الفصل الثامن البشارة
 

الفصل الثامن
البشارة
1: 26- 38

إن خبر البشارة يقدّم لنا مثالاً رائعًا عن الطريقة التي بها يكلّمنا الانجيل والتي بحسبها نقرأه. نُخطئ إن نحن بحثنا عن تقرير أمين لمحادثة بين مريم وجبرائيل، أو جعلنا منه دراسة سيكولوجيّة عن نفسيّة البتول. نحن أمام تعليم لاهوتيّ يقدّمه لنا لوقا في هذه الصفحة الجميلة بواسطة حوار يورده بين أم يسوع ورسول السماء.
وقبل أن نميّز بين المعطى التقليديّ الذي تسلّمه لوقا، والتقديم الأدبيّ الذي ارتداه هذا النصّ، لا بدّ من إدراك التعليم الذي يريد أن يلقّننا إيّاه عَبْرَ تحليل البُنية التي يعطيها لهذه المقطوعة. إعتاد لوقا أن يكيّف المبنى على المعنى، ونحن نكتشف الواحد، فنلِج الآخر.
بعد مطلع يقدِّم لنا المشهد والأشخاص (آ 26- 27)، نقرأ الحوار الذي يشكّل جوهر الخبر وينقسم إلى مرحلتين (آ 28- 33 وآ 35- 37) عَبرَ السؤال المركزيّ في آ 34. وترد خاتمة قصيرة فتنهي المشهد (آ 38).

1- المَطْلع (آ 26- 27)
منذ البداية تقدّم لنا الآيتان الأولَيان ملاحظاتٍ جديرةً باهتمامنا: ملاحظةً حول الزمان، تربط هذه البداية لطفولة يسوع بما قيل عن طفولة يوحنا المعمدان. حبلت أليصابات فاعتزلت (اختبأت) في بيتها خمسة أشهر (آ 24). "وفي الشهر السادس" من هذا الحساب نفسه، سيُحبل بيسوع. وحين ذهبت مريم إلى أليصابات غداةَ البشارة (آ 29) بقيت عندها "ثلاثة أشهر" (آ 56) حتى ولادة يوحنّا المعمدان.
وهناك معطية المكان. تدلّ ناصرة الجليل على قرية صغيرة غير معروفة، بل محتقرة (يو 1: 46). ولكن التنقيبات الأخيرة دلَّت على وجودها منذ زمن الملوك في شعب إسرائيل.
وبعد هاتين الملاحظتين يقدّم لنا لوقا الأشخاص: مريم. ويشدّد النصّ مرّتين على وضعها كبتول. ويوسف خِطّيبُها لا زوجها (رج مت 1: 18، 20) هو من بيت داود. لا يقول النصّ إن مريم انتمت إلى السلالة الداوديّة، ولكنه لا ينكر هذا الانتماء الذي تحدّث عنه تقليد آباء الكنيسة. فضّل بعض الشرّاح القول إنها من نسل هارون بسبب قرابتها مع أليصابات (آ 36: نسيبتك اليصابات، آ 5: اليصابات من سلالة هارون). ولكن قد نكون أمام قرابة بالزواج والتعاهد بين قبيلتين. ونلاحظ أنّ عب 7: 13- 14 تنفي ارتباط يسوع بكهنوت إسرائيل: "ينتمي يسوع إلى عشيرة ما قام أحد منها بخدمة المذبح. فمن المعروف أنّ ربّنا طلع من يهوذا".
يبقى أنّ العهد الجديد لا يؤكّد على أصل مريم الداوديّ بطريقة واضحة. وفي أيّ حال، ليس هذا التأكيد بأمر ضروريّ ليكون يسوعُ حقُّا "ابنَ داود". فأبوّة يوسف الشرعيّة تكفي لتثبت هذا اللقب (رج مت 1: 1، 6؛ 16: 20- 25). ولكن إن قلنا إن مريم هي ابنة هارون، جمعنا في شخص يسوع المُلك والكهنوت: هو ملك بأبيه إذ يوسف هو ابن داود؛ وهو كاهن بأمّه قريبةِ أليصابات.

2- القسم الأولّ من الحوار: يسوع ابن داود (آ 28- 33)
بعد هذا المطلع يَرِد الحوار الذي نقرأه بإنعام نظر. يبدأ بسلام الملاك لمريم (آ 28). في الواقع، لا نستطيع حقًّا أن نتكلم عن "سلام" وتحيّة. إنَّ "خايري" تمثّل التعبير العاديّ للسلام عند اليونانيّين، وقد استعمله متى (26: 49؛ 28: 9) ولوقا نفسه (أع 15: 23؛ 23: 26). ولكن لوقا يعرف أيضًا الطريقة اليهوديّة لتقديم التحيّة التي تتمنّى السلام (لو 10: 5: السلام على هذا البيت؛ 36:24: سلام عليكم) وقد كان باستطاعته استعمالها في إطار هذين الفعلين اللوقاوّيين (ف 1-2) المطبوعين بالطابع الساميّ. فإن قال "خايري" رغم كلّ شيء، فلأنه أعطى هذه اللفظة معناها الأوّل: "ابتهجي". وهذا القول تؤكّده عدة مقاطع في السبعينيّة أثَّرت عليه، مقاطع نجد فيها هذه اللفظة التي يرافقها نداء إلى الفرح المسيحانيّ.
نقرأ في صف 3: 14: "ترنمّي (ابتهجي) يا ابنة (مدينة) صهيون. إفرحي وتهلّلي بكل قلبك، يا ابنة اورشليم". ينبع الفرح من الغفران والمحبة. إنتهى الخوف وصار الله حاضرًا. وهذا الفرح ليس فقط باطنيًّا، بل يعبّرون عنه بالهتاف.
وفي يوء2: 21: "لا تخافي أيتّها الأرض، ابتهجي وافرحي لأنّ الربّ صنع أعمالاً عظيمة". وفي زك 9: 9: "ابتهجي جدّا يا بنت صهيون، واهتفي يا بنت أورشليم، هوذا ملكك يأتيك" (رج زك 2: 14؛ اش 12: 6؛ 54: 1: دعوة إلى الفرح في صيغة المفرد؛ اش 44: 23؛ 49: 13؛ ار 31: 17، في صيغة الجمع).
إبنة صهيون (وصهيون هي التلّة في أورشليم، حيث يرتفع الهيكل والقصر الملكيّ) هي أورشليم وهي مدعوّة إلى أن تبتهج بسبب مجيء الله أو حضوره: "الربّ هو ملك في وسطك" (صف 3: 15). "تعرفون أني أنا الربّ في وسط إسرائيل" (يوء2: 27). "ها ملكُك يأتيك" (زك 9: 9؛ رج مت 21: 5).
حين نتذكّر أن لوقا يحبّ أن يستلهم السبعينيّة، ولا سيّما في إنجيل الطفولة، وحين نلاحظ الاطار الذي ورد فيه هذا الفعل في صيغة الأمر (خايري)، لن نشكّ بهذا المعنى. فمريم مدعّوة إلى الفرح الذي غمر أورشليم. والباعث على هذا الابتهاج هو هو: "الرب معك". ففي كلتا الحالين، نحن أمام زيارة الله المسيحانيّة التي وِعد بها منذ القديم وتحقّقت الآن. أو بالأحرى، ما كان لأورشليم مستقبلاً قريبًا، صار لمريم حاضرًا مباشرًا. فالبُشرى التي أُعلنت للشعب المختار من أجل رسالة، للبقيّة الأمينة للربّ ولوصاياه، هذه البشرى تركّزت منذ الآن في شخص مريم. فعليها أن تبتهج لأنّ الربّ هو "معها" ليكون مع شعبها. ستتقبّل الزيارة المسيحانيّة من أجل بني إسرائيل، وفي هذا، تبدو أنها موضوع نعمة خاصّة. ولهذا قال النصّ: "كاخاريتوميني".
ترجم اللاتين هذا الفعل: ممتلئة نعمة، وكذلك فعلَ السُريان (مليت طيبوتو). وهكذا صرنا في طريق الاستنتاجات اللاهوتيّة وتركنا بعض الشيء عالم التأويل الكتابيّ. فكر الشُرّاح بالنعمة المبرّرة، وقدّموا نظريّاتهم حول الملء (والكمال) الذي حصلت عليه مريم، فصارت أسمى من كلّ خليقة، ولكنّها ظلّت أدنى من المسيح.
مِثلُ هذا التفسير ليس بخاطئ، ولكنه يرتبط لا بالمعنى الحرفيّ، بل بالمعنى الناتج عن هذا المعنى الحرفيّ. فلفظة "خاريس" التي تشتقّ منها "كاخاريتوميني" لا تدلّ في العهد الجديد على النعمة المبرِرّة، بقدر ما تدلّ على حنان (جميل، معروف) الله الذي يقوم بعمل خيّر ومجّانيّ: إنها تدلّ بصورة مباشرة على فعلة مبادرة الله الذي ينحني على الخليقة مدفوعًا بحبّه فقط. إنه يختارها ويجعلها موضوع رضاه ومسرّته.
وهذا ما نقوله عن مريم حين اختارها الربّ لتتقبّل الزيارة المسيحانيّة. إنها موضوع نعمة فريدة وامتياز دائم. ولهذا اقترح بعضهم أن نترجم لفظة كاخاريتوميني: مميّزة.
لا شكّ في أنّ لطف الله ومبادرته يغمُران المؤمن. أمّا هذا النصّ فيشدّد على نعمة الله المجّانيّة لا على النتائج التي تحملها هذه النعمة إلى الخليقة. إنه يشدّد على امتياز فريد حصلت عليه مريم، لا على الكمال الذي نتج عن هذا الامتياز في نفسها.
ولفظة "كاخاريتوميني" هي في صيغة الماضي التامّ، لأن مريم هي منذ الأزل وتبقى إلى الأبد موضوعَ حُظوة فريدة تفترضها موهبة الأمومة المسيحانيّة.
"ابتهجي، يا مميّزة، الربّ معك". تلك أفضل ترجمة لكلمة الملاك هذه. لسنا فقط أمام تحيّة إكرام تلفت النظر إلى استحقاقات مريم، بل أمام نداء الفرح الذي يعلن نعمة الله الخيّرة، ويجعلنا نستشف زيارته القريبة كما أنبأ بها الأنبياء في الماضي.
مِثلُ هذا الكلام ليس بدايةَ دخول في حديث، وليس تحيّةَ مجاملة. بل هو حضور عميق ويتضمّن في كثافته الغنيّة بذار ما سيتبع من كلام. إنه صدى لنداء معروف في أُذُنَيْ المؤمن، وهو يشير إلى عالم من الآمال، عالم من الأسرار. سيأتي يسوع إلى أخصّائه، سيكون مع شعبه. لقد أنبأت الكتب المقدّسة بمجيء طفل سرّيّ يكون "عمانوئيل" أي الله معنا (اش 7: 14؛ رج مت 1: 23). فكّر لوقا بكلّ هذا حين أورد كلام الملاك، ودفعنا إلى التفكير فيه انطلاقًا من موقف مريم.
لن نفهم موقف مريم المعبّر عنه في آ 29، حين لا نرى فيه إلا ردّة فعل سيكولوجيّة. نقول: اضطربت مريم في تواضعها لأنّ الملاك قدّم لها مديحًا حيّرها. أو نقول: إستحْيَت بحضور هذا الشابّ الذي دخل إليها. أو: خافت من مشهد الظهور الساطع. حين نقول هذا، نزيد على النصّ ولا نقوم بعمل تأويليّ صحيح. ثم إن لوقا واضح في نصّه: اضطربت مريم "لكلامه" وتساءلت: "ما معنى هذه التحيّة"؟ فهمَت أنها أمام سرّ. إن لهذه الكلمات معنَى خفيّا لا بدّ من ولوجه. هذا ما أدركته مريم، وعلى القارئ أن يدركه بدوره. ولهذا، فبعد أن أيقظ الملاك انتباه مريم، استعاد كلامه ليقول بوضوح ما تضمّنته عبارته الأولى من معنى مغلّف.
نلاحظ أنّ آ 30 و 31 تقابلان آ 28 كلمةً كلمة. كان الملاك قد قال: "ابتهجي". وهو يقول الآن: "لا تخافي". سمّى مريم "المميّزة"، وها هو يدعوها باسمها ("مريم") ويؤكد حقّها بهذا اللقب: "نِلتِ حظوةً (نعمة، خاريس) عند الله"، أي أنت موضوع امتياز من قبل الله. وأخيرًا، أعلن لها: "الربّ معك". وها هو يفسّر الآن ما قاله: لأنها ستلد طفلاً يكون المسيح المنتظر. وقبل أن يصل إلى هذا التحديد الأخير في آ 32- 33، يعلن هذه الولادة بعبارة مقَوْلبَة نجدها في نصوص عديدة من التوراة.
نقرأ في تك 16: 11 عن إسماعيل: "وقال لها (هاجر) ملاك الربّ: "ها أنتِ حامل، وستلديِن ابنَا وتسمّينه إسماعيل". ونقرأ عن إسحق: "بل سارةُ امرأتك ستلد لك ابنَا وتسميّه أسحق" (تك 17: 19). وقال ملاك الربّ لأمّ شمشون: "ستحملين وتلدين ابنًا... وهو يبدأ بخلاص إسرائيل" (قض 13: 5). ونقرأ خصوصًا في اش 7: 14 عن عمّانوئيل، عن ابن الملك الذي سيلد فيؤمّن وارثًا للملك: "ها إن العذراء (الصبيّة، علمة في العبريّة) تحبل وتلد ابنًا وتدعوا اسمه عمانوئيل".
سيُدعى الطفل يسوع، لأنّ هذا هو اسمه التاريخيّ، ولكن لا شكَّ في أنّ الملاك (ولوقا معه) يفكّر بعمّانوئيل، بابن بتول. هذا ما سيبيّنه لنا النصّ.
وترِد الألقاب المسيحانيّة للولد الموعود به في آ 32- 33. هناك صفة "عظيم" وقد طُبّقت على يوحنا المعمدان (آ 15)، فأبقتنا في الغموض حول هويّة هذا الطفل. غير أن صفة "ابن العليّ" تفتح عيوننا على ما في هذا الطفل من عظمة. لن نكتشف حالاً بنوّة يسوع الالهيّة في معنى الايمان المسيحيّ. هذا الاكتشاف سيتمّ بعد القيامة. أمّا في العِهد القديم فعبارة "ابن الله" أو "ابن العلي" استعارة تقال لمن يشارك الله مشاركةَ خاصّة في حياته الحميمة. فالملاك هو ابن الله (مز 29: 1؛ أي 1: 6)، والشعب المختار هو ابن الله (حك 18: 13؛ رج هو 11: 1 حيث يقول الله: "من مصر دعوت ابني")، واليهوديّ التقيّ يسميّ نفسه "ابن الربّ" (حك 2: 13 ). والمسيح الملك اختاره الربّ ومسَحه، وقال فيه: "أكون له أبًا ويكون لي ابنا" (2 صم 14:7؛ مز 7:2: "انت ابني، أنا اليومَ ولدتك"؛ 89: 27: "يدعوني أبي وإلهي").
وسيمتدّ هذا الاستعمال في العهد الجديد، فيكتب لوقا نفسه: "أَحبوّا أعداءكم فتكونوا أبناءَ العليّ لأنه صالح لناكري الجميل والأشرار" (6: 35).
إذا عُدنا إلى سياق خبر لوقا نجد أنّ اللقب مسيحانيّ، وإن هيّأَنا لما نجده فيما بعد: قدوس وابن الله. فما يلي حتى نهاية آ 33 يدلّ بصورة واضحة على الكرامة المسيحانيّة لهذا الطفل الذي يولد: يرثُ عرش داود، يملكُ مُلكًا مؤبّدًا على بيت يعقوب. هذه هي كلمات الوعد بالمسيح الداوديّ كما قالها ناتان لداود (2 صم 7: 12- 13) وردّدها اش 9: 5- 6 بمناسبة حديثه عن عمانوئيل.
وهكذا علّمنا القسمُ الأَوَّل من الحوار أنّ مريم ستنال في شخصها زيارة مسيحانيّة أعلن عنها الأنبياء، فتصبح أمَّ المسيح المنتظر. حتى الآن، حافظت الفكرة على نفسها في خطّ المواعيد التي عبّرت عنها التوراة بوضوح. والعنصر الجديد: ما كان انتظارًا لمستقبل بعيد أو قريب، وجدَ الآن تحقيقه المباشر والملموس. ولكن شكل هذا التحقيق بحبَل بتوليّ، يمثّل رِفدًا جديدًا يرفع هذه الولادة إلى مستوى آخر، ويقدِّم معنى آخر للقب "ابن الله" الذي سيُعطى للطفل الذي سيُولد. هذا ما نتعلّمه من القِسم الثاني من الحوار (آ 34- 38).

3- القسم الثاني من الحوار
أ- سؤال مريم (آ 34)
تبدأ هذه المرحلة الثانية بسؤال في آ 34: "كيف يكون هذا، لأني لا أعرف رجلاً"؟
قبل أن نشرح النصّ، لابدّ من تحديد نقطتين. الأولى: نفهم فعل "عرف" بالمعنى البيبليّ، وهو يدلّ على علاقات زواجيّة. فان أخذناه في المعنى المعروف وجعلنا مريم تقول إنها لم تتعرّف إلى أحد، نعتناها بالسذاجة بل بالنفاق، لأنها مخطوبة ليوسف. النقطة الثانية تتعلّق ببتوليّة مريم. فلفظة "مخطوبة" في آ 27 لا تفي بالمراد. وإذ أراد لوقا ان يزيل كلّ شكّ، كتب مرّتين في آ 27: "بارتينوس" أي عذراء، فقال: "إلى عذراء مخطوبةٍ لرجل اسمُه يوسف من بيت داود، واسمُ العذراء مريم". كلمة "عذراء" هي التي تعطي المعنى الحقيقيّ لسؤال مريم ولجواب الملاك.
منذ القديس أغوسطينس اعتاد التأويل الكاثوليكيّ أن يشرح سؤال مريم بنَذْر نذرَته مريم بأن تبقى بتولاً، وهذا ما يتعارض مع الولادة التي بشّر بها الملاك. هذا التفسير ليس بأكيد من الوُجهة الكتابيّة، ولهذا جاء من يعارضه كما جاء من يدافع عنه.
الذين يعارضون النذر يلاحظون أنّنا لا نجد توافقًا عند الآباء ما عدا غريغوريوس النيصيّ وأغوسطينس. وان مثل هذا النَذر ظلّ مجهولاً حتى القرن الخامس لدى امبروسيوس وايرونيموس. كما يبدو لهم أنه لا ينتج طوعًا من حرفيّة النصّ: إن فعل "غينوسكو" لا يكفي ليقول: "لا أريد أن أعرف رجلاً". أو: "لن أعرف رجلاً". إنه يعبّر بصورة طبيعيّة عن واقع مريم الحاليّ: لا علاقات زواجيّة في حياتها. فهي مخطوبة (حسب العادة في أرض إسرائيل، هي تقيم في بيتها) وهي تدهش في هذه الظروف من حَبلٍ قريب. ومقاومة مريم التي فرَضها التفسير الكلاسيكيّ تدهشنا: ما قيمة نَذرٍ خاصّ ضد مخطَّط إلهيّ أشار اليه الملاك. ونتساءل أيضًا عن معنى هذه الخُطبة مع يوسف.
ويناقش الشُرّاح خصوصًا مبدأ نَذر البتوليّة الذي نذرته مريم: الزواج يكَّرم في إسرائيل تكريمًا يجعله وضعًا طبيعيًّا يفرض نفسه على كلّ انسان، لاسيّما على النساء. تتحدّث النصوص عن أحد الربّانيّين الذي ظلّ عازبًا، فاستحقّ اللوم بسبب ذلك. أما الأسيانيّون، فقد شكّلت عزوبيّتهم شُذوذًا دفعهم إليها تأثير غريب عن العالم اليهوديّ، ودفع الرجال دون النساء (تحدّث فيلون عن "بتولات مسنّات" لدى "الآسيين" العائشين في مصر). ولكن يبقى أنّ اليهوديّة الأرثوذكسيّة في فلسطين لم تمتدح العزوبيّة.
إن المسيحيّة هي التي رأت في البتوليّة حالةً أسمى من الزواج، وذلك على خُطى تعاليم يسوع (مت 19: 12: "من لا يتزوّجون من أجل ملكوت الله") ومثال حياته، وعلى خطى مريم التي اختارها الله أمًا على ان تكون عذراء. ولقد وقع عدد من الناس في مغالطة تاريخية حين تخيّلوا العذراء مريم مكرّسةً للرب على مثال العذارى المسيحيّات في القرنين الرابع أو الخامس. فالأسفار المنحولة عوّدتنا على أن نرى مريم المكرّسة لله والعائشة في الهيكل منذ نعومة اظفارها، وأن نتخيّل يوسف شيخًا اختاره الكهنة ليحمي بتولية زوجته الصبيّة. هذه صور خاطئة ولا بدّ من محاربتها. فلا سلطة قانونيّة للأسفار المنحولة التي نجد فيها آثار هرطقة تعففيّة تحتقر سرّ الزواج المقدّس.
إذا وضعنا مريم في المحيط الحياتيّ لعصرها، يبدو من الطبيعيّ أنها فكّرت بالزواج مثل كل رفيقاتها في أرض فلسطين. لهذا خُطبت ليوسف ونحن لا نخاف من هذا القول الذي يمكنه، كما يقول البعض، أن يمَسّ نقاوة مريم وقداستها.
إنهم يتجاهلون قداسة الزواج الذي نادت به التوراة مرارًا. سوف نرى كيف أن بتوليّة مريم ارتبطت بنداء الله لها يوم البشارة: "الروح القدس يحلّ عليك، وقدرة العليّ تظلّلك".
وقال أيضًا أصحاب الرأي التقليديّ: لا شكّ في أن بتوليّة مريم لم تكن المثال العاديّ لامرأة تعيش في فلسطين. ولكن وضع مريم هو فريد، وقد هيّأ الله مخطّطه بالنسبة إليها، فأوحى إليها باكرًا بدعوة عجيبة، وإن كانت قد التزمت بالزواج، فلكي تحافظ على بتوليّتها. سلّمت نفسها إلى الله وسألته أن يلهم يوسف عواطف توافق عواطفها.
إن الحوار بين النظريّتين يدلّ على أن الشُرّاح يتوقّفون عند سيكولوجيّة مريم، وينسَون أنّ لوقا يقدّم لنا لاهوتًا. لعبت آ 34 دور المفصلة في الحوار الذي يورده، فوصلت الحوار الأوّل بالحوار الثاني. أعلن الملاك ولادة المسيح وعليه أن يعلن الآن الوجه البتوليّ لهذه الولادة. وسؤال مريم الذي يحرّك سؤال القارئ، يهيّئنا لهذه المرحلة الجديدة. هل افترض لوقا نذرًا للبتوليّة سابقًا لهذا المشهد؟ هناك جدال. ولكنّ ما لا شك فيه هو تعليمه الصريح الواضح: كانت مريم عذراء، وأكّدت بتوليّتها حين دعاها الله لتكون أمّ المسيح. هل نذرت فيما مضى أم لم تنذر؟ كلّ ما نعرفه هو أنها الآن نذرت نفسها بكلّ تأكيد. وستصير إلى الابد الأمّ البتول، وهذا ما يهمّنا بالدرجة الأولى. أمّا النداء الالهيّ فكان الحافزَ الذي أثار ردّة فعل بسبب حضور الله وتدخّله بصورة عجيبة.
ب- جواب الملاك: الحبَل البتوليّ. يسوع ابن الله (آ 35- 37)
حمل جواب الملاك الحلَّ لهذه المسألة التي طرحناها، وشكّلت آ 35 العنصر الجوهريّ في الحوار كلّه وتتويج العرض اللاهوتيّ الذي قدّمه لوقا. لهذا سنتفحّص بدقّة كل لفظة من الألفاظ.
يعلن الانجيل تدخّل الروح القدس في جملة يوافق جُزآها لفظةً لفظة. "الروح القدس" و "قدرة العليّ"، "يحلّ عليك" و "يظلّلك". يبدأ الفعلان بأداة "آبي" على، يحلّ عليك، يلقي بظلّه عليك.
أن يأتي (يحلّ) الروح القدس على العذراء، تلك عبارة نجدها في التوراة. مسَح صموئيلُ داود "فحلّ روح الربّ" عليه (1 صم 16: 13). ونقرأ في اش 32: 15: "يُفاض علينا الروحُ من العلاء فتصير البريّة جنّة". إن الروح يوَلِّد الحياة في كل مكان ويُنمّيها.
أمّا الفعل الثاني (أبيسكيازو) فهو قليل الاستعمال ويتضمّن معنىً عميقًا. نجده في مقاطع من التوراة، وهذا ما يساعدنا على إيضاح مفهومه. في خر 40: 35 يقال لنا إن الغمام (السحاب) حلّ على خيمة الاجتماع، فرمز إلى مجد الله الذي يملأ المسكن (رج عد 9: 18- 22). وفي مز 9: 4؛ 140: 8 نجد صورة أخرى تستعمل اللفظة عينها: صورة الله الذي يشبَّه بطير، وأجنحته تُخبئ تحت ظلّها كل الذين يحميهم (رج مز 17: 8؛ 36: 8؛ 57: 2؛ 63: 8).
يمتزج هذان الموضوعان في خر 25: 20 و1 أخ 28: 18 حيث يظلّل الكروبان تابوت العهد بأجنحتهما. فالطير الذي يضمّ جناحيه يحاول أن يحمي صغاره فيخفيهم عن عيون الأعداء ويحجبهم عن ضرباتهم. ولكنه قد يحضن بيضه ليخرج منهِا الحياة، وهذا يشير إلى صورة الروح الخلاّق في بداية العالم (تك 1: 2): أنه يُشَّبه بطائر يحلُّ على المادّة التي لا شكل لها، فيولّد الحياة بأشكال ترتبط بكلمة الله.
ونعود إلى سِياق النصّ لنرى الصورة التي تنطبق على ما كتبه لوقا هنا. إن كلام الملاك يعلن للعذراء أكثر من عون بسيط وحماية. أمّا الصورة التي تتطلّبها القرينة، فهي صورة الطائر الالهيّ الذي يضمّ جناحيه ليخلق الحياة. فنحن أمام طفل سيُحبَل به مع أنّ أمه عذراء. وحين يتكلّم الملاك عن الروح القدس على أنه قدرة يغطّي مريم بظلّه، فهو يشير بوضوح إلى أن هذا الروح سيلعب دور المبدإ الخلاّق، وسيولّد الحياة في حشا مريم. نحن بعيدون عن التصوّرات الوثنيّة وزواج الآلهة. نحن في خطّ التوراة الذي يشدّد على وحدانيّة الله وعمله في الكون. فما يعمله الروح (النسمة الخلاقة) منذ بدايات العالم، يعمله الآن في حشا مريم فينتج فيها الحبَل البتوليّ.
ونودّ أن نخطو خطوة أخرى: هل نجد في هذا النصّ تلميحًا إلى خر 40: 35؟ كما كان الغمام يغطّي المسكن السماويّ فيملأه من مجد الربّ، هكذا صارت مريم المسكن الجديد الذي يظلّله الروح القدس، فضمّت في حشاها الحضور الالهيّ للمسيح ابن الله (مريم هي أيضًا تابوت العهد وذهابها إلى أليصابات في 1: 39- 44 يشبه دخول تابوت العهد إلى أورشليم، 2 صم 6: 2- 11). هذا الشرح ممكن وإن لم نجد كلمة "مجد" وفعل "ملأ" في نصّ لوقا ليصبح قريبًا من نصّ الخروج. ولكن يبقى أن كلام الملاك يُعلن تدخّلاً ساميّا من الروح الذي سيُحدث ولادة ابن الله المقدّسة بشكل بتوليّ.
"لذلك، فالقدّوس الذي سيولَد يدعى ابن الله". أو: يكون المولود قدُّوسًا، أي مكرّسًا تكرّيسًا كاملاً لله، وقد نترجم: الذي سيولد يدعى قدّوسًا وابن الله.
إن تسمية ابن الله هي أمرٌ جوهريّ في نظر لوقا، وهي تمثّل نهاية فكره اللاهوتيِّ. كان قد قال في القسم الأوّل من الحوار إن الطفل سُيدعى "ابن العليّ" في معنىَ مسيحانيّ، وها هو الآن يعلمنا في القسم الثاني أنّ لقب "ابن الله" يَنال معنىً جديدًا وساميًا بفضل الحبَل البتوليّ. حُبل بيسوع مباشرة بفعل الروح القدس، لا بفعل أب بشريّ، فصار ابنَ الله بشكل خاصّ وفريد. نحن هنا على خُطى القديس يوحنّا الذي يتحدثّ عن كلمة الله المتجسّد في طبيعة بشريّة. نحن هنا أمام إعلانٍ لسرّ التجسّد يوجّهنا إلى يو 1: 14: "والكلمة صار بشرًا وسكن بيننا".
إن تسمية "ابن الله" عند لوقا كما في التوراة تدلّ على المسيح المنتظر (رج 4: 34، 41؛ أع 9: 20، 22). ولكن لوقا يجعل منها أعظم تعبير عن العلاقة السريّة التي توحّد يسوع بالله. قد ترِد هذه التسمية على لسان البشر، ولكنها ترد خصوصًا في فم الله نفسِه (3: 22؛ 9: 35). وفي نهاية كلام الملاك جبرائيل، تسنُد تسميةُ "ابن الله" تسميةَ "ابن العلي" "فتدلّ على الملء الجديد لبنوّة يسوع الالهية (22: 70).
نحن لسنا بعدُ أمام شرح واضح كما سيقوله الايمان المسيحيّ عن ابن الله يوم دوّن لوقا إنجيله. ولكننا منذ الآن نجد تبريرًا شرعيًا للقب سيلعب الدور الأوّل في اللاهوت البولسيّ.
ونتساءل: أما قرَّب لوقا هنا وضع المسيح من وضع آدم كما سيفعل بوضوح حين يورد نسب يسوع في 3: 23، 38؟ لم يكن لآدم أبٌ إلاَّ الله، وكذا نقول عن المسيح. ومهما يكُن من أمر الاختلاف الجذريّ في الطبيعة، فهناك تشابه ذو بُعد هامّ اهتمّ به لوقا الذي تتلمذ على يد بولس: آدم الجديد هو مثلُ آدمَ القديم رئيس الجنس البشريّ. معه تتوقّف سلسلة السُلالات البشريّة لتنطلق انطلاقة جديدة. تكوَّن يسوع بيد الله مباشرة مثل آدم فاستحقّ مثله أن يُدعى ابنَ الله بمعنى خاصّ جدّا، وهذا لا يمنعه من أن يكونه لأسباب فائقة الطبيعة لم تُذكر في هذا المكان من الانجيل.

4- النهاية: قَبول مريم (آ 38)
وتأتي نهاية الحوار. أُعطيت علامة لمريم (آ 36- 37) حسب طريقة هذا الفنّ الأدبي في البشارات السماويّة (قض 7: 36- 4؛ اش 7: 10- 16). ثم إن لوقا هيّأ بهذه الطريقة مشهد الزيارة، وجعل الحلقات تتماسك. ولا ننس أنه إن لم يكن إيمان مريم بحاجة إلى ما يثبّته، فإيمان القراء يستفيد من هذه الآية.
قالت مريم: "أنا خادمة الربّ". قد نكون هنا أمام فعل تواضع. ولكننا بالأحرى أمام فعل إيمان (آ 45) ومحبّة، لأن لقب "خادم الرب" (عبد الله) يحمل مجدًا لصاحبه.
وانتهى المشهد على قبول مريم. لن نقول إن "الله" انتظر هذا القبول بقلق وكأنه لم يكن منتظرًا، ولن نقلّل من حرية مريم وعظمة جوابها لله. وتبدو عظمتها بصورة خاصّة حين وعَت السرّ وأدركت كلّ عمقه، فاستسلمت لمتطلّبات عمل الله

5- الخاتمة
يستند هذا الخبر إلى خبرة مريم الدينيّة، إلى خبرة سريّة غنيّة جدًّا، وإلى واقع تاريخيّ.
ظن بعضهم أن الاعتقاد بالحبل البتوليّ بالمسيح كان استنتاجًا استخرجه المسيحيّون الأوّلون من نبوءة عمّانوئيل في اش 7: 14. هذا لا يكفي. فالنصّ العبريّ لهذه النبوءة مع لفظة "علمه" (التي تدلّ على امرأة صبيّة) لا يدلّ على الحبل البتوليّ. ثم إن لفظة "برتينوس" اليونانيّة دلّت في نظر اليهود على "ابنة صهيون" التي تجسّد الجماعة المسيحانيّة تجسيدًا سريًّا. فإذا أردنا ان ننتقل من تشخيص شعريّ إلى واقع شخصيّ وملموس، احتجنا إلى رِفد جديد من وحي يُعطي لقولٍ نبويّ قديم ملء معناه. والذي نعِمَ بهذا الوحي الجديد هو مريم. فهي أوّل من عرف من الله أنّ النبوءة القديمة ستتحقَّق في حشاها بطريقة واقعيّة وعجيبة. ومنها قبلت الجماعة الأولى (اي الكنيسة) هذا السرّ ونقلته إلى المؤمنين (مت 1: 18-25).
إن هذا المقطع الذي تأمّلنا فيه يقدّم لنا خبرة مريم الخفيّة في إطار إلهيّ. فبحوار مبنيّ بناءً مُحْكمًا، نجد جوهر هذه الخبرة، وقد جعله لوقا في إطار لاهوتيّ وكتابيّ من أجل تغذية إماننا.
وعلّمنا هذا المقطع أن ابن مريم سيكون ابن داود ووارثَ العرش المسيحانيّ. حُبل به بشكل بتوليّ فاستحقّ منذ ولادته لقب ابن الله.
إن سر مجيء ابن الله إلى العالم هو تتويج لكل المحاولات التي هيّأت هذا المجيء في العهد القديم. لقد رفض الله هيكلاً من حجر أراد داود أن يبنيه له (2 صم 7: 1- 16)، ولكنه وعده بنسل أزليّ سيكون سلالة داود. لقد تمّ الآن هذا الوعد في مريم التي صارت "تابوت العهد" و "بيت الذهب "، وفيها جاء الابن يقيم وسَط البشر.
نحن هنا أمام وحيٍ للسرّ "الذي بقي مكتومًا منذ الأزل وظهر الآن". فلا يبقى لنا إلاَّ أن ننادي به (روم 16: 25- 26).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM