الفصل التاسع الزيارة

الفصل التاسع
الزيارة
1: 39- 45

أ- الإِِطار: إنجيل الطفولة
يشكّل إنجيل الطفولة مرحلةً هامّةً في نموّ الوحي في العهد الجديد. حتّى ذلك الوقت، كان التقليد المشترك يجعل إعلان البُشرى (الانجيل) يبدأ مع عِماد يسوع (مر 1: 1؛ أع 1: 22؛36-37؛ لو 23:3؛ 23: 5؛ مر 1:1). فدخول السابق على المسرح يكوّن مفصلة بين العهدين: من جهة، هو نهاية التدبير القديم مع آخر الأنبياء وأعظمهم، ومن جهة ثانية، هو الإِعلان الأوّل لمجيء الملكوت. وعلى هامش هذا التقليد المشترك، ركَّزت بعض الأوساط الخاصّة في الكنيسة الأولى انتباهها على أصول يسوع البشريّة. فمنذ اللحظة الأولى لمجيء المسيح وسط البشر، انكشفت كرامته السريّة وإشعاع حضوره الخلاصيّ. إن أحداث الطفولة تنتمي هي أيضا إلى الإِِنجيل، إلى الخبر المفرح لحدث الخلاص.

1- رسمة لأهمّ المواضيع اللوقاويّة.
عرف لوقا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة هذه الحلقات الصغيرة التي رافقت مريم أو شهودًا آخرين فألقت على أحداث الطفولة النور الذي حمله التاريخ اللاحق. جَمَعَ تقاليد متعددة (قد يكون بعضها كُتب)، وجعلها في رأس كتابه. أخذها ولكنّه صبّها في رؤيته الخاصِّة لتاريخ الخلاص وعرض لنا بطريقته (وهي تختلف عن طريقة مت 1- 2) أحداثَا نكتشف فيها تدبير الخلاص كما سنراه في وَلْي إنجيله وفي سفر الأعمال.
إن الفصلين الأوّلين في الإِِنجيل الثالث يُبرزان منذ البداية مراكز اهتمام رئيسيّة في لاهوت القديس لوقا: تقبّل الخلاص في الإِِيمان، إشراق حضور المخلّص، فيض الروح القدس، ظهور رحمة الله، امتياز الصغار والوضعاء والنساء، مناخ الفرح والتعجّب والمديح. نرى كل هذه السِمات التي تميّز أزمنة الخلاص، نراها بصورة ساطعة لا بعد العنصرة فقط، أو خلال حياة يسوع العلنيّة وحسْب، بل بصورة خفيّة وحميمة مع أحداث الطفولة ويوم تقبّل مجيءَ المخلص للمرة الأولى أناسٌ تشرّبوا من تقوى العهد القديم.

2- تأليف النصّ
وحين أراد لوقا أن يُدخل هذه الأفكار في ذهن القارئ، اختار بعض الوقائع البارزة وقدّمها حسب ترتيب منهجيّ. فأخذ مثلاً بموازاة بين البشارة لزكريّا (1: 5 ي) والبشارة لمريم العذراء (1: 26 ي)، بين ميلاد (مع الختانة والنموّ) السابق (57:1 ي) وميلاد (مع الختانة والنموّ) يسوع المسيح (2: 1ي). فبهذا البناء التناسقيّ والمتدرّج الذي تؤكّده تشابهات على مستوى المفردات والأسلوب فتشدِّد بصورة ظاهرة على شخص يسوع ودوره، بهذا البناء أبرز الخبرُ الإِِنجيليّ التواصل بين تدبيرين دينيّين كما أبرز خضوع يوحنا (ومعه العهد القديم) الكامل ليسوع.
وفي خبر الزيارة نجد أيضًا هذا الرباط بين السابق وشموع المسيح، مع رباط مماثل بين أمّ يوحنا وأمّ يسوع: نجد تشابهًا بين نفسي هاتين المرأتين من جهة، ومن جهة ثانية سموّ مريم على أليصابات سموًّا لا مثيل له. لقد نالت مريم الآن أهميّة لم يقرّ بها التقليد المشترك (رج مر 3: 31- 35 وز). فالروح يعلّمنا عَبْرَ رِفد لوقا، أن كرامة مريم الرفيعة هي جزء من الإِِنجيل، من مُعْطَيات الوحي.
وإذا قُمنا بدراسة نقديّة للمراجع نرى أنّ ف 1 يمزج وثيقتين سابقتين ومستقلّتين الواحدةُ عن الأخرى. وُجِدَ في البداية خبرٌ يتعلّق بيوحنا المعمدانِ (البشارة لزكريا، ولادة الطفل، 1: 5- 25، 57- 80). خبر يشكّل وَحدةً كاملة مع ميزات أدبيّة وتعليميّة خاصّة. ويبدو يوحنا في هذه الوثيقة كالسابق المقبل لا للمسيح، بل ليهوه نفسه، للربّ (كيريوس) كما يقول العهد القديم.
قال ملا 3: 1: "ها أنا أوفد رسولي فيهيّئ الطريق أمامي. وللوقت يأتي إلى هيكله السيّد (الله الذي يسود الكون) الذي تلتمسونه، وملاك العهد (عملُ الله عملٌ مباشر، ولكنهم يجعلونه يتمّ عَبْرَ وسيط احترامًا لله). ها هو يأتي، قال ربّ الأكوان". وفي ملا 23:3 نقرأ: "ها أنا أرسل إليكم إيليا النبيّ، قبل أن يجيء يوم الربّ العظيم الرهيب". احتلّ شخص إيليا مكانةً هامّة في الأدب اليهوديّ كسابق للمسيح. وسيبينّ يسوع أن يوحنا المعمدان قام بهذا الدور خير قِيام (مت 17: 9-13 وز).
نحن نتخيّل ما استخرجه من هذه النصوص المتشيّعون للمعمدان الرافضون مسيحانيّة يسوع.
أمّا وثيقة لوقا الثانية في ف 1 فتتعلّق بمريم: البشارة والزيارة (26:1- 56). أُقحمت الوثيقة الثانية في الوثيقة الأولى فكان لنا هذه الموازاة التضادّيّة التي وجدناها بين البشارة لزكريا والبشارة لمريم، مع التأكيد على سموّ مقام مريم.

3- البشارة والزيارة
في هذه الوثيقة الثانية (1: 26- 56) ترتبط الزيارة ارتباطًا وثيقًا بالبشارة. إنهما درفتان متكاملتان لديبتيكا واحدة. تقبّلت مريم الكلام السماويّ المتعلّق بأمومتها المسيحانيّة، فسألت الملاك عن بتوليّتها. حينئذ حدّد الملاك الطابع العجائبيّ والبتوليّ للحبل الذي أعلنه ("الروح القدس يحلّ عليك"). وأعطى علامةً عن هذا الوعد، علامةً قريبة وسابقة: حَبَل أليصابات العجائبيّ، رغم كبر سنّها وعُقْمِها السابق ("ها نسيبتك أليصابات حُبلى بابن في شيخوختها... وهي التي دعاها الناس عاقرًا"، آ 36).
وفي مسيرة الخبر هذه (كلام الملاك، سؤال مريم، جواب الله الذي يؤكّده الوعد ويحدّده) نكتشف رسمةً إصطلاحيّة في التوراة تتحدّث عن بشارات بمولد عجيب (تك 17: 15- 22؛ 18: 10- 15؛ قض 13: 2- 14). فبحسب هذه السوابق، تضمّنَ الوعد الإِِلهيِّ الموجَّه نحو خلاص الشعب، إشارةً إلى علامة (قض 36:6- 40؛ اش 7: 10- 16) سيَروي الكاتب فيما بعد كيف تحقّقت.
ويعرض حدثُ الزيارة أوّلاً تقريرًا عن هذه العلامة: ارتعش يوحنا في حشا أمّه فشهد أنها حامل، فكان الضمانةَ لحبل العذراء العجيب. هنا ينتهي الخبر الذي بدأ في البشارة. وكذلك تتضمّن البشارة لزكريا بعد سؤاله للملاك، إشارةً إلى علامة (صمت الرائي مدّة طويلة: "وها أنتَ تكون صامتًا"، رج قض 37:6؛ 1 صم 10: 1؛ 14: 8؛ 1مل 13: 3؛ 2 مل 20: 9؛ اش 7: 14؛ 30:37؛ 7:38؛ ار 44 :29) ستتحقّق حين يولد الطفل (نذكر ان خبر الولادة تلا حالاً خبر البشارة).
ونقول الشيء عينَه عن حدَث الرُعاة (8:2- 20). إن إعلان ميلاد المسيح رافق ذكر العلامة (اكتشاف طفل يرقد في مذود) التي أسرع الرعاة ليتأمّلوها. إن التشابه بين هذه الأخبار يدلّ على تماثل فنِّها الأدبيّ. وهكذا فمعنى الزيارة نجده بالنسبة إلى البشارة. والإِشارة إلى العلامة تطلب التحقق منها.
والخبر الثاني (الزيارة) يعرض ظهور العلامة التي وُعد بها في الخبر الأوّل: تدخّلُ الله بشكل مهمّ وقريب، ودورُه أن يؤكّد الوعد الأساسيّ المعطى في البشارة (أمومة البتول المسيحانيّة).
وتتوالى المقطوعة حسب حركة معروفة عند لوقا ببعض آيات المديح: مديح أليصابات لمريم (آ 42- 45)، مديح مريم لله (آ 46- 55، نشيد التعظيم). تتضمّن خطبة أليصابات ثلاث مراحل، حيث تشكّل المرحلة الثانية تفسيرًا للحدَث الذي حصل الآن. إن هذه الجملة المِحْوَريّة التي يسيطر عليها لقب "أمّ الربّ"، تقع بين جملتين أُخرَيَين تمتدحان مريم بلغة المباركة (آ 42: "مباركة أنت في النساء") ولغة التطويبة (آ 45: "طوبى للتي آمنت").
وهكذا يُغْني لوقا المعنى الأوّل للحدَث (التحقّق من العلامة) بتعاليم أخرى تهمّه بصورة خاصّة حول الكرامة الفريدة لأمّ الربّ. وأخيرًا يَرِدُ نشيد التعظيم، وهو نشيد شكر تتفوّه به العذراء. وهكذا تنتهي متتاليةُ البشارةُ والزيارة.
وتتضمّن المقطوعة التي ندرس قسمَين:
أوّلاً: الحدَث: لقاء المرأتين، ارتعاش الطفل في حشا أُمّه. وهكذا ظهرت العلامة التي وعد بها الملاك في البشارة.
ثانيًا: خطبة أليصابات التي تفسّر الحدَث وتمتدح أمّ الربّ.

ب- ظهور العلامة (آ 39- 42 أ)
1- اللقاء (آ 39- 40)
نلاحظ منذ قراءتنا الأولى للنصّ توافرَ التعابير البيبليّة: قامت وانطلقت، في تلك الأيَّام... إن التأمّل المسيحيّ انصبَّ في قوالب استعملها الكتاب المقدس. والهدف هو تَبيان التواصل المسيحيّ بين العهد القديم والعهد الجديد.
... "في تلك الأيّام". هذه الإِشارة الغامضة والمتواترة عند لوقا تَعني هنا (كما في 7:23): "في تلك الأيَّام عينِها". وهي تربط خبر الزيارة بالخبر الذي سبقه. فكلام الملاك المتعلّق بحبَل أليصابات العجائبيّ يتضمّن دعوةً إلى مريم لكي تذهب وتتأمّل العلامة العجيبة. وانطلاقة مريم هي جواب على ما أوحى به الملاك.
وانطلقت مريم حالاً في خضوع إيمانها وهي متأكّدة من كلام الله. انطلقت "مسرعة" نحو أليصابات. وما إن وصلت حتى وقفت على حقيقة العلامة.
إن اللفظة التي تتحدَّث عن سرعة العذراء لا تشير بصورة مباشرة إلى العجلة في الإِنطلاق والسرعة في السفر. إنها تدلّ بالأحرى على استعداد داخليّ وحالة نفسيّة تتألّف من الورَع والتقوى، من غيرة لأمور مهمّة. وفي العهد الجديد تدلّ اللفظة دومًا على مثل هذا الاستعداد الباطنيّ.
وإذا عُدنا إلى سِياق النصّ نرى أن "سرعة" العذراء تحرّكها عواطف ثلاث:
- مخافة دينيّة وشعورٌ رهيب أمام الأحداث العجيبة التي تحصل. نقرأ في آ 29: اضطربت. وفي آ 30: لا تخافي.
- الفرح: فالملاك يدعوها إلى الفرح (آ 28: ابتهجي)، وأليصابات تحدّثها عن ابتهاج الجنين في حشاها (آ 44)، ومريم تُنشد بدورها: "تبتهج روحي بالله مخلّصي" (آ 47).
- الإِِيمان: لقد انتهى خبر البشارة في موضوع الإِِيمان (آ 38). وسنتذكّره في نهاية هذه المقطوعة: "طوبى للتي آمنت" (آ 45).
ونفهم هذه الاستعدادات بطريقة أفضل إن نحن عُدنا إلى سفر دانيال الذي يعبّر عن عواطف الملك بالطريقة عينها. بعد أن شاهد الملك معجزة الفتيان الثلاثة في الأتّون، كتب دا 3: 91: "حينئذ دَهِش نبوكد نصّر الملك وقام بسرعة وسأل أصدقاءه". وبعد معجزة نجاة دانيال من جبّ الأسود، نقرأ: "وفي الغداة، قام الملك عند الفجر وانطلق مسرعًا إلى جبّ الأسود" (دا 6: 20).
نحن هنا أمام أسلوب جليانيّ، والإِِطار إطار رؤيا ووحي، يصوّر جواب الإِنسان وتوسّله أمام تدخّل عُلويّ سيحدث دهشةً مقدّسة وإعجابَ الفرح وتعلّق المَؤمن بعمل الله.
نستطيع أن نفكّر أيضًا بمحبّة مريم التي عجّلت بالذهاب لمساعدة نسيبتها المسنّة التي ستصبح أمًّا. هذا الباعث هو أمرٌ مسلَّمٌ به في الظرف الحاضر. ولكن الكاتب الملهم لا يذكره ولا يلمّح إليه.
وانطلقت مريم إلى الجبل، إلى مدينة في يهوِذا، إٍلى بيت زكريّا. تتردّد أداة "ايس" (إلى) اليونانيّة ثلاث مرّات فتحدّد لنا شيئَا فشيئا المكانَ الذي تتوجّه إليه مريم. وهذا ما يدلّ على الحركة والاندفاع اللذَين يحملان مريم، على الفرح والحماسة اللذين يحرّكانها منذ كلام الملاك السعيد ومجيء الله إليها. وهذا الفرح سوف يتفجّر في نشيد التعظيم.
لا يهتمّ الإِِنجيليّ لظروف السفر، ولا يذكر اسم "مدينة يهوذا" التي انطلقت إليها مريم. فهي مدينة غيرُ معروفة، على ما يبدو، وغيرُ مهمّة من الناحية اللاهوتيّة.
وحين وصلت مريم إلى نسيبتها أليصابات، بدأت فوجّهت لها التحيّة المعروفة: تمنّت لها الفرح والسلام والخلاص حسب ما تقول التوراة. لا يفصل لوقا عبارات السلام هذه، فمضمون كلمات مريم لأليصابات أقَلُّ أهميّةً من حدث اللقاء الذي فيه ستظهر العلامة.

2- وارتكض الجَنينُ من الفرح (آ 41- 42 أ)
إن تحيّة مريم، شأنُها شأنُ تحيّة الملاك، حملت نعمةً وأنبأت بحضور الله. ومنذ اللحظة الأولى للقاء بين المرأتين ظهرت العلامة: حين دلّت مريم على وصولها، سمعت أليصابات صوت نسيبتها. ويشدّد الإِِنجيليّ على هذا الواقع في آ 41 (خبر الحدث) وقي آ 44 (تفسير الحدث بفم أليصابات).
أحسّت أليصابات وهي في شهرها السادس، بحركة الولد الذي تحمله. حينئذ امتلأت من الروح القدس لتفسّر هذا الحدث.
إن عددًا من العبارات المستعملة هنا تثير فينا الدهشة: الجنين ارتكض، قفز، رقص (سكيرتاوو، رج مز 114: 4، 6؛ ار 27: 11؛ ملا 3: 20؛ تك 25: 22؛ لو 23:6). وأطلقت أليصابات صوتًا عظيمًا، صوتًا جهيرًا (زعقت، صاحت). إن مثل هذا الكلام يذكّرنا بقوة هجومَ الروح القدس في العهد القديم أو في أيّام الكنيسة الأولى. حينئذ كان يحلّ الروح على أحد المختارين فيعطيه أن يتنبّأ، أي أن يتكلّم باسم الله ويفسّر الأحداث بحسب المخطّط الإِِلهيّ. والانخطاف المفاجئ الذي يُمسك بالطفل، والصُياحُ الذي أطلقته أليصابات، دلاَّ على الطابعَ الخارق لقبضة الروح. يرى الإِِنجيلي هنا أكثرَ من فرحة طبيعيّة لدى امرأة مسنّة ستصير أمًّا، أكثرَ من شعور عميق لدى تلك التي زال عنها العارُ من بين الناس (آ 35). ما يحدُث لها ينغمر في تيّار إلهيّ، في مُناخ تدخّل غلوي تظهر قوتُه بصورة غريبة.
لا يقول لوقا هنا بوضوح إن الروح القدس حلّ على يوحنا المعمدان. لقد جاء يملأ أليصابات فيجعلها تتنبُّأ. كان قد أورد الإِِنجيليّ في آ 15 كلامَ الملاك جبرائيل لزكريّا: "يمتلئ من الروح القدس". وهذه الآية أثّرت على تدوين آ 41: "امتلأت أليصابات من الروح القدس".
حين جاءت مريم التي يقيم فيها الحضور الإِلهيّ، ملأ الروح القدس يوحنّا المعمدان وأمّه. وتكلّمت أليصابات كأمّ السابق. ومنذ الآن ابتهج السابق وشهِد لذلك الذي تحمله مريم في حشاها. في نظرة لوقا اللاهوتيّة، يدلّ هذا المشهد على استباق للقاء بين المسيح وسابقه في بداية حياة يسوع العلنيّة.

ج- أليصابات تمتدح مريم (آ 42 ب- 45)
تشكّل الكلمات المنسوبة إلى أليصابات خُطبةً نبويّة: ألهمَها الروح فانصبّت في أشكال التوراة الغنائيّة (مباركة، تطويبة)، وحملت حماسةً واندفاعًا مقدّسًا. دلّت على مجيء المسيح الذي هو أساس كرامة أمّه.
في الواقع، تعبّر هذه الكلمات عن تفكير مسيحيّ مبنيٍّ بناءً مُحْكمًا، وهو يعود إلى الروح القدس.
لا يعتبر لوقا أنه يورد كلمات أليصابات بحرفيّتها. ويبدو من الصعب أن نقبل بأنّ أليصابات، حتى مع أنوار الروح الخاصّة، استطاعت أن تعرف منذ اللحظة الأولى أنّ مريم حبلت هي أيضًا وأنها ستصبح أمًّا وأمَّ المسيح، أنها تلقّت رسالة من السماء وتجاوبت معها في الإِِيمان، وأنّ ابن مريم هو ذلك الذي سيكون يوحنا المعمدان سابقَه... وكيف تسَتطيع أن تتكلّم أليصابات عن "ثمرة بطنك" وعن "أمّ ربّي" ساعةَ حبِلت العذراء؟
كلّ هذا الكلام فهمته الكنيسة فيما بعد، وجعلته في فم أليصابات. فالثمرة التي قطفها المؤمنون كانت في البَذْرة التي وضعها الروح القدس يوم كان يوحنا بعد في حشا أمّه.
وتتوزّع خُطبة أليصابات في ثلاث جمل موضوعةٍ الواحدةُ قربَ الأخرى، ومرِتبطةٍ الواحدةُ بالأخرى بحرف العطف (كاي في اليونانيّة). أجابت أليصابات أوّلاً على تحيّة مريم مُستعملة المباركة لتنشد نعمة الله الخارقة التي غمرت مريم بسبب ابنها. ثم فَسَّرت بأسلوب مليء بالاستشهادات الكتابيّة، الحدثَ الذي حصل فيها: إن إرتكاض الجنين المفاجئ في حشاها يتوافق ووصولَ مريم. هذا ما يجعلها تنشد مجيء أمّ الربّ. هذا اللقب هو قِمَّة مديح أليصابات لمريم. وأخيرًا، طوَّبت مريم العذراء وتغنَّت بإِيمانها في منظار تتمّة الوعد الإِلهيّ الذي تأكّد وصار قريبًا. وهكذا تتوحّد جملُ الخُطبة الثلاثُ في النظرة الى الأمومة المسيحانيّة.


1- مباركة أنتِ (آ 42 ب).
تتضمّن الجملة الأولى جزئين متوازيَين، ولكن لا فعلَ فيها. وإذا نظرنا إلى القرينة (التي تعلن مريم أمّ الرِبّ) نفهمها أمرًا محقَّقًا لا تمنّيًا: إنّها تعني: أنتِ مباركة فعلاً، لا: كوني مباركةً. هذا التعبير الدينيّ الصِرف نجدُه متواترًا في التِوراة. إنّه صرخةُ الإِِعجاب والفرح أمام شخص غفره الله بعطاياه، أمام شخص بانَ فيه كرمُ الله وحبُّه. ميّز الله أحدَ الأشخاص فاعطاه القدرةَ والغنى والسعادة، أعطاه البنين بعد العُقم، والخيراتِ بعد الفقر. قال الربّ لإِبراهيم عن سارة: "أباركها وأعطيك منها ابنًا. أباركها فتُنجب أمَمًا، ويخرج منها ملوك" (تك 16:17).
ونجد أيضًا صيغة التفضيل: مبارك بينِ الجميع، مبارك فوق الجميع. نقرأ في تث 14:7: "تكون (أيّها الشعب) مباركًا فوق جميع الشعوب". وفي تث 33: 24: "مباركًا يكون أشير (أحدُ الأسباط الاثني عشر) بين البنين. يكون مميَّزًا بين إخوته". وُينشد سفر القضاة (24:5) ياعيل التي قتلت عدوّ شعبها: "مباركة بين النساء ياعيل امرأةُ حابر القينيّ، مباركةٌ بين النساء المقيمات في الخِيام". وأنشد عزّيّا رئيس الشعب يهوديت فقال لها: "مباركة أنت يا بنيّة من الله العليّ، فوق جميع نساء الأرض" (يه 18:13).
يستعمل لوقا هذه الصيغة من أجل قوّتها التعبيريّة، لا بالعودة إلى أحداث من تاريخ إسرائيل. تدهَشُ أليصابات من تدخّل الله في مريم. وإذ أرادت أن تنشد عظمة البتول التي تتفوّق على كل عظمة، والتي جاءتها مباشرة من الرب، لجأت إلى العهد القديم تستلهم تعابيره.
والجزء الثاني من الجملة (يوِازي الجزء الأوّل) يجمع في مديح واحد مريمَ وابنَها. إن المديح الثاني حلّ محلّ الباعث على المديح الأوّل. فالتقاربُ بين المديحَين واضح: تبارَك مريم بسبب ابنها الذي حظيَ برضى الله بطريقة لا مثيلَ لها. لقد طُبّق التأويل المعاصر على المسيح مز 118: 26 ("مبارك الآتي باسم الرب") فرأى فيه الكائنَ الذي باركه الله بركةً لم تصل إلى أحد.
"مباركٌ ثمرةُ بطنك". نحن نقرأ عبارةً مماثلةً في تث 28: 4: "إذا أطعت الربّ... يُبارَك ثمرُ بطنك" (رج تك 30: 2؛ تث 7: 13؛ 28: 18). ولكن شتّان ما بين ثمرٍ وثمر، بين ثمرِ بطنٍ عاديّ وذلك الذي قالت فيه إحدى النساء مادحةٍ مريم العذراء: "طوبى للبَطن الذي حملَك، وللثديَين اللذين أرضعاك" (11: 27).

2- أمّ الربّ (آ 43- 44)
إن الجملة المركزيّة في خطبة أليصابات تقدّم لنا لقبَ مريم الرفيع: أمَّ الربَّ. وقد أقرّت أمُّ السابق بهذا اللقب بعد الخِبرة التي عاشتها في لقائها بالعذراء.
"أمّ الرب". كيف نفهم هذه التسمية في فم أليصابات أو في إنجيل لوقا؟ إن عبارة "ربيّ" او "سيّدي" ترتبط بالبَلاط الملكيّ. يُسمَّى الملك ربّي أو سيّدي. ثم استُعملت التسمية للمسيح، لذلك الملك المثاليّ الذي يأتي في آخر الأيّام. ففي مز 110: 1 نقرأ: قال يهوه (الربّ) لسيدي (أدوناي) الملِك (والمسيح هو الملِكَ الذي اختاره الربّ ومسحه). وهكذا رأت أليصابات في نسيبتها الصبيّة أمَّ المسيح في كرامته الملوكيّة. إذن، أعلنت مجيء المسيح نفِسه. تنبّأت عن هذا المجيء.
حين دوّنِ لوقا إنجيله (80 سنة بعد الحدَث)، كان واعيًا أنه يستعمل عبارة تحمل معنًى ساميًا جدًّا. فيسوع هو ربّ المملكة الاسكاتولوجيّة بقيامته وارتفاعه من عن يمين الآب. هو لا يجهل هذا المعنى المتعالي، ولكنه لا يوضحه فيقدّم مغالطةً تاريخيّة. إنه يورد اللقب ويتركه مفتوحًا على تعمّق لاهوتيّ لاحق.
ويفسر النصّ كيف عرفت أليصابات مثل هذه الكرامة في مريم: ارتكاض الجنين حين وصولِ العذراء، يُفسَّر الآن على ضوء الروح الذي ملأ اليصابات، كحركة فرح وابتهاج. إنه الفرح المسيحانيّ والاسكاتولوجيّ. تحرّك الطفلُ من الابتهاج، وكان سببُ هذا التهليل مجيءَ المسيح ألربّ.
إن موضوع الفرح هو مع موضوع الروح القدس ومديح الله صت المواضيع المفضّلة لدى لوقا الذي سمّيَ أيضًا "إنجيليّ الفرح". فإنجيل الطفولة كلّه ملاحظات تصوّر مُناخَ الفرح الذي أحاط بمجيء المخلِّص (24:1، 28، 41، 42، 44، 47، 55، 58؛ 2: 10، 13- 14).
لا يخترع لوقا ما نجدُه في هذه اللوحة، بل هو ينقل إلينا مُعْطَيات تقليديّة. أعلنت أليصابات أنها لا تستحقّ أن تستقبل أمَّ الربّ، ولكن حين جاءت مريم، تهلّل يوحنا ابتهاجًا. مثل هذا الكلام يذكّرنا بما قاله السابق أمام المسيح في بداية حياته العلنيّة. في مت 3: 14 نرى يوحنا المعمدان يَدْهَش، ويعلن أنه غير أهل لشرف يمنحه إيّاه يسوع حين يأتي ليعتمد على يده. وفي يِو 3: 29- 30، أعلن المعمدان فرحه الكامل وتهليله الطافح لسماعه صوتَ العريس. ثم يعلن حالاً: "له هو أن يَزيد، ولي أنا أن أنقُض". تلك هي سِمات نفس المعمدان: فرحٌ وتواضع، احتفظ التقليد الانجيليّ بالاتّجاه العامّ، وعبّر عنه كلّ إِنجيلي بطريقته. ولوقا الذي يلقي الآن اهتمامَه على طفولة المسيح قرأ الحلقة الحاضرة على ضوء التاريخ اللاحق. فمنذ طفولة المخلّص، بل قبل ولادته، ارتسمت مسبّقا تصرّفات السابق المقبلة وتصرّفاتُ المسيح.

3- طوبى للتي آمنت (آ 45)
وتلجأ جملة أليصابات الأخيرة إلى أسلوب التطويبة (أبسط من أسلوب المباركة) لتُدخل فضيلة الايمان عَبْرَ مديحها لأمّ الربّ.
نستطيع أن نقرأ الجملة بطريقتين اثنتين:
- طوبى للتي آمنت أنه سيتمّ (مضمون الايمان)
- طوبى للتي آمنت لأنه سيتمّ (أساس التطويبة)
في الترجمة الأولى، تُهنَّأ مريم مباشرةً بسبب إيمانها. وفي الثانية تُهنَّأ لأن الوعد الالهيّ تمّ فيها بفضل أمومتها المسيحانيّة. هذه التتمّة تتضمن ايمان مريم، ولكن الترجمة تشدد على تدخل الله. هذه الترجمة الثانية توافق فنّ التطويبة العاديّ (طوبى للمساكين لأنهم...). إن هذا الاعلان المؤكد يستند إلى علامة سابقة وقد ظهرت الآن.
يُنشَد إيمانُ مريم أمام إيمان زكريّا. قال له الملاك: "لم تُؤمن (تصدّق) بكلامي" (آ 20). أمَّا مريم، فهنيئًا لها لأنها آمنت بكلمة الله التي ستتمّ في أوانها. يُبرز هذا التعارض مرّةً أخرى تفوّق المسيح على السابق، وتفوّق أمّه على زكريا وأليصابات.
كتب الانجيليّ هذه الكلمة، ففكر ولا شكّ بقبول يسوع النبويّ الذي سيورده في 11: 28. فإذا أردنا أن ندرك وعد لوقا في هذا المجال، نقابل 11: 28 مع 8: 21 وز، حيث يقابل يسوع بين أمّه (وإخوته) من جهة، وتلاميذِه (الذين يسمعون كلمة الله) من جهة أخرى. أن قابلنا لوقا مع متى ومرقس، وجدنا أنه يخفّف من حِدّة التعارض ويتجنب السؤال الجافّ: "من هي أميّ" (مر 3: 33)؟ اما 11: 28 فهي خاصّة بلوقا، وهي تقدّم بشكل تطويبة، لا تعارضًا (بين مريم والتلاميذ) بل تدّرجًا من أمومة مريم إلى تعلّق بكلام الله: "بل طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها". نُحسّ أنّ الأمومة لا تنفى سماع كلمة الله. فالقرابة الجسدّية لا تحتقَر بالنسبة إلى التعلّق الايماني، وأمومة مريم تدخل في منظار سامٍ جدًّا: فأم المسيح هي التي تفوّقت على الجميع في تعلّقها بكلمة الله. فالايمان جزء لا يتجزّأ من كرامة مريم. وعلى أساس هذا الايمان ستصبح العذراء أمّ الربّ كما وعدها الملاك في مشهد البشارة.

د- خاتمة
يورد إنجيل الزيارة أولاً تحقيق العلامة التي أشار إليها خبر البشارة: فالحدَث المَرْويّ (حبل أليصابات العجائبيّ، مولد السابق القريب) يؤكد وعد الله فيما يخصّ مجيء المخلّص ودعوة مريم إلى الأمومة المسيحانيّة، وكفالة حبلها البتوليّ. فالكلام الذي سمعته في البشارة وصلَ بها إِلى الايمان، شأنه شأنُ علامة الزيارة. ففي زمن المجيء تتوجّه إلينا كلمة الله لتشركنا مع مريم العذراء، لتشركنا في انتظارها للمسيح في الايمان.
وفي القِسم الثاني من المقطوعة، نقَلَ إلينا لوقا بفم أليصابات شهادة إكرام الكنيسة الأولى لمريم العذراء. إن كرامة أمّ الربّ تنتمي إلى مُعطى الوحي. فمريم مباركة فوق كل خليقة بسبب ابنها الذي هو مستودع ألبركة الالهية الأولّ للذين يقبلونه بالايمان.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM