الفصل السابع :سر الفصح

الفصل السابع
سر الفصح

يسمّي القديس بولس سرّ الفصح العشاء الربّاني أو عشاء الرب (1 كور 11: 20) وهذه الصفة لا ترد إلاّ مرّة واحدة في مجمل العهد الجديد لتدلّ على "اليوم الربّاني" أو اليوم الذي فيه تجتمع الكنيسة (رؤ 1: 10). ويرتبط في كلا الحالين "اليوم" و "العشاء" ارتباطًا وثيقًا مع الرب، أي المسيح المُمجّد. فماذا تتضمّن هذه العبارة وكيف تقودنا إلى الحديث عن سرّ الفصح، عن سرّ المُشاركة في جسد المسيح ودمه.

1- العشاء على مائدة المسيح القائم من بين الأموات
أ- لقب الرب
إنّ لفظة "ربّاني" المُستعملة هنا لتصف عشاء الرب ويومه، توجّه الفكر مباشرة نحو المجد الحالي الذي يتمتَّع به المسيح القائم من الموت. فبالقيامة "جعل الله يسوع هذا الذي صلبتموه مسيحًا وربًا" (أع 2: 36). وملاحظة لوقا في سفر الأعمال تُجمل في هذا الاطار معطية أساسية من معطيات الايمان نجدها أيضًا في الرسائل البولسية. فاسم "كرستوس" أو المسيح يرد 76 مرّة في 1 كور واسم "كيريوس" أو الرب يرد مرارًا عديدة. يتحدّث بولس عن "ربنا يسوع المسيح"، فيجعل أيضًا اسم يسوع مع المسيح والرب.
إذن، لا شك في ذلك: إن استعمال كلمة "الرب" (أو صفة الربّاني) توجّه الفكر نحو المسيح القائم من بين الأموات: ذلك الذي لا يستطيع أحد أن يدعوه بإيمان إلاّ بدفع من الروح القدس (1 كور 12: 3)، ذلك الذي يعطي الآن نعمته للمؤمنين (1 كور 33:16)، ذلك الذي تناديه الكنيسة المجتمعة وتهتف له بصوت عال متمنّية مجيئه: ماراناتا: تعال أيها الرب يسوع (1 كور 16: 22؛ رؤ 22:20). والسؤال الذي يطرح الآن: ماذا نعني "بالعشاء الربّاني"؟ ما هي مكانة الرب فيه؟ وأي دور يلعبه؟
ب- المسيح هو ضيف العشاء الربّاني
ونتوقّف في إجابتنا عن السؤال عند ملاحظات ظرفية تقدّمها 1 كور. ففي نهاية المقطع المكرس لاستعمال اللحوم المذبوحة للأصنام والتي تباع في أسواق كورنتوس (1 كور 8: 1- 11: 1)، يحذّر الرسول الوثنيين المرتدين من المشاركة الواعية في عبادة الأصنام بولائم مقدسة تحتل مركزًا هامًا في هذه العبادة. ليس الوثن شيئًا، واللحوم التي تذبح لها تبقى في حدّ ذاتها لحومًا عادية، لأنّ "الأرض مع كل ما فيها هي للرب" (1 كور 19:11، 26: الرب هو الله بما أنه الخالق). ولكن العمل الذبائحي هو طقس يكوّن علاقة حميمة بين المؤمنين والاله الذي يقدّم له الحيوان. سواء كان الاله الحقيقي في شعائر العبادة اليهودية، أو "الشياطين" في الشعائر الوثنية، حسب تفسير عبادة الأصنام في أرض اسرائيل (1 كور 10: 20، رج تث 32: 17 حسب السبعينية). ففي العالم اليهودي، تأتي المشاركة في الولائم المقدسة فتجعل المؤمن "مشاركًا للمذبح" أي "مشاركًا لله نفسه" الذي يهيِّئ مائدته لأفراد شعبه. وفي العالم الوثني، هناك "مشاركة مع الشياطين" (1 كور 10: 20): نشرب كأسهم، نقاسمهم مائدتهم، وهذا ما يربط الانسان بقدرة سامية ينال منها الطعام (المائدة) والشراب (الكأس). ليس من تماثل ميتولوجي بين الحيوان الذي يُذبح ويؤكل وبين الاله أو الوثن الذي يقدّم له، كما قال بعض مؤرخي الديانات الذين بحثوا عن خلفيّة بعيدة للافخارستيا المسيحية. كل هذا غريب عن فكر القديس بولس: كيف نمزج ضيفًا مع الطعام والشراب اللذين يقدّمهما إلى مدعويه؟
وانطلاقًا من هذه النقطة، نستطيع أن نعود إلى العشاء الافخارستي (لا نجد هنا الاسم في رسائل بولس الرسول). يقيم الرسول موازاة دقيقة بين الولائم الذبائحية لدى اليهود والوثنيين من جهة، وبين "عشاء الرب" من جهة ثانية. نشرب كأس الرب أو كأس الشياطين. نشترك في مائدة الرب أو مائدة الشياطين (1 كور 10: 21). إذن، المسيح القائم من الموت هو مضيف يستهينا من مائدته. وكما نصبح مشاركين في مذبح الله في العبادة اليهودية (1 كور 18:10) أو في العبادة الوثنية (1 كور 10: 20)، كذلك يؤمِّن "عشاء الرب"، مشاركة في الدم. والخبز الذي نكسره يشركنا في جسد المسيح (1 كور 10: 16). سنعود إلى هذه النقطة فيما بعد حين نتحدّث عن جسد المسيح ودمه. ولكننا نلاحظ الآن أنّ المسيح أو الرب هو المضيف الذي يستقبل إلى مائدته أولئك الذين يؤمنون به وقد اعتمدوا باسمه (1 كور 1: 13). دعاهم الله إلى "شركة ابنه يسوع المسيح" (1 كور 1: 9)، فرأوا هذه الشركة تتحقَّق بصورة ناشطة وكاملة في مقاسمتهم مائدته. هنا نصل إلى محور طقس الافخارستيا، ومنه يجب أن ننطلق لنقدّم شميلة عن الافخارستيا: المسيح حاضر في الافخارستيا كضيف غير منظور. وهو يدعو إلى مائدته أعضاء الكنيسة الملتئمة حوله بناء على دعوة من الله.
ج- ما قيمة هذا التفسير البولسي
أوّلاً: ما يقوله سفر الرؤيا
ليست نصوص 1 كور وحيدة في هذا المجال. ولنتوقّف أولاً عند التلميح السريع في رؤ من أجل تفكيرنا اللاهوتي حول الافخارستيا. فبعد توبيخ يتبعه نداء إلى التوبة يتوجّهان كلاهما إلى كنيسة لاودكية (أو اللاذقية في تركيا)، نقرأ في 3: 20: "ها أنذا واقف على الباب وأقرع. فإن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه فأتعشى (آخذ العشاء) معه وهو معي". هل يلمِّح الكاتب هنا فقط إلى حياة حميمة يعد بها المسيح المؤمن فيهيِّئه لما ينتظره في نهاية الأزمنة (أي بعد الموت)؟ فالفعل المستعمل هنا لا يرد كثيرًا في العهد الجديد (دايبنيو). فإذا وضعنا جانبًا لو 8:17، نجده في خبر العشاء السري حيث يأخذ يسوع الكأس بعد أن يتعشّى (لو 20:22). وفي المقطع الموازي لهذا النص في 1 كور 11: 25: "وبعد أن تعشّى أخذ يسوع الكأس".
يلفت هذان المقطعان نظرنا إلى تسمية وليمة الرب كعشاء (ديبنون، 1 كور 11: 20). فاللفظة ليست محصورة بالوليمة الافخارستية، لأنها تدلّ على طعام الغداء، أو وليمة العيد التي تقام في المساء: رج الوليمة التي قدمها هيرودس انتيباس في مر 6: 21. والوليمة الكبيرة التي ستكون موضوع مثل في لو 14: 12-24 (يتحدّث مت 22: 1-13 عن الاعراس). في مت 6:33 ولو 20: 46، نجد ولائم يتَّخذ فيها بعضُ الفريسيين مكان الصدارة. ويتحدّث يو 12: 2 عن وليمة بيت عنيا التي دعي اليها يسوع (مر 3:14: اتكأ إلى المائدة) وفي 13: 2-4 عن الطعام الأخير الذي أخذه يسوع مع تلاميذه.
ونجد مقطعين في سفر الرؤيا. من جهة، وليمة الدينونة الرمزية التي تدعى إليها العصافير لتأكل جثث الأعداء المهزومين في المعركة الاسكاتولوجية (نهاية الأزمنة) (رؤ 19: 17-18). ومن جهة ثانية، وليمة أعراس الحمل التي يُدعى إليها الشهداء والقديسون (رؤ 19: 9). هل نفهم رؤ 3: 20 كاستعارة عن حياة حميمة بين المسيح ومؤمنيه؟ إذا لاحظنا من جهة الرنة الاسكاتولوجية لكل المواعيد التي تنهي "الرسائل إلى الكنائس السبع" (تذكر شجرة الحياة في رؤ 2: 7 و2:22 والمن الخفي في رؤ 17:2 الذي يلمح إلى خطبة خبز الحياة في يو 6: 31-33، 48- 51). وإذا لاحظنا من جهة أخرى الموازاة بين رؤ 3: 20 ورؤ 19: 9 (وليمة أعراس الحمل)، نرى تلميحًا خفيًا إلى الطقس الافخارستي الذي مارسته كل الجماعات المسيحية في "يوم الرب" (رؤ 1: 10).
ثانيًا: التعليم الافخارستي في إنجيل لوقا
هنا نلتقي بتعليم لوقا الافخارستي. ونحن لا ننطلق أوّلا من خبر العشاء السري، مع أن لوقا تفرّد مع بولس باستعمال فعل "تعشّى" (لوَ 22: 20؛ 1 كور 11: 25). بما أننا ننطلق من الافخارستيا كوليمة مائدة الرب القائم من الموت، فسنقرأ أخبار الظهورات.
من الواضح أن مثل هذه الخبرة لعبت عند لوقا دورًا رئيسيًا في تأسيس الايمان المسيحي، في فرز (واختيار) الذين أقامهم الله كشهود لقيامة يسوع. فالخطبة التي جعلها لوقا في فم بطرس حين عمّد الضابط كورنيليوس، تُوضح هذا الأمر وتُجمل الكرازة الرسولية: "فيسوع هذا، قد أقامه الله في اليوم الثالث وآتاه أن يظهر، لا للشعب كلّه، بل لشهود قد اصطفاهم الله من قبل، لنا نحن الذين أكلوا وشربوا معه بعد قيامته من بين الأموات، وقد أوصانا أن نكرز للشعب ونشهد بأنه هو الذي أقامه الله ديّانًا للأحياء والأموات" (أع 10: 40-42).
إن ذكر الوليمة (أكلنا، شربنا) مع المسيح القائم من الموت ليست إشارة عابرة. ففي الظهور الوحيد للأحد عشر الذي يورده إنجيل لوقا، نجدهم مجتمعين مع رفاقهم (لو 33:24) ساعة انضم إليهم تلميذا عماوس. ليس من ذكر واضح للطعام في هذا المكان. ولكن من الواضح أن الطعام هو هدف الاجتماع: حين ظهر لهم يسوع شخصيًا ووقف بينهم قال لهم: "هل عندكم ههنا طعام"؟ فقدموا له قطعة من السمك المشوي (لو 36:24-42). هذا هو الوضع الوحيد الذي نرى فيه المسيح القائم من الموت يأكل (لو 34: 43). نقرأ في أع 1: 4: "وبينما هو مجتمع معهم" (أفضل من: "وفيما هو يأكل معهم").
ومهما يكن من أمر، فخبر تلميذي عماوس هو نموذج الخبرات الفصحية. وذروته ساعة يقلب المسيح المنبعث الوضع: كان غريبًا دُعي إلى العشاء (لو 24: 29)، فصار مضيفًا يدعو التلميذين إلى مائدته: أخذ الخبز وبارك وكسر وناولهما فعرفاه عند كسر الخبز (لو 24: 35). هذه هي الوليمة الافخارستية: اختبر كليوبا ورفيقه حضور الرب القائم من الموت، كمسيح تحمَّل كل هذه الآلام قبل أن يدخل في مجده (لو 24: 46): اتكأا إلى مائدته وشاركاه في وليمة ترأسها، شاركاه في كسر الخبز أي الافخارستيا.
يردُ "كسر الخبز" في خبر العشاء الأخير (لو 19:22) مع فعل شكر (افخارستيا)، ويرد أيضًا في سفر الأعمال ليدلّ على الاحتفال الافخارستي (أع 2: 42، كسر الخبز، 46:2، فعل كسر، 7:20، 11: إشارة واضحة إلى احتفال افخارستي، 27: 35: أخذ بولس خبزًا وشكر الله أمام الجميع وكسر وطفق يأكل). وهكذا يلتقي لوقا هنا مع القديس بولس في 1 كور 23:11- 24. وانطلاقًا من هذه الممارسة التي تستعيد ما فعله يسوع مرة واحدة، ألقت الرسمةُ الأدبية للاحتفال الافخارستي الضوءَ على أخبار تكثير الأرغفة (وهي علامة افخارستية بارزة: نظر إلى السماء وبارك وكسر، مر 6: 41). هذا يعني في نظر لوقا كما في نظر بولس أن الافخارستيا تجعل كل أعضاء الكنيسة يشاركون في مائدة الرب القائم من الموت. ولهذا نسمّي الافخارستيا عشاء الرب أو العشاء الربّاني.
ثالثًا: خطبة خبز الحياة
ونقرأ في المنظار عينه يو 6. نحن نندهش حين لا نرى في الإنجيل الرابع خبر التأسيس الافخارستي. هنا نتذكّر أن الأفق التاريخي لوجود يسوع على الأرض وأفق الحياة الكنسية الذي تشرق عليه صورة المسيح المنبعث، هذان الأفقان يتطابقان، بحيث إننا نستشف المسيح المُمجّد من خلال سمات يسوع الناصري. فخطبة خبز الحياة خطبة يلقيها يسوع الناصري، بل يلقيها الآن المسيح المُمجّد لكنيسته ولليهود الذين يصطدمون ويتشكّكون بالاحتفال الافخارستي.
إذا كان خبز الحياة الذي ينزل من السماء ويعطي الحياة للعالم (يو 6: 32-33) هو المسيح المنبعث الذي يتقبّله بالايمان ذلك الذي يشارك في الطعام الافخارستىِ، حينئذ نفهم أنه يدعونا للمجيء إليه والايمان به. ونفهم أيضًا قوله: "من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه" (يو 56:6). لن نتوسّع في هذه الآية، ولكننا نعرف أنّ حضور المسيح في المجد كمضيف يقدّم مائدته لكنيسته هو في قلب الخبرة الافخارستية.

2- طعام الرب والعشاء الأخير
أ- الرب المجيد ويسوع الناصري
غير أن هذا التشديد على المسيح الذي يقدّم مائدته للمؤمنين، يتضمّن خطر مزج هذا المضيف غير المنظور مع الآلهة الكثيرة في العالم الوثني. فسنة 110 تقريبًا أرسل بلينوس الأصغر يطلب تعليمات من الامبراطور مرقس أوراليوس حوله الموقف الواجب اتخاذه تجاه المسيحيين. لاحظ أن هؤلاء يجتمعون "لينشدوا المدائح للمسيح كما لإله". لاشكّ في أن الحاكم يحسب المسيح إلهًا من هذه الآلهة الشرقية التي تكاثرت في المدن الرومانية. ويُطرح السؤال: هل الرب المُمجّد الذي تدعوه الكنيسة المُلتئمة لكي يجيء، هو كائن من عالم المخيّلة لا قيمة لتجذره الأرضي بالنسبة إلى الايمان؟ حاشا وكلا.
فالانجيل كإعلان خلاص لا يفصل بين يسوع الناصري ومسيح الايمان. بل يشهد على التماثل بينهما، كما على التماثل بين إنجيل ملكوت الله الذي أعلنه يسوع الناصري وإنجيل يسوع المسيح. فرسمة النؤمن المسيحي الذي تسلّمه بولس كتقليد سابق له، تشدّد على هذا الواقع المزدوج في الانجيل: المسيح (هذا هو الاسم المجيد المعطى للقائم من الموت) مات (هذا هو الحدث التاريخي الذي يفترض مأساة حياة انتهت بالموت) من أجل خطايانا (هذه هي نعمة الفداء التي حصلنا عليها بهذا الموت ووصلت إلينا في الحاضر المسيحي)، كما في الكتب (هذه هي الخلفيّة التوراتية التي يتصوّر عليها موت يسوع ويأخذ كل معناه) (1 كور 3:15). فالحاضر المسيحي الذي فيه ينقل إلينا المسيحُ الرب الخلاصَ ويمنحنا غفران الله أوّلاً، يحيلنا بالضرورة إلى تاريخ يسوع الناصري الذي يؤسّس هذا الحضور. فموت يسوع وقيامته هما وجهتان لحدث واحد أوصل كل التدبير الخلاصي إلى كماله. في هذه الحال نقول إنّ "عشاء الرب" لم يكيّف الولائم المكرسة لدى الوثنيين ولا شعائر العبادة اليهودية على عبادة الرب يسوع: فالعودة إلى يسوع الناصري ضروري كضرورة التعبير عن النؤمن المسيحي نفسه. من هذه الزاوية نفهم عشاء يسوع الأخير في قلب الكنيسة المجتمعة (1 كور 18:11).
ب- خبر آخر عشاء ليسوع
أقدم خبر لآخر عشاء اتّخذه يسوع مع تلاميذه نقرأه في 1 كور: نحن أمام تقليد يعود إلى الرب. تسلمه بولس (1 كور 11: 23) وذكّر المؤمنين به لكي يعيد النظام إلى الاحتفال بعشاء الرب. والكنيسة تجتمع كلها في اليوم الأوّل من الأسبوع (1 كور 16: 2): تتذكّر قيامة الرب الذي ظهر في ذلك اليوم للشهود (مر 16: 1؛ مت 28: 1). وبما أن هذا اليوم هو يوم عمل لليهود ولليونانيين، فالاجتماع يتمّ في المساء، بعد العمل، وقد يمتدّ طويلاً في الليل (أع 7:20- 11).
يتعشَّون معًا ويقومون بنشاطات أخرى: الصلاة، التنبّؤ، قراءة الأسفار المقدسة، الكرازة، التحريض أو التوبيخ الأخوي إذا لزم الأمر، جمع الصدقات للفقراء. أما قلب الاجتماع فهو عشاء الرب (1 كور 11: 20) أو كسر الخبز (أع 20: 7- 11). إن اختيار اليوم المحدّد الذي صار وقت الاحتفال الأسبوعي بقيامة الرب (كما أن السبت هو يوم الاحتفال بالخلق بالنسبة إلى اليهود)، يوجّه الفكر نحو طقس يُشرك فيه المسيحُ المنبعث أخصَّاءه في مائدته. وهو بذلك يستبق فرح عودته ويعطيهم تذوقًا مسبقًا للوليمة التي فيها سيشاركون في ملكوت الله (مت 29:26؛ لو 22: 30).
والفعلتان الأساسيتان في هذه المائدة الدينية تستعيدان ما صنعه يسوع "في الليلة التي أسلم فيها" (1 كور 11: 23): الخبز المكسور، كأس البركة (1 كور 10: 6). ولهذا كان من الضروري للاحتفال بعشاء الرب أن نحتفظ بذكر هاتين الفعلتين. فالمسيح الممجّد الذي يقدّم طعامه للكنيسة المجتمعة هو يسوع الناصري الذي "في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزًا وشكر وكسر وقال: خذوا وكلوا، هذا هو جسدي الذي يكسر (يعطى) لأجلكم. اصنعوا هذا لذكري. وكذلك الكأس، من بعد العشاء، قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي، اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري" (1 كور 23: 25). فعنصرا عشاء يسوع الأخير اللذان احتفظنا بهما، هما اللذان يستعيدهما الاحتفال الافخارستي: فخبر العشاء هو قاعدة الاحتفال نفسه. فإن لم يُسمَّ طعام الرب بوضوح "افخارستيا" فذكر الشكر نجده في كلمات تلفّظ بها يسوع على الكأس التي سمّاها بولس "كأس البركة" (1 كور 10: 16).
ونُلاحظ أنّ الخبر الذي يهدف إلى تقديم قاعدة ليتورجية يُعاد في كل احتفال لايضاح معناه. هذا الخبر يحتفظ بملخص لكلمات أشار بها يسوع مسبقًا إلى المعنى الذي يعطيه لموته القريب: جسدي (المكسور، المعطى، لو 22: 19) من أجلكم. العهد الجديد في دمي (في لو 22: 20: الذي يراق). وهكذا نلتقي مع ما قاله النؤمن المسيحي: "مات المسيح من أجل خطايانا" (1 كور 15: 3).
نحن لا نحاول أن نحلّل مضمون هذه النصوص وأبعادها، بل أن نفهم لماذا اتخذ خبرُ عشاء يسوع الأخير مكانه في قلب الاحتفال الافخارستي: فبفضله صار عشاء الرب تذكارًا لآلامه وموته: "فكلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس، تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء" (1 كور 26:11). فبعد هذا التذكير الذي يرتبط بعمل يسوع، تُعلن هوية المسيح القائم ويسوع الناصري الذي اتخذ عشاءه الأخير مع تلاميذه قبل أن يسلم ويتألم ويموت: والجماعة الملتئمة حول ربها تعي هكذا وعيًا واضحًا ما يشكّل قلب إيمانها.
هناك أصل تاريخي للعشاء الأخير حسب متّى ومرقس، وأصل ليتورجي حسب لوقا وبولس. فالمكان الذي ألِّف فيه خبر الآلام ليقرأ، هو الجماعة الكنسيّة التي يكوِّن فيها عشاء الرب الذروة. المهم هو أن نلاحظ أنّ الطقس الافخارستي غير معقولة من دون خبر الآلام: أولاً، هو يثبّت أفعال يسوع وأقواله التي تحدّد معنى الصليب. ثانيًا: لولا الخبر لما كان في الكنيسة إعلانُ موت (حدثٌ تمّ مرة واحدة) الرب (تذكير بحضور المسيح الآتي والناشط) إلى أن يأتي (موضوع الرجاء المسيحي).

3- أبعاد عشاء الرب
تهدف هذه الملاحظات إلى التشديد على أن عناصر التفكير اللاهوتي هذه تتركّز على الواقع الذي أبرزناه في البدء: الافخارستيا هي الطعام الذي يشرك فيه المسيح المُمجّد كنيستَه. وهكذا تجد كلُّ أبعاد السرّ مكانتها.
أ- حضور المسيح الافخارستي
من المؤسف أن تكون المجادلات حول حضور المسيح في العناصر المكرَّسة قد سيطرت على اهتمامنا بحيث جعلتنا ننسى حضور الرب المنبعث الذي يُشرك المؤمنين في مائدته. كانت هناك نظرة مادية للحضور الواقعي، تحدّد بطريقة سحرية موضع وجود المسيح في الخبز والخمر المحوَّلين. وكانت نظرة جذرية في بروتستانتية القرن السادس عشر تجعل الطقس محض رمز حيث إيمانُ المشارك الشخصي يحقِّق وحده تقبُّلَ يسوع المسيح.
إذا كان المسيح الحاضر هو الرب المجيد، وهو عينه الذي يشرك المؤمنين في طعامه الاسكاتولوجي ليعطيهم منذ الآن عربون العالم الآتي، فهل نستطيع أن نقدّم نظريات فلسفية حول شروط الحضور التي يخضع لها القائم من الموت ليشرك البشر في جسده ودمه؟ فاللغة والكلمات تبقى ضعيفة وعاجزة. فيبقى أن نعود إلى القديس بولس وما قاله عن واقعيّة الافخارستيا.
أوّلاً: حضور المسيح حسب القديس بولس
لا يناقش بولس حول التمييز بين الواقع العميق والظواهر، بين الجوهر والاعراض، بل يوجّه انتباهنا حالاً نحو الخبز الذي نأكله والكأس التي نشربها، نحو جسد الرب ودمه اللذين تُشركنا فيهما الافخارستيا: "فأي إنسان يأكل خبز الرب أو يشرب كأسه بلا استحقاق يكون مجرمًا إلى جسد الرب ودمه" (1 كور 27:11). فالخبز والكأس يعودان إلى الرب الذي يضيفنا. والجسد والدم (يدلاّن على الشخص كله) يلمّحان إلى ما قاله الرب الممجَّد: "خذوا كلوا، هذا هو جسدي". "هذه الكأس هي العهد الجديد في دمي". فالجسد المبذول والدم المراق في موت يسوع قد تجلّيا بدخوله في المجد. ولهذا، من يأكل الخبز ويشرب الكأس يدخل في علاقة مباشرة وحميمة مع شخص المسيح القائم من الموت، مع جسده ودمه اللذين ارتديا الحضور والمجد والقدرة التي يعطيها روح الله.
ثانيًا: الانجيل الرابع
ونقول الشيء عينه عن نصّ القديس يوحنا الذي يشير إلى هذه الحقيقة عينها (يو 53:6-58). فالعبارات المستعملة جد واقعية: أكل، مضغ. ولم يعد يوحنا يكلمنا عن خبز وخمر نتقبلهما في وليمة الرب. فابن الانسان الذي هو خبز الحياة أو الخبز الحي، خبز الله أو خبز السماء، هو جسده ودمه الممجدان اللذان صارا طعامًا وشرابًا. إنهما يدلاّن على شخص المسيح كله في المجد الذي ناله بعد الموت. فالحضور المرتبط بعمل الطعام والشراب يخضع لحضور القائم من الموت والذي يقدّم للبشر وليمة: وهو هو يسوع الناصري الذي أعطى جسده لخلاص العالم ليكون الخبز الذي يعطي الحياة.
إنّ واقعية الحضور المرتبط بعناصر مادية تؤكل وتشرب، تدخل في إطار واقع غير منظور يحيط به، هو واقع علاقة الكنيسة بربّها المُمجّد. وهو الرب يواصل ما فعله في العشاء الأخير ويقول الأقوال عينها. وهكذا يتأمّن بواسطة الروح القدس استمرار حضوره في الكنيسة.
ب- المشاركة مع المسيح القائم من الموت
إنّ المسيح القائم من الموت هو موضوع عبادة من قبَل الذين يؤمنون به. هنا نتذكّر الأناشيد التي أوردها القديس بولس في رسائله (فل 2: 5- 11؛ كو 1: 15-20). ولكننا لن نبحث بما تقوم به هذه العبادة، بل نحاول أن نعرف لماذا يفتح الرب مائدته للمؤمنين ويُشركهم في عشائه.
هنا نعود إلى 1 كور التي تستعمل كلمة "مشاركة" (كوينونيا). قد تكون المُشاركة مادية (روم 15: 26-27). ولكن 1 كور 1: 9 يسير بنا إلى واقع وهو أن المؤمنين مدعوون من قبل الله "لشركة ابنه يسوع المسيح ربنا". لن ننسى هدف الدعوة المسيحية هذا حين نتفحّص النصوص التي تتكلّم عن عشاء الرب.
أوّلاً: علامة المشاركة حاسب القديس بولس
إن المشاركة في المائدة عينها هي علامة الوحدة بين البشر. وإن الجمع بين الخبز والجسد، بين الكأس والدم، لا يُفهم إلاّ في خبر العشاء. والفصل بين العنصرين لا يفسّر كعلامة موت: فالطعام والشراب يدلاّن على وجبة نأخذها، والخبز والخمر يذكّراننا بعشاء الرب الأخير كله. ويُضمّ الجسدُ إلى النفس ليدلاّ على الشخص كله. فهما لا ينفصلان في المسيح أي في القائم الذي تجاوز عتبة الموت ليدخل في مجده: "بعد أن أقيم المسيح من بين الأموات، فهو لا يموت أيضًا" (روم 6: 9). وتناولُ جسده ودمه يعني الاتحاد به، وبواسطته بالله. وهكذا يجد الطعام ملء بُعده بالاتحاد الذي يجريه بين المسيح والمؤمنين. صار الضيف طعامًا وشرابًا لينقل إلى المشاركين حياته التي يملك فتصبح حياتهم: "أنا حيّ، لا أنا بل المسيح حيّ فيّ" (غل 20:2). هذه العبارة التي قالها بولس الرسول تبدو في كامل حقيقتها في المشاركة الافخارستية.
ثانيًا: الكتابات اليوحناوية
ويلاحظ اللاهوت اليوحناوي الواقع عينه، وإن اختلف التعبير. ففي رؤ 3: 20 تستعمل الاداة "مع" مرتين لتدلّ على الاتحاد دون الاندماج الحلولي. وفي يو 53:6-58 تشدّد العبارات العديدة على مشاركة في حياة نالها المسيح الممجَّد من الآب وأعطاها للذين يأكلونه وهو الخبز الحي. "وكما أن الآب الحيّ أرسلني وأنا أحيا بالآب، فمن يأكلني يَحيَ هو أيضًا بي" (يو 6: 57)
غير أن عطيّة الحياة الأبديّة هذه ترتبط من جهة بالايمان بالمسيح. ومن جهة ثانية، بفعل الطعام والشراب، نأكل جسده ونشرب دمه. إذن، نحن نفهم الملازمة المُتبادلة التي يُحدثها هذا العملُ الليتورجي، بالنظر إلى المشاركة في حياة القائم من الموت. "من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه" (يو 6: 56)، ونجد العبارة عينها في مثَل الكرمة الذي يحتوي رنّة افخارستية غير مباشرة (يو 15: 4- 5).
ج- التناول في الكنيسة
إن هذه الاعتبارات حول اتحاد المؤمنين بالمسيح القائم من الموت تقودنا بصورة طبيعية إلى فهم أفضل لاتحاد المتناولين بعضهم مع بعض. فأساس استعارة جسد المسيح التي يتوسّع فيها القديس بولس تنطلق من خبرة عشاء الرب. إن بولس ينطلق من المسيح الذي اعتمدنا فيه والذي لبسناه (غل 27:3)، لنكون جسدًا واحدًا هو جسده. نحن هنا أمام "جسدية" يسوع الناصري الذي "وُلد من امرأة، وُلد في حكم الشريعة" (غل 4: 4). وحين قام المسيح في المجد حافظ على هذه الجسدية التي تحدد وجهة أساسية من الوضع البشري. ولكنه قام "جسدًا روحانيًا" (1 كور 15: 46). من هذا القبيل، يستطيع أن يعطينا أن نتناول جسده ودمه (1 كور 10: 16). "وبما أن الخبز واحد، فنحن على كثرتنا جسد واحد، لأننا جميعًا نشترك في الخبز الواحد" (1 كور 17:10). "ولكنّ الخبز الذي نكسره هو شركة في جسد المسيح" (1 كور 10: 16). وهكذا نرى أننا تجاوزنا الاستعارة. فإذا تذكّرنا أن الكنيسة الملتئمة لتحتفل بعشاء الرب هي جماعة مقدسة حول المسيح القائم من الموت بالنسبة إلى كل الذين يؤمنون به، نفهم حينئذ أن هناك علاقة وثيقة بين وجودها والاحتفال الافخارستي. بما أنها تجتمع من أجل الشركة بين المسيح والبشر، فبها يصبحون جسدَ المسيح وأعضاء كل بمقدار (1 كور 27:12). هي تصنع الطقس ولكن الطقس ينقل إليها حياة المسيح ويجعلها واحدة.
د- ذبيحة المسيح
كان البعد الذبائحي للافخارستيا موضوع عدد من الجدالات لدى اللاهوتيين. نحن نترك هذه المجادلات ونعالج المسألة من زاوية العشاء الربّاني فنترك التعارض أو الانشداد بين ذبيحة القداس وذبيحة الصليب، بين ذبيحة دموية وتقدمة غير دموية (كما في العهد القديم، ذبيحة حيوان وتقدمة محاصيل الأرض).
ينطلق عدد من اللاهوتيين من نظرة مسبقة للذبيحة ويحاولون أن يُدخلوا فيهـا ذبيحة المسيح على الصليب أو الذبيحة الافخارستية أو الذبيحتين معًا. ولكن من الخطأ أن نخضع مفهوم الذبيحة في العهد الجديد للنماذج التي نجدها في العهد القديم، مع العلم أن هذه النماذج ترتبط بطقوس ذبائحية عرفها الشرق القديم.
ليس واقع المسيح هو الذي يتكيّف مع صور وأنماط جزئيّة وناقصة، تسميّها عب 8: 5 و10: 1: صورة وظل. فعلى الصور أن تمّحى أمام الجسد (كو 2: 21) الذي كانت عنه سمات بعيدة. ولهذا يكفي أن ننطلق من لغة الذبائح التي يطبّقها العهد الجديد على المسيح بصورة واضحة ويستغني عن عبارات غير كافية، إلا نعود نحصر ذبيحة المسيح بموته على الصليب.
أوّلاً: تعليم القديس بولس
نجد في الرسائل البولسية نصًا واحدًا واضحًا في هذا المعنى: "المسيح أحبّنا وبذل نفسه لأجلنا كتقدمة وذبيحة عرف طيب مقدَّمة لله" (أف 5: 2). من جهة، ليس موته هو الذي نماثله رمزيًا بتقدمة وذبيحة عرف طيبة (مع تلميح إلى فئتي الطقوس عند اليهود، رج مز 40: 7). بل، لأنه أحبّنا حتى قبلَ الموتَ واستسلم له إراديًا، وفي هذا تلميح إلى خبر جتسيمانيّ (لو 22: 42 وز) ونبوءة عبد الله المتألم ("المسيح") يتضمّن تلميحًا إلى مجد القائم من الموت. وهكذا لا ينفصل الموت عن القيامة من أجل تحديد الذبيحة التي تخصّنا.
ثانيًا: الرسالة إلى العبرانيين
وما قلناه هنا تثبّته عب التي تتفرّد برسم نظرية حول ذبيحة المسيح. فالتوسُّع الطويل المكرّس لكهنوت المسيح ووظيفته كوسيط للعهد (عب 8: 1- 10: 18)، يقدّم في هذا المجال نقطتين رئيسيتين: الأولى: إن الموازاة الرمزية بين ذبيحة يقدّمها حبر العهد الجديد وطبيعة التكفير التي يقدّمها الحبر اليهودي في يوم الغفران (كيبور أو التكفير) العظيم (عب 9: 1- 14)، تربط رباطًا وثيقًا موت المسيح بدخوله بالمجد فتبيّن العناصر التي تكوّن الذبيحة. وهذه الذبيحة قدّمت مرّة واحدة (عب 7: 27؛ 9: 12؛ 10: 10) فحصلت لنا على فداء أبدي (عب 9: 12) لكي نعبد الله الحي (9: 14). وهكذا تدخل قيامة يسوع وحالته المجيدة (التي تجعلها حاضرة لجميع البشر) في نظرة لاهوتيّة عن ذبيحة المسيح: فبدخوله في المعبد السماوي الذي هو الوجهة المقابلة لموته، استحضر يسوع عمل موته لجميع الأزمنة.
الثانية: إذا أردنا أن نفهم هذا الفعل فهمًا صحيحًا، لن ننظر إليه فقط من الوجهة الدموية التي تتيح لنا أن نوازيه (موازاة لا تفي بالمرام) مع ذبائح الهيكل اليهودي (عب 9: 12-14). يجب أن ننظر إلى باطنيّة الفعل في وجدان المسيح: فالمسيح قدّم نفسه (عب 14:9). يتوسّع ف 10 مطوّلاً في هذه النقطة، فينتقل من "ظل الخيرات المستقبلة" إلى صورة هذا الواقع، والصورة تتضمّن جوهر الواقع وحقيقته بشكل له مدلوله.
ويقابل صاحب عب بين نظام المحرقات والتقدمات والذبائح المقدمة للخطيئة (الذي ألغي، عب 10: 9)، والجديد المسيحي حيث تقوم تقدمة المسيح جوهريًا بتتميم إرادة الله حسب ما يقول مز 9:40 (عب 7:10، 9). نحن هنا أمام مقولة ذبائحية لم نتعوَّد عليها. فالذبيحة التي نتحدّث عنها تغطي كل وجود يسوع منذ دخوله إلى العالم (عب 10: 5) إلى تقدمة جسده (10: 10). أي موته على الصليب الذي ختم العهد الجديد وأدخل المسيح في السماء لكي يتشفَّع الآن إلى الله من أجلنا (عب 10: 24).
ثالثًا: الرسالة إلى العبرانيين والاحتفال الافخارستي
وإن تكن عب لا تتضمّن تلميحًا واضحًا إلى الاحتفال بالافخارستيا، إلاّ أن تقديمها لذبيحة المسيح يرتبط بهذا الاحتفال. فعشاء الرب (يُقرأ الخبر المؤسّس فيتذكّر معناه المشاركون) ينقل بين الحاضرين الكأس التي هي العهد الجديد في دم المسيح (1 كور 25:11)، ويشركهم في جسده المعطى لأجلهم (1 كور 11: 24). وإن يسوع قد أوضح في لمات العشاء الأخير المعنى الذي أراد أن يعطيه لموته القريب، وهو موت اقتبله "من أجل أخصّائه" أو "من أجل الكثيرين" (أش 53: 12). فهذا الرجوع إلى الحدث التاريخي لموت المسيح، لا يُدخل بُعدًا ذبائحيًا في الاحتفال الافخارستي بمعزل عن الذبيحة الوحيدة التي أتمَّها الصليب مرة واحدة: فتمجيد المسيح القائم من الموت هو وجهة أساسية في الذبيحة عينها. لهذا فعشاء الرب الممجَّد يستحضر في قلب الزمن هذه الذبيحة مع بُعدي الموت والمجد: ويشرك فيها كل أعضاء الكنيسة، لكي يقدّموا بدورهم لربهم أجسادهم كذبائح حيّة مقدَّسة يرضى عنها الله. وهكذا يحققون العبادة العقلية التي تتحدّث عنها روم 12: 1. فالبُعد الذبائحي للحياة المسيحية التي نفهمها كتتميم لإرادة الله نعيشها بمحبة، هذا البُعد يبدو كثمرة طبيعية للممارسة الافخارستية والاتحاد مع المسيح.
وهكذا نرى أن العودة إلى المسيح القائم من الموت تلعب دورًا أساسيًا في فهم الذبيحة فهمًا صحيحًا: يرى الايمان أن الصليب لا ينفصل عن الاحتفال الافخارستي.
هـ- الرجاء المسيحي
وأخيرًا نشدّد على الرجاء الذي يرتبط بهذا الاحتفال إذا تذكّرنا أنه ليس تكرارًا للعشاءات التي شارك فيها المسيح أخصّاءه. صارت المجموعة كنيسة ملتئمة من أجل العبادة الاسكاتولوجية. بالنسبة إلى المسيح، لقد جاء العالم المقبل. بالنسبة إلينا على الأرض، فنحن لا نزال ننتظره. ولكن مجد المسيح يقدّم أساسًا ملموسًا لهذا الانتظار بقدر ما يشكّل إعطاء حياته وارسال روحه الباكورة (روم 8: 23) والعربون (2 كور 1: 22؛ 5: 5؛ أف 1: 14).
لهذا يوجّه عشاء الرب أنظارَ المشاركين نحو تتمّة سر المجد الذي يحمل إلينا "افتداء أجسادنا" (روم 8: 23). وهذا الخلاص الذي هو موضوع رجائنا (روم 8: 24) تنتظره الكنيسة بشوق (روم 8: 19). فالاحتفال الافخارستي لا يذكّرنا فقط بحدث موت المسيح (في الماضي) ولا بحضوره كقائم من بين الأموات (في الحاضر)، بل ينعش فينا رجاء مجيئه الأخير (1 كور 36:11). لهذا تتوافق صلاة ماراناتا (تعال يا رب) مع الجماعة التي تحتفل بعشاء الرب.
هنا يبدو أكثر ما يبدو البُعد الليتورجي لرؤيا القديس يوحنا. نحن لا نجد فقط تلميحًا إلى الاحتفال الاسراري في الرسالة إلى كنيسة لاودكية (رؤ 3:20). بل إن السفر كله ينبسط على خلفيّة ليتورجيا سماوية تجمع في قلبها الله نفسه والحمل المذبوح أي المسيح المائت على الصليب والممجَّد والذي نال لنا الخلاص بذبيحته (رؤ 5).
هذا هو النموذج الرمزي لليتورجيا أرضية تشارك فيها الكنيسة في مائدة الرب الممجّد بانتظار أن تشارك في وليمة عرس الحمل (رؤ 19: 7-9). لهذا، فتعليم الرجاء الموجّه كله نحو عودة الرب المجيدة، يُختتم بالنداء الليتورجي: "تعال أيها الرب يسوع" (رؤ 22: 20).
هذا لا يُلغي الوجهات الأرضيّة للرجاء (سماوات جديدة وأرض جديدة يسكن فيها البر، 2 بط 13:3). كما لا يلغي ضرورة الالتزام الناشط الذي تفرضه المشاركة مع المسيح: هنا نستعيد بالتفصيل عناصر السلوك المسيحي. ولكن الرجوع إلى المسيح الممجّد يعيد تنظيم كل هذه العناصر حوله في نظرة ديناميكية توجّه الانسان نحو مستقبل الله.

4- نتائج عملية
أ- ترؤس الاحتفال
ليس عشاء الرب حفلة خاصّة أو طقسًا تقويًا يهدف إلى التذكير بموت يسوع الذي حصل في الماضي للتكفير عن خطايانا. نحن هنا أمام نظرة خاطئة إلى ذبيحة المسيح المحصورة بموته على الصليب، نظرة تترك جانبًا العودة إلى الرب الذي يعدُّ الآن مائدته لكنيسته.
الفاعل الأوّل في الطقس هو المسيح الممجَّد. والمشاركون يجتمعون كنسيًا (1 كور 18:11) حوله ليصيروا جسدًا واحدًا هو جسد المسيح نفسه بعد أدن يشاركوا في الخبز الواحد.
إذن لن نتساءل عن بنية الجماعة الليتورجية: هي بنية الكنيسة نفسها كجسد المسيح الممجّد والمجسّد في هذا المكان أو ذاك من الكون. فالبنية الخدميّة في الكنيسة تظهر في الجماعة التي يدعوها الرب إلى عشائه. لسنا هنا أمام سلطة أو "سحر" بل أمام وظيفة وخدمة. في بداية الكنيسة، ارتبطت هذه الوظيفة بالرسل الذين هم الشهود المباشرون للقيامة، الذين أكلوا وشربوا مع المسيح الممجّد، الذين نالوا منه مهمّة إعلان الانجيل وتأسيس الكنيسة. وبعد هذا كانت السلسلة الرسولية حتى أيامنا، بل حتى نهاية العالم.
إن الذي يرئس الجماعة يمحَّى أمام المسيح القائم من الموت، المسيح الذي لا يزال يدعونا إلى عشائه نحن الذين نشارك في الكهنوت الشامل لشعب الله (1 بط 2: 9، رؤ 5: 10). الكاهن يرئس الاحتفالي، ولكن الشعب كله يشاركه في تقدمة نفسه وحياته وأعماله، بل في تقدمة العالم كذبيحة روحية يرضى عنها الله.
ب- مشاركة في مائدة المسيح، مشاركة مع البشر
عشاء الرب يحقّق وحدة الحياة بين المسيح الممجّد وكل الذين يؤمنون به. هذا على المستوى العموديّ. وعلى المستوى الافقي يحقّق وحدة بين كل المشاركين، وهي وحدة منفتحة على العالم كله الذي يجمعه الرب في كنيسته التي هي جسده.
إن هذا الاتحاد لا يتوقّف عند بعض العواطف التقوية والنوايا الطيبة. هل يعقل أن يشارك المسيحيون في عشاء الرب ولا يشاركون جنبًا إلى جنب في مائدة بشريّة واحدة؟ كان مؤمنو كورنتوس يجتمعون في كنيسة، ولكن كان كل واحد "يتناول عشاءه الخاص" (1 كور 11: 21). هذا يعني أننا نكذب على واقع عشاء الرب... كم من الحواجز تفصل بيننا نحن الذين نشارك في الجسد الواحد وننسى مقاسمة الخيرات المادية بين فقراء وأغنياء. فالمشاركة في مائدة الرب تشكّل نداء إلى مقاسمة خبزنا اليومي. والمشاركة في دم الرب تشكّل دعوة لمشاركة البشر في حياتهم. لن نبقى على مستوى الاحلام فننتظر تحقيق هذه المشاركة بطريقة آلية. إنها "ثمرة الروح الذي هو محبّة وفرح وسلام وطوله أناة ولطف وصلاح وأمانة ووداعة وعفاف" (غل 5: 22).
لاشكّ في أن الرب يعطي ثمرة روحه للذين يشاركونه في عشائه. يبقى عليهم أن يتجاوبوا ونداءات النعمة فيقولون مع صاحب الرؤيا: آمين. تعال أيها الرب يسوع.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM