الفصل التاسع :في البدءخلق الله العيلة

الفصل التاسع
في البدء خلق الله العيلة

في بداية الكون كانت عيلة: آدم وحواء، قايين وهابيل.
وفي بداية تكوين شعب الله كانت عيلة: ابراهيم وسارة، اسماعيل واسحاق.
وفي بداية تكوين جماعة المؤمنين في المسيح كانت عيلة: يوسف ومريم ويسوع، بانتظار أن تتوسّع هذه العيلة لتضمّ كل الذين "يسمعون كلمة الله ويعملون بها".

1- العيلة الأولى في بداية البشرية
يروي سفر التكوين في الفصلين الأولين كيف خرجت أولا عيلة من يد الله. ونعني بذلك العيلة المثالية: آدم، ذلك المأخوذ من الأرض والعامل في الأرض، وحواء حاملة الحياة في أحشائها وأمّ الأحياء. هذه العيلة الأولى كوّنها الله على صورته ومثاله، فخلق على صورته الانسان، أي الجنس البشري، رجلاً وامرأة، ذكرًا وأنثى. وبارك الجنس البشري وقال له: "انموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدبُّ على الأرض". ليس الرجل وحده صورة الله، وليست المرأة وحدها صورة الله. بل الاثنان يكوّنان صورة الله. كدت أقول: كل واحد نصف صورة الله. فالعيلة هي على صورة الله ومثاله. وكما أن الله يعطي الحياة، كذلك تشارك العيلةُ الله في إعطاء الحياة لأولاد عديدين هم ثمرة الحب بين الرجل والمرأة. لذلك قالت حواء: "اقتنيت ولدًا بالرب".
وهذه العيلة الأولى اهتمّ بها الله كما يهتمّ المهندس ببيت يبنيه، والأب بعيلة جديدة تكوّن وحدة على صورة عيلته الثالوثية، تكون اثنين في جسد واحد. فالرجل، المجبول من تراب الأرض، يشبه تلك الحجارة التي بنى بها الأقدمون بيوتهم في سهول العراق. والمرأة، التي تجعل العيلة كاملة، يبنيها الله بتلك الحجارة التي هيَّأها. البناء بالرجل وحده يبقى ناقصًا. والبناء بالمرأة وحدها هو كبيت لا سقف له يحمي أفراد الأسرة من الأخطار. المرأة ضلع أخذت من الرجل بناها الله وأعطاها للرجل. ويقول التلمود عن هذه الضلع التي بها بنى الرب المرأة: "لم يخلق الرب المرأة من رأس الرجل لئلا تتسلط عليه، ولا من رجليه لئلا تكون عبدة له. بل أخذها من ضلعه لتكون قريبة من قلبه".
ولما تمّ خلق المرأة تكوّنت العيلة في تلك الوحدة والمساواة بين أعضائها. ولم يجد آدم مخلوقًا يناسبه ويكون كفوءًا له إلاّ عندما خلق الله المرأة، فرأى فيها حينئذ قطعة منه، عظمًا من عظامه ولحمًا من لحمه. رأى فيها المرأة، أي المأخوذة من امرئ. ويتعلّم الانسان، على خطى آدم، أن يتخلّى عن العاطفة الوالدية على حساب العاطفة الزوجية: "لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته".
خلق الله الرجل والمرأة وجعلهما في الفردوس. والفردوس صورة عن السعادة التي يتمتع بها الانسان العائش في رفقة الله وصداقته. تحت نظر الله تأخذ المخلوقات والأمور كلها طابعًا الهيًا. حتى حيوانات البرية ووحوش الأرض تخضع للإنسان، تأتمر بأوامره، وهو الذي أعطاها أسماءها. تحت نظر الله ما كان آدم وحواء يخجلان من العري، لأن كل ما خلقه الله كان حسنًا وحسنًا جدًا. ولهذا يقبله الانسان بالحمد متأكدًا من أن كلام الله يقدس كل شيء.
وهذه السعادة التي أعطاها الرب للأسرة سيحدّثنا عنها الكتاب المقدس مرارًا. سعادة بأولاد عديدين يملأون البيت فرحًا وحياة، ويُنسون الأهل شقاء الحياة وصعوباتها. فيقول صاحب المزامير:
طوبى لكل من يخاف الرب ويسلك في طرقه
(من سيفعل ذلك تكون له السعادة والهناء)
امرأتك مثل جفنة مثمرة في قلب بيتك
وبنوك مثل فروع الزيتون حول مائدتك
ليباركك الرب من صهيون
فترى سعادة أورشليم
كل أيام حياتك
وترى بني بنيك (يتمتعون بالسلام).
وهناك سعادة الزوجين اللذين يجمعهما حبٌّ واحد أساسه الله. لأن بني المؤمنين لا ينبغي أن يكون اقترانهم كاقتران الناس الذين لا يعرفون الله. وهكذا نستطيع أن نتأمل بذلك الحب ونشعر برقته ونعومته. ففيه لا يسود الواحد الآخر بفعل القوّة أو الشهوة، بل يكون هناك حوار كله تناغم وتناسق بين قلبين جمعهما الله، ويعبّر سفر نشيد الأناشيد، بشعر ولا أجمل، عن لقاء الحبيب بحبيبته.
فيقول الحبيب: "كالسوسنة بين الأشواك
حبيبتي بين الصبايا"
وتردّ الحبيبة: "كالتفاحة في أشجار الغابة
حبيبي بين الشباب".
وتتذكر الحبيبة كلام حبيبها:
"حبيبي يتكلّم ويقول لي:
قومي يا حبيبتي
يا جميلتي وتعالي
الزهور ظهرت في الأرض
وآن أوان الغناء
صوت اليمامة في أرضنا
يملأ الأسماع
يا يمامتي في شقوق الصخور
وفي مكامن السفوح
دعيني أسمع صوتك
فصوتك حلو يا حبيبتي
ووجهك جميل
حبيبي لي وأنا له".
خلق الله الرجل ليساعد المرأة، والمرأة لتساعد الرجل. وهذا العون المشترك الذي يجده الواحد في الآخر هو مصدر سعادة لعيال الله. فيقول الحكيم يشوع بن سيراخ بطريقته الموجزة:
"ثلاثة أشياء ترغب فيها نفسي
وهي جميلة أمام الرب والناس:
اتفاق الأخوة، وحب القريب،
والتفاهم بين المرأة ورجلها".
ويتوسّع سفر الأمثال بالحديث عن المرأة الفاضلة- والمرأة أساس البيت، فيدلّ على سعادة الرجل الذي يجد مثل هذه المرأة، وهناء الأولاد الذين لهم مثل هذه الأم، فيقول:
"المرأة الفاضلة من يجدها؟
إن قيمتها فوق اللآلئ
قلب رجلها يثق بها
فلا يحسّ بالعوز
تأتيه بالخير دون الشر
جميع أيام حياتها
يقوم بنوها فيقولون: طوباها
ورجلها فيمدحها ويقول:
نساء كثيرات كنّ زوجات صالحات
أما أنت ففقت عليهن جميعًا".
ولكن هذه المسألة التي دعا الله إليها الانسان لن تدوم، بسبب الخطيئة التي جعلت الانسان يتعب في الأرض ويكدُّ، وهي تعطيه الشوك والحسك. هذه الخطيئة جعلت المرأة تكثر مشقاتها بالحمل والولادة، وتنقاد إلى زوجها الذي يسود عليها ويعاملها كأمة في بيته أو كشيء يملكه، وجعلت الأخ يقتل أخاه حسدًا وغيرة، والرجل يتزوج أكثر من امرأة واحدة، فاتحًا المجال أمام الغيرة الزوجية وما يتبع ذلك من بغض وانتقام لا حدّ لهما. وبدلاً من أن يعمّ الخير والسعادة العالم، نرى الشر يعمُّ المسكونة كلها، فيندم الرب على خلقه الانسان، وقد انقاد أبناؤه إلى تيار هذا العالم الشرير ونسوا الرب الذي أغدق بركاته عليهم.
ولكن مخطّط الله على العيلة لا يمكن أن يزول، بل سيتحقّق تدريجيًا رغم رفض الناس له. فلقد وعد المرأة بأنه سيأتي من نسلها من سيسحق قوى الشر المتمثّلة بالحيّة. كما أن أخنوخ كان من القداسة بمكان حتى إنه بعد أن أتمّ حياته كاملة على الأرض ارتفع عند الله. ونوح سيكون أبا البشريّة الجديدة بعد الطوفان، فتصبح السفينة فردوسًا جديدًا ينطلق منه مع عيلته وعيال أبنائه ليبنوا عالمًا جديدًا ببركة الله. وهذه البركة ستصل إلى ابراهيم لتنطلق من عيلة صغيرة إلى عيلة الله، إلى ذلك الشعب الذي سيتزوَّجه الرب بالبر والقداسة

2- عيلة شعب الله
ويدعو الله ابراهيم ليؤسِّس بواسطته عيلة شعب الله التي ستستقبل البركة في شخص المسيح. ولكن الطريق التي سيسير عليها شعب الله هذا هي عكس الطريقة التي سار عليها آدم. آدم انطلق من عيلة حسنة صالحة كما خرجت من يد الله. أما ابراهيم فسينطلق من عالم وثني خاطئ سيفتديه الله ويوجّهه لتعود الخليقة إلى نقائها الأول، والعيلة إلى نصاعتها الأولى. ولكن الصورة تبدو قائمة في بداية مسيرة شعب الله.
فابراهيم نفسه، وهو الذي اختاره الله وباركه ببركات عديدة، يتصرّف كما تتصرّف الشعوب الوثنية، فتتعدّد زوجاته من سارة إلى هاجر إلى قطورة. وكل همّه كثرة البنين ليكون له السلطان والعظمة على حساب الحب الزوجي الذي يجمع بين الرجل والمرأة ويجعل منهما جسدًا واحدًا. ونراه يعامل امرأته المفضّلة، سارة، بطريقة لا تليق بالانسان العادي، فكيف بالمؤمن؟ وذلك عندما يبيعها تارة لفرعون، وتارة لأبيمالك، فينجو بحياته ويكون له على حسابها غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال، ويحظى ببركة فرعون الذي أرسل من قبله قومًا يشيِّعونه هو وامرأته وكل ماله. وأما من جهة أولاده، فقد أرسل اسماعيل إلى الصحراء ليعيش تائهًا فيها كالحمار الوحشي، ووزّع أبناء قطورة في الشرق ليبقى الميراث كله لإسحاق.
أما يعقوب فتزوّج امرأتين شقيقتين: راحيل وليئة، وفضّل الواحدة على الأخرى. ثم تزوّج جاريتين مع امرأتيه: بلهة وزلفة. فدبت الغيرة بين الشقيقتين، وتعالى الحسد بين الإخوة. ولما فضّل الأب ابنَيْ راحيل، تعاطف الأخوة الآخرون وعزلوا بنيامين تاركينه في أحضان والده، وباعوا يوسف بيع العبيد بعد أن تراجعوا عن عزمهم على قتله. ونستطيع أن نذكر اسماعيل بن ابراهيم وما تزوّج من نساء؛ وعيسو شقيق يعقوب الذي تزوج من اثنتين من بنات حث في كنعان قبل أن يتزوج من نسل اسماعيل، فكان له النساء والبنون والبنات. وموسى، كليم الله وصاحب الشريعة، لم يتورّع من أن تتعدّد زوجاته، حتى دبّ الخلاف بينه وبين أخويه هارون ومريم. كما أن داود تزوج من النساء في كل مكان كان يمرّ به: ميكول ابنة شاول، وأبيجائيل بعد مقتل زوجها، وبتشابع التي زنى بها ثم قتل زوجها أورّيا وتزوجها، وحتى في أواخر حياته ستكون له أبيشاج الشونمية. أما سليمان فكان له سبعمائة زوجة، وثلاثمائة سرية، فأزاغت نساؤه قلبه وملن به إلى اتبّاع آلهة غريبة، حتى سئم الأنبياء من وجود ملك في اسرائيل، فنبهوا الشعب إلى خطر الملك الذي يتّخذ بناتهم فيجعهلم إماء وأبناءهم فيجعلهم عبيدًا. وقال ابن سيراخ عن سليمان:
"أملت فخذيك إلى النساء
واستعبدت لجسدك
جعلت عيبًا في مجدك
ونجّست نسلك
فجعلت الغضب على بنيك
الذين ناحوا على جهالتك".
هذا هو الوجه القاتم للزواج كما مارسه شعب الله. فكتبوا في مدنهم وبين قبائلهم شريعة تناسب قساوة قلوبهم، كما قال عنهم السيد المسيح. وتناسوا أن الزواج يجعل من الرجل والمرأة جسدًا واحدًا، فسمحوا للرجل دون المرأة بأن يطلق امرأته ساعة يشاء لمجرد أنها لا تعجبه. يكفي لذلك بأن يكتب لها كتاب الطلاق ثم يصرفها. وسمحوا له بتعدّد الزوجات، فرأوا من الطبيعي أن تكون له زوجتان، ففي تعدّد النساء علامة قوة وغنى وجاه وعظمة. ولن نتوقّف طويلاً عند حالة المرأة، وهي ملك زوجها الذي تسميه بعلها، وهو يستطيع أن يفعل بها ما يشاء. هي ملزمة بالأمانة التامّة له، أما هو فله الحق بأن يخونها، وأن يصرفها إلى بيت أبيها. أما هي فلا حقّ لها بطلب الطلاق، ولا بالميراث، ولا تُقبل شهادتها أمام المحكمة. وأما الأولاد فهم أيضًا ملك الأب يستطيع أن يبيعهم أو يقتلهم أو يقدّمهم ذبيحة للآلهة الوثنية.
وينطلق الله من حيث وصلت إليه البشرية من فساد، ليقودها إلى الهدف الذي رسمه لها. فكما أن الأب يؤدِّب ابنه ويعطيه التربية اللازمة، هكذا يفعل الله مع شعبه ليقوده ويرفعه إلى مستوى العهد الجديد بتعليمه السامي عن الزواج والعيلة. ويتّخذ تيّارُ بناء العيلة طريقين: طريقًا اجتماعيًا يشدّد فيها الكتاب على شعاع ضئيل من العدالة، وطريقًا دينيًا ينطلق معها من الفكرة القائلة بأن أبناء شعب الله قديسون، فلا يجوز لهم أن يتصرّفوا كالوثنيين الذين لا يعرفون الله.
فالشريعة الموسوية كانت محطة أولى تقود الناس إلى شريعة المسيح. هي لم تعط كمال الشريعة، إنما رسمت بضع محطات ووضعت حدودًا للناس يجب أن لا يتعدّوها. فمثلما وضعت حدًا للانتقام بشريعة المثل: "سنّ بسنّ، وعين بعين"، وكما شرّعت بالنسبة إلى القاتل الذي يقتل عن قصد، وضعت أيضًا بعض الحدود لتسلط الرجل واستبداده؛ ففرضت بعض الشروط للطلاق، ونظمت حياة الأسرة بأولادها العديدين، مشدّدة على دور الأم، مذكّرة بأن البنين هم عطيّة من الله وبركة منه. وعلى هذا نستطيع أن نسمع نداءات الأنبياء والحكماء؛ فيعلن ملاخي أن الرب لا يرضى عن المؤمن الذي يترك زوجته: "نقضت العهد بينك وبين المرأة التي تزوّجتها في صبائك. هي قرينتك وأنت نقضت العهد معها رغم أن الرب كان شاهدًا لوعدك لها. ألم يصنعها الله معك جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا؟ وما كان هدفه من ذلك؟ أن يكون لكم أبناء يكونون زرع الله. إذًا، اضبط نفسك ولا تغدر بامرأة حياتك".
ويتوسَّع يشوع بن سيراخ في تفسير بعض مضامين الشريعة، فيقول:
"من الناس صنفان يُكثران الخطايا
وصنف ثالث يجلب الغضب:
الرغبة المتوهّجة التي تشتعل كالنار
والانسان الذي يسلم للنجاسة جسده البشري.
فالانسان الزاني كل خبز يحلو له
ويقوله في قلبه: من يراني؟
حولي الظلمة والحيطان تسترني
ولا أحد يراني. فماذا أخاف؟
وهو لا يعلم أن عيني الرب
تراقبان جميع أعمال البشر
وتطلعان على الخفايا...
وهكذا أيضًا المرأة التي تخون زوجها".
ويحدّثنا سفر الجامعة عن الأمانة الزوجية، فيدعو الرجل إلى أن يعرف أين يجد سعادته، فيقول: "تمتَّع جميع أيام حياتك الفانية بالعيش مع المرأة التي أحببتها وأوتيتها تحت الشمس لتقضي أيامك الفانية، فإن ذلك حظّك من الحياة".
ويفسر لنا سفر الأمثال كيف أن الحبّ الأول هو حبّ الحياة كلها، وأنه يجب علينا أن نهرب من التجربة، فيقول:
"يا بني، أصغ إلى حكمتي، وإلى فطنتي أمل أذنك:
لا تلتفت إلى إغواء المرأة...
أبعد طريقك عنها ولا تدْنُ من باب بيتها...
إشرب ماء من بئرك...
ليكن منبعك مباركًا وافرح بامرأة صبائك...
فالرب يراقب طرق الانسان
ويلاحظ جميع دروبه".
أجل! رغم خطيئة الانسان، يقول ابن سيراخ: "لا ينسى الله مراحمه ولا يترك كلامه يضيع، ولا يهلك ذرية محبّيه". ولذلك نرى في الكتاب المقدس إلى جانب هذه الحالات، وجوها جميلة مثّلت العيلة بطريقة لائقة كما خرجت من يد الله. نذكر يوسف بن يعقوب، ذلك الحسن الهيئة والجميل المنظر، الذي رفض كل إغراءات إمرأة فرعون ليحفظ زوجة معلّمه فلا يخون من ائتمنه على كل شيء، مفضّلاً أن يودَع السجن على أن يصنع سيّئة كهذه ويرتكب الاثم في عين الله. ونذكر والدي شمشون اللذين تراءى لهما ملاك الله ووعدهما بابن يكون مكرسًا للرب. ونذكر حنة أم صموئيل، تلك العاقر التي قال لها زوجها ألقانة: "ما بك باكية؟ ألست أنا خيرًا لك من عشرة بنين"؟ ويمكننا أن نتوقّف خاصة على سفر طوبيا، حيث نجد العيلة كخليّة يمرّ عبرها إرث الأمّة الروحي، كما نرى مجموعة الفضائل التي تحفظ تماسك الأسرة، وأهمّها احترام الوالدين، والزواج العفيف الذي يؤمّن مستقبل الشعب، وبه يمرّ التقليد من الآباء إلى البنين.
يتزوّج طوبيت، أبو طوبيا، بحسب إرادة الله، فيتخذ امرأة من سبطه، ويؤدّب ابنه منذ صغره على خوف الرب والابتعاد عن الخطيئة. ويدعوه إلى اجتناب الزنى وإلى الاقتران بامرأة من قبيلته، لئلا ينسى إيمانه إذا ما اقترن بامرأة غريبة. ويتزوّج طوبيا، فيُفهمه الملاك أن الشيطان يقوى على الذين عندما يتزوجون ينفون الله من قلوبهم ويتفرّغون لشهواتهم كالفرس والبغل، وأن عليه أن يكون راغبًا في البنين أكثر من الشهوة لكي ينال في بنيه بركة ذرية ابراهيم. وهذا ما سيفهمه طوبيا عندما يقترن بسارة، فيقضي ليلته في الصلاة لكي يكون اتحاده بامرأته نتيجة اتحادهما بالله، ثم يقول: "أنت تعلم، يا رب، أني لا لسبب الشهوة اتَّخذ أختي زوجة، وإنما رغبة في النسل الذي يبارك فيه اسمك إلى دهر الدهور".
ولكن قوى الشر والوثنية لا تزال تهاجم شعب الله، فتجعله ينسى شريعة الله ويتأثّر بأمثلة عديدة من الرجال الذين تزوّجوا بروح وثنيّة. فمارسوا الطلاق وتعدّد الزوجات، وفعلوا الزنى وكل رجاسات الأمم، وأهملوا تربية البنين. فارتفع صوت الأنبياء الذين أعطوا مقابل ذلك صورة عن الله الذي هو الزوج الأمين لشعبه رغم خيانة شعبه له. فنفهم الحياة الزوجية الحقّة من خلال علاقة الله بشعبه: وحدة الله بشعبه لا يؤثّر فيها شيء، لأن أساسها حب الله لشعبه حبًا لا يتورّع عن أن ينحدر إلى مستوى هذا الشعب، فيذكّره بزمن الخطبة في الصحراء ويدعوه إلى الحب القديم الذي عاشه مع ربه، والذي يمكنه أن يعيشه من جديد إذا عاد إلى ربّه بالتوبة.
فانطلاقًا من هذه النظرة السامية، يكتشف الشعبُ من جديد أن الزواج عهد بين رجل وامرأة. وأن العلاقة القانونية ترتبط بعناصر عاطفية، كالحب والأمانة وتعلق القلب. وهكذا تصبح العلاقة بين الله والشعب النموذج المثالي للعلاقة القائمة بين الرجل والمرأة يوم الزواج.

3- عيلة يسوع المسيح
مع المسيح يبلغ الوحي ذروة كماله. ومع عيلة يسوع نرجع إلى العيلة الأولى. ويسوع هو آدم الجديد. بآدم الأول جاءتنا الخطيئة، وبآدم الثاني فاضت علينا النعمة. جاء المسيح ليعيد إلى العالم نقاءه الأول كما خرج من يد خالقه. فكان لنا بمجيئه "نعمة فوق نعمة". عيلة يسوع على الأرض، بين يوسف ومريم، تعيش على ما تفرضه شريعة الرب، وتساعد الطفل لكي ينمو ويترعرع ويمتلئ حكمة، فتحلّ نعمة الله عليه. عيلة يسوع هذه صورة مصغّرة عن العيلة الكبرى التي سوف يؤسّسها هو وينشرها في الأرض كلها، ويكون أمه وأخوته فيها كل من يعمل بمشيئة الله.
دخل يسوع عيلة بشرية، فقدّسها وقدّس معها كل عيلة على الأرض، وجبلها بالمحبة لتصير على مثال عيلة الثالوث الأقدس. وإذا أردنا أن نتصوّر طبيعة العلاقة القائمة بين يسوع ومريم ويوسف، فما علينا سوى أن نتذكّر بعضًا من الحوار الذي أورده يوحنا الرسول على لسان يسوع مع أبيه السماوي: "أنا والآب واحد"؛ "إن الآب فيّ وأنا في الآب"؛ "وجميع ما للآب هو لي"؛ "الآب يحبّ الابن، والابن يحبّ الآب"؛ "فما يصنعه الآب يصنعه الابن على مثاله". وهذه العلاقة الحميمة بين الآب والابن يريدها يسوع أن تتجسّد في كل مؤمن في علاقته مع الرب، وفي كل عيلة. فيكون الاتحاد والتفاهم والمحبة والعطاء والتضحية أساس التعامل بين أفراد الأسرة. يقول الكتاب: "كونوا قديسين لأني أنا قدوس". وطلب منّا أن نحفظ وصايا الرب وأحكامه، كما أن يسوع نفسه قال لنا "كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي كامل هو".
نتوقّف في الانجيل عند ثلاثة مشاهد مهمّة:
المشهد الأول: مثل الابن الضال الذي شطر العيلة وأملاك الأب، وذهب بعيدًا عن جوّ المحبة وحنان الوالد، فسُمّي الابن الشاطر. ولكنه عندما يعود إلى البيت يجد من جديد هذه المحبّة الغافرة تنتظره بشخص أبيه؛ في حين أن أخاه الأكبر تصرف كالفريسيين الذين يعتبرون الحق والشرع فوق المحبة، فرجموا الزانية ولم يسمحوا لها بأن تستعيد حياتها الماضية، فلا تعود إلى الخطيئة.
والمشهد الثاني: يسوع في عظته على الجبل يتلفَّظ بهذه الكلمات عن الزنى والطلاق: "سمعتم أنه قيل لآبائكم: لا تزن. أما أنا فأقول لكم: مَنْ نظر إلى امرأة فاشتهاها، زنى بها في قلبه... وقيل أيضًا: من طلّق امرأته، فليعطها كتاب طلاق. أما أنا فأقول كم: من طلّق امرأته، إلاّ في حالة الزنى، يجعلها تزني. ومن تزوج مطلقة زنى". ففي العهد القديم كان الزنى يعتبر مسًّا بملكية الرجل لامرأته. أما في الانجيل فهو تعدّ على احترام المرأة التي هي صورة الله كالرجل.
والمشهد الثالث: حوار بين يسوع والفريسيين حول الطلاق. أراد الفريسيون أن يُحرجوه، فأحرجهم. وأرادوا أن يختبروه، فوقعوا تحت الاختبار. وضعوه في جوّ نقاش مدارسهم المتعفنة في تفسير الشريعة ومخالفة وصيّة الله بسبب التقاليد، فسألوه: "أيحلّ لأحد أن يطلق امرأته لأية علّة كانت"؟ فأجابهم يسوع مستعيدًا كلام سفر التكوين: "أما قرأتم أن الخالق من البدء جعلهما ذكرًا وأنثى، وقال: لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويتَّحد بامرأته، فيصير الاثنان جسدًا واحدًا. فلا يكونان اثنين، بل جسدًا واحدًا. وما جمعه الله لا يفرّقه الانسان". بهذه الكلمات القاطعة شدّد يسوع على وحدة الزواج وعلى عدم الانفصال بين الزوجين، وقد صارا جسدًا واحدًا. ولقد قال بولس معقِّبًا على كلام المسيح: "ليكن لكل رجل امرأته، ولكل امرأة زوجها. وعلى الزوج أن يوفي امرأته حقها، كما على المرأة أن توفي زوجها حقّه. لا سلطة للمرأة على جسدها؛ فهو لزوجها. وكذلك الزوج لا سلطة له على جسده؛ فهو لامرأته... إذن، لا تفارق المرأة زوجها وإن فارقته فلتبقَ بغير زواج، أو فلتصالح زوجها. وعلى الزوج أن لا يطلّق امرأته".
إنَّ ما نلاحظه في هذه المشاهد الثلاثة إنما هو تساوي المرأة والرجل. ففي عهد المسيح، عهد الفداء والنعمة والتبنّي لله، "لم يعد هناك فرق بين يهودي وغير يهودي، بين عبد وحر، بين رجل وامرأة، لأن الكل واحد في المسيح يسوع". وهذه المساواة لا تعني أن المرأة تستطيع أن تتصرّف كالرجل، وإن كان تصرفه خاطئًا، بل تعني أن الرجل والمرأة يتساويان أمام شريعة الرب. فما يُسمح به للرجل يُسمح به للمرأة، وما يُمنع على الرجل يُمنع على المرأة. وكما أن المرأة بعقلها وقلبها وجسدها وروحها هي للرجل، كذلك الرجل هو للمرأة بعقله وقلبه وجسده وروحه. وكلنا يعلم أن "الجسد ليس للزنى"، وأن على كل إنسان "أن يهرب من الزنى" الذي يشبه خطيئة عبادة الاوثان. ففي الحالة الأولى يخون الانسان عهده لامرأته، وفي الثانية يخون عهده لربه؛ فضلاً عن أن "الزاني يُذنب إلى جسده وينسى أن جسده هو هيكل الروح القدس". وإذا وقع الرجل في هذه الخطيئة، فعلى المرأة أن تغفر له، وهي التي تعلم أن الرب لا يغفر لنا إن لم نغفر نحن لمن أساء إلينا.
وإذا سقطت المرأة، فليعرف الرجل كيف يغفر لها، لأن شريعة المغفرة تسري عليه هو أيضًا، فلا يكون تصرّفه كالوثنيين الذين "يفعلون بالغير ما لا يريدون أن يفعل الغير بهم". ويعاقبون الناس على طريقتهم متناسين أن عقابهم من الله سيكون أعظم.
في الرسالة إلى أهل أفسس، يحدّثنا القديس بولس عن الزواج المسيحي، وعن نوعيّة الرباط الذي يربط بين الرجل والمرأة. إنه على مثال الرباط القائم بين المسيح والكنيسة، المبني على الخضوع من جهة، والمحبة والتضحية من جهة أخرى، فيقول: "أنتم، يا من فيكم خوف المسيح، إخضعوا بعضكم لبعض. أيتها النساء، اخضعن لأزواجكنّ كما تخضعن للرب... وكما تخضع الكنيسة للمسيح، فلتخضع النساء لأزواجهنّ في كل شيء. أيها الرجال، أحبّوا نساءكم مثلما أحب المسيح كنيسته وضحّى بنفسه من أجلها... فليحبب كل واحد منكم امرأته مثلما يحب نفسه ولتحترم المرأة زوجها". ويذكر الرسول الواجبات المتبادلة بين الأهل وأولادهم، فيقول: "أيها البنون، أطيعوا والديكم في كل شيء، لأن هذا يرضي الرب. أيها الآباء، لا تغيظوا أبناءكم لئلا ييأسوا". وفي موضع آخر يقول: "لا تثيروا غضب أبنائكم، بل ربّوهم حسب وصايا الرب وتأديبه". هكذا يتصرّف المؤمنون الذين يحملون مخافة الرب في قلوبهم، لأن همّهم الأوحد أن يرضوا الله أوّلاً وآخرًا. وعلى هذا يقول الرسول: "ومهما تعملوه، فاعملوه من كل قلوبكم كأنه للرب لا للناس عالمين أن الرب سيكافئكم بميراثه. فأنتم تخدمون الرب المسيح".
بالمسيح يسوع تجدّدت العيلة وتقدّست. فصار الزواج رمزًا إلى اتحاد المسيح بالكنيسة. وإن كان هذا الاتحاد سرًا، فاتحاد الرجل بالمرأة هو سر أيضًا؛ لأن به تمرّ نعمة الله وحياته إلى البنين، ولأن الزواج هو تلك العلامة الحسية المنظورة التي تدلّ على حقيقة غير منظورة. فحب الوالدين لأولادهم هو علامة تدلّنا على اتحاد الأقانيم في الثالوث الأقدس. والرباط الذي يجمع بين الرجل والمرأة علامة على الرباط القائم بين المسيح والكنيسة، وأساسه الأمانة الآتية من الايمان.
وانطلاقًا من هذه الحياة الجديدة التي لنا في المسيح، يجب أن يتبدّل تفكيرنا وكلامنا وتصرفاتنا؛ أي أن نعود فننظر إلى فوق ساعين إلى الأمور التي في العلاء، حيث المسيح جالس عن يمين الله. ويذكّرنا الرسول ببعض النصائح التي، إذا عشناها كما ينبغي، تضعنا على مستوى إنجيل المسيح ودعوتنا المسيحية، فيقول: "أميتوا، إذن، ما هو أرضي فيكم، كالزنى والدعارة والهوى والشهوة الرديئة والطمع... تلك أمور تجلب غضب الله. تخلّصوا من كل ما فيه غضب ونقمة وخبث وشتيمة. لا تتلفّظوا بالكلام البذيء، ولا يكذب بعضكم على بعض، لأنكم خلعتم الانسان القديم وكل أعماله، ولبستم الانسان الجديد... أنتم الذين اختارهم الله وقدّسهم وأحبّهم. إلبسوا عواطف الحنان والرأفة والتواضع والوداعة والصبر. احتملوا بعضكم بعضًا. وليسامح بعضكم بعضًا، إذا كان لأحد شكوى من الآخر. وكما سامحكم الرب، سامحوا أنتم أيضًا. والبسوا فوق هذا كله المحبة، فهي رباط الكمال. وليملك في قلوبكم سلام المسيح. فإليه دعاكم الله لتصيروا جسدًا واحدًا".
فعلى ضوء هذا التعليم الجديد وهذه الروح الجديدة، نستطيع أن نفهم عظمة سرّ الزواج وكرامة الأسرة المسيحية وعلى نور المسيح نستطيع أن نفهم متطلباتها، وبقوته ونعمته نقدر أن نتغلّب على الصعوبات والآلام التي يمكنها أن تنتابنا. نلبس عواطف المسيح فنتصرف على مثاله. ونتطلع إلى تضحية المسيح من أجل كنيسته، فنعرف أن التضحية وحدها تبني العيلة، وأن محبة الذات والأنانية أصل كل الشرور.
في الله ثلاثة أشخاص، وفي العيلة ثلاثة أشخاص أيضًا: الأب والأم والولد. وهؤلاء الثلاثة تجمعهم المحبة والتضحية والعطاء والتجرّد والثقة المتبادلة. فبقدر ما يحب الواحد الآخر بقدر ذلك ينسى ذاته ويجد سعادته العظمى في هذا النسيان بالذات. على هذا الشكل تصوّرَ الرسّام الروسي روبليف، الثالوث الأقدس، أي تلك العيلة التي فيها يحب الآب ابنه ويعطيه كل ما له، ويحب الابن أباه ويعطيه كل ما له، ويكون الروح القدس تلك المحبة الجامعة بين الآب والابن. في تلك الأيقونة نرى ثلاثة أشخاص؛ وكل شخص منهم لا ينظر إلى ذاته بل إلى الاثنين الآخرين. لأن العطاء يفترض الخروج من الذات والتطلّع إلى الآخر. وهذه الأيقونة يجب أن تظل ماثلة في قلوب عيالنا، فيعرف الأب أن يتطلع إلى امرأته وابنه، وتعرف الأم أن تتطلع إلى زوجها وابنها، ويعرف الولد أن يتطلع إلى أبيه وأمه وهو ثمرة حبهما.
مثل هذه العيلة المجتمعة والمتحدة باسم المسيح هي بيت الله، والمكان الذي يرتاح فيه الرب، وهو الذي قال: "إذا ما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فأنا أكون بينهم".

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM