الفصل الرابع والعشرون :إنجيل يوحنا وتاريخ الخلاص

الفصل الرابع والعشرون
إنجيل يوحنا وتاريخ الخلاص

ليس تاريخ الخلاص في إنجيل يوحنا عنصرًا يقف بين عناصر أخرى. إنه العنصر الجوهريّ في هذا الانجيل الذي يدعو الانسان للدخول في مخطّط الله الأزليّ والشامل. فعلى الانسان أن يتّخذ قراره داخل تاريخ الخلاص. هذا ما نحاول أن نبرهن عنه في أربع محطات. الاولى، يرى يو في حياة يسوع التاريخيّة مركز التاريخ كلّه. الثانية، ترتبط حياة يسوع بالكنيسة الحاليّة. الثالثة، يربط يو حياة يسوع بالماضي ويعود بتاريخ الخلاص إلى الخلق. الرابعة، ينسب إلى يسوع اسكاتولوجيا زمنيّة مع انشداد يميّز هذه الاسكاتولوجيا.

1- حياة المسيح الممجّد، مركز التاريخ كلّه
قدّم الانجيليّ الرابع لاهوته بشكل حياة يسوع، وهذا أمر لافت للنظر. روى حياة يسوع وهو متيّقن أنها في قلب الوحي كله، أنها تكوّن قلب المحاولة التي قام بها الله من أجل خلاص الانسان. لا يتحدّث عن كيان الله، بل يصوّر عمل الله. ويعطينا المطلعُ عن هذا المبدأ البرهانَ الساطع. لم يتوقّف الانجيلي عند مشاهدة اللوغوس، بل سارع إلى تصوير عمل الله. وفي بداية ذا المطلع، ساعة يتأمل اللوغوسَ لدى الله، فهو ينظر إلى الله الذي يريد أن يعطي ذاته. "به كان كل شيء" (3:1). غير أن هذا العمل يبقى على الحدود في نظر الانجيليّ. فقد دوِّن المطلع ليحدّد موقعَ الوحي كله، موقعَ عمل الله الخلاصيّ.
وهذا الموقع، هذا المركز، هو الحياة التاريخيّة لانسان اسمه يسوع الناصريّ. نحن في منتصف الزمن. في قلبه وذروته. من هنا نشاهد وحي الله وعمله. مَن يفعل في هذا الموقع فيكون عمله حاسمًا؟ يسوع الناصريّ المتجسّد، الذي فيه كشف الله عن عمق كيانه، عق مجده (يو 1: 14).
حياة يسوع الناصريّ ليست ظاهرة "تافهة" بين عدد من الظواهر. ليست وحيًا عن الله بين ألف وحي ووحي. هي الحدث الأول، الفريد، النهائي، الذي فيه يعطي الله ذاته ملء العطاء للعالم، فيخلّص هذا العالم خلاصًا نهائيًا. ويتكثّف كل تاريخ الخلاص، ويتركّز في هذا الخطّ العموديّ الذي يمثِّله المسيح. وهذا الخط لا يتعلّق في الهواء، بل يتزاوج مع الخطّ الافقي ويمتزج به. إذن، ترتبط حياة المسيح بكل مبادرات الله السابقة. ترتبط برذل اللوغوس بيد أخصّائه (1: 11، خاصته لم تقبله). تتصّل بالخلق. وإذ أراد الانجيلي توضيح كل هذه الرباطات، دوّن المطلع ليدلّ منذ البدء، على أن تاريخ الخلاص يتحدّد موقعه في حياة المسيح. فهذا الفعل الذي يقرّر مصير الكون، يتّخذ موقعه في قمّة هذه المسيرة.
إن ذلك المتجسّد يعيش حياة نستطيع أن نرويها. ويعطينا يوحنا معلومات حول أعماله يسوع وحركاته مند عماده. ولكن ما قيمة كل هذا في نظر الانجيلي؟ أما يرى فيها إطارًا وذريعة ليقدّم لاهوته؟ هل يستعملها كنهج تربويّ يساعدنا على فهم حياتنا فهمًا سريعًا؟ هل التاريخ بالنسبة إليه مجرد "رقم"؟
الجواب هو كلا. فخبر الانجيل الرابع من البداية إلى النهاية يروي كيف يعمل الله بواسطة يسوع من أجل خلاص البشر. فهذه الاحداث التي تحصل في الزمن تُتمّ مخطّط الله الازليّ. لاشكّ في أن عمل الله في هذه الحياة يتجاوز الأحداث التي حصلت فيما مضى. غير أن هذه "الزيادة" ليست حقائق ماورائيّة تلامس وجودنا بمعزل عن كل تدخّل إلهي على مستوى كياننا.
هنا نطرح السؤال: ما هو هذا العنصر الحاضر في تلك الاحداث فيتجاوزها؟ هو علاقتها مع حاضر الكنيسة ومع اسرائيل في ماضيه... فنظرة يوحنا تضمّ الاثنين. ففي نظرة واحدة ينظر إلى يسوع وينظر إلى المسيح. فنظره يحطّ في الوقت عينه على حياة المتجسّد في التاريخ وعلى حياة الممجّد في كنيسته. هنا يختلف يوحنا عن لوقا الذي كتب أولاً حياة يسوع ثم تاريخ الكنيسة الأولى. أما يوحنا فما فصل بين الاثنين، بل انطلق من كل حدث حصل في حياة المتجسّد، فاستخلص منه خطًا يقود إلى الممجّد أو الكائن منذ الأزل. هذه الرؤية التي تتضمّن الاثنين تتأسّس على تاريخ الخلاص.
كيف يصل إلى تقديم للمتجسّد والممجّد في نظرة واحدة؟ ساعة يروي حياة يسوع ليدلّ على الواقع المركزيّ لأحداث هذه الحياة. هكذا نفهم العبور بدون انتقالة من خطب يسوع التاريخيّ إلى كرازة يسوع الممجّد. ولنا مثال على ذلك في حوار يسوع مع نيقوديمس (3:3- 31). تحدّث يسوع في الماضي عن ذاك الذي صعد إلى السماء (3: 13). هذه المواقتة تبقى مستحيلة دون تمييز الحقبات المتعاقبة.
يتوقّف الكاتب عند التاريخ بروح نبويّة فيعرض الامور ويشرحها في وقت واحد. هو يفسّر حياة يسوع بالطريقة التي يقدّمها. فيسوع يعمل، وأعماله الخلاصيّة تثير أعمالاً أخرى خلاصيّة حصلت قبله وبعده. وهكذا تصبح أعمال المسيح في الكنيسة مفهومة. وتنتظم أحداث العهد القديم في خطّ يمنحها مدلولها الحقيقيّ. إن يسوع التاريخ يُتمّ رسالته، وتعود بنا أعماله إلى "أعمال أعظم" يقوم بها المؤمن في الكنيسة "لأن يسوع ذاهب إلى الآب" (14: 12).
ولابدّ من الروح القدس للوصول إلى هذه النظرة. فتاريخ الخلاص وحده يتيح لنا أن ندرك تداخل الاحداث. غير أن هذا التاريخ وطابعه ونواميسه لا تظهر إلاّ لانسان ينيره الوحي. ويعرض الكاتبُ نفسُه كيف وصل إلى هذه الرؤية الاجماليّة. فخطب الوداع تعطينا المفتاح الذي به ندخل إلى الانجيل كله: "الروح القدس الذي يرسله الآب باسمي، هو يعلّمكم كل شيء ويذكّركم كل ما قلته لكم" (26:14). "لي أشياء كثيرة أقولها لكم، ولكنكم لا تطيقون حملها الآن. ولكن حين يأتي روح الحقّ، فهو يقودكم إلى الحقّ كله" (16: 12). أجل، الروح هو الذي جعل الانجيليّ يعطي حياة يسوع المكانة التي تعود لها في تاريخ الخلاص.
في هذا المجال، يستعيد يوحنا تقليدًا فكريًا هو التقليد النبويّ لتاريخ الخلاص. ولكن كيف يعمل الروح؟ لسنا أمام رؤية كما حدث بالنسبة إلى القديس بولس أو لعدد من الأنبياء، في العهد القديم. لاشكّ في أن هناك اتصالاً مباشرًا مع الممجّد، لقاء شخصيًا مع القائم من الموت. ولكن الانجيليّ الذي استنار بالروح، قد تأمّل في حياة يسوع، وقدّم لنا ثمرة تأمّله في صفحات إنجيله.
كل تلاميذ يسوع الذين أوكلوا بنقل التقليد، أوردوا أحداث الماضي ودلّوا على معناها. وكان يوحنا مثلهم، فطبّق هذه القاعدة بشكل مطلق. رأى وسمع، فنقل أعمال يسوع وأقواله. حرّكه لقاء القائم من الموت، وأناره عمل الروح، فدوّن في الوقت عينه وفسّر هذه الأعمال وهذه الأقوال، أي الكرازة التي أوصلها يسوع نفسه في الماضي والتي لم يفهمها التلاميذ حينذاك.
وهكذا يضمّ الانجيل اليوحناويّ وجهتين متّحدتين ومنفصلتين (20: 8: رأى وآمن). شهادة العين وتفسير الايمان. لهذا، يستعمل عبارات تحمل معنيين، فتتيح له أن يورد الواقع ويقدّم لنا المفتاح للولوج إليه. هناك فعل "تياأوماي" الذي يعني ملاحظة واقع ومشاهدة بعده الروحي. مثلاً ما قاله يوحنا المعمدان عن يسوع. "رأيت الروح نازلاً عليه" (1: 32). أو ما قاله يسوع لتلاميذه بعد حديثه مع السامرية: "إرفعوا أيديكم وانظروا الحقول" (4: 35).
"يذكّركم". لا يكتفي الروح بأن يحرّك الذاكرة. فما الفائدة من عودة إلى الماضي إذا كنا لا نعرف أين نضع هذا الماضي، والقيمة التي نعطيه؟ لهذا، فالتذكّر الذي يتحدّث عنه الانجيليّ، يجعلنا نكتشف كيف يلي هذا الواقع ماضي العهد القديم ويهيّئ الآتي في كنيسة يسوع المسيح. فالانجيليّ يقحم مرارًا حاشية واضحة: بعد أن يقوم المسيح من بين الأموات ويُعطى الروح، يفهم التلاميذ تسلسل الاحداث (7: 39): "قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به، مزمعين أن يقبلوه. فالروح لم يكن بعدُ قد أعطي، لأن يسوع لم يكن بعد قد مجِّد".
نجد مثل هذه الإشارة منذ الفصل الثاني، ساعة طرد يسوع الباعة من الهيكل. قال الانجيلي: "ولما قام من بين الاموات، تذكّر تلاميذه أنه قال هذا" (22:2). أنه كان "يتكلّم على هيكل جسده" (آ 21) الذي يدمَّر ويقوم. ونلاحظ الشيء عينه في 12: 16. فالعلاقة بين الدخول إلى أورشليم والنبوءة غابت الآن عن ذهن التلاميذ. "ولكن حين مُجِّد يسوع، تذكّر التلاميذ أن هذا كُتب عنه فصنعوا له هذا". وساعة غسل الأرجل، أجاب يسوع بطرس: "ما أصنعه لا تعرفه الآن، ولكنك ستفهم فيما بعد" (7:13). وفي 16: 4 أعلن يسوع أنه يتكلّم من أجل "تذكّر" لاحق: "قلت لكم هذا، حتى إذا وافت الساعة تذكرون أني قلته لكم". وأخيرًا في 20: 9، أعادنا الانجيلي إلى ما بعد، إلى الساعة التي سيفهم فيها التلاميذ جميع شهادات العهد القديم عن قيامة يسوع. "لم يكونا بعد قد فهما الكتب، أنه ينبغي أن يقوم من بين الأموات".
أشار الانجيليّ بشكل واضح إلى وضعه الخاص: فهو الذي فهم متأخّرًا أن أحداث حياة يسوع ترتبط بتاريخ الخلاص. سبق وتحدّثنا عن نبوءة تتأسّس على تاريخ الخلاص، وبيّنّا القرابة بين هذه الفكرة وفكرة يوحنا. غير أن هناك اختلافًا بين الاثنين: فالنبوءات تنطلق من الحدث الحاضر وتربطه بالماضي. أما الانجيل الرابع فيعود إلى الوراء، إلي حياة يسوع، ومن هناك يلقي نظره إلى الأمام، إلى حياة الكنيسة. لهذا استعمل فعل "تذكّر". ففي كل عمل من أعمال يسوع وحديث من أحاديثه، يربطه بالحاضر. وقد يدلّ على هدفه من خلال عبارة ترد بشكل حاشية.
حياة يسوع تشبه برنامجًا به يرتبط تاريخ البشر كله، وهذا ما نكتشفه مثلاً في ف 7. ألحَّ إخوة يسوع عليه أن يصعد إلى أورشليم من أجل عيد المظال. أجاب يسوع: "ساعتي لم تأت بعد، أما ساعتكم فدومًا حاضرة" (آ 6). عارض يسوع مشروع إخوته، لان ما يعرضونه عليه لا يأخذ بعين الاعتبار الوقت المحدّد لآلامه وموته: "أنتم، إصعدوا إلى العيد، أما أنا فلا أصعد" (آ 8).
عرف يسوع أنه ينفّذ المخطّط الإلهي. تلك الفكرة نقرأها في الأناجيل الازائيّة بشكل تلميح خفيّ: "أجابهم يسوع: إذهبوا وقولوا لهذا الثعلب: ها أنا أطرد الشياطين وأجري المعجزات اليوم وغدًا، وفي اليوم الثالث أكمّل" (لو 13: 32). أما عند يوحنا فجاءت واضحة. فالأوقات (كايروس) هي أوقات الله. هي أوقات تاريخيّة، أوقات خلاصيّة. وقد اختارها الله في قدرته في وقت محدّد من تاريخ الخلاص. وهذا الاختيار ينتمي إلى طبيعة تاريخ الخلاص. يسوع هو العامل في "مشاريع" الله. والله قد أوكله بمهمّة تتميم الخلاص. لهذا يعرف يسوع أحداث حياته التي بها ينفّذ الله مخطّطه الخلاصيّ. لا مكان للصدفة. فقد رأى الله كل شيء مسبقًا. وتاريخ الخلاص هو أمام يسوع كتاب مفتوح يستطيع أن يقرأ فيه تاريخ تدخّلاته.
"وقتكم حاضر في كل آن" (6:7). فهم لا يؤمنون بيسوع (آ 5). سواء صعدوا إلى أورشليم أو لم يصعدوا، فلا يتبدّل شيء. ليسوا صانعي "وقت الخلاص"، ومصير العالم لا يرتبط بإقامتهم في المدينة المقدّسة. هنا نتذكّر "الساعة" التي يشير إليها يوحنا مرارًا. وهذه الساعة تقود إلى موت يسوع. وهذه الساعة لا تأتي قبل الوقت المحدّد. لهذا رفض يسوع أن يصعد الآن إلى العيد لكي "يظهر للعالم" بحسب رغبة إخوته (7: 4).
تحدّث الازائيون عن الآلام، وذكروا ثلاثة انباءات بالآلام. أما يوحنا فأشار إلى الساعة: تلك التي ما جاءت بعد (2: 4 وعرس قانا)، وتلك التي جاءت (23:12: أتت الساعة التي يمجّد فيها ابن البشر). ولكن هل تستبعد هذه الساعة المركزيّة سائر الساعات التي عاشها يسوع خلاله ممارسته مهمّته الخلاصيّة؟ كلا. بل هي تبرزها. فالانجيل الرابع يوضح أن كل الاشفية تحقّق مخطّط الله الخلاصيّ. ففي 9: 2 سأل التلاميذ يسوع حول عمى هذا الرجل: هو أم والداه؟
كان جواب يسوع جوابين: جواب سلبيّ أولاً: لا هو ولا والداه. ثم جواب إيجابيّ: "لكي تظهر أعمال الله فيه، لأنّه يجب علينا أن نتمّ الأعمال ما دام النهار". فتاريخ الخلاص وحده يُبعد جواب يسوع عن الشك. تلك هي ساعة الله. "فما دام النهار، ينبغي أن نعمل أعمال من أرسلني. فسيأتي الليل حيث لا يستطيع أحد عملاً" (9: 4). "أليس النهار اثنتي عشرة ساعة؟ إن مشى أحد في النهار لا يعثر" (9:11).
وُلد إنسان أعمى لكي يشفيه يسوع. ومات آخر لكي يقيمه يسوع. ابتهج يسوع لأنه لم يكن في بيت عنيا (11: 15). أما نتشكّك؟ ولكن تاريخ الخلاص يشرح تأخّر يسوع. لو أسرع لشفى مريضًا وما أقام ميتًا. ولكن رسالته تفترض هذه القيامة التي تكون استباقًا لقيامته.
ونجد في الانجيل الرابع عبارة تصوّر حياة يسوع، ساعة أراد أن يبرّر حرّيته تجاه وصيّة السبت (17:5). "أبي يعمل إلى الآن وأنا أعمل". هذا يعني أنه سيأتي وقت لن يعمل فيه الله. هو راحة السبت التي تتحدّث عنها الرسالة إلى العبرانيين. وبكلام اخر، إن الحملة العظيمة التي قام بها الله من أجل خلاص العالم، ستصل في يوم من الأيام إلى نهايتها. إن حياة يسوع هي في قلب هذه "الحملة"، وعمله وعمل الآب عمل واحد. لا راحة للآب الآن. ولا راحة ليسوع. وهو سيشفي المخلّع يوم السبت.
في 18: 31، أجاب اليهود بيلاطس: "لا يحقّ لنا أن نقتل أحدًا". وأضاف الانجيليّ: "كان هذا ليتمّ القول الذي قاله يسوع إذ أشار إلى أيّة ميتة كان مزمعًا أن يموتها" (آ 32). هي ميتة الصليب الخاصة بالرومان، لا الرجم الخاص باليهود. وهكذا ستسير المحاكمة كلها بحيث يُسلم يسوع إلى سلطة الاحتلال فيُرفع على الصليب (3: 14؛ 12: 32). لفظة تحمل معنيين، وهي تشير إلى الارتفاع على الصليب والارتفاع نحو الآب. هكذا حدّد الله تفاصيل حياة يسوع وموته.
والإطار الجغرافيّ الذي فيه تجري حياة يسوع، قد هيّأه الله أيضًا. لهذا يلاحظ الانجيليّ لماذا مضى يسوع إلى الجليل أو إلى اليهوديّة، لكي يتمّ هذا العمل أو ذاك. "وبعد ذلك بيومين مضى يسوع من هناك وشخص إلى الجليل" (43:4). وهكذا حين يلتقي يسوع السامريّة، كان منطلقًا من اليهوديّة إلى الجليل. وفي مقدّمة هذا الخبر يشدّد الانجيلي على ضرورة هذا السفر. "وجب عليه أن يعبر السامرة" (4:4). هل نحن أمام ضرورة توبولوجيّة لكي ينتقل من مكان إلى آخر، بل ينبغي على يسوع أن يلتقي في تلك الساعة السامرية على بئر يعقوب فيدشّن الرسالة في السامرة، وهي رسالة هامّة في تاريخ الخلاص.
إن يسوع يتمّ عملاً رئيسيًا من أجل خلاص جميع البشر. فكيف نتصوّر أن يتمّ هذا العمل في أي وقت كان؟ فالله هيّأ السنين والاشهر والأيام والساعات. غير أن هذه الحقبة الخلاصيّة ليست موضوعة في التاريخ مثل جسم غريب. فكل ما يحصل فيها يرتبط بوجود الكنيسة الحاضر. يسوع يفعل، يتكلّم. وفي أفعاله وكلامه يعلن منذ الآن عمل المسيح الممجّد وكلامه. وقد أعطى الروحُ الانجيلي أن يدرك هذا ويقدّمه كما على الورق الشفّاف: فهو يكتشف في حياة يسوع منذ الآن، الحياة التي تعيشها الكنيسة في خدمة المسيح الممجّد. هذا ما يقودنا إلى الوجهة الثانية التي يأخذها الاهتمام بتاريخ الخلاص في قلب هذا الانجيل.

2- حياة يسوع في ارتباطها بعمل المسيح الممجّد في كنيسته
حين نقرأ الانجيل الرابع لا نجد لفظة كنيسة (اكلاسيا)، مع أن هذا الانجيل هو بشكل خاصّ إنجيل الكنيسة. فالعلاقة واضحة بين أحداث يسوع والعبادة التي تقوم بها الكنيسة ساعة دوّن الانجيل. فالمسيح الحاضر في عبادة الكنيسة سبق وأعلن عن ننكسه في حياة الكلمة المتجسّد.
هناك سؤال يُطرح على الانجيلي: ما قيمة العبادة التي يقدّمها الشعب اليهوديّ في الهيكل؟ سؤال طرحته الكنيسة الأولى على نفسها، وأسقطته على حياة يسوع. وهكذا وُلد الموضوع اليوحناوي الذي يرى جسد المسيح يحلّ محلّ الهيكل. فالشكينة (سكن الله) أو مجده، لا يرتبط بعد اليوم بالهيكل. بل انفصل عنه وتجلّى في الكلمة المتجسّد. "لقد رأينا مجده" (دوكسا) (1: 14). هذا ما يشدّد عليه المطلع منذ البداية. واختيار الفعل "اسكينوسان" يعود إلى الاسم "سكيني" الذي يعني الخيمة ويرتبط بالسكن الالهي وسط البشر.
إن حضور الله الحرّ من كل قيد، لا يرتبط بموضع ولا بشيء مثل السكن المتنقّل في الصحراء. بل هو يتركّز على شخص الكلمة المتجسّد. "ترون السماء مفتوحة والملائكة ينزلون ويصعدون على ابن الانسان" (1: 51). تشير هذه الآية إلى حلم يعقوب (تك 28: 12) في بيت إيل. ولكن بعد الآن، لا تلتقي السماء والأرض في هذا الموضع. فابن الانسان قد صار الجسر بين الاثنتين. وهكذا يربط انجيل يوحنا الممجّد بالمتجسّد.
وهناك إشارات أخرى تدلّ على اهتمام الانجيليّ بالهيكل وشعائر العبادة. فيها انتزع الانجيليّ من السياق التاريخيّ الذي هو أيام يسوع الاخيرة، خبرَ الباعة المطرودين من الهيكل (2: 31 ي)، ووضعه في بداية انجيله. وأبرز يوحنا الرباط بين الهيكل وجسد يسوع المسيح (2: 21). والحوار مع السامريّة يقابل بين الهيكل والعبادة بالروح والحقّ (4: 20 ي). ويلمّح ف 12 إلى رؤية نعم بها أشعيا في الهيكل (رج أش 6: 1). ماذا رأى النبيّ؟ "مجده"، أي مجد المسيح (41:12).
لقد أخذ يسوع وظيفة الهيكل وربطها بشخصه. لهذا، لعبت المعمودية والافخارستيا (هما عملا المسيح الحاضر في كنيسته) دورًا كبيرًا في الانجيل اليوحناوي. ارتبطتا بأحداث عاشها يسوع. كما نلاحظ الاطار الذي يحيط بتطهير الهيكل: عرس قانا الذي أو صورة عن الافخارستيا مع الدم. والحوار مع نيقوديمس الذي يتركّز على المعمودية.
ونطرح السؤال: أين تأسيس القربان المقدس، أي العشاء السريّ في إنجيل يوحنا؟ ما كان باستطاعة الانجيليّ أن يتجاهل هذا الأمر. ومع ذلك، لم يورد خبر عشاء يسوع الاخير مع تلاميذه فاختلف عن الازائيّين والقديس بولس. لماذا؟ لأنه أراد أن يُبرز كلَّ عمل يسوع في علاقته مع حياة الكنيسة. فضّل الطريقة غير المباشرة، وقدّم العشاء السري بمناسبة أعمال أخرى قام بها الكلمة المتجسّد. أشار إلى ذاك العشاء بمناسبة تكثير الارغفة (6: 1ي). بمناسبة أعراس قانا (2: 1ي). وأشارت أحداث من حياة يسوع إلى المعمودية. أما الرمح الذي فتح جنبه (19: 34) فيشير إلى الافخارستيا (الدم) والمعمودية (الماء).
لقد عبّرت كنيسة يوحنا عن إيمانها في شعائر العبادة. كان الانجيلي منطقيًا مع نهجه بأن يجعل في صورة واحدة حياة يسوع وحياة الكنيسة، فأفرد لشعائر العبادة مكانة خاصة. فالكنيسة العابدة تقيم المقابلة بين زمن يسوع ونشاط الكنيسة الإرسالي. من يعمل في الرسالة إن لم يكن المسيح الممجّد؟ وبما أنه يتماهى مع الكلمة المتجسّد، فهو يُتمّ مشيئة عبّر عنها يسوع خلال حياته على الأرض. ويتوقّف ف 4 عند أصل الرسالة. لقد أرسل يسوع تلاميذه يحصدون حيث لم يتعبوا (38:4). من هم هؤلاء "الآخرون"؟ هم الهلينيون الذين يتحدّث عنهم سفر الأعمال، هم هؤلاء المرسلون الأولون الذين كانوا أصحاب مبادرة وشجاعة، فتحدّث عنهم الانجيل الرابع.
لن نتوقّف عند هؤلاء الهلينيين الذين "شجبوا" الهيكل وعرفوا الاضطهاد، فانطلقوا أولاً إلى السامريين ثم إلى الوثنيين. خاف الرسل فأرسلوا بطرس ويوحنا، ثم برنابا. في هذا الاطار نفهم لماذا أطالب الانجيل الرابع الكلام عن مشهد البئر: هكذا أقام جسرًا بين حياة يسوع وتبشير هذه المنطقة التي كانت نصف يهوديّة ونصف وثنيّة. وبعد أن عبر الانجيليّ هذه العتبة، أدرك الوثنيين، أي "اليونانيين". إن اللقاء عند بئر يعقوب يربط مبدأ الرسالة المسيحيّة بحياة يسوع على الأرض.
ومرحلة كرازة الوثنيين، أي اليونانيين، قد وجدت لها تهيئة في حياة يسوع. ففي 12: 20 ي، ذكر يوحنا اليونانيين الذين رغبوا أن يروا يسوع. أجابهم أنه يجب عليه قبل ذلك أن يموت (آ 24). وحين يرتفع (على الأرض، على الصليبي وفي المجد) يجتذب إليه جميع البشر (آ 32). إذن، الرسالة وسط الوثنيين تفترض موت يسوع وارتفاعه. وتصوَّر الفكرةُ ذاتها في صورة آتية من عالم الزراعة فتدلّ على تاريخ الخلاص ومسيرته: "إن حبّة الحنطة إن لم تمت تبقى مفردة. وإن ماتت حملت ثمارًا كثيرة" (آ 24). واللاهوت اليوحناوي يرى في شخص يسوع البذار الذي يُنتج ارتداد الوثنيين. وهذا البذار هو يسوع المصلوب والممجّد. وهكذا حين أجاب يسوع اليونانيين، ربط حياته وموته بنشاط الكنيسة الارساليّ.
وف 10 الذي يتحدّث عن الراعي الصالح، يعالج أيضًا مسألة الوثنيين: "ولي خراف أخرى ليست من هذه الحظيرة. فيجب أن أقودها. فتسمع صوتي وتكون الرعيّة واحدة والراعي واحدًا" (آ 16). وأخيرًا، يتوجّه نظر يسوع إلى الآخرين، إلى اللايهود، في 11: 52 (أبناء الله المتفرّقين) و17: 20 (الذين يؤمنون بكلامهم). كل هذه التلميحات ترد في سياق معيَّن، سياق تاريخ الخلاص: فالراعي الصالح قبل طوعًا بأن يبذل حياته عن الخراف. هذه المقاطع تتكلّم عن "الاخرين". في المطلع، تحدّث الانجيلي عن "خاصته" الذين رفضوا زيارة الكلمة. الخاصة هم اليهود. والآخرون هم الوثنيون. يجب أن يكونوا معًا. الرعيّة الواحدة بإمرة الراعي الواحد.
كان هدف الانجيل الرابع أن يؤمِّن امتدادًا لحياة يسوع، أن يجعلها تتغلغل في أزمنة الكنيسة الاولى، أن يجعلها تشارك في تأسيس الكنيسة. لهذا اختلف عن الانجيل الثالث فما زاد جزءًا ثانيًا (أع) على جزء أول. ما أضاف "حياة يسوع الممجّد" على "حياة يسوع المتجسّد"، بل نظر إلى الاثنتين في إضمامة واحدة. "أتت الساعة وهي الآن حاضرة". هذه العبارة لا تجعلنا فقط في انشداد اسكاتولوجيّ، بل تدلّ على وحدة يسوع المسيح في حياته على الأرض وفي عمله في الكنيسة. وهكذا تكون العبادة بالروح والحق (4: 23) هي عبادة الكنيسة.
كان بالامكان أن نتوقّف عند خطب الوداع. فدراسة ف 14-17 تكشف عن نيّة الانجيليّ بأن يربط حياة يسوع بحياة الكنيسة. غير أن تاريخ الخلاص يعرف علاقة أخرى: إن حياة يسوع الواحدة في الحاضر قد تهيّأت في الماضي. إذن، تتضمّن رؤيةُ الانجيل اليوحناوي أيضًا تاريخَ اسرائيل.

3- حياة يسوع وارتباطها بتاريخ الخلاص في الماضي
يتألف اسرائيل الحقيقيّ من جميع الذين يؤمنون بالمسيح. هذه الفكرة المؤسِّسة على تاريخ الخلاص، نجدها بشكل خاص عند يوحنا. فالمطلع سبق وقدّم لنا موضوعًا نموذجيًا سيعود على مدّ الانجيل: "جاء الكلمة إلى خاصته، وخاصته لم تقبله. أما جميع الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يكونوا أبناء الله" (1: 11-12). هذا الماضي الذي فيه يترافق الرفض مع القبول، يلقى اهتمامَ الانجيلي الذي عاد عندئذ إلى العهد القديم. رجع إلى موسى وابراهيم وسمّى نتنائيل "اسرائيليًا لا غشَّ فيه". فأعلنه نتنائيل ابن الله وملك اسرائيل (1: 45 ي). وهكذا يتجذّر تاريخ الخلاص في العهد القديم.
اختلف بولس عن يوحنا في أمور كثيرة، ولكنهما التقيا بشكل خاص في تاريخ الخلاص الذي يؤمن بنية فكرهما. هنا نقابل يو 33:8 ي مع غل 6:3 ي، 4: 21 ي. ففكرة "نسل ابراهيم" تُشرف على المقطع اليوحناويّ. بحسب يو 8: 41، احتجّ اليهود الذين لم يؤمنوا أنهم ليسوا أبناء زنى. ومع ذلك فهم أولاد لاشرعيون. ليس الله أباهم، بل إبليس الذي هو قاتل وكاذب منذ البدء (8: 44). وهكذا يرتسم خطّ ينطلق من الفردوس حيث كذبُ الشيطان قاد الناس إلى الموت، ويمرّ في قايين قاتل أخيه، ويصل إلى اليهود الذين لم يؤمنوا فقتلوا يسوع. فيستنتج الانجيليّ أن اليهود اللامؤمنين لا يمكن أن يكونوا "نسل ابراهيم". لأن أبناء ابراهيم يعملون أعمال ابراهيم لا أعمال شخص قاتل.
لم تصل الأمور ببولس إلى حدّ جعله يسمّي اللامؤمنين "أبناء ابليس". ولكنه رأى فيهم نسل اسماعيل. فاللحم والدم (ساركس) أشرفا على ولادتهم وما زالا حاضرين. أما نسل اسحاق فهو من نوع آخر. كانت ولادته معجزة ارتبطت بالايمان. وهذا الايمان يحيي أبناء نسله واحدًا واحدًا.
إن يو 8: 44 ي لا يلقي ضوءًا على العلاقة بين ابراهيم والايمان (كما عند بولس). غير أن نهاية الفصل تكشف عن الرباط بين ابراهيم والمسيح. حسب آ 56، ابتهج ابراهيم حين أمل أن يرى يوم يسوع. نحن هنا أمام تلميح إلى تك 17: 17 كما فسّره الرابينيون. فتاريخ الخلاص حاضر دومًا في فكر الانجيلي الذي لا يتخلّى عن التعاقب الكرونولوجىّ. ولكنه يضيف يقينًا خاصًا به: فالمسيح الموجود منذ الأزل، يعمل في تاريخ الخلاص الذي سبق تجسّده. ابراهيم رأى يوم يسوع، ويسوع رأى ابراهيم. وأشعيا أيضًا رأى مجد المسيح (12: 41) في رؤية الهيكل (أش 6: 1ي) ويسوع رأى أشعيا. فرجال العهد القديم يتمّون في زمنهم الدورَ الذي يمنحهم إياه تاريخُ الخلاص. والموهبة النبويّة التي أعطوا، تتيح لهم أن يفهموا كيف تترابط الحقبات المختلفة. فهم يدخلون، قبل الوقت، في نظرة الانجيليّ الذي كان قريبًا من الحدث المركزيّ، فضمّ في نظرة واحدة المسيرة كلها.
إن وجود يسوع منذ الأزل وعمله في قلب العهد القديم، لا يلغيان تاريخ الخلاص. فهذا التاريخ لا يتألّف من محطات مستقلة بعضها عن بعض. لاشكّ في أن المحطات تتعاقب، ولكنها ترتبط كلها بعضها ببعض باتجاهها المشترك. وتتوجّه إلى النقطة التي يأتيها منها مدلولها، والتي فيها تجد كمالها. هي تتسارع نحو المسيح يسوع.
حين نرى فيه مركز التاريخ كله، وحين نعيد إلى هذا المركز كل وحي سابق، نتحدّث في الوقت عينه عن وجوده قبل الزمن. فالمسيح الكلمة لم يتأنّس في يسوع والناصري إلاّ بعد أن شاهد كل أوقات تاريخ الخلاص وشارك فيها.
فالحقبات تتلاحق وتتداخل. هناك تعاقب كرونولوجي وإزالة هذا التعاقب بوجود يسوع قبل الزمن. ويُعبّر يوحنا عن هذه الثنائيّة بعلاقة أقامها بين يسوع ويوحنا المعمدان. فالانجيل اليوحناويّ يأخذ بنظرة الأناجيل الازائيّة حول دور المعمدان في تاريخ الخلاص. فعبر شخص المعمدان، تغرز حياةُ الكلمة المتجسّد جذورها في ماضي التاريخ الخلاصيّ. أن يكون المعمدان هو السابق كما قال الازائيّون، أو يكون الشاهد كما قال الانجيل الرابع، ففي الحالين يعطيه تاريخُ الخلاص مهمّة تجعله يأتي قبل يسوع. هو الأول ويكون المسيح الثاني. وقد أحسَّ يوحنا بهذا الأمر، بحيث إنه لا يتكلّم عن الكلمة الازلي المشارك في عمل الخلق، دون أن يشير إلى يوحنا المعمدان الذي كان على المستوى التاريخي قبل يسوع المسيح.
وهكذا صار تاريخ الخلاص خلفيّة للمطلع اليوحناويّ. وعلى هذه الخلفيّة ظهرت كلمة المعمدان (1: 15): "ذاك الذي يأتي بعدي سبقني". هي كلمة ذات رنّة حربيّة وهي تحاول أن تقاوم الانحرافات. فالكنيسة تحارب تلاميذ يوحنا الذين اعتبروا معلّمهم المسيح، وتردّ عليهم بفم المعمدان. وهكذا نرى مرّة أخرى كيف أن الانجيليّ أدخل هموم كنيسته في حياة يسوع ليعطيها الجواب الشافي. في هذا المقطع، أراد الانجيليّ أن ينهي مسألة المعمدان. وفي حالات أخرى، يردّ على الظاهريّين الذين ينكرون تجسّد الكلمة. ولكن الحرب ليست السببَ الوحيد الذي لأجله يؤكّد يوحنا أزليّة يسوع. هو يتكلّم عنها لأن حضور يسوع في العهد القديم يبدو له جوهريًا من أجل تاريخ الخلاص.
سبق وقلنا إن هذا التاريخ لا يلغي تعاقب اللاحداث مع أزليّة يسوع. والبرهان على ذلك هو الدور المناط بيوحنا المعمدان في الخبر الذي يلي المطلع حالاً. تكلّم المعمدان بشكل سلبيّ: "لست المسيح" (آ20). وكذلك في المطلع نقرأ: "لم يكن النور" (آ 8). ولكن هناك العنصر الايجابيّ أيضًا: يسوع يُتمّ تاريخ الخلاص. ويقف المعمدان كالشاهد على عتبة هذه الحقبة الحاسمة.
حين تذكّر الانجيل موسى، رآه في الوقت عينه في دور خلاصيّ قام به في الماضي، كما رآه على ضوء المسيح الذي يقود عمله (= موسى) السابق إلى كماله. ونحن نجد هذين العنصرين في المطلع: "أعطيت الشريعة بموسى، وجاءت النعمة والحقّ بيسوع المسيح" (17:1). وقال فيلبس لنتنائيل: "ذاك الذي كتب عنه موسى في الشريعة، وتكلّم عنه الأنبياء، قد وجدناه" (1: 45). وقال يسوع عن موسى: "كتب عني" (5: 46). وهناك إشارة نمطيّة تذكّرنا بفعلة موسى الذي رفع الحيّة في البريّة (3: 14). والخطبة حول المنّ تتركّز في تاريخ الخلاص: فما كان المنِّ يستطيع أن يعطي يسوع للكنيسة (6: 31 ي). وأشار يوحنا أيضًا إلى أن الشريعة الموسويّة (7: 19) والختان (7: 22) هما عطيّة من الله.
هناك استشهادات قليلة من العهد القديم تفضّل النمطيّة على تاريخ الخلاص. نذكر هنا 3: 14. لا ننسى هنا أن النمطيّة نفسها تتأسّس على تاريخ الخلاص، وأن حدودها غير واضحة. أما النمطيّة الحقّة فلا تلغي العنصر التاريخيّ. كما أن التطبيق الآلي للمبدأ الكتابي، لا يجب عليه أن يشوِّه استعمال العهد القديم.
أشار يوحنا إلى نصّ كتابي، وما أورده صراحة: أش 53، مع قيمته الفدائيّة بالنسبة إلى موت المسيح. هذا ما نجده في شهادة المعمدان حوله حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم (1: 29، 36)، وفي القول حول موت الراعي الصالح طوعًا من أجل أحبّائه (10: 17). وحين أشرنا إلى علاقة يسوع بشعائر العبادة في الكنيسة، رأينا كيفا أن المسيح حلّ محلّ الهيكل. هذه الفكرة تستند إلى تاريخ الخلاص لأنها تربط يسوع بالماضي. في السابق كان حضورُ الله مرتبطًا بموضع مخصّص للعبادة. أما الآن فابن الانسان يؤمّن العلاقة بين السماء والأرض. فيه ظهر سكن (شكينة) الله. وتبدو فكرة الهيكل قريبة من أقوال يسوع حول المن الذي يرتبط في الماضي بالعهد القديم، وفي المستقبل بالافخارستيا وعبادة الكنيسة.
اتّهم يسوع اليهود اتهامًا خطيرًا فسمّاهم أبناء ابليس (8: 41 ي). ولكن يسوع نفسه أعلن أن "الخلاص يأتي من اليهود" (8: 22). كيف نوفّق بين هذين التأكيدين؟ في الواقع، يهاجم يسوع اليهود اللامؤمنين، ولكنه لا يشجب المهمّة الالهية التي أنيطت بشعب اسرائيل. فالانجيل الرابع، شأنه شأن الرسالة إلى العبرانيين، يعلن أن ساعة العهد القديم قد ولّت فيحلّ محلّها العهدُ الجديد. هي لا تُلغى، ولا تذهب إلى عالم النسيان. يبقى على شعب اسرائيل أن يتابع مسيرته في تاريخ الخلاص بقيادة يسوع.
إن يوحنا المعمدان وشعب اسرائيل هما محطّتان في طريق طويلة. ويسوع هو في قلب عمل خلاصيّ يعود إلى خلق العالم. لهذا يُلقي يوحنا نظرة إلى تاريخ البدايات داخل نظرته إلى الانجيل. من هو يسوع الذي تُروى حياتُه؟ هو وسيط الخلق، كما يقول المطلع. فالله يدلّ بواسطة الكلمة المتجسّد، وبشكل حاسم، على مشيئته الخلاصيّة. وبما أن الكلمة هو موصل الخلاص الالهي إلى العالم، فهو لم ينتظر التجسّد ليقوم بمهمّة الوحي التي يحملها. بل هو يمارسها منذ البدء: "به كان كل شيء" (3:1).
ويتحدّث العهد الجديد أيضًا عي وساطة المسيح في الخلق. غير أن الانجيل اليوحناوي هو الكتاب الذي فيه يَتمُّ الدمج إلى هذا الحدّ بين الخلق والفداء في شخص يسوع المسيح. في العهد القديم، سبق خبرُ البدايات تاريخَ اسرائيل. لكن يوحنا ترك هاتين المتتاليتين، وروى بدوره الخلق. غير أن سمتين ميَّزتا عرضه: رأى كلَّ شيء على ضوء الكلمة المتجسّد، فربطه بسيرته التي هي قلب التاريخ الخلاصي كله. ثم إن خبر الخلق الجديد ليس الفصل الاول في تاريخ الخلاص، بل "المطلع"، بل "الافتتاح"، الذي يقدّم مسبقًا الموضوع المشرق في الانجيل. وهكذا دلّ الانجيليّ أن الموضوع الرئيسيّ الذي نسمعه ونراه في قلب الانجيل، سيكون حاضرِاً على مدّ تاريخ الخلاص.
منذ الكلمات الأولى، بدا المطلع موازيًا لبداية سفر التكوين (في البدء). وهكذا دلّ الكاتب على هدفه بوضوح. فإذا أردنا أن ندخل في مفهوم اللوغوس (= الكلمة)، يجب أن نعود إلى نظريات يهوديّة وهلينيّة حول "الكلمة" و"الحكمة". غير أن الانجيليّ يفكّر أول ما يفكّر بالكلمة الخلاّقة التي رتّبت كل شيء، فقالت للنور كن، فكان النور. وكذلك نقول بالنسبة إلى الحياة.
جمع الفكر اليوحناويّ خبر البدايات وحياة يسوع دون أن يمزج الواحد بالأخرى. فلكل منهما طابعه الخاص. وهذا ما تثبته الرسائل اليوحناويّة. هي لا تروي حياة يسوع، بل تتحدّث عن أناس رأوا بعيونهم ولمسوا بأيديهم وسمعوا بآذانهم عن يسوع التاريخ. وهكذا أعلمونا عن "الذي كان في البدء" (1 يو 1: 1ي).

4- حياة يسوع وارتباطها بتاريخ النهايات
ارتبطت الاسكاتولوجيا ارتباطًا وثيقًا بتاريخ الخلاص، ولا نستطيع أن نذكر الواحدة دون أن نذكر الآخر. هذا الأمر يصحّ في العهد الجديد عامّة وفي الانجيل الرابع خاصة. ونحن بعد أن درسنا الدور الذي تلعبه حياة يسوع في تاريخ الخلاص، وبعد أن تفحّصنا ارتباط هذه الحياة بتاريخ الجماعة الأولى وبتاريخ شعب الله في العهد القديم، لاحظنا أن كل هذه الحقبات التي يأخذها يسوع على عاتقه، تحافظ على طابعها الخاص. فحياة يسوع تحوي في ذاتها كل تاريخ الخلاص، ولكن دون أن تسوّي الحقبات بحيث تتشابه تشابهًا يجعلها تضيّع "هوّيتها".
حين يُعيد يوحنا أحداث الكنيسة إلى يسوع، فهو لا يتخلّى عن اهتمامه بحياة الجماعة. وحين يتكلّم عن اسكاتولوجيا "تحقّقت"، فهو لا يتخلّى عن اسكاتولوجيا في طريقها إلى التحقيق. والكلمات حول العبادة الحقّة (4: 23) تشير في الوقت عينه إلى الزمن الذي فيه كان الكلمة المتجسّد حاضرًا وإلى زمن الكنيسة. ونقول الشيء عينه عن كلمات حول الدينونة والقيامة. فهي تعني الحاضر والمستقبل، بل ذاك المستقبل الذي هو أبعد من زمن الكنيسة.
أعلن انجيل يوحنا استباق حضور الملكوت في شخص يسوع. وجعله المسيح في قلب التاريخ كله، وفي المستوى الأول. وهكذا شدّد على حاضر المسيح الذي يحقّق النهاية منذ الآن.
شابه انجيل يوحنا انجيل لوقا، فتصوّر الزمن أطول مما تصوّره بولس. غير أن هذا الزمن، زمن البارقليط أو زمن الكنيسة، يحتفظ بطابعه كزمن متوسّط. فبدون الاسكاتولوجيا المقبلة، يبقى تعليم خطب الوداع حول زمن الكنيسة غامضًا. ويدلّ 11: 25 ي على المصير المحفوظ للموتى خلال الزمن المتوسّط.
في إنجيل يوحنا، المستقبل هو مستقبل حقيقيّ. والحاضر لم يبتلعه. فالحاضر هو منذ الآن في الزمن النهائيّ (1 يو 18:2). ولكنه فيه بمعنى زمنيّ حقًا. أي ما حقّقه الكلمة المتجسّد في الماضي سيحقّقه في النهاية. إن الفكر اليوحناويّ يرى كل تاريخ الخلاص مجملاً في حياة يسوع. كما يرى هذه الحياة مرتبطة بكل تاريخ الخلاص. هذا يعني أن الزمن المقبل يبقى زمنًا واقعيًا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM