الفصل الحادي والعشرون: الخروج دينونة الله لمصر

الفصل الحادي والعشرون
الخروج دينونة الله لمصر

ما زلنا في مقابلة بين عالم الكهنة وعالم الأنبياء. فالضربات هي في الواقع نداء يطلقه النبيّ فيدعو شعب مصر وملك مصر إلى التوبة. ولكن فرعون قسّى قلبه، أو هو الله سبّب بشكل غير مباشر هذه القساوة. لهذا بدا الخروج من مصر دينونة يحكم فيها الله على مصر لأنها رفضت أن تسمع. هذا هو موضوعنا في هذا الفصل.

1- تضاربات بين الكهنوتيّ والنبويّ
نلاحظ في الخبر الكهنوتيّ عددًا من العبارات الآتية من أقوال الأنبياء ضدّ الأمم في الادب النبويّ. ثم إن هذه المعطيات ليست مشتّتة، بل هي تتجمَّع مرارًا في أقوال حزقيال. وهذا ما يعطي البرهان الذي نقدّمه، قوّته وتركيزه.
العبارة الأولى حول الدينونة نجدها في الكهنوتيّ، في خر 7: 5: "مدّ يده على" (ن ط ه. إت. ي د. ع ل). تُستخدم هذه العبارة دومًا لتصوّر حركة عقاب. والفاعل هو الله، وقد يكون مرسله فقط في الخروج (ما عدا 7: 5). هذه العبارة تميّز الأنبياء. فاذا وضعنا خر جانبًا، فهم يتفرّدون في استعمالها. فهي جزء من دعوى الله على شعبه وعلى الأمم، وهي تتضمّن إعلان تنفيذ العقاب. بهذا الشكل، تعطي العبارةُ خبر الضربات طابعًا خاصًا. هي أحكام بها يدين الله فيفرض "تصرفًا" على مسيرة الأحداث. والعبارة تظهر للمرة الأولى في الخبر. تظهر لا في أول خطبة من خطب الله لموسى (6: 2-8)، بل في الخطبة الثانية التي فيها يفصِّل الله مهمّة مرسله في القريب العاجل (7: 1- 6): "حينئذ يعرف المصريون أني أنا الرب، حين أمدّ يدي على مصر" (7: 5 أ). بعد ذلك تظهر في موضعين داخل الحدث. أولاً في خبر الضربات (تحوّل الماء إلى دم، 7: 19؛ الضفادع، 8: 1؛ البعوض، 8: 13. هنا لا نجد حرف الجرّ ولا المفعول. وهي غائبة من ضربة القروح، 9: 8-12). ثانيًا، هي تعود أربع مرّات في خبر عبور البحر (14: 16، 21، 26، 27). في خبر الضربات كما في عبور البحر، هي يد هارون أو يد موسى (حسب الحالات) التي تصنع الحدث، تحرّك العمل (هارون في الضربات. موسى في معجزة البحر). وهكذا تضع هذه العبارة مجمل ف 7-14 في إطار العقاب الإلهيّ الذي أعلن في 7: 5 وتمّ بشكل نهائيّ في ف 14.
العبارة الثانية التي تشكّل مفتاحًا في هذا المقطعَ هي لفظة "أحكام" (ش ف ط ي م). هي تعود ثلاث مرّات في الخبر. في خر 6: 6، في الخطبة الحَي فيها يوسّع الله كل مخطّطه الخلاصيّ منذ القسَم للآباء حتى الدخول إلى أرض الموعد. و"الأحكام الكبرى" (جمع حُكم) ترتبط بشكل إجماليّ بعمل الله الخلاصيّ حين يُخرج اسرائيل من مصر (خر 6: 6). وفي خر 7: 4 ب، تتّخذ اللفظة معنى أكثر تحديدًا. "الأحكام الكبرى" (أحكام الله) ترافق الخروج من مصر بحصر المعنى، أي في الخبر الكهنوتيّ، في خر 14. وفي خر 12: 12، نحن أمام موت الأبكار. وحده الكهنوتيّ يستعمل هذه اللفظة في البنتاتوكس (خر 12: 12 يعود في عد 33: 24). وإذا جعلنا أم 29:19؛ 2 أخ 24: 24 جانبًا، فحزقيال هو الذي يستعمل هذه اللفظة أكثر ما يستعمل. في كل مرّة تدلّ اللفظة على دينونة وحكم ينتهيان بالعقاب. وإذا وضعنا 2 أخ 24: 24 جانبًا، الله هو دائمًا فاعل هذا العمل. ففي نظر حز، هذا الحكم الذي يعاقب يصيب أورشليم (5: 10، 15؛ 11: 9، نخبة المدينة، 14: 21؛ 16: 21) أو الأمم (25: 11؛ 28: 22، 26؛ 30: 14، 19). ونلاحظ أن هذه اللفظة هي في أكثر المرّات جزء من عبارة خاصة: "أنفذ الأحكام ضدّ" (ما عدا خر 6: 6؛ 4:7؛ حز 14: 21؛ 2 أخ 24:24؛ أم 29:19). على ما تدلّ عليه هذه العقوبات؟ تتوزّع لائحة الشرور في إسرائيل. ونجد عنها ملخّصًا في حز 14: 21. أما بالنسبة للأمم فالفناء. وفي الكهنوتيّ نجد سياقًا مماثلاً لسياق دينونة الأمم عند حزقيال: الله سيزيل فرعون وجيشه. وينفّذ هذا الحكم خلال عبور البحر. والضربات التي تسبق هذا العبور هي علامات تعلن مسبقًا الكارثة الأخيرة.
العبارة الثالثة تتيح لنا أن نحدّد بشكل أوضح مرمى الخبر الكهنوتيّ. ففي سياق الدينونة تبرز عبارة اعتراف بالله نجدها في خر 7: 4-5؛ 14: 4، 18. ويستعمل حزقيال أكثر ما يستعمل هذه العبارة في الدعوى ضد الأمم وضدّ أورشليم (حز 11: 10). في خر 7: 5 يعلن الله أن مصر ستعرفه "حين يمدّ يده عليها". وهذا يتحقّق حين يتمجّد الله على حساب المصريين بمعجزة البحر (خر 14: 4، 18). فهذا يعني من وجهة الخبر، أن اعتراف مصر بالرب يرتبط بهذا الحدث لا بالضربات.
إن عبارة "الاعتراف" لا ترتبط بحدّ ذاتها بدينونة وحكم. ولكن في خبر الخروج من مصر، نلاحظ من خلال تفاصيل عديدة أن الكهنوتيّ يربط رباطًا وثيقًا اعتراف المصريين بالله والحكم عليهم الذي هو في الواقع غرقهم في البحر. هذا ما دلّ عليه التعبير الأول في الجملة، لأنه يعلن أن المصريين سيعرفون الرب حين "يمدّ يده عليهم" (7: 5). أي حين ينفّذ الحكم. ولكن هناك أكثر من ذلك. ففي حزقيال، لفظة "ش ف ط ي م" (دينونة، حكم) ترتبط دومًا بعبارة الاعتراف بالله حين نكون أمام "دينونة" الأمم (حز 25: 11؛ 28: 22، 26؛ 30: 14، 19). وبعبارة أخرى في الأقوال ضد الأمم، كما في حز، الله يعرّف بنفسه بواسطة الأمم حين ينفّذ أحكامه ضدّهم. أما عندما يكون الأمر متعلّقًا بإسرائيل، فالرباط بين العبارتين يبدو متراخيًا (حز 5: 10؛ رج آ 13؛ 11: 9، 10). غير أن حز 28: 24-26 يعارض هذا الرأي. ولكن في الظاهر فقط. فهذا القول النبويّ الذي يختتم الفصل ويوجزه، ليس إعلان دينونة ضدّ الأمم، بل قول خلاص لإسرائيل. فشعب الله الملتئم سوف يرى عقاب الأعداء. وعبارة "الاعتراف" تظهر مرّتين في هذا القول (آ 24، 26). ولكن إسرائيل، لا الأمم المعاقبة، هو الذي يعترف بالرب (رج حز 39: 21-22). وهكذا، في قول يعلن خلاص إسرائيل، تحرّك "دينونات" الله وأحكامُه اعترافَ الأمم بيهوه. في خر 7: 1- 5، نحن أمام هذه الحالة الثانية. الله ينبئ بدينونة المصريين واعتراف الغرباء بسرّه. وحين يتمّ هذا الإنباء في ف 14، نكون عند ذاك أمام تنفيذ هذا الحكم. فالخبر لا يريد أن يصوّر شقاء المصريين من أجل بني إسرائيل المتعطّشين إلى الانتقام. ولا أن يصوّر مصير شعب الله وما فيه من سعادة، بل إن عبارة "الاعتراف" توجّه الحدث كله نحو مرماه وهو: ظهور سرّ الربّ. شدّد الكهنوتي على هذا الواقع وربط الاعتراف بالرب ربطًا وثيقًا مع موضوع تمجيده (4:14، 18). فحين يتمجّد الله على حساب المصريين يتعرّفون إليه. ففي زوالهم ينكشف مجد الله. ومعهم تزول عبادة الأوثان.
وفي الختام، نشير إلى أن مختلف لمسات الخبر الكهنوتيّ التي تدعو إلى فهمه كتنفيذ حكم، نجدها مرارًا في أقواله دينونة جمعها حزقيال. فعبارة الاعتراف تنضمّ إلى لفظة "أحكام" (ش ف ط ي م) في حز 5: 10؛ 13: 15؛ 11: 9، 10؛ 25: 11؛ 28: 22؛ 30: 19. وعبارة الاعتراف هذه بعينها تلي عبارة "مدّ يده على" في حز 14:6؛ 7:25، 16-17؛ 3:35-4. إن حز 22:28 يتضمّن في الوقت عينه لفظة "حكم"، وفعل "ك ب د" (الفعل، تمجّد) مع الله كفاعل، وعبارة الاعتراف. وقد تفرّد حزقيال بين الأنبياء فجمع هذين العنصرين. لهذا نستطيع أن نظنّ أن للكهنوتيّ ولحزقيال لغة واحدة تقع في تقليد واحد، بعد أن يحافظ كل منهما على سماته الخاصّة. ونستخلص من هذه المقابلة نتيجة واضحة. لقد أراد الكهنوتيّ أن يصوّر معجزة البحر كـ "دينونة" حسب طريقة الأنبياء. وبهذه الدينونة (أو هذا الحكم) يعرّف الله بنفسه أنه يهوه.

2- مسافة بين الكهنوتيّ والتقليد النبويّ
إذا كان الكهنوتيّ قد استعاد بعض عناصر الكرازة النبويّة، وبشكل خاص النظرة إلى الأعمال الرمزيّة والحكم على الأمم لكي يطبّقها على ضربات مصر ومعجزة البحر، إلاّ أنه ترك بعض المعطيات جانبًا، وهذا ما يدهشنا. لهذا فالمقابلة مع سائر مصادر سفر الخروج ولاسيّما اليهوهي، تُبرز هذه الاختلافات، وتكشف الاتجاهات الرئيسيّة في الخبر الكهنوتيّ حين أعاد تفسير ما وصل إليه من التقليد.
أولاً، لا نستطيع أن نماهي بكل بساطة بين ضربات مصر والأعمال الرمزيّة. فهذه الضربات هي واقع وليست تنبؤًا بالشرّ، بل هي شرّ حقيقيّ. وإذا كانت "معجزات" أو "آيات"، فلأنها تنبئ بدينونة الله الأخيرة. نجد "الآيات والمعجزات" أو" المعجزات" في المقدّمة (خر 7: 3) والخاتمة (11: 9- 10) من خبر الضربات. ولكن عملاً واحدًا يسمّى بوضوح باسم "معجزة"، وهو ليس ضربة بالمعنى الحصري للكلمة. هو خبر العصا التي تحوّلت إلى "تنين" (7: 9). وهو "معجزة" طلبها فرعون.
ثانيًا، هناك اختلاف آخر بين أعمال الأنبياء الرمزيّة وبين "الضربات" كما نقرأها في الكهنوتيّ. فالعنصر الثالث في العمل الرمزيّ أو في الآية، هو شرح يوجّه الانسان نحو المستقبل، نحو تجلّي الله في الأحداث. فالله سيعرّف بنفسه حين يتمّ ما عرضه مرسلوه بشكل رمزي. وترتبط عبارة الاعتراف مرارًا بهذا العنصر الثالث من الأعمال الرمزيّة (النبويّة). يبدو أن المصدر اليهوهيّ اتّبع هذا الخطّ من التفسير فاستعمل عبارة الاعتراف في خبره للضربات. فالله سيعرّف بنفسه حين يحقّق بدقّة ما عرضه مرسلاه لفرعون. نحن نجد في اليهوهي أقوالاً شبه نبويّة تعلن أن الله سيبرهن عن نفسه من هو فيدلّ على سلطانه على الاحداث. ولكن كما لاحظنا من قبل، يتجنّب الكهنوتي عبارة الاعتراف على مدّ خبر الضربات. فالله لا يظهر فيها. بل إن هذه الآيات والمعجزات في الكهنوتيّ تنتهي بملاحظة الفشل. إن ضربات الخبر الكهنوتيّ ترينا انسانًا ملكًا غريبًا عن إسرائيل، يستطيع أن يعارض مخطّط الله، ولا تعلن سلطان الله كما لا تبرهن عنه.
لاشكّ في أن الله قد فعل بواسطة أشخاص يرسلهم وأعلن بنفسه هذا الفشل. ولكن يبقى أن الكهنوتيّ يخرج من الإطار العاديّ للأعمال النبويّة ولاسيّما حين يجعل في نهايتها نتيجة سلبيّة.
ونذهب أبعد من ذلك. ابتعد الكهنوتيّ عن اليهوهي فما استعاد عددًا من العبارات الخاصّة بالكرازة النبويّة. فيتجنّب مثلاً فعل "أرسل" الذي هو خاص بكل مهمّة نبويّة. وعبارة المرسل (هذا ما يقوله الربّ) تبقى غائبة من خبره. كما أننا عبثًا نبحث عن عبارات أخرى اعتدنا عليها في الأدب النبويّ مثل "اذهب... وقل...". فالكهنوتيّ يفضّل عبارة ثانية: "صنع موسى وهارون كما أمرهما الربّ" (خر 7: 6، 10، 20؛ رج 8: 13). وهكذا نحسّ أن الكهنوتيّ يهتم بالأحداث التي تتمّ بموافقة مع مشيئة الله، أكثر ممّا بالأقوال.
وهناك ملاحظات أخرى تسير في الخطّ عينه. فالكهنوتيّ أوجز خبره وتجنّب سمات نجدها في سائر المصادر. فالفرعون لا يتردّد في الخبر الكهنوتيّ. موقفه هو هو من البداية إلى النهاية. هو لا يقرّ أبدًا بخطيئته (خر 27:9، 34؛ 10: 16، 17 مقاطع يهوهيّة). ومعاملة إسرائيل تختلف أيضًا في الكهنوتيّ. ما يريده الله هو أن يخرج شعبه خروجًا نهائيًا من مصر. فلا حدث عن مسيرة ثلاثة أيام في البريّة، ولا عن عيد إكرامًا ليهوه كما في اليهوهي (18:3؛ 3:5؛ 26:7؛ 4:8، 11 أ، 21-24؛ 13:9؛ 3:10، 7، 8- 11، 24-26). ولا يشير الكهنوتيّ أبدًا إلاّ أن إسرائيل مُيِّز عن المصريين: فالضربات تصيب البلاد كلها، ولا اختلاف بين السكّان سواء كانوا "بلديين"، أو غرباء. أما في نظر اليهوهي، فالضربات عفت عن بني إسرائيل.
بالإضافة إلى ذلك، لا يقول الكهنوتيّ في أيّ مكان إن موسى صلّى لكي تتوقّف الضربة. فنظنّ أن الضربات تجمّعت وتكدَّست. ثم إن الكهنوتيّ حذف من أخباره كل المداولات مع فرعون. وقد حصلت أمام الملك معجزتان: الأولى (العصا التي تحوّلت إلى تنين) والأخيرة (القروح، 9: 10). وفي هذه اللقاءات لا يورد الكهنوتيّ كلمة واحدة قالها فرعون. أما اليهوهي، فقد أعار أهميّة كبيرة لهذه اللقاءات حيث يطول الجدال وترتفع اللهجة. وأخيرًا مرمى خبر الضربات في الكهنوتيّ يختلف عمّا هو في اليهوهي. ففي المصدر اليهوهي، تتوخّى الضربات أن تفرض على فرعون أن يُطلق الشعب. أما في الكهنوتيّ، فهذا الهدف ينتقل إلى المستوى الثاني. فعلى "الآيات والمعجزات" أن تدلّ على مشيئة الله التي لا يوقفها أحد، كما على صدق كلام المرسلين. وجعل الكهنوتيّ السحرة يتدخّلون من أجل الهدف عينه. ولكن هذه الآيات تعلن بشكل خاص، وتحرّك النهاية كما أعدّها الله. لقد أزال الكهنوتيّ كل السمات التي لا تقدّم الضربات كعلامة تجاه دينونة الله. فمصر سوف تدمّر، وبنو إسرائمِل يتركون البلاد. فالآيات تتكلّم بنفسها، وهي لا تحتاج إلى من يفسّرها. لهذا تبدو المداولات بدون جدوى. وعلى إسرائيل هو أيضًا أن يتّخذ قراره. عليه أن يترك هذه البلاد حيث صارت له الحياة فيها لا تُطاق. فدينونة الله على هذه الأرض لا تتراجع.
هذا يعني أيضًا أن الكهنوتيّ يعطي مهمّة مرسلي الله معنى خاصًا: هي تشير إلى الفشل. وقد لعبت خبرة المنفى بلا شكّ دورًا هامًا في هذه النظرة إلى الأمور. فالأنبياء، قد نبّهوا إسرائيل، ولكن عبثًا. وكذا يكون الأمر بالنسبة إلى مصر: فلا شي يؤثّر في فرعون. وموضوع تقسية القلب سيحاول أن يفسّر هذه الظاهرة بطريقة لاهوتيّة. فخلاص إسرائيل يكون عمل الله وحده.
إذًا نكتشف عند الكهنوتيّ بعض التحفّظ تجاه التيّار النبويّ. وحين يتجنّب عددًا من العبارات العاديّة في أسفار الأنبياء، فهو "يرفض" تكاثر هذه العبارات لدى الأنبياء الكبار في حقبة المنفى (إر، أش الثاني، حز). حين استعملت هذه العبارات في فم الأنبياء الكذبة، خسرت من قيمتها. لهذا، تحفّظ الكهنوتيّ في استعمالها. فمرسل الله هو أولاً ذاك الذي يتمّ مشيئة ربّه، لا ذاك الذي ينتسب إليها. فقد تكون خبرة المنفى قد ولّدت مثالاً جديدًا للمعلّم الروحيّ في شعب الله، داخل الأوساط الكهنوتيّة، وهو مثال ورثوه من العالم النبويّ وصحّحوا بعض تطرّفاته. وهكذا أقام الله موسى وهارون، كلاً في وظيفته. وأعطاهما أوامر ينفذانها بدقّة. ونحن نبتعد بهذا الشكل عن الوجهة المواهبيّة (كرسماتيّة) في العالم النبويّ، لكي نجد أرضًا ثابتة، هي أرض "النظم" التي أسّسها الله فسارت بحسب مشيئته.
ونلاحظ في الكهنوتيّ أيضًا أن هارون هو الذي يسمّى "نبيًا" لا موسى. تلك هي علامة تفسيرين جديدين لصورة النبيّ. أولاً، هارون هو خاضع لموسى وما يمثّله بشكل ملموس من أجل الجماعة التي يتوجّه إليها الكهنوتيّ: إنه المنادي بديانة يهوه، بالاله الذي وعد الآباء وقطع عهدًا معهم (خر 6: 2- 5). ثانيًا: لقد طالب هارون بلقب النبيّ ووظيفته، كما طالب بالنظام الكهنوتيّ الذي يمثّله في قلب شعب المؤمنين. فانقلاب الادوار لفائدة الكهنوت سوف يتمّ بشكل نهائي حين يخضع يشوع، خلف موسى، للكاهن اليعازر، خلف هارون (عد 18:27- 21). حتى ذلك الوقت، كانت صورة موسى تمثّل المكانة الأولى. ولكن الوضع تبدّل.

3- ثلاث ملاحظات
أ- الرباط بين حزقيال والكهنوتيّ
لاحظنا في هذه الدراسة عددًا من الاتّصالات بين حز والكهنوتيّ. فالتقارب واضح بين خر 7: 1-5 وحز 2-3. وهناك تشابهات عديدة على مستوى المفردات بين النصوص الكهنوتيّة والأقوال على الأمم (حز 25-28). بدا الكهنوتيّ قريبًا في لغته من الفصول المتأخّرة في حز 25-28. وهكذا توافقُ بدايةُ تدوين الكهنوتيّ حقبة متقدّمة من تدوين حز. وهكذا يكون الكهنوتيّ قد استقى من تقليد عرفه حز.
فالكهنوتي يبتعد عن بعض عبارات نجدها عند حز ومصادر البنتاتوكس، وهي جزء من التقليد النبويّ. شذّ الكهنوتيّ عن القاعدة وتجنّب هذه الألفاظ (أرسل...). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، أخذ الكهنوتيّ بعض العبارات النبويّة، كما أخذ عناصر من الأدب الاشتراعيّ. وهكذا أخذ عددًا من المواد التقليديّة.
هل نقول بارتباط الكهنوتيّ بحزقيال؟ يصعب علينا البرهان على ذلك. ولكن هناك اتصالاً بين الاوساط الكهنوتيّة وتلاميذ حزقيال. وذلك في إطار المنفى. فقد تشرّب الكهنوتيّ وحزقيال من محيط دينيّ وحضاريّ واحد. وانتماء حزقيال إلى الأوساط الكهنوتيّة يؤكّد هذا الرأي.
ب- الدينونة
وهناك سمة خاصة باللاهوت تكمن في المكانة المعطاة للدينونة (أو: الحكم). فبنية الخبر الكهنوتيّ في خر 7-14 هي التالية: (1) الآيات والمعجزات التي تنبئ بالدينونة فتجعل قلب فرعون يتقسّى. (2) إن تقسية قلب فرعون اجتذبت الدينونة. فالله حسب الكهنوتيّ يقود الناس إلى أوضاع نهائيّة: خلاص من أجل إسرائيل، دمار من أجل مصر. بهذه الطريقة يكشف الله عن نفسه في الخبر الكهنوتيّ. ولا يحلّ محلّ عمله لا الآيات ولا المعجزات ولا كلمة المرسلين. فوظيفة الكرازة وأعمال الذين يرسلهم الله، تقوم بتحريك هذه الدينونة. هناك يعرّف الله بنفسه حين يتمجّد (خر 4: 14، 17). وهكذا يُبرز الكهنوتيّ بشكل جذريّ وجهة من الكرازة النبويّة، هي وجهة الفشل التي حصلت مرارًا. فقد وُضع كل نشاط موسى وهارون في هذا المناخ السلبيّ. فالله وحده يستطيع أن يقود مخطّطه إلى النهاية. الله وحده يستطيع أن يعرّف بذاته. وحده يستطيع أن يظهر مجده. أما نشاط البشر فيقوم برفض هذه الحقيقة. والأنبياء بشكل عام كانوا أقلّ تعلّقًا بهذه النقطة. فوحي الله يستطيع أن يرتبط بـ "الآيات"، ولا يرتبط حصرًا بدينونة الله وحكمه القاسي.
ج- إسرائيل والأمم
وهناك نقطة أخيرة جاء فيها الكهنوتيّ مجدّدًا بالنسبة إلى التقليد النبويّ. فقد أرسل موسى وهارونُ إلى ملك غريب. ومواضيع الكرازة النبويّة الخاصة بالعلاقات بين الله شعبه تطبّقت على العلاقات بين إسرائيل ومصر: آيات ومعجزات، تقسية القلب، دينونة. إذن، اعترف الكهنوتيّ بوظيفة نبويّة في إسرائيل، تجاه الأمم، أقلّه على مستوى النخبة الدينيّة. هذا وضع وُجد في اليهوهيّ والالوهيمي، وإن بطريقة مختلفة. ففي نظر اليهوهيّ، يبدو الله وكأنه يربط موقفه تجاه مصر، بموقف مصر تجاه اسرائيل. ومصائب مصر هي امتداد لإرادة سيِّئة لدى فرعون. والضربات تتوقّف حين يدلّ على تسامحه. فالضربات تصوّر في نظر الكهنوتيّ، دينونة الله المسبقة التي لا يوقفها أحد. كيف نفسّر هذا التطوّر؟
إن خبرة المنفى تتيح لنا بأن نلقي الضوء على عدد من هذه المعطيات اللاهوتيّة في التقليد الكهنوتيّ. يكفي أن نجعل بابل محلّ مصر التي استعبدت بني إسرائيل. فالله لا ينسى شعبه المضايق اليوم، كما لم ينسَه في الماضي. ورؤساء الشعب الروحيّون سيدفعون السلطة لكي تتدخّل. وقد تكون "الضربات" سلسلة من المصائب تدلّ على أن الله يستعدّ لأن يدين بابل ويحكم عليها. والحكمة والسحر اللذان تستند إليهما العاصمة العظيمة (بابل)، لن يساعداها (أش 47: 10-15). ورفض بابل سيقودها هي أيضًا إلى الدمار. ستُدان بابل وينمو شعب إسرائيل. وهكذا يكشف الله مجده ويدلّ على أنه سيّد الكون بلا منازع. وحين مالك الكهنوتيّ بنظر معاصريه إلى هذا الحدث المؤسّس الذي هو الخروج من مصر، أنعش رجاء إسرائيل ونبّهه داعيًا إياه لكي يصغي إلى إله الآباء.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM