الفصل السابع البشارة بمولد يوحنا

الفصل السابع
البشارة بمولد يوحنا
1: 5- 25

ان زمن الوعد بالخلاص انتهى مع يوحنا المعمدان، وزمن تتمة المواعيد بدأ مع يسوع. يوحنا هو أعظم مواليد النساء (من ولد من امرأة)، والاصغر في ملكوت الله هو اكبر منه (28:7). اذن يسوع اعظم من المعمدان.
يبدأ الانجيل ثلاث مرات مع يوحنا، وثلاث مرات يمتد مع يسوع. كل بداية مع يوحنا هي في خدمة يسوع: الوعد (1: 5- 56)، الولادة والطفولة (57:1- 2: 52)، الحياة العامة (3: 1- 13:4). تسير الاخبار بطريقة متشابهة، ولكن ما يقال عن يسوع يتجاوز حتى من الوجهة الخارجية ما يقال عن المعمدان. على يسوع ان يزيد ويوحنا ان ينقص (يو 3: 30).
هيأ المعمدان الدرب ليسوع. والمعمدان هو وارث اكبر شخصيات تاريخ اسرائيل: شمشون، صموئيل، ايليا. وسيستعمل الانجيليّ كلمات من العهد القديم ليصوّر يوحنا المعمدان ويسوع. فتاريخ الخلاص لا يدمِّر اليوم ما خلقه بالامس، بل يستعيد الماضي ليتمه، ليكمله. ويسطع النور شيئًا فشيئًا إلى أن يأتي النهار. ان قدرة عمل الله تظهر كل يوم بوضوح أكثر. قال الرب بلسان أشعيا (14:29): "ها أنا أعود واصنع لهذا الشعب اشياء عجيبة، اشياء غريبة لا تفهم. وهكذا تضمحل حكمة حكمائه ويختفي عقل عقلائه. فالمسيح هو هدف التاريخ وكماله.
وهكذا ندخل في الوعد. مع جبرائيل، رسول الله، نتلقى بشارتين: مولد يوحنا ومولد يسوع، والولدان سيلتقيان بلقاء امهما. ثلاثة أشخاص سيكونون فِي أساس ثلاث دورات: زكريّا، أليصابات، يوحنا. يمثل زكريّا الهيكل، وأليصابات الشعب وملكه، ويوحنا النبي وأرضه. ولكن النصّ يشدّد على الكلمة النبويّة التي تفعل فعلها في أرض إسرائيل، ستفعل مع زكريِا بانتظار أن تصل إلى مريم فتصبح جسدًا في أحشائها بقوّة الروح القدس.

1- زرع مقدس (1: 5- 7)
يتمّ خلاص الله داخل تاريخ البشر. يبدأ خبر طفولة يسوع كما يبدأ خبر سفر يهوديت: "في أيّام ارفكشاد" (يه 1: 1). او كما تبدأ قصّة شمشون: "وكان رجل من صرعة من قبيلة دان اسمه منوح" (قض 2:13). "كان كاهن من فرقة ابيا اسمه زكريّا" (آ 5).
يعود الخبر الى هيرودس الكبير (39- 4 ق. م) الذي سمي ملك اليهوديّة، مع العلم أن اليهوديّة تعني في عالم اليونان المنطقة التي يسكن فيها اليهود. اذن، أوسع من منطقة محدّدة عاصمتها اورشليم. مثلاً نقرأ في 4: 44: مجامع اليهوديّة، وهو يعني مجامع اليهود في الجليل. ولهذا قرأت شواهد مخطوطة "الجليل" بدل "اليهوديّة". رج 17:6؛ 23: 5؛ أع 10: 27. اذن تعني اليهوديّة فلسطين في معنى عام.
ارتبط مولد يوحنا بزمن هيرودس، ملك اليهوديّة. أمّا مولد يسوع فارتبط بالإمبراطور اغوسطس الذي يحكم "على الأرض المسكونة كلّها" (2: 1). انحصر يوحنا في عالم اليهوديّة الضيق، أمّا يسوع فحمل الخلاص الى العالم كله.
زكريا هو كاهن وهو ينتمي إلى الفئة الثامنة من الفئات الأربع والعشرين الكهنوتيّة التي يتكلّم عنها 1 أخ 7:24- 17 (رج نح 21: 1- 7). وامرأته أليصابات كانت هي أيضًا من نسل هارون. زكريا أي الربّ تذكر. وأليصابات (أو) اليشبع): الله اقسم، حلف. انهما باران. انهما ينتميان إلى "القديسين" (أي المكرّسين لله) في البلاد. تزوج الكاهن مع سليلة الكهنة حسب متطلبات الشريعة الكهنوتيّة. وهكذا انتقل الكهنوت إلى يوحنا، وهو ينتقل بالوراثة. يوحنا كاهن بكل معنى الكلمة، مقدَّس لله ومكرّس لخدمته. ولكن شتّان ما سيكون تحقيق هذا "الكهنوت" عنده وعند أبيه.
البشارة بيوحنا تحيط بها أنوار القداسة. إنه يقف على عتبة زمن الخلاص. إنه "فجر" التقديس الآتي في شخص يسوع. لقد بدأ الله ملكه، بدأ يقدس اسمه (2:11). هذا ما قاله في حز 20: 41: "حين اخرجكم من بين الشعوب وأجمعكم من البلدان التي شتّتكم فيها، اتقدَّس فيكم على عيون (امام، بمرأى) الأمم". فكشفُ مجد الله هو أيضًا كشف قداسته.
ولد يوحنا في جوّ من القداسة. إنه نسل مقدّس. والداه بارّان أمام الله، أي حافظان لكلّ وصايا الشريعة. دعوة تعاش في الطاعة لإِرادة الله، والقداسة هي خضوع لله ولطريقه في حياتنا.
زكريّا وأليصابات يسيران في كلّ وصايا الله وفرائضه. لا عيب فيهما ولا لوم (آ 6) غير أنّهما يبدوان كموضوع عقاب إلهيِّ. فأليصابات تشبه حنّة أمّ صموئيل، التي حبس الربّ رحمها (1 صم 1: 5- 6)، تشبه ميكال ابنة شاول وزوجة داود (2 صم 23:6). إنها عاقر. ثم إن الزوجين قد طعنا في السنّ. نحس هنا وكأنّنا أمام بداية جديدة لما حصل لإِبراهيم وسارة. قال تك 11: 30: "وكانت ساراي (أو سارة) عاقرًا ليس لها ولد". وتشكى ابراهيم إلى الله لأنه لم يرزقه ولدًا وسيكون وريثه قيّم بيته اليعازر الدمشقي (تك 15: 1- 4؛ رج 18: 10؛ 14). ولكن الربّ سيعيد الأمور الى نصابها بكلمة ميثاقه، وسيرسل ملاكه.
إن الوجوه الكبرى في تاريخ الخلاص هم أولاد نساء عاقرات. إنهم عطيّة الله ونتيجة تدخّل إلهيّ في طبيعة ضعيفة وعاجزة. هذا ما كان وضع اسحق (تك 16:17) وشمشون مخلّص شعبه والقاضي في أموره (قض 2:13) وصموئيل (1 صم 1- 2). وانتمى يوحنا أيضًا إلى هذه الوجوه العظيمة. كان ابن النعمة، وتكرّس لله بصورة جديدة في البرّ والقداسة.
كانوا ينظرون إلى العقم على أنه عار. تأخّرت راحيل زوجة يعقوب ولم تحمل. ولمّا حملت وولدت ابنًا قالت: "كشف الله عني العار" (تك 23:30؛ رج 1 صم 1: 10، اش 4: 21). بل كانوا يحسبونه عقابًا من الله. فالشرّ كلّ الشرّ ان يموت الزوج والزوجة وهما عقيمان (لا 20: 20- 21). وهذا ما حدث لزوجة داود، ميكال، التي "عاقبها الله" كما ظنّ الناس فماتت ولا ولد لها يذكرها بعد موتها. ولكن الله يستخرج الخير من "الشر" فيجعل من بعض "مرسليه" واحبّائه ابناء المعجزة. إنه يتدخّل بصورة خاصة، وهذا ما فعل بالنسبة إلى يوحنا المعمدان.

2- بشّر به في ساعة مقدّسة (8:1- 12)
يجري المشهد في أورشليم، في الهيكل. "وحصل" (وكان) انه بينما كان يكهن (آ 8). مرّة أولى قرأنا "وحصل" في آ 5: "وحصل في أيّام هيرودس، ملك اليهوديّة". في آ 5- 7 نحن في الوضع السابق للحدث. ومع آ 8 نبدأ بداية جديدة. جاء زكريّا إلى الهيكل وبدأت مسيرة تحوّل من الفراغ (عقم أليصابات) إلى الملء (وحبلت أليصابات) وذلك بكلمة قالها الملاك باسم الله. وفي آ 23 سنقرأ مرّة أخيرة: "وحصل انه لمّا تمّت أيام خدمته الليتورجيّة". في آ 11 ظهر الملاك في المعبد، وفي آ 22 ذهب الملاك وخرج زكريا من المعبد، فكنّا أمام تحوّل آخر ينطلق من كلام الملاك الى صمت زكريّا الذي لم يؤمن بكلمة الله.
وبدأ زكريا خدمته. كان على كلّ كاهن أن يؤمّن الخدمة الليتورجيّة اسبوعين في السنة، أمّا مهمات كل يوم بيومه فكانت تتمّ بالقرعة. أمّا الشعيرة الاحتفاليّة الكبرى فهي تقدمة البخور (رج خر 30: 1- 9) في الصباح قبل المحرقة وبعد الظهر، حوالي الساعة الثالثة. وما كان للكاهن ان يقوم بها إلاَّ مرّة واحدة في حياته.
إذن يبدأ خبر السابق في معبد الهيكل، في المكان المقدّس (القدس الذي يقابل قدس الأقداس). كان الكهنة وحدهم يدخلون إلى هذا المكان، أمّا الشعب فيبقى في الخارج مصليًا. والكاهن نفسه لا يدخل إلاَّ إذا عيّنته القرعة ليقوم بالخدمة المقدّسة في جوار الله. الله قريب من شعبه في هيكله، ولكن لا يقترب منه الاّ من سمع النداء: بالقرعة أو بدعوة خاصة كما حدث لزكريّا. الله قدّوس وهو بعيد لا يُدرك، إلاَّ اذا تنازل بنفسه.
بُشر بيوحنا ساعة تلاوة الصلاة الاحتفاليّة، ساعة ذبيحة البخور الذي هو رمز الصلاة الصاعدة الى الرب: "لتكن صلاتي بخورًا موضوعًا امامك، ورفع كفي ذبيحة مسائيّة" (مز 2:141). يضع الكاهن على الجمر المتقد على المذبح الذهبي حبّات البخور، ويرتمي على الأرض مصليًا. ويصلي الشعب من الخارج بدوره: "ليدخل اله الرحمة إلى المعبد وليقبل راضيًا ذبيحة شعبه". إن المحطات الكبرى في تاريخ الشعب تقع في وقت الصلاة. ونقول الشيء عينه بالنسبة إلى حياة يسوع: العماد، التجلّي، اختيار التلاميذ...
"وظهر ملاك الربِّ". تبدأ البشارة في السماء ومن هناك تنزل. ظهر الملاك عن يمين مذبح البخور. الجلوس عن اليمين يدل على ألكرامة والعظمة (مز 110: 1؛ حز 10: 3: الكروبيم واقفون عن يمين بيت الله). وجهة اليمين تدل على الخلاص، تعد بالخلاص (مت 25: 33).
كان نداء من قلب زكريا وأليصابات، فجاء الملاك جوابًا على صلاة زكريا. إن الله يتّصل بالانسان عبر ملاكه. وهذا ما نجده أيضًا في دا 9: 20- 21 قال النبي: "بينما كنت أصلّي واعترف بخطيئتي اذا بجبرائيل قد طار سريعًا ولمسني في وقت تقدمة المساء". الرؤية هي نقطة يستند اليها الكاتب، هي طريقة يدل بها على ان الاتصال تم بين الله والانسان. لا يشدّد لوقا على الرؤية بل على "البلاغ" الذي أوصله رسول صادق من عند الله، رسول "وجيه" أقام في "مقعد الشرف" بين المذبح والمنارة (أو: الشمعدان) المسبعة الفروع.
أثارت الرؤية في قلب زكريا الاضطراب والخوف، وهذا امر طبيعي حين يكون الانسان أمام الله. الله هو الآخر، هو الذي لا يُدرَك. قال اش 6: 5: "ويل لي، اني سأموت. فقد شاهدت الله". إن رسول الله يحيط به شعاع مجد الله وقداسته، وهذا ما يفرض الاحترام والإِكرام. أما حاول يوحنا مرتين في سفر الرؤيا أن يرتمي على قدميه ويسجد للملاك (رؤ 19: 10؛ 8:22)؟
تتحدّث التوراة مرارًا عن هذا الاضطراب يحلّ بالمؤمنين لدى ظهور الملاك. هذا ما حدث لجدعون لما علم أن المترائي له هو ملاك الربّ. فقال: "آه أيّها الربّ الاله! رأيت ملاك الربّ وجهًا إلى وجه) (هذا يعني أنه سيموت. رج 13: 22؛ خر 6:3، 33: 20- 23؛ تك 32: 31). فقال له الرب: "سلام لك! لا تخف فإنك لن تموت" (قض 22:6-23). نلاحظ هنا أن النصّ يتكلمّ مرّة عن ملاك الرب ومرّة أخرى عن الربّ. الملاك هو الذي يدلّ على حضور الربّ، ولكن الربّ هو الذي يتكلّم مع الانسان ولا حاجة له إلى وسيط.
وسيضطرب منوح والد شمشون وزوجتُه (قض 13: 20- 22) كما سيضطرب طوبيط (طو 12: 16) ودانيال (8: 17- 18؛ 10: 7- 8، 11، 16).
ويتحدّث النصّ عن الخوف الذي هو شعور الإنسان أمام سرّ يحسّ بتساميه. ونجد هذا الخوف أيضًا في العهد الجديد: حين يكشف الله عن حضوره أمام الرعاة (9:2)، على جبل التجلّي (34:9) او بعجائبه (1 65؛ 5: 26؛ 7: 16).

3- ولد مقدّس (1: 13- 17)
حين يظهر الله نفسه أو ملاك ويحدّث انسانًا من الناس، يبدأ فيضجعه: لا تخف. هذا ما قاله الملاك لزكريا. وهذا ما قاله لابراهيم حين تراءى له وعقد معه ميثاقًا: "لا تخف يا ابرام. انا ترس لك" (تك 15: 1). أي أنا احميك ولا اريد لك الموت. وحين تراءى الرب لاسحق قال له: "انا اله ابراهيم ابيك. لا تخف. أنا معك. أباركك (والبركة تدلّ على الحياة، على كل خير) وأكثر نسلك" (تك 26: 24). وشجّع الربّ يعقوب النازل إلى مصر (تك 3:46) وجدعون (قض 6: 23) وطوبيط (طو 12: 17).
"سُمعت صلاتك، سمعَ الله دعاءك". صلاة بصلاتين. صلاة فرديّة شبيهة بصلاة ابراهيم: ليس له ولد ولا يمكن أن يكون له ولد بسبب عقم امرأته وكبر سنّه. ولكن رجاءه ثابت. وصلاة جماعيّة من أجل الشعب الذي ينتظر الخلاص المسيحانيّ: "متى تشقّ السماء وترسل الصديق"! هذا الخلاص الآتي سيحمل الفرح والبهجة إلى الكثيرين.
لا تخف. جاء الله ليعين البشر لا ليسحقهم، وهو سيستجيب صلاة زكريا فيعطيه نسلاً، ثمّ يتمّ الوعد المسيحانيّ. أجل منح الله زكريا موضوع صلاته، بل اعطاه أكثر ممّا ما طلب، وهذه هي طرق الله الدائمة في البشر. فهذا الولد لن يكون كسائر الأولاد، ورسالته ستعني شعب إسرائيل كلّه. معه يبدأ الفرح المسيحانيّ (آ 14)، معه يبدأ إعلان البشارة (آ 19).
والله يحدّد اسم الولد. وفي الوقت عينه يمنحه قدرته والمهمّة الملقاة على عاتقه. اسمه يوحنا أيّ الله يتحنّن، الله يُنعم. إن زمن افتقاد الله صار قريبًا، ويوحنا هو مَن يعلن زمن الخلاص هذا.
مولد يوحنا يبعث الفرح في نهاية الأيّام والبهجة في الخلاص. لا يفرح والداه وحَسْب، بل عدد كبير، بل الجماعة المؤمنة. إن دعوة يوحنا مهمّة في تاريخ الخلاص: إنه يضع حدًّا لزمن الوعد وبعلن الزمن الجديد، زمن الخلاص. في أولى أيّام المسيحيّة كانت جماعة أورشليم تحتفل بخدمة ربّها الليتورجيّة "بالفرح وبساطة القلب" (أع 2: 46). مولد يوحنا هو العلامة الأولى لمجيء المسيح، لبدايات تدخّل الله الحنون.
كما بشّر الله ابراهيم، هكذا بشّر زكريا: "ستلد لك سارة ابنًا وتسميه اسحق" (تك 17: 19؛ رج قف 13: 3، 5؛ اش 7: 14).
"سيكون عظيمًا أمام الرب". كان إيليا يقف "أمام الربّ" كالخادم (1 مل 17: 1؛ 15:18). وهذا هو وضع يوحنا. غير أن موقع يوحنا في تاريخ الخلاص سيجعله فوق جميع العظماء في تاريخ الخلاص. كلّهم عاشوا ينتظرون ملكوت الله وخلاصه، أمّا يوحنا فوجد نفسه على عتبة الملكوت وأعلن مجيئه (7: 28).
كانت حياة البار في تاريخ اسرائيل مكرّسة لله. وهكذا كانت حياة يوحنا. قال الرب عن الكهنة المكرّسين لله: "لا تشرب خمرًا ولا مسكرًا، لا أنت ولا بنوك، حين تدخلون خيمة الاجتماع". ونقرأ عن شمشون أن الله طلب من والدته: "لا تشربي خمرًا ولا مسكرًا، ولا تأكلي شيئًا نجسًا" (قض 13: 4). أمّا الصبي فيكون منذورًا (ناسكًا، حرفيًا: نذر)، مكرسًا لله من بطن أمّه وهو يبدأ بخلاص إسرائيل (قض 13: 5). إن التكريس يرتبط برسالة، ولهذا كان يوحنا مكرسًا للربّ لا لرسالة حربيّة بل لرسالة روحيّة.
"يمتلئ من الروح القدس" (رج 1: 41- 44). اذن، يكون نبيًّا. بعضهم نال المهمة النبوّية وهو كبير السنّ مثل عاموس، وآخرون دُعوا منذ الدقيقة الأولى من حياتهم، من بطن أمّهم. هذا ما حدث لشمشون (قض 13: 5؛ 17:16) وارميا (ار 1: 5): "قبل أن أصوّرك في البطن عرفتك (اي اخترتك، دعوتك)، وقبل ان تخرج من الرحم قدستك (اي كرّستك) وجعلتك نبيّا (وارسلتك) إلى الأمم". وهناك عبد الله الذي قال عن نفسه في اش 49: 1: "الرب دعاني منذ كنت في الحشاء، وردّد اسمي (ذكر اسمي) وأنا في بطن أمّي" (رج آ 5). هذا يعني أن الربّ أعدّ هذا الشخص من أجل رسالة. هذا ما اكتشفه بولس الرسول فيما بعد: "الله الذي فرزني (جعلني جانبًا) منذ كنت في جوف أمّي ودعاني بنعمته... (غل 1: 16).
يعلن الكتاب عن زمن الخلاص بملء الروح. وهناك تدرّج وتعمّق من شمشون إلى صموئيل إلى يوحنا. شمشون لا يقصّ شعره. صموئيل لا يشرب خمرًا ولا مسكرًا. سيحتفظ يوحنا بهذه الممارسة الثانيّة، ولكن حياته ستكون مليئة بالروح القدس.
ويدل الربّ حالاً على حنانه ورضاه حين يرسل ذلك الواعظ بالتوبة ساعة تمّ الزمان. يردّ يوحنا إلى الربّ كلّ الذين مالوا عن الله من شعب إسرائيل. ويقوم هذا التبدّل برجوع عن الخطيئة. بتحوّل في العقلية، بموافقة الحياة لإرادة الله. وهكذا يرث يوحنا رسالة جده "لاوي" كما يصوّرها ملا 2: 6 ("ردّ كثيرين عن الاثم")، بل هو يكون المنادي أمام الربّ الآتي، ويشبه ايليا (ملا 3: 23) فيقوم بمهمته بروح ايليا وقدرته على العمل.
ويبدأ ابن زكريا بتجديد الميثاق (العهد). قال ملا 3: 1، 24: "ها أنا أرسل رسولي (ملاكي) أمامي ليهيّئ لي الطريق. يصالح الآباء مع البنين والبنين فع الآباء، لئلا يأتي ويلقي اللعنة على الأرض". سيجتمع الناس في شعب واحد، وهذا الشعب الواحد سيتّحد بالله.

4- أمانة الله القدوس لمواعيده (1: 18- 23).
وفعل زكريا كما فعل قبله آباء العهد القديم. وعد ابراهيم بأن ينال أرض كنعان ميراثًا له فقال:" يا رب، كيف اعرف أني سأنالها ميراثًا" (تك 7:15 ي)؟ وطلب جدعون علامة فشهد أن الله يصدق في كلمته، في وعده (قض 36:6 ي). وهذا ما فعله الملك حزقيا (2 مل 20: 8).
أجل، أجاب زكريا: "كيف أعرف هذا"؟ هي صعوبة جديدة. كيف نوفّق بين بشارة تفتحنا على المستقبل وواقع حاضر هو عقم أليصابات وكبر سنّ الزوجين. وُيزادُ على كلّ هذا. عدمُ إيمان زكريّا ("لأنك ما آمنت بكلامي"، آ 20). فزكريّا يطلب علامة أو بالأحرى "معرفة" فوق تلك التي كُشِفت له، وكأن كلمة الله تحتاج إلى أن تُبرِّر نفسها. عند ذاك ترافقت عطيّة الله مع المجازاة: إن الكلمة التي تخصب أليصابات ستجد علامتها في "بكم" زكريا واستحالة النطق عنده. تكلّم الله فصار الانسان أصمّ وأخرس (1: 22، 62). ولكنّنا لسنا أمام عقاب (رج اش 12:7: لا أسأل الربّ ولا أجرّبه)، بل أمام علامة دوّنت في لحم زكريا ودمه. فبفضل هذا البكم سيُحفظ سرّ الولادة. وستكون الولادة المنتظرة عند أليصابات علامة لمريم. وسيعود الموضوع عينه في آ 24: "اختبأت أليصابات خمسة أشهر". لم تختبئ من العار، فالعار هو بأن تكون عاقرًا. اختبأت لأن مسيرة الخبر تفرض أن يبقى السرًّ تامًّا ستعرفه مريم وحدها، بوحي من الله بفم الملاك جبرائيل. إن حبل أليصابات سيكون العلامة التي أعطاها الملاك للمرأة.
كان الاقتراب من قدس الأقداس خطيرًا للكاهن، لأنه يواجه فيه حضور الله (رج لا 10: 1- 2؛ خر 22:19، 24؛ 24 . 11؛ قض 22:6- 23). ولهذا يجب أن لا يتأخّر هناك. وخلال تقدمة البخور كانت الموسيقى تعزف. وبعد أن تنتهي التقدمة، كان المحتفل يخرج عائدًا إلى الشعب المصلّي. حينئذ كان الجميع ينحني لينال بركة الكاهن التي احتفظ لنا سفر العدد بإحدى تعابيرها: "يباركك الربّ ويحفظك. يضيء الربّ بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الربّ وجهه نحوك ويمنحك السلام" (عد 24:6- 26). أمّا الاحتفال فيصوّره ابن سيراخ حين يتحدّث عن الكاهن الأعظم سمعان (سي 50: 1- 21).
حين يتحدّث لوقا عن الهيكل يستعمل كلمة "ناوس" (المعبد، آ 9، 21، 22) وهو القسم المخصّص للكهنة. إنه مقام الله. ولن يستعمل هذه الكلمة إلا في 45:23: حين يموت المسيح يتمزّق حجاب المعبد: فعلى الصليب حيث يسلّم يسوع روحه لأبيه يقدّم الخدمة الليتورجيّة التي تمارس الآن. بدأ انجيل لوقا في المعبد وانتهى في الهيكل (53:24). إنه ليتورجيا عظيمة والمحتفل فيها هو يسوع المسيح. وهذه الليتورجيا هي غفران (34:23) ومباركة (24: 5- 51). على الصليب قال يسوع: "اغفر لهم يا أبي لأنهم لا يعرفون ما يعملون". وحين ارتفع إلى السماء رفع يديه وبارك جميع تلاميذه، فراحوا بدورهم إلى الهيكل "يباركون الله على الدوام" (آ 52).
"فلمّا انتهت أيّام خدمته رجع إلى بيته" (آ 22). لم يكن الكهنة يسكنون أورشليم، بل كان عدد كبير منهم يقيم في مدن فلسطين. وانتهى اسبوع خدمة زكريا فترك المدينة المقدسة وهو يحمل معه سرًّا عظيمًا، وتتمّة رغباته العميقة والعلامة أنه لم يكن فريسة الخيال وأن الله سيحقّق وعده. عاد أبكم ولكنّه عاد وقلبه يعمر بالثقة. الله حنان. حدثت البشارة خلال الليتورجيّا في الهيكل والرب أجاب إلى توسلات شعبه وكهنته. وبعد أيام قليلة سيعرف الهيكل ذروة بهائه. سيأتي الله بنفسه ويملأه بمجده. هل سيعلن الكهنة هذه الفرحة على الشعب، أم أنهم سيظلون صامتين لأنهم لم يؤمنوا؟

5- وتمّ الوعد المقدّس (1: 24- 25)
إن أليصابات هي واحدة من تلك النساء العاقرات اللواتي سيحبلن بصورة طبيعيّة بعد تدخل علوي من عند الله. مثل سارة التي حبلت باسحق (تك 17:17) ومنوح التي صارت أمّ شمشون (قف 2:13) وحنّة التي صارت أمّ صموئيل (1 صم 1: 22، 5). كان الرحم مغلقَا حتى الآن (1 صم 1: 5) ففتحه الله (تك 19: 31). أمّا مريم فستحبل بالروح القدس من دون تدخل رجل. لا تزال أليصابات في العهد القديم، أمّا مع مريم فبدأت "خليقة الله الجديدة" التي فيها لا يستطيع الانسان شيئًا. بل ينتظر الخلاص ويتقبله في الإِيمان.
ويرتّب الله أحداث التاريخ دون أن ينتزع من البشر حرّيتهم. واختبأت أليصابات خمسة أشهر. لم يكن أحد يدري بحالها. وفي الشهر السادس عرفت مريم بالأمر بعد أن قال لها الرسول الإِلهيّ: "هذا الشهر هو السادسة لتلك التي تدعى عاقرًا" (1: 36). وهكذا صارت أليصابات علامة منحها الله لمريم.
لماذا اختبأت أليصابات؟ فأم ذاك الذي هو مكرّس لله ستعيش كأنّها هي أيضًا مكرّسة لله. أمّا بالنسبة لأم شمشون فتلك كانت إرادة الله: فجاءني رجل الله. كان وجهه كوجه ملاك. كان منظره رهيبًا. قال لي: ها أنت تحبلين وتلدين ابنًا. منذ الآن لا تشربي خمرًا ولا مسكرًا ولا تأكلي شيئًا نجسًا. فهذا الولد يكون مكرّسًا لله منذ بطن أمّه حتى نهاية حياته" (قض 6:13 ي). مثل هذا النوع من الوحي يتضمّن عزلة واختباء. في تلك الساعة الحاسمة، عادت أليصابات إلى التذكرات البيبليّة لتعرف إرادة الله.
وامتلأت أيّام الرجاء والانتظار بالصلاة. شكرت أليصابات الله: "هذا ما صنع لي، هذا ما أعطاني". وكانت تتذكّر دومًا عمل الله فيها: نظر أليّ، ألقى نظره على خادمته. وتذكّرت حالتها الماضية وما كان فيها من ذلّ: نزع عنّي عار العقم. لقد اختبرت هي بنفسها ما اختبره شعبها خلال تاريخه: "تذكّرْ كل الطريق التي سيّرك (جعلك تسير) فيها الربّ إلهك في البريّة هذه الأربعين سنة. سمح أن تعرف الضيق وامتحنك ليختبر أفكار قلبك... سيُدخلك الربّ إلهك أرضًا صالحة... " (تث 8: 2- 7).
وتبقى بعد هذه البشارة الرسالة التي تنتظر السابق والمرسل الذي يتحدث عن تتمة تاريخ الميثاق الشامل الذي وعد به ابراهيم وتحقق بيسوع. يشدّد لوقا على الميثاق مع إبراهيم أكثر ممّا يشدّد على ميثاق سيناء، لأنه يريد أن يدلّ على انفتاح الكون كلّه على الخلاص.
كان زكريا وأليصابات "بارّين"، وكانا يسيران في كل وصايا الربّ وفرائضه، كانا بلا عيب (آ 6). غير أن زكريا لم يثق بكلام الملاك (آ 20). فلا بدّ أن تأتي رحمة الله الفيّاضة فتتحمّل عدم إيمانه وتتجاوزه. ويجب أيضًا أن يتلفت عدد كبير من أبناء إسرائيل إلى الربّ إلههم. أن تعود قلوب الآباء إلى أبنائهم. أي أن تصبح الأجيال الأمينة للشريعة شعبًا مستعدًا كلّ الاستعداد ومهيّأ ليكتشف في يسوع ذلك الذي يتمّم وعد الله (أع 13: 24).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM