمّ الكتاب". وفي 15: 25: "وذلك لتتمِّ الكلمة المكتوبة في ناموسهم". رج 19: 24، 36؛ رج أيضًا 38:12. هنا نتذكّر العبارات المتّاويّة: "وكان هذا كله يتمّ ما قال الرب بالنبيّ" (مت 1: 22). وفعل تالايون" (تمّ) في 28:19 (رج مز 15:22) يدخل في الكلمة قبل الأخيرة للمسيح على الصليب. "بعد ذلك، إذ رأى يسوع أن كل شيء قد اكتمل، قال ليتمّ الكتاب: أنا عطشان". جاء فعل "دبسو" قبل الكلمة الاخيرة "تالايون" ليدلّ على اكتمال العمل الذي جعله الآب للابن ليتمّ موافقةً مع الكتب المقدّسة.
ويُطرح سؤال على طبيعة النص الوارد؟ هل يعود يو إلى العبريّة أم إلى السبعينيّة؟ نشير هنا أولاً إلى أن النص العبريّ لم يكن ثابتًا بعد حتى سنة 70. والدليل على ذلك النصوص القمرانيّة. ونشير ثانيًا إلى أن السبعينيّة ظلّت تراجع حتى في فلسطين خلال القرن الأول المسيحي. ونأخذ مثالاً على ذلك زك 12: 10 (سينظرون إلى الذي طعنوه) في يو 19: 37. فالعبارة التي نقرأها في يو لا تجد تفسيرًا لها إلاّ في النصّ العبري. فالسبعينيّة تقدّم لنا نصًا مختلفًا كل الاختلاف: "يلتفتون إليّ لأنهم احتقروني، عيّروني".
أما أش 3:40 (مهدّوا طريق الرب) الذي يرد في يو 1: 23 فيقابل نص السبعينيّة ما عدا استعماله الفعل "أوتيناتي" (قوّموا) محلّ "اتوسيماساتي" (كما في السبعينيّة) الذي يرد في مر 1: 2. لماذا فعل يوحنا ما فعل؟ هذا ما لا نعرفه. جعل الانجيليّ من المعمدان شاهدًا للمسيح أكثر منه كارزًا بالتوبة. وهذا ما لا يبرّر التبديل. قد يكون الانجيل عاد إلى ترجمة أكيلا. وهكذا نبقى على مستوى الفرضيّات.
ويرد مز 69 (في السبعينية 68): 10 في يو 17:2 (غيرة بيتك أكلتني) فيقابل السبعينيّة، إلاّ في جعل الفعل في صيغة المضارع وهذا ما نجده في الفاتيكاني (ربما قد يكون تأثّر بانجيل يوحنا). ولا ننسى تأثير الترجوم. ونزيد أنه كان مع "المبشّر" كتيّب يحمل إيرادات قُرئت وأعيدت قراءتها، فشكّلت كتابًا "مستقلاً" لعب فيه التفسير أكثر من الايراد الحرفيّ للنصوص كما نجدها في التوراة.
هنا نقرأ ما في خطبة الحياة. "أعطاهم خبزًا من السماء، ليأكلوا، كما هو مكتوب". إلى أي نصّ نعود؟ إلى خر 16: 4؛ 16: 15؛ مز 24:78؛ نح 9: 15. إن ولي النصّ يدلُّ على المهارة التي بها أعاد يوحنا صياغة التوسّعات التقليديّة حول المنّ. فالايراد لا يتوخّى حرفيّة النصّ بل المعنى الاجمالي. وهذا ما نقول عن الشرح النبويّ (يكونون جميعًا متتلمذين لله) الذي نقرأه في يو 45:6 كامتداد لنصّ الشريعة. لقد تحوّل أش 54: 13 بشكل يشير إلى نبوءة ارميا حول العهد الجديد (إر 31: 31-34). أمّا ما نقرأ في 38:7 (تجري من جوفه أنهار مياه حيّة)، فتبدو كخاتمة سلسلة من التقاليد الترجوميّة حول عطيّة الله في البريّة وصخرة الهيكل. وفي 19: 36 (لا يُكسر له عظم)، لا نستطيع أن نختار بين عطيّة الحمل الفصحيّ (خر 12: 46) وموضوع عبد الله المتألّم (مز 20:34: يحفظ جميع عظامه فلا ينكسر منها واحد). كانت نظرة يوحنا اجماليّة، فضمَّت الصورتين في عبارة واحدة.
هذه الطريقة في إيراد النصوص تفترض تعاملاً طويلاً مع الكتاب المقدس (5: 39: "إنكم تبحثون في الكتب)، شبيهًا بالتقليد المتّاويّ وإن كان أكثر عمقًا. وهكذا نستطيع أن نتكلّم عن المدرسة المتّاويّة، المدرسة اليوحناويّة. ويفترض في القرّاء أن يدركوا هذه التلميحات مهما كانت دقيقة.
ب- خلفيّة توراتيّة
نشير هنا إلى التلميحات والايرادات التي تدلّ على قراءة متواصلة للكتاب المقدّس.
أولاً: التلميحات
هنا نحدّد بدرجة معقولة التقاليد الكتابيّة التي يرتبط بها الانجيل الرابع. فدراسة تأثير سفر الحكمة على المطلع قد دُرست مرارًا. وتذكُّر سفر الخروج مع سيناء، أمر لا يمكن تجاهله.
ونشير أيضًا إلى البستان (كيبوس، يو 19: 41 مرتين) الذي نربطه بالبستاني (كيبوروس، يو 20: 15)، فيعود بنا إلى جنّة عدن حيث يُدخلنا يسوعُ، آدم الجديد. قيل أن السبعينيّة تستعمل "برادايسوس". ولكن "كيبوس" حاضرة في تك 2-3 في ترجمة أكيلا وترجمة تيودوسيون. إذن، لا نستبعد العودة إلى جنّة عدن، لاسيّما وأن التقليد المسيحيّ المتهوّد يقول إن بستان الجلجلة يتضمّن قبر آدم.
كيف نحافظ على الاعتدال لئلا نقع في الاكثار من الاستعارات على ما في بعض التفاسير الآبائيّة أو الوسيطيّة؟ مبدأ التماسك يبقى أساسيًا: يجب أن تكون إشارات عديدة تلتقي في خطّ واحد، فتتساند وتتوافق مع ديناميّة الفكر اليوحناويّ. ومثالُ البستان خير دليل على ذلك. بالاضافة إلى ذلك، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار العالم الرمزي في ذلك الزمان وحاجات سامعي انجيل يوحنا.
ثانيًا: ايرادات متفرّقة أو متواصلة
اتّفق الشرّاح على القول بأن الاستشهاد القصير يجب أن يُوضع في سياق أوسع لكي ندرك بُعده كلّه. ولكن قلّ من تساءل عن طريقة يوحنا في قراءة مزمور من المزامير أو جزء من الكتاب المقدّس. هنا نعود إلى قراءة مز 42-43 (في السبعينيّة 41-42) في الانجيل الرابع. ننطلق من القرار أو الردّة (لماذا تكتئبين يا نفسي وتقلقين فيّ). هناك نصّان يشيران إلى هذا القرار، وهما يعودان بنا إلى اضطراب المسيح أمام آلامه القريبة. في 12: 27: "الآن نفسي قد اضطربت". وفي 13: 21: "قال يسوع هذا واضطرب في روحه". وهناك أصداء أخرى لهذا المزمور في اضطراب يسوع أمام قبر لعازر (33:11-35: ارتعش بروحه واضطرب)، وفي خطبة الوداع (ف 14)، وفي صرخة يسوع على الصليب (28:19، قال يسوع أنا عطشان، رج مز 3:42: ظمئت نفسي إلى الله). وهكذا يكون هذا المزمور واحدًا من الشواهد عن حاش يسوع وآلامه.
ونستطيع أن نقوم بدراسة مماثلة في مز 69 (68 في السبعينيّة). يرد مرة أولى في يو 2: 7 (غيرة بيتك أكلتني). ويُذكر أيضًا في 12: 27: نجِّني من هذه الساعة (مز 69: 2: اللهمّ خلّصني). وفي 15: 25: "أبغضوني بلا سبب" (مز 69: 5). وفي 29:19 (الخلّ). ورفضُ الذبائح في مز 69: 32 (هذا ما يرضيك أكثر من ثور بقرون وأظلاف) يقابل مشهد طرد الباعة من الهيكل (لم نعد بحاجة إلى الذبائح فلهذا قيل: أخرج الغنم والبقر). واعلان بناء مدن يهوذا (مز 36:69) أعيدت قراءته في يو 2: 20 حول بناء الهيكل. وهكذا يقدّم لنا يسوع قراءة كرستولوجيّة لهذا المزمور الذي تلاه البارُ المتألّم. كما أنه يعيد تفسيره. فالغيرة التي يتحدّث عنها في آ 10 (غيرة بيتك أكلتني) لا تقود يسوع إلى تدمير الأعداء كما فعل إيليا، بل إلى تسليم حياته الخاصة حبًا بالآب ومن أجل خلاص العالم. نقرأ في يو 14: 31: "إنما ينبغي أن يعرف العالم أني أحبّ الآب". وفي 17: 19: "وأنا أقدّس ذاتي لأجلهم، لكي يكونوا هم أيضًا مقدّسين في الحقّ".
2- تقاليد آباء الشعب
بما أن آباء الشعب العبراني يحتلّون مكانة كبيرة في التقوى اليهوديّة، لن نعجب إن أفرد لهم يوحنا حيّزًا كبيرًا في انجيله. نتوقّف فقط عند التفسير الكرستولوجيّ، ونكتفي ببعض لقطات لأن الموضوع أوسع من أن يحتويه مقال.
أ- يعقوب
ألثمار جميع الآباء إلى سلّم يعقوب في 1: 51 (سترون السماء مفتوحة، وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن البشر). غير أن الطريقة التي بها يستلهم يوحنا هذا النص لا تُفهم إلاّ إذا عدنا إلى الترجوم، فبسبب النصّ العبريّ، تدلّ السلّم على أن الموضع (بيت إيل) هو نقطة اتّصال بين السماء والأرض. في هذا المكان نال يعقوب رؤية سماويّة: وقف يهوه بقربه (تك 28: 31). في يو 1: 51، تركّزت الرؤية على العلاقة بين ملائكة الله وابن الانسان. هذا يعني أنه هو الهيكل الحقيقي حسب نمطيّة سيعود إليها الانجيل في 2: 21 (كان يتكلّم على هيكل جسده). ولكن كيف نفسّر صعود الملائكة ونزولهم فوق ابن الانسان وكأنه سلّم لهم؟ هناك بعض الالتباس في النصِّ العبري. قيل عن الملائكة: "كانوا صاعدين ونازلين عليه" (ع ل ي م. و. ي ر د ي م. ب و) (تك 12:28). إلى ماذا يعود الضمير مع حرف الجرّ (به)؟ إلى السلّم أم إلى يعقوب؟ تأرجح التفسير الرابينيّ بين هذين الشرحين. ويلفت انتباهنا ترجوم نيوفيتي حيث تتركّز رؤية الملائكة على كرامة يعقوب. فخلال رقاده أعلن الملائكة الذين يرافقونه لملائكة العلاء: "تعالوا انظروا رجلاً بارًا حُفرت صورته (إ ي ق ون ي ه، ايقونته) على عرش المجد الذي تحترقون شوقًا لرؤيته".
ليس الموضوعُ في 1: 51 اكتشافَ هويّة البار يعقوب، بل ابن الانسان. وهكذا يشكّل هذا القولُ ذروةَ الأقوال التي تتوزّع 1: 19- 1 5. فتجاه التيوفانيا (ظهور الله) التي نَعم بها يعقوب، نال التلاميذ كرستوفانيا (ظهور المسيح) تدلّ على تسامي المسيح على الملائكة. إذا كان لاشكّ في تأثير الترجوم على هذا التفسير، فإن مزج تك 28 ودا 7 هو عمل اللاهوت اليوحناويّ. ويكون الأمر طبيعيًا حين نلاحظ أن ترجوم تك 28 ودا 7 يرتبطان كلاهما برؤية حزقيال على شاطئ نهر كبار (أو الخابور).
لا نتوقّف على التلميحات إلى يعقوب ويوسف في يو 4. هنا تبرز الممازحة اليوحناويّة: "هل أنت أعظم من أبينا يعقوب" (آ 12)؟ تلفّظت المرأة بهذه العبارة في لهجة مشككة، وانتظرت أن يكون الجواب بالنفي (كلا). ومع ذلك، فهذه العبارة هي نقطة انطلاق في مسيرة السامريّة التي ستصبح رسولة السامريين: "أما يكون هو المسيح" (4: 29)؟
ب- ابراهيم
لا يظهر اسم ابراهيم إلاّ في ف 8. ولكنه سيُذكر عشر مرات في 8: 31- 59. وبعد ذلك لن يعود يظهر. لماذا كل هذا الاهتمام؟ هنا نعود إلى خلفيّة حوار يوحناويّ. فاليهود الذين آمنوا (8: 31) هم مسيحيون متهوّدون متأثّرون بالشريعة اليهوديّة. وقد طلب منهم يسوع أن ينموا في الايمان ليقتنوا الحريّة الحقيقيّة.
أما المقطع (8: 31-59) الذي نقرأ فيتميّز بعنف في الجدال. أعلن يسوع لمعارضيه: "أبوكم هو إبليس" (8: 44). فردّوا عليه: "أنت سامريّ وبك شيطان". (48:8). يبدو من الصعب أن نظنّ أن هذه "الحرب" تعني مسيحيين متهوّدين. بل هي تشير إلى يهود عزموا على قتل يسوع. فكيف نجد تماسك النصّ؟ لا ننسى هنا أننا في إطار ليتورجيّ، في إطار عيد المظال (سكوت)، الذي يتذكّر مولد اسحاق كما يقوله كتاب اليوبيلات (16: 20). إذن، لا ندهش إن وجدنا تلميحًا إلى الابن الحرّ، إلى اسحاق، تجاه اسماعيل، إبن الأمة: "العبد لا يقيم في البيت على الدوام" (8: 35). ولا ننسى أيضًا أن شهر "تشري" (ايلول- تشرين أول) يتضمّن "يوم كيبور" (يوم التكفير) قبل "سكوت" (عيد المظال والأغصان). لهذا أعلن يسوع لمحاوريه الواثقين كل الوثوق بالغفران الالهي: "إذا كنتم لا تؤمنون أني أنا هو، تموتون في خطاياكم" (8: 24؛ رج آ 21). إذن، ليست ليتورجية "كيبور" هي التي تنال الغفران، بل الايمان بالمسيح، وهو إيمان يرافق أعمال ابراهيم (8: 39: إعملوا أعمال ابراهيم).
ونحن نعيد بناء هذا النصّ كما نقرأه اليوم على الشكل التالي:
- 8: 31-36: ردٌّ على اليهود الذين يعتبرون نفوسهم أحرارًا لأنهم من نسل ابراهيم.
- 8: 37-47: رفضٌ لقول اليهود بأنهم نسل ابراهيم. فأعمالهم تدلّ على أنهم أبناء إبليس.
-8: 48-59: خضوع ابراهيم ليسوع. رأى يومه فابتهج. والتعارض بين ما صار إليه ابراهيم (قبل أن يكون ابراهيم) وما هو يسوع (أنا هو) يشدّد على المسافة الكبيرة بين الاثنين.
لن نقابل بين هذا النصّ والرسالة إلى غلاطية، حيث الاختلافات تتغلّب على التشابهات. فالمسألة الكبرى بالنسبة إلى القديس بولس هي التبرير بالايمان لا بأعمال الشريعة، رفض الختان وارتباط الأمم بالوعد المعطى لابراهيم. أما في يو، فالوجهة كرستولوجيّة في الدرجة الأولى: يجب أن نبلغ إلى ملء الايمان في المسيح كما تؤكّده عبارة "أنا هو" (أي أنا يهوه كما قال الله لموسى. هذا يعني أن يسوع هو الله) التي تطبع بطابعها ف 8 كلّه.
ونستطيع أيضًا أن نقابل هذا المقطع مع الحرب الكلاميّة بين يوحنا المعمدان واليهود الذين عادوا إلى كرامتهم كأبناء ابراهيم ليرفضوا أن يثمروا ثمرًا يليق بالتوبة (مت 3: 7- 10 وز). غير أن هذه المقابلة لا تكفي لكي تقيم رباطًا مباشرًا بين يوحنا وأقوال الازائيّين، فيرتبط نصّ بآخر. فالمكانة الفريدة التي يمثّلها "أبونا ابراهيم" في العالم اليهوديّ (سواء كان في فلسطين أو بين الهلينيين)، جعلت المواجهة محتومة بين ابراهيم ويسوع في مختلف الاوساط.
ويُلقي كتاب اليوبيلات ضوءًا على الطريقة التي بها فُهمت أخبار سفر التكوين على عتبة المسيحيّة: إن امتياز حريّة شعب اسرائيل قد تأسّس على ف 15 تأسيسًا لاهوتيًا. فبعد الشريعة حول الختان (تك 17)، حدّد النصّ أنه إن أُسلمت الأمُم إلى أرواح تضلّلها، فالله لم يسمح لملاك ولا لروح أن يكون له سلطان على اسرائيل.
"هو وحده ملكهم. هو يحميهم. هو يطالب بهم لدى ملائكته، لدى أرواحه، لدى قوّاته، لكي يحفظهم ويباركهم، فيكونوا له ويكون لهم من الآن إلى الأبد" (اليوبيلات 15: 31-32).
في هذا المنظار، اعتبر اليهود أنه يحقّ لهم أن يعلنوا في يو 33:8: "نحن ذريّة ابراهيم. وما كنّا قط عبيدًا لأحد (لم يستعبدنا أحد). فكيف تقول أنت أنكم تصيرون أحرارًا"؟ لا رنّة سياسيّة (على مستوى العلاقة مع رومة) لموضوع الحريّة هنا، بل دينيّة. بما أن اليهود اعتبروا أنهم أفلتوا من سلطة الأرواح الشرّيرة، ردّ يسوع قائلاً إن أباهم هو إبليس (8: 44). وهكذا يلمّح النصّ إلى المدراش الذي يعلن أن قايين وُلد من زواج الحيّة مع حواء (ترجوم تك 4: 1؛ رج 1 يو 8:3-12).
في إطار التعارض بين الابن الحرّ والابن العبد، نفهم أن يسوع اتّهم اليهود بأنهم أرادوا أن يقتلوه (8: 40). فاليهود يتصرّفون مثل اسماعيل، ذاك الرامي بالقوس (تك 21: 20) الذي أراد أن يطعن أخاه متظاهرًا أنه يلعب. ذاك هو أحد الشروح الذي يقدّمه ترجوم سوطه (6: 6) ليبرّر طرد هاجر وابنها من بيت ابراهيم. ولكن حين يعملون عمل ابراهيم يقتدون بحسن ضيافته (تك 18). وبالتالي يستقبلون كما يليق مُرسل الله (8: 42).
إن ابتهاج ابراهيم يوم رأى يوم المسيح يشكّل ذروة هذا الاعتبار حول وجه أبي الآباء. "ابراهيم أبوكم ابتهج حين فكّر بأن يرى يومي: رآه وفرح" (56:8). كيف نفسّر هذه الآية؟ هناك تفسيران لافتان. حسب الترجوم الفلسطينيّ حول تك 15: 11، تُمثّل الكواسر التي ترتمي على الاضحيات (علامة العهد) أربع ممالك سوف تسيء إلى اسرائيل: "هي ممالك الأرض وحين يحوكون الاهداف الشريرة ضد بني اسرائيل، ينالون الخلاص باستحقاقات أبيهم ابراهيم" (نيوفيتي، تك 15: 11). وفي الترجوم، نال ابراهيم وحيًا عن المستقبل، ولاسيّما حول سقوط مملكة أدوم الفاسدة (تك 15: 12). ولكن لا حديث عن فرحه. غير أن هذا الموضوع حاضر بوضوح بمناسبة ولادة اسحاق حسب اليوبيلات 16: 16-29. إليكم كيف روى هذا الكتاب تأسيس عيد "سكوت" (المظال) ساعة وُلد اسحاق:
"احتفل ابراهيم بالعيد سبعة أيام، فابتهج بكل قلبه وكل نفسه، هو وجميع أهل بيته... فقد عرف أن زرع البرّ لن يخرج منه للأجيال الابديّة، وبالتالي الزرع المقدس... سمّى هذا العيد: "عيد الرب". عيد بهجة يُرضي الله العليّ" (يوبيلات 16: 25-27).
يمكن أن نفسّر فرح ابراهيم لمولد اسحاق فرحًا مسيحانيًا، لأن اسحاق هو ابن الوعد. هنا يجب أن ندرس وجه اسحاق في الانجيل الرابع. فالليتورجيا اليهوديّة ربطت بين "ع ق د ة" (ساعة قيِّد) اسحاق وحمل الفصح وحمل المحرقة اليوميّة. لاشكّ في أن موضوع الحمل الذي يرفع خطيئة العالم، الحمل الذي يُنحر ساعة الذبيحة الفصحيّة في الهيكل، يرتبط بهذه النمطيّة.
تلك هي الطريقة الاصيلة التي بها يقدّم يوحنا وجه ابراهيم: لا يسترعي انتباهه صفته كأب للوثنيين، بل ضيافته وفرحه حين ولادة اسحاق. إذن، نحن أمام تفسير كرستولوجيّ مع تأكيد على وجود المسيح منذ الأزل. وكما أن يوحنا المعمدان انحنى خاضعًا أمام ذاك الذي هو قبله (يو 1: 15، 30)، شهد ابراهيم مسبقًا أن المسيح يشارك الله في كيانه: "قبل أن يأتي ابراهيم إلى الوجود فأنا الكائن" (58:8). "قبل أن يكون ابراهيم أنا هو". ونجد ذات التفسير الكرستولوجي بالنسبة إلى رؤية أشعيا: "قال أشعيا هذا لأنه رأى مجده فتكلّم عنه" (41:12؛ رج أش 6).
ج- موسى
لن نتوقّف عند الوعد بالنبيّ الشبيه بموسى، الذي يمثّل مكانة هامة في كرستولوجيّة الانجيل الرابع. بل نتساءل عن السلطة الخاصة بموسى في نظر الجماعة اليوحناويّة. فالكلمة الجارحة التي قالها الفريسيون للأعمى منذ مولده تعطينا صورة واضحة عن هذا الوضع: "أنت تلميذه (= يسوع). أما نحن فتلاميذ موسى. نحن نعرف أن الله كلّم موسى. أما هذا (= يسوع) فلا نعرف من أين هو" (9: 28-29).
تنبثق نظرة اليهود انبثاقًا منطقيًا من نهاية سفر التثنية الذي يختتم أسفار الشريعة الخمسة: "ولم يقم من بعدُ نبيٌ في اسرائيل كموسى، الذي عرفه الربّ وجهًا لوجه، الذي بعثه الربّ ليصنع جميع هذه الآيات والمعجزات في أرض مصر" (تت 34: 10-11).
فبحسب النظرة اليهوديّة، لا نستطيع أن نفصل وحي التوراة بالمعنى الحصري، أي الأسفار الخمسة، عن الآيات التي ترافقه. كان يوحنا أمينًا لهذه النظرة حين توسّع فيها في منظور كرستولوجيّ. اختلف يوحنا عن بولس الذي استعمل "نوموس" (شريعة، ناموس) في معنى قانونيّ فاحتفظ بمدلوله الاساسي كالوحي. وهذا ما يدلّ عليه دلالة واضحة نهاية المطلع: "إذا كانت الشريعة أعطيت لنا بموسى، فالنعمة والحقّ جاءا بيسوع المسيح" (يو 1: 17). إن الآيات التي تدلّ على صدق رسالة موسى ليست تلك المذكورة في خر 4: 1-9، بل تدخّلات الله العظيمة خلال الإقامة في البريّة. وهي التي يذكرها الانجيل الرابع مرارًا.
ونكتفي بمثَل واحد يحدّد تفسير يوحنا بالنسبة إلى سنثر الحكمة والتأويل الفلسطيني: نمطيّة حيّة النحاس. "كما رفع موسى الحيّة في البريّة، هكذا يجب على ابن الانسان أن يُرفع لكي تكون الحياة الأبديّة لكل من يؤمن به" (3: 14- 15).
إن تفسير هذا الحدث (2 مل 18: 4: سحق حزقيا حيّة النحاس التي كان موسى صنعها) في سفر الحكمة أمر يلفت النظر: "أُقلقوا إلى حين انذارًا لهم، ونُصبت لهم علامة للخلاص تذكّرهم وصيّة شريعتك. فكان الملتفت إليها يخلص، لا بذلك المنظور، بل بك يا مخلِّص الجميع" (حك 16: 6-7).
فبحسب الاتجاه الارشادي في المدراش حول خر 10-18، فُهم الحدث كتنبيه وإنذار لكي يُدخل إلى القلوب الامانة للشريعة. وهكذا صارت الحيّة عربون خلاص، علامة خلاص. إن محور كل نظرة إلى سفر الحكمة، بل إلى العالم اليهوديّ كله، هو الشريعة التي نورها لا يفسد (حك 18: 5). إنها مبدأ خلاص لكل من يلتفت إليها في حركة توبة وارتداد.
وتوسع التأويل الفلسطينيّ في خطّين. نجد الخط الأولى في كتابات التنائيم (أي الردّادين) والمكلتا على خر 17: 11. ففي إطار حضٍّ على تلاوة "مجله" والنفخ بالبوق (شوفر)، يشدّد النصّ على ضرورة "رفع القلب". قال المفسّر: "كل مرّة ينظر بنو اسرائيل إلى فوق ويُخضعون قلوبهم لأبيهم السماوي يخلصون". وهذا النمط عينه من الشرح نجده في ترجوم يوناتان المزعوم (لا في نيوفيتي): "فكل من تعضّه الحيّة فيرفع نظره إليه يبقى حيًا إن هو وجّه قلبه نحو اسم كلمة الرب" (حول عد 8:21).
والخطّ الثاني نجده في ترجوم نيوفيتي ومدراش ربه على سفر العدد. هناك صوت يُسمع اتهام الله لشعبه الذي يتذّمر دائمًا، ويدعو الحيّة لكي تكون شاهدًا يثبت خطأه: "لتأت الحيّة التي لم تتذمّر بسبب الطعام، وتسيطر على الشعب الذي تذمّر بسبب طعامه" (حول عد 6:21).
وبدا يوحنا قريبًا من تأويل سفر الحكمة حين أحلّ المسيح محلّ الشريعة. كما نلاحظ أن النصّ الذي كان لشعب اسرائيل وحده، قد تعمّم فدلّ على البشريّة. وهذا ما يدلّ عليه لقب ابن الانسان. فموضوع الخلاص يشرف على كل يو 3. ولكننا نقرأ في آ 15 فعل "آمن" بدل "نظر" الذي نجده في السبعينيّة. فالايمان يشكّل في نظر يوحنا العمل الأساسيّ في الارتداد، ويجد امتدادَه في التأمّل والمشاهدة. لهذا لا نستطيع أن نفصل 3: 14-15 عن سائر الأقوال التي تتحدّث عن ارتفاع إبن الانسان (8: 28؛ 12: 32، 34). وكل هذا يجد كماله في إيراد يختتم خبر الآلام: "ينظرون الذي طعنوه" (19: 36).
نلاحظ هنا تحفّظ يوحنا في استعمال النمطيّة. فنقطة الاتصال هي ارتفاع حول آية (عد 8:21). هذا ما يدعونا إلى أن نرى في الصليب الآية الآية. غير أن يوحنا لا يماهي بين المسيح نفسه والحيّة كما سيفعل آباء الكنيسة فيما بعد (يوستينوس مثلاً في حواره مع تريفون 111).
يكون الواحدُ تلميذَ موسى أو تلميذ يسوع. ذاك هو السؤال الذي طُرح أيضًا في الحديث عن يوحنا المعمدان، مع اعتبار الفارق بين الأشخاص. ففي كلا الحالين، لا يُحدر الانجيلي الوجهين المتعارضين، بل يجعلهما في خدمة الايمان المسيحيّ. هنا نعود إلى نهاية الخطبة الدفاعيّة الكبيرة في يو 5. فبعد شفاء مخلّع بركة بيت زاتا، قدّم يسوع عمله على أنه مشاركة في عمل الآب، وجعل الشهود يمرّون الواحد بعد الآخر: "لا تظنّوا أني أنا من يشكوكم أمام الآب. من يشكوكم هو موسى الذي فيه رجاؤكم. لو كنتم تصدّقون موسى لصدقتموني أنا أيضًا، لأنه كتب عني" (5: 45-46).
نلاحظ على المستوى القانوني تبديل الالفاظ. إن "الباراكلاتوس" (البارقليط) صار "كاتيغووروس" (المتّهم، المشتكي). يذكر خر وعد شفاعة موسى مرارًا. فموسى تخلّى عن مجد يجعله أبا شعب عديد (مثل ابراهيم) لكي يحصل على الخلاص لشعبه (خر 32: 10-13؛ عد 14: 12-19). وأبرز التقليدُ اليهوديّ هذا الدور. ولكن تث قدّم موسى على أنه المشتكي على شعبه في نشيده الاخير (تث 32): اتّهمه بالخيانة، اتّهمه بعبادة الأصنام. وها هم اليهود يقولون إن يسوع جاحد لأنه يبعد الناس عن الاله الواحد، فيعلن نفسه الابن المساوي لله (18:5). لهذا يجب أن ننطلق من التوراة لنحكم على يسوع بالموت (7:19). هذا ما ارتآه اليهود. فأجاب الانجيليّ: إن موسى شهد من أجل النبيّ الآتي. هذا النبيّ الذي هو تتمّة الشريعة لأنه وحي الآب.
ونستطيع أيضًا أن نتوقّف عند الدور المعطى لموسى في يو 6. ففي كل هذا الفصل تتجمع ذكريات من سفر الخروج: تكثير الارغفة، عظة حوله المن، ظهور الله على البحر (مثل عبور البحر الأحمر)، تذمّر الشعب الذي لا ينتهي. تبدو النمطيّة هنا في شكل انحداريّ: عظّم اليهود دور موسى، فتحدّث يسوع عن عطيّة الله في التدبير الجديد: "الحقّ الحقّ أقول لكم: ليس موسى هو الذي أعطاكم خبز السماء، بل أبي الذي يعطيكم الخبز الحقيقيّ. فخبز الله هو الذي ينزل من السماء، ويُعطي الحياة للعالم" (6: 32-33).
تظهر أصالة يوحنا في هذا السياق، حين تدخلنا في منظار العهد الجديد الذي يتميّز بتعليم مباشر يقدّمه الله لنا (لا يعلّم الواحد أخاه من بعد): "يعلّمهم الله كلهم" (يو 6: 45؛ رج أش 13:44؛ إر 33:31-34). فمسيرة الفكرة هي هي في يو 1: 17-18: كانت المرحلة الأولى في الوحي ضروريّة. ولكن تفوّقت عليها المرحلة الثانية. هذا ما يشهد له الأنبياء الذين علّمونا أن نتجاوز حرف التوراة. إذن، يسوع هو أكثر من النبيّ الشبيه بموسى (تث 18: 15، 18). إنه ابن الانسان الذي ختمه الآب بختمه (6: 27) ليحمل الحياة إلى العالم كله.

3- قراءة زكريا قراءة مسيحيّة
هنا نعود إلى زك 9-14 الذي انطلق منه يوحنا وتوسّع في التقليد المشترك. ومع ذلك فليس هناك سوى ايرادين صريحين: واحد يتحدّث عن الملك المسيحاني الذي ركب جحشًا (زك 9: 9؛ رج يو 12: 15). وآخر يتحدّث عن النظر إلى المطعون (زك 12: 10؛ رج يو 19: 35). إن سفر الرؤيا سيستعمل سفر زكريا استعمالاً واسعًا. أما الانجيل الرابع فتوقّف عند القسم الثاني فقط (زك 9-14). نحاول أن نكتشف الإشارات التي تعيننا على قراءة يوحنا لهذا النصّ النبويّ.
ونبدأ بالمقدّمة السريّة: "وصلت كلمة الله إلى حدراك وتوقّفت في دمشق" (9: 1. هذا ما قالته السبعينيّة. أما العبريّة فتحدثّت عن الراحة). وسوف نجد ذات العبارة التقديميّة في زك 12: 1: "وصلت كلمة الربّ إلى اسرائيل". نرى هنا كلمة الله التي بدت كشخص حيّ. هي تُشبه جيشًا يحتلّ الممالك، فتنتقل من موضع إلى آخر، وفي النهاية تجد راحتها. هذا النصّ دفع جماعة قمران (أو: الاسيانيين) أن يسمّوا موضع منفاهم "أرض دمشق" بانتظار العودة إلى أورشليم بقيادة كلمة الله. مثل هذا النمط من التفكير لا نجده في الانجيل الرابع. ولكن زك 9: 1 (ثم 12: 1) يُعتبر حلقة في تقليد يقودنا إلى "أقنوم" الكلمة الالهيّ.
في إطار دخول يسوع إلى أورشليم، انتمى استعمال المزمور الفصحيّ (مز 118) إلى تقليد مربّع (أي في الأناجيل الأربعة). أما إعلان الملك المسيحانيّ في زك 9: 9 فلم يلقَ اهتمامًا إلاّ لدى يوحنا ومتّى. اهتمّ الانجيلي الاول بالمطيّة، بالجحش، بصغير الأتان (مت 21: 5). أما الانجيلي الرابع فأورد وحده مقدّمة القول الخلاصيّ: "لا تخافي". فاستبعادُ الخوف يهيّئ أحدَ المواضيع التي نجدها في خطب الوداع: "لا يضطرب قلبكم" (14: 1، 27). "تقوَّوا (لا تخافوا). أنا غلبت العالم" (16: 33).
لقد أراد يوحنا أن يرسم دخولاً ملكيًا. وهذا ما يدلّ عليه ذكرُ عبارة "ملك اسرائيل" كما في مز 118: 25-26. وهكذا يكون الخبر مطلعًا لخبر الحاش اليوحناويّ المركّز على إعلان مُلك المسيح. والتلميح إلى داود الذي نجده في زك 9: 9 قد يكون أراده الانجيليّ أيضًا. قد نشكّ حين نلاحظ أن اليهود عارضوا نبوءة ميخا حول بيت لحم مع أصل يسوع الجليليّ (يو 7: 42). ولكننا هنا أمام الممازحة اليوحناويّة. فيوحنا يهتمّ كل الاهتمام بأن يثبت صفة يسوع المسيحانيّة، ويذهب به اهتمامه إلى استعمال لفظة "ماسيا" (1: 41) في اعترافات الايمان التي تطبع بطابعها لقاءات يسوع مع تلاميذه الأولين.
ولكن استعمال يوحنا للعهد القديم، هنا كما في مواضع أخرى، يفترض تأوينًا يحوّل مدلول النصّ. فإن ارتبط يوحنا بقول ناتان النبيّ في 2 صم 7، عبر زك 9:9، فهو يحوِّل منظوره. كانت هناك بنوّة بسيطة على مستوى التبنّي. فصارت بنوّة حقيقيّة. يسوع هو الابن. مونوغينيس (1: 18). تطلّع زك 9: 9- 10 إلى إعادة بناء اسرائيل الكبير، "من بحر إلى آخر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض". أما شموليّة يوحنا فتفترض الخروج من حظيرة اسرائيل (يو 1: 1- 18). ويرمز إلى هذه الشموليّة الكتابةُ على الصليب. دوِّنت في ثلاث لغات: العبرية (أو: الآراميّة) واللاتينيّة واليونانيّة: فجميع البشر مهما كانت أجناسهم وأعراقهم، مدعوّون لأن يروا في يسوع ملك اليهود.
وبدا زك غامضًا فلم يلفت انتباه القرّاء المسيحيّين. أما ف 11 فيتضمّن توسعًا حول الراعي الصالح الذي رذله شعبه. هذا التوسّع نجده عند متّى بشكل مدراش مع الثلاثين من الفضّة (مت 3:27- 10. مزج زك 11: 12-13 مع إر 6:32-9). أما منابع إلهام الراعي الصالح في يو 10: 1-8، فهي جدّ متشعبّة. فإن كان حز 34 هو المرجع الرئيسيّ، فنحن لا نستطيع أن نقلّل دور زكريا. فصورة الراعي المضروب الذي يُشرف على انتقاد الرعاية اليهودية كما في نبوءة زكريا، سيستعيدها يسوع والتقليد الانجيليّ في إعلان الآلام في مر 14: 27 وز. وهي تلقي ضوء الكتب على يو 10: 7 ب-8، وتدلّ (مع أش 12:53) على الخلفيّة النبويّة لتوسّع يو 10: 11، 17 حول الراعي الاسكاتولوجيّ الذي "يهب حياته" من أجل خرافه.
وإعلان تشتّت القطيع في زك 7:13 هو في خلفيّة مقطع نقرأه في خطبة الوداع الأخيرة: "قد أتت الساعة، وهي الآن حاضرة، حيث تتفرّقون كل واحد من جهته" (16: 33). إن فعل "تفرّق" (سكوبيزاين) الذي لا يرد بتواتر مثل فعل "دياسباراين" (من هنا "دياسبورا" أو "الشتات")، لا يُقرأ إلاّ في يو 10: 12 في حديث عن تفرّق القطيع بسبب الذئب. استعمل يوحنا هنا النص الماسوريّ (رج مر 27:14= مت 26: 31)، لأن السبعينيّة تقدّم نصًا مختلفًا: "اضرب الرعيان وأشتّت الخراف". نلاحظ هنا أيضًا كيف أوّن يوحنا النصّ وحوَّل مدلوله. تحدّث نصّ زكريا فقط عن موت الراعي. أما المسيح اليوحناوي فقدّم تفصيلاً هامًا: "تأتي ساعة... تتفرّقون كل واحد من جهته، وتتركوني وحدي. بيد أني لست وحدي، لأن الآب معي" (16: 32). نستطيع أن نقابل هذا القول مع "إيلي، إيلي لما سبقتاني" (كما في مر ومت). فعند يوحنا، لا تتميّز الساعة بالمسافة بين يسوع والآب، بل باتحاد الحبّ بين الابن.
أما القول السريّ حول مطعون بيت داود في زك 12: 10- 11، فقد لفت اهتمامَ الجماعة المسيحيّة. وهذا النصّ قد استعمل في مت 24: 30؛ رؤ 1: 7 (إطار جلياني). بيد أن يوحنا استعمله بشكل أصيل في نهاية خبر الالام. بعد المأساة، ها هو نداء مليء بالرجاء: "يرون الذي طعنوه" (37:19). إن المعنى الحقيقيّ لهذا الايراد البيبليّ لا يُدرك إلاّ إذا وُضع مع دعوة يسوع الاحتفاليّة في عيد المظالم (سكوت): "إن عطش أحد فليأت إليّ. وليشرب من يؤمن بي" (يو 7: 37).
لن نتوقّف عند الخلفيّة الغنيّة لهذا الوعد. بل عند استعمال يوحنا لنصّ زكريا. فعند النبيّ كان رباط بين فيض روح المسرَّة والتوسّل (12: 10)، وتفجّرُ ينبوع من أورشلم كدواء للخطيئة (13: 1)، واستعادة نبوءة حز 47 حول المياه الحيّة التي تخرج من الهيكل.
"ويكون في ذلك اليوم أن مياهًا حيّة تخرج من أورشليم، نصفها إلى البحر الشرقيّ ونصفها إلى البحر الغربيّ. وتكون صيفًا وشتاء (لا تنضب في فصل الصيف والجفاف). ويكون (ويظهر) الرب ملكًا على الأرض كلها. وفي ذلك اليوم يكون ربّ واحد واسمه واحد... وجميع الناجين من الشعوب التي سارت على أورشليم، سيصعدون سنة بعد سنة ليسجدوا أمام الملك رب الصباؤوت، ويعيّدوا عيد المظال" (زك 14: 8-16).
سبق وأشرنا إلى اهتمام يوحنا بعيد المظال الذي ظهر مدلولُه الاسكاتولوجي للمرة الأولى في زك 14. ونداءُ يسوع بالمجيء إليه يأخذ هكذا كل معناه: "من عطش فليأت إليّ. وليشرب من يؤمن بي. كما يقول الكتاب: تخرج من صدره ينابيع مياه حيّة". ما هو النصّ الذي يعود إليه يوحنا؟ ليس من نصّ واحد. بل التقاء عدد من النصوص يمتزج فيها تذكّرُ الأمواه العجائبيّة في البريّة، وانتظار نهر الفردوس الجاري من الهيكل كما في حز 47 وزك 14: 8 (+ يوء 4: 18).
ومع أن يوحنا ارتبط بالتقليد المدراشي اليهوديّ، فقد دلت على حريّة كبرى في تفسيره. وها نحن نشير إلى وجهات مميّزة:
- إن كان أحد.. تحمل الدعوةُ الطابعَ الشخصي والشامل. هذا هو إرث التقليد الحكمي الحاضر في الانجيل الرابع، وهو يدعو كل إنسان بشكل شخصيّ إلى جواب على هذا النداء الذي يوجَّه إليه. لاشكّ في أن الخلاص لا يمكن أن يكون دون التجمّع، إلاّ أنه يطلب قرارًا شخصيًا من كل واحد منا.
- ليأت إليّ. يسوع هو في قلب الحياة الدينيّة. أما في زكريا، فالملك المسيحاني ومطعون بيت داود، لا يلعب إلاّ دورًا ثانويًا.
- يبدو المسيح مثل صخر البرّية، حجر أساس الهيكل. نجد هنا أيضًا نمطيّة الهيكل كما في 1: 51 و19:2، 21.
- مياه الحياة: لا تنحصر هذه الحياة في أفق أرضي كما عند زكريا، بل تصل إلى الحياة الابديّة كما بدأت منذ الآن للمؤمن (17: 3).
إن التقارب بين 37:7-38 و19: 34-37، يتيح لنا أن نربط الدم والماء اللذين جريا من جنب المسيح المطعون بينابيع المياه الحيّة التي أعلنها زكريا. وهكذا نعطي معنى ايجابيًا للنظر إلى المطعون. غير أن شرّاحًا انطلقوا من المعنى التهديديّ كما شي مت 24: 30 ورؤ 1: 7، ففسّروا النصّ كنبوءة "شرّ" ترتبط بساعة الدينونة. ولكن يبدو أننا أمام نظرة توبة يُدعى إليها جميعُ قرّاء الانجيل على خُطى التلميذ الحبيب الذي شاهد ما جرى.
وهكذا حافظ يوحنا على المعنى الاجماليّ لنصّ زكريا، لأن النظر إلى المطعون يترافق من قبل الله، مع روح الرضى والتضرّع (زك 12: 10). والانباءات المتكرّرة حول ارتفاع ابن الانسان تتحقّق عند ذاك حين تُقابَل مع الحيّة النحاسيّة. "وكما رفع موسى الحيّة في البريّة، هكذا يجب أن يُرفع ابن الانسان لكي ينال الحياة الابديّة كل من يؤمن به" (3: 14-15). فالنظر الذي يخلّص لا يمكن إلاّ أن يكون نظر إيمان. غير أن هذا النظر لم يكن ممكنًا لو لم يُعطَ الروح (أسلم، سُلّم الروح إلى الكنيسة) بيد يسوع فأتمّ كل شيء (19: 30). وخاتمةُ زك 14: 21 (لا يعود بعد تاجر في بيت يهوه) هي في خلفيّة خبر طرد الباعة من الهيكل (يو 16:2).

خاتمة
ما لاحظناه في هذه العجالة هو اتّساع التقاليد البيبليّة التي نجدها في خلفيّة الانجيل الرابع. فالتوراة تشكّل قماشة ترتسم عليها صور الآباء والوحي المعطى لموسى والآيات التي طبعت بطابعها سفر الخروج. وقراءة يوحنا لهذه النصوص تستند إلى التقاليد المدراشيّة المختلفة. عاد يوحنا إلى أشعيا الأوّل الذي أبصر مجد يسوع (يو 12: 41). كما عاد إلى أشعيا الثاني ولاسيّما أناشيد عبد يهوه. وتوقّفنا عند زك 9-14 حيث فتح يوحنا طريقًا خاصًا به. أما التقليد الحكميّ فنقرأه بشكل خاص في مطلع الانجيل كما في الخطب التي يقدّم يسوع نفسه فيها على أنه ينبوع الحياة.
نظرة يوحنا نظرة تتركّز على المسيح: هو الكلمة المتجسّد وحجر غلقة الكتب المقدسة. والصور التقليديّة أضحت صور يسوع المسيح. هذا ما نقوله عن الهيكل. عن الكرمة. كل شيء يتّخذ معناه بواسطة من اعتبر نفسه مشاركًا في الحضور الالهي كما قالت العلّيقة الملتهبة. المسيح اليوحناويّ هو مفسّر الآب، هو من يقودنا إلى حضن الآب (18:1)، فيكشف لنا آنيّة كتب تتيح لنا أن نكتشف ذاك الذي هو الطريق والحقّ والحياة. ورفضُ الايمان به يُعتبر عند ذاك خيانة لديناميّة الوحي الذي منحه الله لشعبه بواسطة موسى. وكل هذا قد أصبح ممكنًا بواسطة الروح الذي ساعد التلميذ الحبيب على الشهادة في خطّ المسيح الذي قال عنه سفر الرؤيا إنه الشاهد الامين وبكر الأموات ورئيس ملوك الأرض.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM