الفصل الثامن :سر الفداء

الفصل الثامن
سر الفداء

المسيحية ديانة تنطلق من حاجة العالم إلى الفداء، ديانة عالم يتوق إلى الفداء. مثل هذا القول يستند إلى طريقة فهم اللاهوت لارتباط الانسان المطلق بقدرة الله الخلاصية. إن كلمة الوحي تقول لنا إن الانسان خاطئ، بعيد عن الخلاص، وإنه يحتاج إلى التوبة، إلى الفداء.
ولكن عالمنا الحاضر يجد صعوبة للقبول بمبدأ الفداء. عالمنا يثق بنفسه كل الثقة، وهو يظن أنه قادر على تجنيد قواه الخاصّة واستثمارها ليوجِّه حياته إلى كمالها، وهو لا يحتاج إلى تدخّل من قبل الله المخلّص، لأنه يكفي نفسه بنفسه. في هذا العالم التقني الذي نعيش فيه، والذي لم يزل في بدايته، يحسُّ الانسان أنه يستطيع تنظيم الكون بعيدًا عن التقلّبات والهزات. تقدّم الانسان وطوَّرَ حياته فظن أن بامكانه الاستغناء عن الاطمئنان الذي يعطيه الايمان والاستعاضة عنه باستقرار يبنيه وحده دون الرجوع إلى الرب. في الماضي كان الانسان يحسّ بمحدوديّته ويشعر بثقل الوجود، فظن أنه سجين شقاء لا ينجّيه منه إلاّ الله. وكأنه تأكّد اليوم أنه بعمله يستطيع أن ينجو من الشقاء ويتغلّب على الخوف من الموت. أما الفراغ الداخلي الذي تحدث عنه القدّيس أوغسطينس فلا يحتاج إلى إيمان ديني يملأه، لأن الثقة بالنفس تُخرج القلب الخائف الممزق من حالته المضنية. وإذا كان اليأس لا يزال يرتسم في تطلّعات الانسان، فهذا علامة نقص لا بدّ أن يتعدّاه الانسان ليصل إلى الكمال، إلى العالم الجديد، إلى الفردوس على الأرض.
في هذا الاطار ذهب التحليل النفساني إلى القول بأن أسطورة الفداء قد نزلت عن عرشها، وأن الانسان يعود إلى ذاته الحقّة فيتخلَّص من العقد التي تُشعره بالذنب أو بالضعف، ليعيش عيشًا سليمًا لا مشاكل فيه. وراح بعض علماء الديانات يؤكّدون أن ديانة الفداء نبتت في محيط أحسَّ فيه المسحوقون بحالتهم اليائسة، فاستيقظت فيهم رغبة ملحّة إلى التحرّر والخلاص. أما وقد زالت الاسباب، فانتفت الحاجة إلى الفداء.
ونحن المسيحيّين تعوّدنا أن ننظر إلى الوحي على أنه مجمل حقائق عن العالم الآخر. من أجل هذا ظهرنا وكأنّنا غرباء عن هذا العالم ونسينا أن هذا العالم يحتاج إلى فداء وأن الخليقة تئنُّ متطلّعة للعودة إلى الله. لقد تعوّدنا أن ننظر إلى الخطيئة كعمل فردي نقيّمه ونقدّره، فنسينا حالة الكون الخاطئ الذي يحتاج إلى الخلاص. لقد تعلّمنا مع بعض المفكرين أن نغضَّ الطرف عن حالة الانحطاط التي يعيشها عالم خاطئ مطبوع بطابع الموت، وأن نشدّد على التجديد الذي هو تطوّر ونموّ لا صدع فيه ولا عيب. ولكن كيف يمكن لحامل كلام الله أن يعلن الانجيل، أن يعرض على الناس الخلاص بيسوع المسيح دون أن يجعلهم يعون الشر الكامن فيهم. إذا رفضنا أن ننطلق من الخطيئة المسيطرة في الكون، إذا رفضنا أن نقول إننا خطأة واعتبرنا أننا لا نحتاج إلى فداء فنحن نكذب على ذواتنا، نكذب على الغير، وسنبقى مقيمين في خطايانا. أما إذا اعترفنا بأننا خطأة، فالرب يغفر لنا خطايانا ويطهّرنا من كل شرّ. وإن كنا لا نريد أن نرى الخطيئة تدخل الكون ويدخل معها الموت، فكيف نستطيع أن نرى نعمة الله وخلاصه؟ وإذا كنّا ننسى أن الخطيئة قادت الانسان إلى الهلاك فكيف نقدر على القول إن الحياة جاءتنا بيسوع المسيح؟
هذه الحقائق نسيها عالم اليوم. من أجل هذا دعانا قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إلى سنة يوبيلية، إلى سنة نعمة وغفران، فقال لنا: افتحوا الابواب للفادي، اكتشفوا اليوم أيضًا محبة الله الذي بذل ذاته عنا. تعمَّقوا في غنى سرّ المسيح الفصحي. إن الانسان يبحث عن الحقيقة والعدالة والسعادة ولن يحصل عليها بقواه الذاتية، بل بالمسيح الذي يأتي إلى لقاء الانسان فيحرِّره من عبودية الخطيئة ويعيد إليه ما كان له من كرامة. إلى هذا الوعي يدعونا قداسة البابا، فنتعمّق بسرّ الفداء ونتفهّم ما عمله يسوع المسيح من أجل خلاصنا.
في حديثنا عن سر الفداء سنتوقّف على ثلاث محطات: اختبار الفداء في العهد القديم. عمل الآب الفادي. عمل الابن الفادي.

1- اختبار الفداء في العهد القديم
عندما نقرأ العهد القديم نتعرّف إلى اختبارات ثلاثة عرفها الشعب في علاقته بالله: الله يفدي شعبه، الله يتولّى أمر شعبه، الله يخلّص شعبه.
أ- الله يفدي شعبه
أول اختبار للفداء على مستوى البشر هو اختبار الأسر والعبودية. يفدي الرجل أخاه، أي يستنقذه بمال أو سواه، يخلّصه من الأسر فيدفع عنه الفدية اللازمة، يبادل حياة أخيه وحريته بأثمن ما عنده. ونحن عندما نتحدّث عن المسيح الفادي سنعرف أنه لم يدفع مالاً ولا شيئًا من خيرات هذه الدنيا، بل بذل دمه وضحَّى بحياته عوضًا عنا وبدلاً. أخذ موتنا وأعطانا حياته، أخذ ما لنا وأعطانا ما له لحياة وخلاص نفوسنا.
وعند الحاجة وفي ساعة الضيق سيعرف الانسان أنه ليس وحيدًا متروكًا، لا سند له ولا عضد. سيعرف أنّ له وليًا هو له بمثابة المحب والصديق والنصير والحليف، وليًا يلزمه ويتولى أمره وينصره. يخسر أرضًا فيستردها الولي له، يبيع حريّته فيستنقذ الصديق حاله، يهرق دمه فيتولى قريبه عمل العدالة، يموت فيهتم الولي بالارملة والاولاد فيدافع عنهم ويتقلد أمرهم ويقوم بأودهم.
هذا الاختبار الذي عاشه شعب الله القديم في المجال الاجتماعيّ، قد طبّقه على حياته مع الله الذي هو بالنسبة إليه المخلّص والفادي والولي الذي يدافع عنه كما يدافع القريب عن قريبه. يقول سفر الخروج (13: 14): "بيد قديرة أخرجنا الرب من مصر، من أرض العبودية". أجل، إن الله يفتدي شعبه من مصر (تث 7: 8؛ 13: 6)، من الضيق (مز 78: 42)، ومن العار (تث 22: 18). وكما افتداهم من عبودية مصر، سيفتديهم من سبي بابل، يفكّهم من يد من هو أقوى منهم (إر 31: 11؛ زك 8:10)، وينجّيهم من كل ضيق وعناء (مز 8:130). وهو لا يكتفي بأن ينجّي الجماعة، بل يهتمّ بكل فرد من أفراد شعبه. فهو يفتدي ويرحم (مز 26: 11) لأنه الإله الأمين (مز 31: 6) الذي ينصر ويفدي بعظيم رحمته (مز 27:44؛ 19:69).
ب- الله يتولى أمر شعبه
هناك أمثلة عديدة في حياة الشعب تدلّ على الدور الذي يقوم به الولي في المجتمع. إن مات رجل ولم يكن له عقب، يأخذ الولي امرأته ويعطيه أبناء يسمّون باسمه، لأن للمرأة حقَّ الولاء على أقرب الناس إلى زوجها (را 13:3). وإن وقع رجل في العبودية بعد أن باع نفسه لضيق يده، فواحد من إخوته أو أقاربه يفكّ بيعه (لا 25: 48-49). وإذا افتقر رجل فباع شيئًا من ملكه حقَّ لأقرب أقربائه أن يفك بيعه ويسترده (لا 25: 25-26). وإذا قُتل رجل وعُرف قاتله، فالولي هو من يثأر لدم قريبه (عد 35: 19) في وقت كانت العدالة غائبة.
وينطلق الكاتب الملهم من هذه الامثلة ليعتبر الله وليَّ شعبه وموئله ساعة الضيق. يفتديه من الموت ومن كل سوء (مز 103: 4؛ هو 13: 14) ويتولى أمر اليتيم والأرملة والقريب. الرب يعتق بني اسرائيل من يد العدو (خر 6: 6؛ مز 74: 22): "خلَّصهم من يد المبغض وافتداهم من يد العدو، فذكروا أن الله خالقهم، أن الاله العلي وليّ أمرهم" (مز 78: 35): "افتدى بذراعه شعبه، بني يعقوب وبني يوسف" (مز 77: 16).
ويتوسّع أشعيا النبي في فكرة الله الذي يتولّى أمر شعبه ويفديهم، فيقول بلسان الربّ: "لا تخف، فأنا قد نصرتك، وفاديك هو قدوس اسرائيل (أش 41: 14). الرب هو ملك اسرائيل وفاديه، مصوّر اسرائيل في البطن (أش 44: 6 ي). ويقول أيضًا: "قد افتديتك ودعوتك باسمك. أنت لي. إذا اجتزت في المياه فأنا معك، وفي الانهار فلا تغمرك" (أش 41: 201)، وإن "أخطأت فإني أمحو كالسحاب معاصيك وكالغمام خطاياك. إرجع إليّ فإني افتقدتك" (أش 44: 22). "وإن ذهبتَ إلى السبي، إلى بابل، قل: قد افتدى الرب عبده يعقوب، أخرجه من بابل" (أش 48: 20). لقد نظر الله إلى مضايق شعبه. فخلّصهم بمحبته وافتداهم برحمته ورفعهم من الضيق وحملهم على يده كل الأيام السالفة.
لقد اختبر الشعب فداء الرب، وسيختبر هذا الفداء أفرادُ الشعب في وقت الضيق والصعوبات وأمام العدو والمضطهد، عند الألم والموت ويوم تفتح الهوّة فمها لابتلاع الذين جعلوا رجاءهم في الرب. يقول صاحب المزامير: "عد يا ربّ، ونجّ نفسي وخلّصني لأجل رحمتك" (6: 5)، "فأنت تنقذ نفسي من الموت وعيني من الدمع ورجلي من الزلق" (8:116)؛ "خلّصني يا رب من إنسان السوء، وانصرني على رجل" المظالم (140: 2). "أخرجْني إلى الرحب وخلّصني واحفظني" (18: 20)؛ "أيها الرب إلهي بك احتميت. خلّصني من مضطهدي وانقذني، وأخرجني من الضيق الذي أنا فيه، لئلا يمزِّق العدوُّ كأسد نفسي، ويفترسني ولا من ينجّي" (7: 2-3).
ج- الله يخلص شعبه
أول ما عرف الشعب الرب عرفه كالله المخلّص الذي ينقذ شعبه من عبودية مصر، وينجي مؤمنيه من كل ضيق وشدّة. وعندما عرف الله الخالق، فقد عرفه مخلصًا للإنسان من قوى الطبيعة وحيوانها الكبير والرياح والمياه والثلج والبرد، ثم عرفه خالق الكون من العدم. نقرأ في سفر الخروج بلسان الرب لشعبه: "أنا الرب سأخرجكم من تحت نير المصريين وأنقذكم من عبوديتهم. وسأنجيكم بذراع مرفوعة وسخاء عظيم. وسأتخذكم لي شعبًا وأكون لكم إلهًا، وتعلمون أني أنا الرب الذي أخرجكم من تحت نير المصريين" (6: 6-8).
الله مخلص شعبه وقد أقام معه عهدًا. أما نتيجة هذا الخلاص فحياة سعادة وامتلاك أرض. وأما الوسيلة فقدرة الله التي ليس فوقها قدرة، ويده التي لا ترتفع فوقها يد. أما لماذا خلَّص الله شعبه؟ الجواب نقرأه في سفر تثنية الاشتراع (8:7): لمحبته ولمحافظته على اليمين التي أقسم بها للآباء، أخرج شعبه بيد قديرة وفداهم من دار العبودية. أحب الله شعبه فافتداه، وعلى الشعب أن يبادل الحبّ بالحب، فيبقى أمينًا له حافظًا لوصاياه عاملاً بها. وعمل الفداء عند الرب يشبه عمل الخلق، بمعنى أنه يولِّد حالة لا رجوع عنها. هو خلقَ، ولا يستطيع أن يدمِّر خليقته. هو كوَّن شعبه ولا يستطيع أن يزيل هذا الشعب دون أن ينكر ذاته. يمكن أن يقسو قلب الشعب وتكثر شروره وخطاياه، ولكن الرب لا يهلك شعبه وملكه الذين افتداهم بعظمته وقدرته، لأنه الاله الرحيم والمحب.
وسوف يتأمل المؤمنون اليهود على مرّ العصور في هذا الخلاص الذي تمَّ لهم بقيادة يهوه، ويتذكّرون أن الرب هو إلههم وأنهم شعبه. أنه أخرجهم من أرض مصر وافتداهم من دار العبودية. سوف يتذكرون هذه الامور عندما يذهبون إلى المنفى ويصيرون بعيدين عن أرضهم مستعبدين على أرض غريبة، هي أرض بابل. حينئذ يسمعون صوت الرب بلسان أشعيا: "أنا الرب الهك، قدوس اسرائيل مخلصك... صرت كريمًا في عينيَّ ومجيدًا، فإني أحببتك... لا تخف فإني معك وسآتي بنسلك من المشرق وأجمعك من المغرب... أجيء ببنيَّ من بعيد وببناتي من أقاصي الأرض. ارجعوا يا كل من يدعو باسمي، الذين خلقتهم وجبلتهم وصنعتهم لكي يمجِّدوني" (3:43-7).
شعب الرب هو ملك الرب وسيكون معهم ويساعدهم ليقوموا بالرسالة التي يوكلها إليهم: أنا أكون معك، أنا أحبك وأنت كثير الثمن في نظري. وهنا ترتبط فكرة الخلق بفكرة الخروج الثاني من أرض بابل الذي سيكون على مثال الخروج الأول من أرض مصر. فالرب الذي صنع كل شيء ونشر السماوات وحده، وبسط الأرض ولم يساعده أحد، هو الذي كوَّن شعبه وافتداه وتولَّى أمره (أش 44: 24). في سورة غضبه أشاح بوجهه عنه لحظة، وبرحمة أبدية يرحمه، رذله هنيهة ثم ضمَّه إلى صدره وأظهر له مراحمه العظيمة (أش 7:54-8).
الرب يفتدي شعبه ولكنه يطلب إلى شعبه أن يرجع إليه، أن يترك معاصيه وخطاياه (أش 44: 2-22). الرب يعد بفدائه التائبين عن المعصية ويدعوهم ليقيم معهم عهدًا لا يزول (أش 59: 20- 21)، وهو يأتي إليهم كالعريس إلى عروسه (أش 54: 5)، وكالأب إلى ابنه، فيعلّمهم ما ينفعهم ويهديهم الطريق الذي يسيرون فيه (أش 58: 17).
أجل، إن العهد القديم اهتمّ بتوعية الشعب إلى حاجة الخلاص المزروعة في داخله. فالشر الذي يملك عليه قلبه والذي كان يريد أن يتخلص منه ظهر له عبر اختبار العبودية في مصر والأسر في بابل، وعبر اختبار الحياة اليومية بما فيها من أعداء من الداخل ومن الخارج. وهذا الخلاص ظهر فيما ظهر بشكل مملكة مسيحانية تجيء على الأرض فتنهي كل ضيق وشقاء. وهذا ما جعل الشعب يتطلع إلى تحرر سياسي وديني معًا ويتحسس في أعماقه أن ابتعاده عن الله وتخبطه في الخطيئة هما سبب الحالة التي يعيش فيها.
كل هذا سوف نتأمل فيه عندما نتطلع إلى الآب الفادي الذي خلق البشريّة للحياة لا للموت، فأرسل ابنه ليفتديها، وإلى الابن الفادي الذي لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا تألم ومات وقبر فافتدانا بدمه وخلَّصنا بأقنومه وأعاد إلينا النعمة التي خسرناها بالخطيئة، واقتادنا معه في ظفره على الشيطان والخطيئة والموت. هذا هو الفداء الذي نؤمن به كما تمَّ في شخص المسيح، وهذا هو الفداء الذي ننتظره وهو يتمُّ لنا عندما يأتي يسوع بمجده العظيم.

2- عمل الآب الفادي
الحياة الأبدية هي معرفة الله، ومعرفة الله لا تتمّ من دون رضى الانسان. أما الانسان، فرفض عطيّة الله وجعل الخطيئة حاجزًا بينه وبين الله. فيبقى على الرب أن يعيد بناء الكون الذي شوهته الخطيئة ويهتم بالوسيلة التي توصل الانسان إلى هدفه الوحيد الذي هو السعادة الابدية. سقط الانسان في الخطيئة بإرادته، ومن دون الرجوع إلى الله. ولكنه لا يستطيع بإرادته أن يصلح ما هدمه. فهو يحتاج إلى نعمة الخلاص.
أ- اختيار الآب ونداؤه للإنسان
إن مبادرة الفداء تأتي من الله الآب الذي أرسل ابنه إلى العالم لكي لا يهلك من يؤمن به، بل ينال الحياة الأبدية (يو 13: 16). وهذا ما اكتشفه القديس بولس بالنسبة إلى دعوته يوم عرف أن الله الآب اختاره بنعمته وهو في بطن أمه فدعاه إلى خدمته وأعلن ابنه فيه ليبشّر به بين الأمم (غل 1: 15-16). وهذا ما اكتشفه بالنسبة إلى العالم حيث بدا الله الآب الينبوع الأول لكل خير والعناية الشاملة لجميع البشر والغاية السامية لكل الكائنات. لا شيء يتمُّ من دونه، ولا أمر يحصل إلاّ بإرادته.
فالانجيل الذي يبشِّر به الرسول هو إنجيل المسيح، وهو أيضًا إنجيل الآب الذي يهب قدرته للرسول فيجرؤ على أن يكلّم الجميع رغم الصعوبات التي تنتابه فيعلن لهم إنجيل ملكوت الله وسر مشيئته، أي ذلك التدبير الذي ارتضى قضاءه في المسيح عندما تتم الازمنة (أف 1: 9).
إن كانت خطوة الفداء الاولى تنبع من قلب الآب، فأي صلاة يجب أن ترتفع من أعماقنا إليه! صلاة شكر إلى الله الذي أنقذنا من الموت وسينقذنا منه (2 كور 1: 10)، إلى الله الذي بدأ فينا عمل البشارة وسيسير في اتمامه إلى يوم المسيح يسوع (فل 1: 5-6). صلاة ترتفع إلى الآب باسم المسيح يسوع أي بالاتحاد بالمسيح يسوع، لا بل هي صلاة المسيح المصلي في المؤمنين وهم يدعون الله الآب كما يدعوه الابن، يدعونه "أبَّا" أيها الآب (روم 8: 15). نرفع صلاةَ طلب إلى اله ربنا يسوع المسيح الذي يعزينا في شدائدنا ويمكننا من الصبر على الآلام التي نقاسيها (2 كور 1: 4). ونباركه لأنه اختارنا قبل إنشاء العالم لنكون عنده قديسين بلا عيب في المحبة (أف 1: 3-4).
وخلاص الرب لنا يبدو نداء إلى النعمة، نداء إلى المجد، نداء إلى الرسالة. يقول القديس بولس: "نحمدُ الله كل حين لأجلكم أيها الاخوة، يا أحبَّاء الرب، لأن الله اختاركم منذ البدء ليخلّصكم" (2 تس 2: 13). إن الله لم يجعلنا لغضبه، بل لنيل الخلاص بربنا يسوع المسيح (1 ش 9:5). دعانا وهو يفي بوعده، دعانا إلى مشاركة ابنه وهو أمين (1 كور 1: 9)، وقد بدأ فينا العمل وسوف يتمّمه إلى أن نصبح جميعنا واحدًا في المسيح يسوع (غل 28:3)، نصبح أبناء في الابن الحبيب ومعه (أف 1: 6). هذا هو المخطط الخلاصي الذي أدخلنا فيه الرب منذ الابتداء لننال فيه مجد ربنا يسوع المسيح.
ب- غضب الله
ولكن رغم حب الله لنا وإعطائنا نعمة الخلاص بيسوع المسيح لا نزال نجد أناسًا يكلّموننا عن غضب الله وينسون رحمته، أو يكلموننا عن حبه وينسون الخطيئة التي تسبب هلاك الانسان. دعانا الرب إلى الخلاص وهو ينتظر جوابنا الحُرّ. واختارنا فأعدَّ لنا سلفًا سبل الخلاص. فإذا شئنا كانت لنا الحياة، وإلاّ كان لنا الموت والهلاك. ولكن أيكون الله عاملاً للخطيئة والهلاك؟ إن هذا القول يدفعنا إلى الحديث عن غضب الله.
قال أشعيا (27:30) عن الرب: "غضبه مضطرم وشفتاه ممتلئتان سخطًا ولسانه كنار آكلة". وقال حزقيال (20: 33): "بيد قوية وذراع مبسوطة وحنق مصبوب أملك عليهم". وشبَّه إرميا (25: 15) غضب الله بكأس خمر يسقيها جميع الأمم.
ولكن كيف يرضى العقل البشري بإله يحمل عواطف لا تليق بالانسان، فكيف بالله الذي خلق الانسان للحياة لا للموت. وهل نستطيع أن نتحدّث عن اله الغضب في العهد القديم ونعتبر اله العهد الجديد إله المحبة؟ ولكننا نقرأ في العهد القديم: "الرب اله رحيم حنون، طويل البال وكثير المراحم، يحفظ الرحمة لألوف الاجيال، ويغفر الاثم والمعصية والخطيئة" (خر 34: 6-7). أما غضبه وعقابه فهما للتنبيه أكثر منه للإفناء. ينبّه شعبه على لسان أنبيائه ليعودوا إلى التوبة لئلا يكون يوم مجيئه يوم الهلاك لا يوم الخلاص.
عندما نتحدّث عن غضب الله نعرف أننا أمام طريقة تشبيهية تصوِّر الله بلغة الانسان. ولكن في الواقع غضب الله هو تصوّر لشعور الله أمام الخطيئة المتمادية فينا والانسان المتصلّب في العصيان. نحن نعرف أن الانسان عندما يخطئ إنما يخطئ على نفسه ولخزي وجهه: "إن أنت أخطأت فماذا تؤثّر في الله، وإن أكثرت من المعاصي فماذا تلحق به؟ وإن كنت بارًا فبماذا تمنّ عليه وماذا يأخذ من يدك؟ نفاقك يضرّ الناس وبرّك ينفع بني آدم" (أي 35: 6-8).
ولكن عندما نتحدّث على سخط الرب تجاه أعمالنا ندلّ بذلك على تنافر مطلق بين الله والخطيئة، ونشدّد على النتائج التي يثيرها في الانسان قراره بمخالفة الله والتصرّف بحسب مشيئته الخاصّة.
إن غضب الله يظهر من خلال عدالته، وهذه العدالة تجعل الانسان محرومًا من نعمة الخلاص. وهنا نفهم أن غضب الله وخلاص الانسان يتعارضان. إن لم يتوقّف غضب الله فباطلاً يرجو الانسان خلاصه (مز 32: 12). وهذا الغضب يمكنه أن يفعل منذ هذه الحياة فيصيب اليهود الذين يمنعون الرسل أن يهدوا الوثنيين إلى خلاصهم (1 تس 2: 16)، ويصيب الوثنيين الذي استبدلوا الباطل بالحق الالهي واتقوا المخلوق وعبدوه من دون الخالق (روم 1: 5). ولكن غضب الله يفعل بصورة خاصة في نهاية الازمنة. فهل يمكن للذين هم نور في الرب أن لا يسيروا سيرة أبناء النور؟ وكيف يشاركون الخطأة في أعمال الظلمة ولا يستنزلون عليهم غضب الله (أف 4: 7-9)؟
إن غضب الله هو ردَّة الفعل على خطيئة الانسان. في الحقيقة ليس الله هو من ينبذ الانسان، وإن قال الكتاب ذلك مشدّدًا على قدرة الله، بل هو الانسان من يرفض الله ويتنكّر له. لا شكّ في أن الله يعاقب الخطيئة، ولكنه يتصرّف أيضًا بحكمته الفائقة فيخرج من الخير شرًا، ويفيض النعمة حيث تكثر الخطيئة، فما أعمق غناه وحكمته وعلمه! وما أصعب إدراك أحكامه وفهم طرقه! لقد جعل البشر كلهم سجناء العصيان حتى يرحمهم جميعًا (روم 11: 32-33). في هذا الاطار يشدّد القديس بولس على القول بأن البشر تضامنوا في الخطيئة فاستحقوا غضب الله، ولكنهم تضامنوا بصورة أعمق في البر الذي بيسوع المسيح فنالوا خلاص الله. إن الكتاب حبس كل شيء تحت سلطان الخطيئة حتى ينال المؤمنون الوعد لإيمانهم بيسوع المسيح (غل 3: 22). ثم يطيل الرسول الحديث عن آدم الأول وما جرَّت خطيئته من ويلات ليصل بنا إلى الحديث عن آدم الثاني وما حملت إلينا طاعته من بركة: "فإذا كان الموت بخطيئة إنسان واحد ساد البشر بسبب ذلك الانسان الواحد، فبالأولى أن تسود الحياة بيسوع المسيح وحده أولئك الذين نالوا فيض النعمة وهبة البر" (روم 5: 17).
ج- بر الله وصلاحه
والآن ماذا يستطيع الانسان أن يقول لله بعد أن فعل الله له كل هذا الخلاص؟ لا شكّ في أن الانسان يستطيع أن يحاجج الله ساعة الضعف والألم، ولكنه يجبر على الاعتراف أخيرًا بخطيئته ويقول لربه متواضعًا: "يا رب اسمع صلاتي وأنصت إلى تضرعي. استجب لي بأمانتك وعدلك، ولا تحاكمني أنا عبدك، فما من حيّ يتبرّر أمامك" (مز 143: 1-2).
إن برّ الله الذي تشهد له الشريعة والأنبياء ليس عدالة يعاقب بها الله الخاطئين وحسب، بل عمل خلاصي به يبررنا الله أي يطهرنا ويعلّمنا بفضل مواعيده التي وعدنا بها. الله بار وحده وهو يتصرّف بحسب ما الزم به نفسه لأحبائه: "من أسمع بهذه الأمور منذ القديم؟ أليس أياي أنا الرب؟ فإنه ليس اله آخر، لا إله غيري، اله عادل مخلّص ليس سواي" (أش 45: 21)؛ "والرب أعلن خلاصه، ولعيون الأمم تجلى عدله. تذكّر رحمته وأمانته لبيت اسرائيل شعبه، فرأت جميع أقاصي الأرض خلاص الهنا"؟ وأيضًا: "يا رب، إلى السماء رحمتك، وإلى الغيوم أمانتك. عدلك مثل الجبال الشامخة، أحكامك مثل أعماق البحار، وأنت تخلص البشر والبهائم يا رب. فما أكرم رحمتك" (مز 28: 2-13).
هذا هو برّ الله وهذه هي عدالته بالنسبة إلى شعبه؛ يعطيه الخلاص بصورة مجانية. يقول ميخا النبي (7:7-9): "أتطلع إلى الرب وأنتظر الاله الذي يخلّصني، الذي يسمع ندائي... فإنا وإن سقطنا سنقوم، وإن جلسنا في الظلمة يكون الرب نورًا لنا. نحن نحتمل غضب الرب لأنا خطئنا إليه، ولكن سيأتي وقت يخاصم لخصومتنا وينصر حقنا ويعيدنا إلى النور ويرينا عدله". ويقول له صاحب المزامير (4:85-8): "تأسّفتَ يا رب على غيظك كله ورجعت عن شدة غضبك. أرجعنا إليك يا الله مخلصنا وردَّ غيظك عنا. أإلى الأبد تغضب علينا؟ أعلى الدوام تطيل غضبك؟ ألا تعود تحيينا فيفرح بك شعبك؟ أرنا يا رب رحمتك وهب لنا خلاصك". ويعتبر القديس بولس أنه إن كان غضب الله قد ظهر من أعلى السماء على كفر الناس وظلمهم (روم 1: 8)، فقد ظهر أيضًا برُّ الله وطريقة الايمان بيسوع المسيح الذي أسلم إلى الموت من جراء زلاتنا وأقيم لكي يبررنا أمام الله (روم 4: 25).
إن مثل هذا البر لا ينفي غضب الله. فالخطيئة تسلّطت على اليهود والوثنيين جميعًا، والبر يشمل جميع البشريّة دون تمييز: "الشدّة والضيق لكل من يعمل الشر: اليهوديّ أولاً ثم اليوناني (أي غير اليهوديّ). والمجد والكرامة والسلام لكل من يعمل الخير: اليهودي أولاً ثم اليوناني، لأن الله لا يحابي أحدًا" (روم 9:3- 11؛ رج غل 5: 21). ولكن سر الفداء يبقى خفيًا علينا ونحن نعرف أن الله أعطانا حرية تقاوم مشيئته.
والتبرير بالله ليس غفرانًا نظريًا لا يُحدث أيَّ تبدّل في الانسان، بل يتضمّن تحوّل الانسان عن الشر ورجوعه إلى الرب. بالخطيئة يميل الانسان عن الله فيستقطبه الشر، وبالبر يميل الانسان إلى الله بفعل حر يقوم به، فيعود إلى خالقه. وهنا نرى أن عدالة الله ورحمته لا تتعارضان: إنهما وجهان لحبه الالهي. والتبرير يبدو عمل الله الذي وحده يبرّر الوثنيين بالايمان (غل 3: 9) والمختونين بالايمان أيضًا (روم 4: 30): "فالذي أعدنا قديمًا دعانا، والذي دعانا برّرنا، والذي برّرنا مجّدنا" (روم 8: 30).
في عمل التبرير هذا يلعب المسيح دورًا رئيسيًا هو دور الوسيط. يقول مار بولس إن الله يبرّر من يؤمن بيسوع (روم 26:3). ويقول أيضًا: "إن جميع الناس نالوا البر مجانًا بنعمة الله، ويعود الفضل إلى الفداء الذي قام به يسوع المسيح" (روم 3: 24). وهذا ما يدفعنا إلى الحديث عن عمل المسيح الفادي.

3- عمل الابن الفادي
ولما تمّ ملء الزمان أرسل الله ابنه ليكفّر عن الخطيئة ويعيد الطبيعة البشريّة إلى ما كانت عليه من جمال؛ ولهذا كان تجسّده وحياته وكلامه وأعماله تحقيقًا لمخطط الله وتعبيرًا عن حبّه في يسوع المسيح. ولهذا كانت حياة يسوع كلها فداء عن الانسان ليردّ الانسان إلى الله، فمحا الخطيئة بأفعاله البشريّة وفتح لنا باب السماء وأعطانا النعمة والقداسة والمجد الابدي.
أ- أرسل الله ابنه الوحيد
عندما يصوِّر لنا القديس بولس عمل المسيح الفادي فهو لا يني يذكرنا بأن عمل الابن مصدره أقنوم الآب: الخلاص عطيّة الله الآب التي لا توصف (2 كور 9: 15)، وقد أرسل ابنه في حكم الشريعة ليفتدينا (غل 4: 4)، أرسله في جسد يشبه جسدنا الخاطئ كفارة للخطيئة، وهو الذي لم يعرف الخطيئة كيما نصير به برّ الله (2 كور 5: 21). هو الآب أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا (1يو 4: 10)، وبرهن عن محبته بأن المسيح مات من أجلنا إذ كنّا خاطئين (روم 8:5).
الله أرسل ابنه والابن قدَّم ذاته من أجل خطايانا؛ من أجل جميع الناس (1 تم 6:2)، قدَّم نفسه حبًا بنا وضحّى بنفسه من أجلنا (غل 2: 20) قربانًا وذبيحة لله طيبة الرائحة (أف 5: 2) ليقدّسنا ويطهرنا، ومات في الوقت المحدد من أجلنا نحن الخطأة الكافرين (روم 5: 6).
الله هو مخلّصنا، وقد ظهر لنا خلاصه في شخص ابنه الذي قال فيه القديس متى (1: 21) إن اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم. والذي أعلن عنه القديس لوقا (2: 11) بلسان الملائكة إلى الرعاة: "ولد لكم اليوم مخلّص في مدينة داود، وهو المسيح الرب". والذي أورد عنه يوحنا (12: 47) أنه جاء لا ليدين العالم بل ليخلّص العالم، وأن الآب أرسله مخلِّصًا للعالمين (1 يو 4: 14) ليمنحنا التوبة وغفران الخطايا (أع 5: 31).
ب- يسوع الفادي
لقب الفادي هو لقب يهوه في العهد القديم. وعندما جعله كتَّاب العهد الجديد لقب المسيح قالوا بصورة غير مباشرة إنه الله. تجاه الآلهة الكاذبة التي كان الناس يعتقدون أنها تؤمّن الحماية لعابديها والبركة لطالبيها، يبدو يسوع الفادي الوحيد الذي يهتم بالبشر جميعًا كما كان الرب يهتم بشعبه. ونحن المؤمنين ننتظر مجيء فادينا يسوع المسيح الذي يبدّل جسدنا الحقير فيجعله على صورة جسده الممجد (فل 3: 20)؛ ننتظر منه السعادة المرجوة وتجلي مجده فينا (تي 13:2). نجّى الله شعبه في العهد القديم فجعله بالعهد الذي أقامه معه شعبًا مقدّسًا خاصًا به، وهكذا صنع يسوع لمّا نجّانا من عبوديّة الخطيئة فاشترانا وأدّى الثمن (1 كور 6: 10)، وافتدانا من لعنة الشريعة (غل 2: 13) لئلا نكون عبيد الناس وعبيد الشريعة.
لم يكتف يهوه بأن يخلّص شعبه في الماضي، بل ما زال يهتم به إلى النهاية. وكذلك لم يكتف يسوع بأن يبررنا في الماضي بل ما زال يهتم بخلاصنا. به نلنا الخلاص، ولكننا نلناه في الرجاء (روم 8: 24) وما نزال ننتظر ثماره في الحياة الابدية. وهكذا يبدأ الخلاص بفعل التبرير ولا ينتهي إلاّ بقيامة الاجساد، ساعة ينتصر يسوع على جميع أعدائه بمن فيهم الموت قبل أن يسلم الملكَ إلى الله الآب (1 كور 15: 25). يقول القديس بولس: "الله أحيانا مع المسيح، وكنا أمواتًا من جرّاء زلاّتنا، فأقامنا معه وأجلسنا معه في السماوات" (أف 2: 5-6). خلصنا من الدينونة الآتية وانتزعنا من سلطان الخطيئة وعبودية الشيطان وصالحنا مع الله. وهذه الحالة قد حصلنا عليها منذ الآن، ولكننا لن نحصل على مفعولها التام الناجز إلاّ في نهاية الازمنة والدينونة الاخيرة. وهنا نفهم أن عمل الفداء الذي قام به يسوع من أجل كل البشر ومن أجل كل فرد من أفراد البشر لن يكون ذا نفع لنا إن لم نتقبّله بالإيمان، وإن لم نكمل في أجسادنا آلام المسيح من أجل جسده الذي هو الكنيسة.
ج- الفداء
الفداء هو عمل المسيح الذي لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا نزل من السماء وتجسّد، وتألم ومات وقبر وقام في اليوم الثالث. والفداء يفترض أننا في حالة لا نستطيع الخروج منها إلاّ بقدرة الله، وهذه الحالة تفترض وجود الخطيئة في العالم وتجعلنا نترجى الخلاص الآتي من لدن الرب.
عندما يحدّثنا العهد الجديد عن الفداء فهو يستعمل كلمات قيلت في أسير الحرب (أو العبد) الذي تدفع عنه الفدية فتجنبه الاسر. لقد اشترانا المسيح بدمه وافتدانا بعد أن بعنا نفوسنا للشر. فيبدو الفداء، والحالة هذه، وكأنه اتفاق تجاري يقدِّم فيه المسيح الفدية لأجل تحريرنا. استُعبدنا للخطيئة والشيطان فاستفكّنا يسوع. دفع لا مالاً أو سواه من متاع الأرض، بل دمه على الصليب.
تساعدنا هذه الاستعارة، استعارة الشراء، على فهم الفداء الذي فيه سفك المسيح دمه من أجلنا. ولكننا لا نستطيع أن نُعمل المخيّلة فنعتبر أنه كان للشيطان حق علينا، وأن الرب نظَّم معه صفقة استردنا بها من يده. نحن ملك الله أولاً وآخرًا ولم نكن يومًا ملك الشيطان، ولم تكن نفوسنا يومًا سلعة تباع وتشرى، يفعل بها الله بطريقة لا تختلف عن فعل الناس. الله المحب يفتدينا، وحبه لأجلنا متجرّد لا يبحث عن أية منفعة إلاّ خلاص نفوسنا. الله القدير يحرّرنا من الخطيئة التي صرنا عبيدًا لها، وقدرته لا تلتزم بطلب من طلبات الشيطان الذي يبقى في أي حال خاضعًا لقدرة الله.
أما لماذا استعمل بولس هذه الاستعارة؟ لكي يشدّد على أننا صرنا ملكًا ليسوع المسيح، صرنا عبيدًا له وعبادًا، فارتبطنا به ارتباطًا خاصًا ولم يعد شيء يفصلنا عنه. من أجل هذا يقول الرسول: "مجّدوا الله في أجسادكم وأرواحكم التي هي ملك الله" (1 كور 6: 20) ولا تصيروا عبيدًا للناس. المسيح افتدانا، المسيح اقتنانا: "ذُبحت وافتديتنا لله بدمك من بين كل قبيلة ولسان وشعب وأمة وجعلت منا ملوكًا وكهنة لإلهنا يملكون على الأرض" (رؤ 5: 9). أجل، في دم الحمل صارت جميع الأمم ملكًا للرب، وكما كان شعب العهد القديم خاصة الرب، صرنا نحن شعبه في العهد الجديد ملكًا خاصًا له بعد أن اكتسبنا بدمه واقتنانا لاعلان فضائله، وجعلنا خاصته لتسبيح مجده (أف 1: 14).
إن يسوع حرّرنا واعتقنا، اشترانا وافتدانا، اكتسبنا واقتنانا، خلّصنا وصالحنا مع الله الآب. كل هذه الكلمات وغيرها يستعملها الكتاب ليعبِّر عن حقيقة رجوعنا إلى الله واتحادنا به اتحادًا يجعلنا أنقياء لا لوم علينا في يوم المسيح.
د- التكفير عنا بدم المسيح
أراد كتّاب العهد الجديد أن يفسّروا لنا سرّ الصليب فأوردوا فكرة الفداء. ولكنهم شدّدوا على تحريرنا من العبودية ومصالحتنا مع الله: كنا عبيدًا فحرّرنا الله وتبنَّانا في ابنه. كنا عبيدًا فحرّرنا الابن من عبودية الخطيئة والموت، ومن سلطان الظلمة ولعنة الشريعة والغضب الآتي. في هذا الخط تساءل آباء الكنيسة: إذا كان المسيح دفع دمه لكي يشترينا، فلمن دفع ليفتدينا؟ قال بعض الآباء إن يسوع دفع الفدية للشيطان. ولكننا أبنّا أنه لا حق للشيطان علينا وبالحري على الله. وأما الدين الذي نتحدّث عنه فهو يعبّر عن طريقة الله في تعامله مع حرّيتنا ومع خطيئتنا. لقد قبل الكفّارة التي قدّمت له في شخص المسيح، رأس جنسنا البشري. وقال البعض الآخر إن يسوع دفع دمه لله الآب ليكفّر عن خطيئة البشرية. فكما يرضي الصغيرة الكبير الذي أغاظه فيقدّم له الكفّارة المطلوبة، هكذا فعل يسوع المسيح لما اتحد بالبشرية الخاطئة. وبما أن ذنب الانسان يشكّل لله أهانة لا محدودة، فلا يعوِّض عنه إلاّ كفارة لا محدودة. من أجل هذا تجسّد ابن الله ومات فأعاد للانسان كرامته بعد أن رفع كرامة الله. أراد الآبُ كفارة فأرسل ابنه. أراد الابن تعويضًا فقدَّم ذاته. تحدّث اللاهوتيون عن عدالة الآب وعن عدالة الابن، وتذكروا عمل آدم وما جرّه من هلاك، وعمل يسوع وما حمله موته من حياة. أما يمكننا في هذا المجال أن نتحدّث أيضًا عن حب الآب والابن؟ عبَّر عنه الآب بإرسال ابنه، وعبَّر عنه الابن بأن بذل نفسه من أجلنا لأنه أحبّنا.
إن الله جعل المسيح كفارة بدمه لكل من يؤمن به. وإن الرب يقبل الكفارة عندما يستر الخطيئة ويغطيها وكأنها لم توجد. كان الكاهن في العهد القديم يرشّ دم الذبيحة على المذبح أو المعبد المنجَّس بفعل خطيئة البشر، فيطهّر المكان (لا 13:6؛ حز 45: 20)، ويحصل شعبه على الغفران (مز 16: 36). ولكن فاعلية الدم لا تأتيه من ذاته بل من نيّة مقدّمه والصلاة التي يتلوها الكاهن لترافق ما تفعله يده: "أيها الاله مخلّصنا اغفر خطايانا من أجل اسمك" (مز 9:79)، فأنت اله رحيم يغفر الاثم (مز 38:78). ولكن هذا ما يجعلنا نتساءل عن أهمية الدم في الذبائح اليهودية بنوع عام وفي ذبيحة المسيح بنوع خاص، بعد أن ردّدت الرسالة إلى العبرانيين (9: 22) أنه ما من مغفرة بغير إراقة دم. ألا تكون ذبيحة التكفير كاملة من دون دم يُسفك على المذبح؟
ذكر العهد القديم عن الكفارة، حيث يلعب الدم الدور الاساسي. يذبح رئيس الكهنة ثورًا، للتكفير عن خطايا الكهنة والشعب. ثم يدخل قدس الاقداس فيرش دم الذبيحة على المذبح. وستنطلق الرسالة إلى العبرانيين من مفهوم هذا العيد لتقول لنا ما فعله يسوع رئيس كهنتنا يوم مات لأجلنا: "دخل (يسوع) قدس الأقداس مرة واحدة، لا بدم التيوس والعجول، بل بدمه، فكسب لنا الخلاص الابدي. فإذا كان رش دم الثيران... يقدّس المنجَّسين ويطهّر جسدهم فما أولى دم المسيح الذي قدم نفسه إلى الله بالروح الازلي قربانًا لا عيب فيه، أن يطهّر ضمائرنا من الأعمال الميتة لنعبد الله الحي" (عب 9).
وذكر العهد القديم عيد الفصح ودم الحمل الذي يُرشُّ على الأبواب كعلامة للبيوت التي تخص الله فلا يضربها الموت (خر 12). هذا الدم هو كعلامة التاو (T) التي هي كالصليب، والتي يرسمها رجل لابس كتانًا على جباه بني اسرائيل كعلامة على أنهم حافظوا على إيمانهم (حز 9: 4-6). إن دم الحمل هذا الذي يذكره القديس بولس ويطبّقه على المسيح الذي هو حمل فصحنا المذبوح (1 كور 7:5) يشبه الختم الذي به خُتمت جباه المائة والاربعة والاربعين ألفًا (رؤ 3:7-4)، وهم الذين غسلوا ثيابهم وجعلوها بيضاء بدم الحمل.
وذكر العهد القديم ذبيحة العهد: "أخذ موسى نصف الدم وجعله في طسوت، ورشّ النصف الآخر على المذبح. وبعد أن تلا كتاب العهد على مسامع الشعب أخذ الدم ورشّه على الشعب وقالت: هوذا دم العهد الذي عاهدكم الرب به" (خر 24: 5-8). بهذه الطريقة يصبح المتعاهدان، أي الله والشعب، نفسًا واحدة وقلبًا واحدًا. إن ذبيحة العهد هذه قد أشار إليها يسوع ليلة العشاء السري وقال: "هذا هو دمي، دم العهد الجديد الذي سُفك من أجل أناس كثيرين" (مر 14: 24). ونقرأ في الرسالة الاولى إلى الكورنثيين (11: 25): "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي". ونقرأ أيضًا (16:10): "كأس البركة التي نباركها، أما هي مشاركة في دم المسيح؟ والخبز الذي نكسره أما هو مشاركة في جسد المسيح"؟ ونتذكّر كلام الرب بعد تكثير الخبز: "إذ كنتم لا تأكلون جسد ابن الانسان ولا تشربون دمه، فلن تكون فيكم الحياة، ولكن من أكل جسدي وشرب دمي فله الحياة الابدية" (يو 6: 53-54).
هنا نفهم إلى أي حدّ دخل الرب في مفهومنا، حيث الدم يدلّ على الحياة التي نضحّي بها من أجله لتكون لنا حياة أفضل. أجل مات المسيح من أجلنا وسفك دمه لخلاصنا فصارت ذبيحته آخر ذبيحة دموية يقبلها الرب فيلغي بها الشرائع المتعلقة بذبائح العهد القديم. إن الله افتدانا بدم كريم، دم الحمل، دم المسيح (1بط 1: 9). فأي حاجة بعد إلى التيوس والعجلة التي ما كانت لتستطيع أن تطهّر المذنبين وتقدّسهم؟ ونفهم أن الكتاب عندما يكلّمنا عن ذبيحة المسيح ودمه المسفوك إنما يشدّد على محبته للآب التي عبّر عنها بطاعته له حتى الموت على الصليب (فل 8:2-9)، وعلى محبته للبشر التي بها أحبّنا وضحى بنفسه من أجلنا وبدلاً عنا يوم نقل الله عليه إثم جميعنا.
هـ- الموت على الصليب
ونصل إلى موت المسيح. فإذا كان رجوع الانسان إلى الله يتمّ بفعل طاعة وحب يجود فيه المسيح بذاته لأجلنا، يبقى علينا أن نتأمّل في الظروف التي أتمَّ فيها يسوع هذا الفعل: آلامه وموته. إنه وإن تكن حياة يسوع كلها فعل طاعة وحبّ متواصل، إلاّ أن الكتاب يشدّد بصورة خاصة على موته الذليل وعذابه على الصليب. لقد رسم القديس بولس أمام عيوننا صورة المسيح المصلوب الذي صار لعنة من أجلنا حين عُلق على خشبة (غل 13:3). وأعلن أنه يتقبّل الاضطهاد في سبيل صليب المسيح، ولا يريد أن يفتخر إلاّ بصليب ربنا يسوع المسيح (غل 6: 12-14)، ولا يريد أن يعرف إلاّ يسوع المصلوب الذي يرى فيه المؤمنون طريق الخلاص، وقدرة الله رغم ضعفه الظاهر.
بصليب يسوع تمَّ الصلح بين البشر والله والقضاء على العداوة بين اليهود والأمم (أف 2: 16). بصليب يسوع تحقّق السلام في الأرض كما في السماوات (ك 1: 20)، فصفح الله لنا عن خطايانا ومحا الصك الذي يتَّهمنا. لا شكّ في أن العهد الجديد يحدّثنا عن تواضع يسوع وحياته في الفقر والصمت وعن تخلّيه عن كل شيء. ولكنه يصل بنا أخيرًا إلى الحديث عن موته على الصليب كفَّارة للخطيئة. يروي الإنجيليّون شهادتهم عن المسيح، ولكن الحديث عن بضع ساعات من الآلام يشكّل قسمًا كبيرًا من إنجيلي مرقس ومتّى. يكلّمنا القديس بولس عن يسوع الذي جاء بجسد يشبه جسدنا الخاطئ؛ ولكنه لا يتوقّف إلاّ على الحدث الاسمى، ألا وهو آلام يسوع وموته ليفتدي البشرية؛ يكتب القديس بطرس إلى المؤمنين، فيصوِّر لهم الحياة المسيحية كلها من خلال آلام يسوع وصلبه وموته: "المسيح تألم من أجلكم وجعل لكم من نفسه قدوة لتسيروا على خطاه... هو الذي حمل خطايانا في جسده على الخشبة حتى نموت عن الخطيئة فنحيا للحق... وهو الذي بجراحه شُفيتم" (1 بط 2: 21-24).
سوف يتساءل اللاهوتيون فيما بعد: هل كان من الضروري أن يموت يسوع لكي يخلّصنا؟ أجابوا بالنفي، معتبرين أن كل عمل من أعمال المسيح له قيمة لا متناهية، لأنه عملُ الاله الانسان. ثم كان باستطاعة الله الذي أغظناه أن لا يطلب أية كفارة من الانسان، لأنه صاحب الحق ويمكنه أن يترك حقه.
وموت المسيح هذا هو علامة حب الله الذي برهن عن محبته لنا، بأن مات المسيح من أجلنا (روم 5: 5)، والذي برهن عن رحمته وفائق محبته عندما أحيانا مع المسيح بعدما كنّا أمواتًا بزلاّتنا (أف 2: 4). وهكذا ارتبط في المسيح الحبُّ والموت، والحبُّ أقوى من الموت. حبٌّ فريد في قلب يسوع ينبع من قلب الآب فيصل إلينا بنوع فريد، حب فريد دفعه إلى الموت بهذه الطريقة باذلاً نفسه عن أحبّائه (يو 13:15). كل الصور والتشابيه التي تقول إن الله جعل ابنه خطيئة لأجلنا ولعنة، كان المسيح أخذ على عاتقه الحكم الذي لم يكن لصالحنا وسمّره على الصليب، كل هذه الصور تدلّ على طاعة المسيح ومحبته التي بها عاد إلى الآب وأعاد معه البشرية، وذلك عبر آلامه وموته. لقد أراد يسوع أن يخلّصنا على مثال عبد يهوه، فبدا وكأنه مضروب من الله (أش 53: 4)، وحسبه معاصروه مجدِّفًا وحكموا عليه باسم الشريعة (مز 14: 63؛ يو 19: 7). حسبه اليهود ملعونًا من الله وأنه يجب أن لا تبقى جثته على الخشبة لئلا تدنّس الأرض المقدّسة. ويمكننا القول، ونحن نتأمل في مخطط الله، إن موت يسوع، لا بل كل ظرف من ظروف آلامه، من خيانة يهوذا له، وتخلّي تلاميذه عنه، إلى الحكم عليه بالصلب مع ما يلحق ذلك من عار وإهانة، كل هذا هدف إلى إفهامنا أنه أحبّنا كما لا ولن يحبّ إنسان إنسانًا في الكون.
و- رجوع الانسان إلى الله
إن موت المسيح كان أول الطريق في رجوع الانسان إلى الله: مات المسيح فمتنا معه بانتظار أن نحيا معه في قيامته. وكانت الخطيئة قد فصلت الانسان عن الله، غير أن الله تصرَّف حيالنا تصرف الراعي الذي يذهب وراء الخروف الضال، أو الأب الحنون الذي ينتظر عودة ابنه من البعيد (لو 15: 11-24). أحبّنا حبًا جمًا واحترم حريتنا احترامًا عميقًا فلم يفرض علينا رجوعًا إليه يفوق قدرتنا، بل أرسل ابنه ليكون واحدًا منا، ليتضامن معنا. لم يأخذ خطيئتنا، بل جسدًا يشبه جسدنا الخاطئ، تشبَّه بنا في كل شيء فعرف ضعفنا ووضعنا ومات مثلنا.
رجع يسوع إلى الآب، ويبقى على كل واحد منا أن يعود إلى الآب الغافر. فإن تقبّل كل احد منا حالته الضعيفة الخاطئة بمحبة على مثال المسيح، تصبح حالته وسيلة تكفير وتقديسه. لقد كانت حالة الانسان المزرية نتيجة الخطيئة وعقابها، ولكن هذا العقاب لا يقودنا إلى الموت الابدي، لأنه عقاب يداوينا به الله دون أن يقتلنا، لأنه عقاب لا يثبّت الانسان في معاندته لله، بل يعيده إلى الاتحاد به. من أجل هذا ولكي تعود بشريتنا الخاطئة حقًا إلى الله، يشكّل الموتُ الجسدي وسيلة يمرُّ فيها فعل الحب هذا الذي به نعود إلى الآب.
أراد يسوع أن يتضامن معنا في حالة الخطيئة التي يعرفها الضعف البشري دون أن يكون خاطئًا، لنتضامن نحن معه في قوّة الحياة التي هي برّ الله. لقد صار يسوع عضوًا في هذه البشرية التي لا تصل إلى الحالة الروحية ما لم تمرّ عبر الموت الجسدي. فضرورة الموت دين الله على البشرية ومن واجبها أن تفيه. وكان يسوع وفاه باسمنا وتضامنًا معنا.
لقد أمَّن يسوع رجوع البشرية إلى الآب عندما أخذ جسدنا البشري، فمات فيه ليقوم بجسد روحاني ويصير روحًا محييًا (1 كور 15: 45). تقدَّمنا يسوع فانتقل بموته وطاعته ومحبته من حالة الجسد وعالم الخطيئة إلى حالة روحية الهية. لهذا، ففي المعمودية التي توحد المسيحي بموت المسيح يموت المسيحي عن الخطيئة كالمسيح (روم 6: 10)، أي ينتقل بدوره من حالة الجسد إلى حالة الروح، من الجسد الحيواني إلى الجسد الروحاني. إن الانسان القديم صُلب مع المسيح (روم 6: 6)، وجسدُ الخطيئة، أي كياننا الذي هو أداة الخطيئة، قد دمَّر وزال سلطانه. إن الجسد الذي يُدفن مع المسيح في المعمودية، يتحرّر من الخطيئة فلا يعود يقترفها، ويتحرّر من عبودية الشريعة فلا يعود لها عليه تأثير، لأنه يعيش حياة المسيح ويشاركه حالته الممجدة ونظام الروح الجديد (روم 7: 6)؛ أما إذا خسر هذه الحالة التي اقتناها له المسيح، ورفض أن يسير بحسب الروح وفي جدّة الحياة "فلا تبقى هناك ذبيحة كفارة للخطايا، بل انتظار مخيف ليوم الحساب ولهيب نار ينتظر العصاة. من خالف شريعة موسى يموت من دون رحمة... فكم تظنون يستحق العقاب من داس ابن الله ودنَّس العهد الذي تقدس به واستهان بروح النعمة" (عب 10: 26-29)؟
بموت المسيح يموت الانسان العتيق فينا ويحيا الانسان الجديد، ويتمُّ لنا النصر على الشيطان وأعوانه كالخطيئة والموت الابدي. يبقى علينا نحن المؤمنين أن نتمَّ ما بدأه الله فينا. نحن الذين حرّرنا الرب لا نعود إلى عبودية الخطيئة. نحن الذين صرنا خليقة جديدة لا نرجع إلى "أعمال الجسد كالزنى والدعارة والفجور، بل نثمر ثمر الروح الذي هو المحبة والفرح والسلام والصبر واللطف والامانة" (غل 5: 19-22).

خاتمة
الحاجة إلى الخلاص والفداء حاجة قديمة في قلب الانسان، وقد حرّك الله تلك الحاجة منذ عهد الخليقة الأول، فوعد بمخلّص يدوس رأس الحيّة الجهنمية أي الشيطان، وأرسل إلينا من يخلّصنا باسمه ويدعونا للرجوع إليه. أرسل إلى شعبه موسى فنجاه من عبودية مصر، ثم بعث القضاة والملوك فأنقذوه من ظلم أعدائه، وبعدها أوفد الأنبياء يدلونه على طريق التوبة والمعلّمين يفهمونه أن الحكمة الحقّة تقوم في حفظ وصايا الله والعمل بأوامره وأحكامه. ولكن هذا الخلاص الذي حمله البشر، ظل خلاصًا محدودًا، وقد قام به أناس مائتون.
ولن يتحقّق رجاء البشريّة إلاّ بمجيء المخلّص، يسوع المسيح، الذي تغلّب وحده على الموت، نتيجة الخطيئة. الذي دخل بيت الرجل القوي، أي الشيطان أركون العالم، وأوثقه وطرده (مت 12: 28-29) تاركًا البيت لأهل البيت، مؤسسًا فيهم ملكوت الله.
إن رجوع البشريّة لا يكون كاملاً دون قيامة المسيح. بما أن المسيح قام من بين الأموات فهو يستطيع أن ينجينا من الغضب الآتي (1 تس 1: 10). وإذا كان المسيح لم يقم فنحن لا نزال بخطايانا (1 كو 15: 17). "إن الآب أقام المسيح من بين الأموات وأجلسه إلى يمينه في السماوات فوق كل صاحب رئاسة وسلطان وقوة وسيادة، وفوق كل اسم يسمَّى به مخلوق... وجعل كل شيء تحت قدميه، وجعله رأسًا للكنيسة" (أف 1: 20-22)، أي لجماعة المؤمنين.
إن موت يسوع يشكّل مع قيامته وتمجيده عمل خلاص واحد، وهو يعبّر عن فعل الطاعة والمحبة الذي به عاد يسوع إلى الآب فأعادنا معه. لا شك في أنه تألم ومات فأعطانا الفداء، ولكنه ترك لنا أن نموت معه ونتمّ في جسده ما نقص من آلامه. إن المسيح قد افتدى البشريّة فقدَّم كفارة كافية تفوق ما تركته الخطيئة من آثار في الكون، ولكنه ترك لكل واحد منا أن يدخل في سر الفداء ويبدأ عودته إلى الله على مثالا المسيح. وهكذا ننظر إلى سر الفداء من وجهتين اثنتين: وجهة أولى هي رجوع المسيح إلى الآب بموته وقيامته. ووجهة ثانية هي رجوع الانسان إلى الله عندما يشارك المسيح في رجوعه إلى أبيه عبر لايمان وعبر المعمودية التي هي سر الايمان والتي هي انطلاقة كل مؤمن في مسيرة الخلاص التي ابتدأت بتجسّد المسيح وموته وقيامته، والتي تنتهي برجوعه بمجد عظيم ليملك على الأحياء والأموات. حينئذ يتم سر الفداء في البشرية كلها فيجتمع في المسيح كل شيء في السماوات والأرض.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM