الفصل الثاني والعشرون وجه ابراهيم في التقاليد الكتابية

الفصل الثاني والعشرون
وجه ابراهيم في التقاليد الكتابية

ابراهيم هو أبو جميع الذين يؤمنون بالله الواحد، أكانوا مسلمين أم يهودًا أم مسيحيين. كل ما نعرف عنه هو بعض ما سمعناه ممّا يتلى علينا في القداس من رسائل القديس بولس: "إن الله برّر ابراهيم لإيمانه". ولكن ابراهيم شخص قديم عمره ألف ثمانماية سنة قبل المسيح وقد تأمّله المؤمنون وهو أبوهم الذي منه وُلدوا بعد أن باركه الله وكثّره (أش 2:51). تأمّل في حياته الحكماء المقيمون قرب حبرون في جنوبي البلاد فتعرّفوا إلى بركة الله تغمر هذا الشخص الفريد وتمتدّ إلى أبنائه، وتأمل في حياته الانبياء المقيمون قرب بيت إيل في الشمال فتعلّموا كيف تدخل مخافة الله في قلب المؤمن فتجعله لا يحسب حسابًا لشيء عندما تطلب منه تضحية اكرامًا لربّه، وتأمّل في حياته الكهنة ففرحوا بمن هو حلقة في عهد بدأ مع نوح وامتدّ إليهم عبر موسى وتعلّموا أن يستمعوا إلى كلام الله في الخضوع والعبادة وأن يحفظوا هذا الكلام ولا يميلوا عنه يمينًا أو شمالاً فيكونوا من أهل الايمان والخلاص (عب 10: 29).
ونحن اليوم على خطى الحكماء والأنبياء والكهنة في شعب الله سنتعرّف إلى حامل بركة الله إلى جميع الشعوب، إلى العائش في مخافة الله، وإلى من أقام الله معه عهدًا سيكون رمزًا للعهد الجديد الأبدي الذي ستقطعه البشريّة كلّها في شخص يسوع المسيح.

1- تقليد الحكماء
ونبدأ مع التقليد الأول، تقليد الحكماء، فننظر إلى من طلب الله منه أن يترك كل شيءَ. فترك وسار مع الرب فكان له أن يحمل بركة الله إلى جميع الشعوب.
ولنسمع ما يقوله الكتاب. وقال الله لابرام: "ارحل من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمّة عظيمة وأباركك وأعظّمك وتكون بركة. وأبارك. مباركيك وألعن لاعنيك، ويتبارك بك جميع عشائر الأرض". فرحل ابراهيم كما قال له الرب (تك 12: 1-4).
في كلمة الله لابراهيم أمر ووعد. إرحل، هذا هو الأمر. والوعد: أنا أجعلك أمّة عظيمة.
إطار النداء حدّثنا عنه الكاتب فيما سبق. حدّثنا عن بلد ابرام أو ابراهيم، عن عشيرته وعيلته، عن امرأته سارة التي كانت عاقرًا فلم تنجب له ولدًا. وها نداء الرب الآن يفتح مرحلة جديدة في مراحل تاريخ الخلاص تبدو وكأنها تتعارض مع حياة الانسان ابراهيم.
إرحل، وأنا أجعلك. يبدأ النداء بفعل أمر، ويتوالى في أفعال تحمل المواعيد: أجعلك، أباركك، أعظّمك، أبارك مباركيك، ألعن لا عنك.
إرحل. هناك أمر. وسيرحل ابراهيم كما طلب منه الله. والأمر ليس شرطًا للوعد، كأن مواعيد الله ترتبط بطاعة ابراهيم له. لا، مواعيد الله نداء وهي تنبع من كرم الله وسخائه. رحل ابراهيم كما قال له الرب، رحل ولم يضع شروطًا لرحيله، لم يوازن بين الربح والخسارة. ما الذي يتركه وما الذي يحصل عليه؟ على كل حال، جاءت عطايا الله تفوق كل تصوّر، فسدّت عليه كل طريق للتردّد. ترك أرضًا يرتحل فيها فسيكون له أرض يقيم بها. ترك الأهل والأقارب واصطحب امرأته العاقر، فسيكون له ولد، بل أولاد، بل سيجعله الرب أمّة عظيمة. لاشكّ في أن كلام الرب لم يتحقّق الآن، ولكنه سيتحقّق في زمن داود، يوم كُتب هذا النص لأول مرّة. بل سيتحقّق في زمن المسيح الذي يجمع كل الخراف في رعية واحدة حول راع واحد.
ويقول الرب لابراهيم: بك يتبارك جميع عشائر الأرض. أجل، سيكون ابراهيم وسيط البركة التي يعطيها الرب للشعوب، وستبان حياته ناجحة بسبب البركة التي حصل عليها فيتمكّن جميع الناس أن تكون لهم البركة التي كانت لابراهيم. أجل، ستحصل الشعوب على البركة إن هي تصرفت كما تصرّف ابراهيم. نحن لا نحقّق البركة، نحن لا نملك البركة كما نملك شيئًا من الأشياء، ولكننا نبحث عن هذه البركة حتى نجدها ككنز مخفى في حقل. وإذ نجدها نتعلّق بها لأنها تربطنا بيد الله العاملة فينا وفي الكون. نحن نتطلّع إلى ابراهيم حامل هذه البركة، بل إلى يسوع المسيح، لأن ما من اسم آخر نستطيع به أن ندرك الخلاص (أع 4: 12) إلاّ اسم يسوع المسيح. بالمسيح نعلن ثقتنا، وأمامه نؤكّد على طاعتنا له فنجد فيه البركة التي ننتظرها.
تكون بركة. هذا ما قاله الرب، ولا رجوع عن كلامه. بابراهيم تكون البركة للشعوب. هذه البركة رافقت البشريّة منذ بدايتها، وسترافقها حتى النهاية حاملة معها الخلاص لكل أمم الأرض. هكذا قرأ الحكماء في جنوبي فلسطين قصة ابراهيم بل قصة البشريّة التي سارت تحت تأثير بركة الله.
خمس مرّات تتردّد كلمة بركة في هذا النصّ القصير الذي قرأناه. أباركك، بركة، أبارك، مباركيك، يتبارك. وهذا الترداد المخمّس يقابل اللعنات الخمس التي حلّت بالبشريّة منذ بدايتها. هل ننسى أن الله لعن الحيّة التي حملت الشرّ للانسان (تك 3: 14) ولعن الأرض (3: 17) ليجعل الانسان يحسّ بالشرّ الذي فعل؟ وحلّت اللعنة بقايين بسبب ما فعل لأخيه (4: 11) وكنعان لما فعله لأبيه (9: 25) والبشريّة لأنها ملأت الأرض شرًا وفسادًا (5: 29). فكان لا بدّ من بركات خمس لتزيل اللعنات الخمس. لاشكّ في أن رحمة الرب رافقت الانسان منذ البداية فاهتمّت بآدم وحواء بعد خطيئتهما، فكساهما الله لئلا يظلاّ عريانين فيحسّان بالخزي واليأس (3: 21). ولم يترك الرب قايين فريسة الحقد والانتقام فجعل عليه إشارة وعلامة لئلا يقتله أحد (4: 15). فالرب لا يريد موت الخاطئ بل توبته ورجوعه إلى المنزل الوالدي. ونزع الرب اللعنة عن الأرض فقال: لن أعود ألعن الأرض بسبب الانسان ولن أعود أهلك كل حيّ عليها كما صنعت (8: 21)، وتعزّى في نوح، فنجّاه هو وعياله من الطوفان (29:5). كل هذا كان بصيص أمل يطل هنا وهناك فيجعلنا ننتظر مراحم الله الفياضة. وهذا ما بدأ فعلاً في شخص ابراهيم بانتظار أن يجد كماله في يسوع المسيح.
بركة الله ترافق الانسان، فإن اتّكل على هذه البركة كان له النجاح وكانت له السعادة، وإن هو حاول أن يتملّص من هذه البركة كان له الفشل. حاول ابراهيم أن يتدبّر أموره بيده فترك الأرض التي وعده بها الرب وذهب إلى مصر الغنية بأرضها ومائها. عامل امرأته كجارية وكذب على ملك مصر فعاد خائبًا خجلاً وفي حال لا يُحسد عليها. رجع بالمال الوفير والخير الكثير، ولكن ما اقتناه لم يكن ثمر بركة الله. وحاولت البشريّة أن تتدبّر أمرها بعد الطوفان فبنت برجًا عاليًا أعظم من هيكل أورشليم لتعبد فيه آلهتها وبنت مدينة تخلد بها نفسها على حساب الله الذي هو وحده الخالد والذي لاسمه يحقّ السجود، فماذا كانت النتيجة؟ دمّرت المدينة وخرب البرج البابلي. أما قال الكتاب: إن لم يبن الرب البيت فعبثًا يتعب البنّاؤون. إن لم يحرس الرب المدينة فعبثًا يتعب الحارس؟ لا هيكل أمام هيكل الاله الواحد، لا مدينة تجاه مدينة الله أورشليم التي اختارها الله لسكناه وفيها تمجّد. من دون الله لا طريق للناس إلاّ طريق الموت والهلاك، ومع الله هم يسيرون في طريق الحياة والسعادة.
هذا ما فهمه ابراهيم فباركه الله وبارك شعبه بل بارك جميع المؤمنين بالله مثله، وهذا ما يجب أن تفهمه كل أمم الأرض. الانسان مخلوق لله ولن يجد سعادته إلاّ في الله. يبقى علينا نحن المسيحيين أن نشهد مثل ابراهيم لبركة الله فنزرع في قلوب الناس الامل والرجاء وفي حياتهم انتظارًا لكلام الله يكون عربونًا لا لعطاء مادي فحسب، بل لعطاء روحي تكون قمته عطاءنا ابنه الوحيد. أما قال الكتاب: أعطانا الله ابنه فأعطانا فيه كل شيء؟

2- تقليد الأنبياء
هذا هو وجه ابراهيم كما نظر إليه الحكماء في الجنوب. وجه البركة. أما في شمالي البلاد فيتأمّلون في وجه آخر لابراهيم. ينظرون إلى ابراهيم الذي يتعلّم مخافة الله. ونتوقّف في هذا القسم على مقطعين من سفر التكوين: ابراهيم في بلدة جرار مع أبيمالك، ابراهيم مع ابنه اسحاق يوم أراد أن يقدمه ذبيحة على الجبل.
في المقطع الأول نرى ابراهيم غريبًا بين قوم لا يعبدون الاله الذي يعبده، فيخفي هوية سارة امرأته لئلا يقتلوه بسببها. تزوجها ابيمالك ولكن الرب منعه أن يمسها فيقع في الخطيئة. ولما عرف بحقيقة أمرها قال لابراهيم: "بماذا أذنبت إليك حتى جلبت عليّ وعلى مملكتي خطيئة عظيمة؟ ماذا خطر لك حتى فعلت هذا"؟ فأجاب ابراهيم: "ظننت أن لا وجود لخوف الله في هذا المكان فيقتلني الناس بسبب امرأتي" (تك 20: 9- 11).
أبيمالك هو ملك، وابراهيم نبيّ يحمل اسم الله ويتكلّم كلامه. بين الاثنين يقوم نزاع أساسه ما قاله ابراهيم من كذب في شأن امرأته: هي أختي وليست امرأتي. هذا الصراع يثير مشكلة أدبيّة أخلاقيّة، مشكلة الخطيئة والشريعة التي تنظّم حياة الأفراد الذين لا يدينون الديانة الواحدة أو لا يؤمنون الايمان الواحد. لا شكّ في أن القانون الذي يمنع الانسان أن يتخذ امرأة متزوّجة موجود في شعب الله الواحد: "أي رجل زنى مع امرأة قريبه فليقتل الزاني والزانية" (لا 20: 10؛ رج تث 22: 22). وهناك الوصيّة القائلة: "لا تزن" (تث 18:5؛ خر 20: 14). ولكن الشريعة التي يسير بمقتضاها أبيمالك الملك الكنعاني والتي نجد آثارها في قانون حمورابي (عدد 129) تقول هي أيضًا: "إذا وجدت امرأة تزني مع رجل، يُوثق الرجل والمرأة ويلقيان في الماء". فالمؤمنون بالله الواحد والذين لا يؤمنون بالله الواحد لهم شريعة تدعوهم إلى الخير وتمنعهم عن الشر. قال بولس الرسول: "المجد والكرامة لكل من يعمل الخير من اليهود أولاً ثم من اليونانيين. والويل والعذاب لكل من يعمل الشرّ من اليهود أولاً ثم من اليونانيين. فالذين خطئوا بغير شريعة موسى فبغير شريعة موسى يهلكون، والذين خطئوا ولهم شريعة موسى فبشريعة موسى يدانون" (روم 2: 9-12). فشريعة الكنعانيّ كشريعة موسى تمنع الانسان من الزنى، كما أن كل الشرائع تمنع السرقة والقتل على المؤمن وعلى غير المؤمن. "فليس الذين يسمعون الشريعة هم الأبرار عند الله، بل الذين يعملون بأحكام الشريعة هم الذين يتبرَّرون" (روم 2: 13). فلا ينفعنا إذًا أن نقول: يا رب يا رب لندخل ملكوت السماوات، بل يجب أن نعمل بوصايا الله ليكون لنا الملكوت. ولنفترض أن الآخرين لا شريعة مكتوبة لهم كشرائعنا، ولكن هناك شريعة محفورة في ضمائرهم. "فالذين لهم شريعة موسى إن عملوا بشريعة موسى يتبرَّرون، وغير اليهود الذين بلا شريعة، إذا عملوا بالفطرة المطبوعة في قلوبهم ما تأمر به الشريعة، كانوا شريعة لأنفسهم" (روم 2: 14).
عرف ابراهيم المؤمن بالله الواحد شريعة الله ولكنه لم يعمل بها فكاد يجرّ الذنب والعقاب على شعب جرار وملكها. أما أبيمالك وشعبه فلما عرفوا إرادة الله خافوا خوفًا عظيمًا كما يقول الكتاب، وهكذا "أثبتوا أن ما تأمر به الشريعة مكتوب في قلوبهم وتشهد له ضمائرهم" (روم 2: 15). أراد ابراهيم أن يتهرَّب من الشريعة معتبرًا أن الناس الذين يقيم بينهم لا يخافون الله. فإذًا هم يخافون الله بل يفتخر ملكهم بأنه ما أذنب إلى الله القدير.
نحن لا نحكم على خوف الكنعانيين من إله ابراهيم. هناك خوف أول من كل قوّة سريّة يمكنها أن تحمل الشرّ إلى ملك من الملوك أو إلى مدينته. ولكن أبيمالك ورجاله يتحلّون بخوف آخر يدفعهم إلى الخضوع لشرائع الله والعمل بوصاياه. وهكذا بدت مخافة الله عند الوثنيّين أعظم منها عند ابراهيم المؤمن. ولو عرف أبيمالك أن سارة امرأة ابراهيم لما اتخذها زوجة له. وفي هذا أمثولة لنا نحن المؤمنين بالمسيح. هو يقول لنا: لا تفتخروا ببرّكم، لا تفتخروا بانجيلكم وبأنكم مسيحيون. فالنساء الزانيات والعشارون السارقون يسبقونكم إلى ملكوت السماوات. ويقول أيضًا: يأتي الوثنيون، غير المسيحيين، من المشرق والمغرب ويتكئون إلى مائدة الملكوت ويبقى أبناء الملكوت خارجًا. حسبتم نفوسكم أولين فإذا أنتم آخرون. ونسمع القديس بولس يقول لنا: "أنت يا من تسمّي نفسك يهوديًا وتتكل على الشريعة وتفتخر بالله الذي تعبد، أنت يا من تعلّم الآخرين أما تعلّم نفسك؟ تنادي: لا تسرق، وتسرق أنت؟ تقول: لا تزن، وتزني أنت"؟ (روم 2: 17-27).
ولكن هذه الحادثة التي حصلت لابراهيم والتي أفهمته أن الله لم يتخلَّ عنه رغم خطيئته، بل قبل صلاته من أجل أبيمالك، ستعلّمه المخافة الحقّة يوم طلب إليه الرب أن يقدّم ابنه اسحاق ذبيحة على الجبل. وهنا ننتقل إلى المقطع الثاني.
نحن نعرف أن الله لا يريد من شعبه ذبائح بشريّة كما يفعل سائر الشعوب، ونعرف من قراءة النصّ الكتابي أن الله شاء أن يمتحن ابراهيم ليرى عمق إيمانه وليعرف إذا كانت مخافة الرب دخلت في قلبه.
وعده الله ثلاث مرّات بأن يكون له ولد من امرأته سارة. وبعد أن جاء الولد الوحيد الذي يحبه محبة كبيرة، ها هو الله يطلب من ابراهيم أن يضحّي بهذا الولد. في الماضي مرّ ابراهيم في دنيا الأمل والانتظار. أما الآن فهي ثورة في داخله، وتساؤل: أترى الله يعطي بيد ويأخذ بالأخرى؟ هو يعطي ابراهيم ولدًا يحمل الوعد. ولكن إن مات هذا الولد، فمن يحمل مشعل الإيمان بعد ابراهيم؟ هل هناك تضارب في أوامر الله؟
هنا تبان المخافة في قلب ابراهيم، وهي مخافة تتعدّى تلك التي مارسها أبيمالك فاقتصرت على الطاعة لوصية من الوصايا. المخافة هي هنا خضوع لا يضع شرطًا، لا يسأل سؤالاً. بكّر ابراهيم وأخذ اسحاق ابنه وسار في طريقه إلى الموضع الذي دلّه الله عليه (تك 22: 3). سار ثلاثة أيام ولم يضعف إيمانه الذي لم يكن وليد دقيقة من الحماس يشتعل بسرعة وينطفئ بسرعة. ولما مدّ يده سمع صوتًا من السماء: "لا تمدّ يدك إلى الصبي ولا تفعل به شيئًا، فالآن عرفت أنك تخاف الله" (تك 22: 10-12). خضع ابراهيم خضوعًا كليًا جعله يضحّي بمستقبل الوعد ويسلّم أمره إلى الربّ الذي هو قادر أن يميت ويحيي (2 صم 7:5).
مثل هذه المخافة التي نتعرّف إليها في تقليد الانبياء هي رفيقة المحبة، والمخافة الحقّة لا تنفي المحبّة. فيا حبّذا لو تعلّمنا أن نخاف الله كما فعل أبيمالك فنعمل بوصاياه المعروفة: لا تقتل، لا تسرق، لا تزن، أكرم أباك وأمك، لا تظلم أحدًا (مر 10: 19)، لا تشهد بالزور. يا حبّذا لو عرفنا أن اسم الله يجدَّف عليه بسببنا نحن المؤمنين العائشين عيش الوثنيين بالشراسة والسخط والغضب والصخب والشتيمة والزنى والدعارة والطمع (أف 4: 31-5: 3). ويا حبّذا لو تشبّهنا بابراهيم المؤمن الذي عبّر عن مخافته لله في أحلك ظروف حياته: "امتُحن فقرّب اسحاق ابنه واعتقد أن الله قادر على إقامة الأموات" (عب 17:11-19).

3- تقليد الكهنة
تعرّفنا إلى وجه ابراهيم الحامل بركة الله فما زال أمينًا لله، وإلى وجه ابراهيم الذي سيتعلّم عند الوثنيين مخافة الله الحقّة الحاضرة في قلب كل انسان تمنعه عن الشر وتدفعه إلى الخير. وسنتعرّف في القسم الثالث إلى وجه ابراهيم رجل العهد كما تأمّل فيه الكهنة والعائشون في هيكل أورشليم.
ولنستمع إلى كلام الرب كما ورد في سفر التكوين (17: 1- 10).
تراءى الرب لابرام وقال: "أنا الله القدير! أسلك أمامي، أسلك بحسب وصاياي، وكن كاملاً، فاجعل عهدي بيني وبينك وأكثّر نسلك جدًا. فوقع ابرام على وجهه ساجدًا. وقال له الله: "هذا هو عهدي معك: تكون أبًا لأمم كثيرة، ولا تسمّى ابرام بعد اليوم، بل تسمّى ابراهيم، لأني جعلتك أبًا لأمم كثيرة. سأنمّيك كثيرًا جدًا وأجعلك أممًا، وملوك من نسلك يخرجون، وأقيم عهدًا أبديًا بيني وبينك وبين نسلك من بعدك، جيلاً بعد جيل، فأكون لك إلهًا ولنسلك من بعدك، وأعطيك أنت ونسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان، ملكًا مؤبدًا وأكون لهم إلهًا". وقال الله لابراهيم: "إحفظ عهدي، أنت ونسلك جيلاً بعد جيل. وهذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك: أن يُختن كل ذكر منكم".
تراءى الرب لابرام وأقام معه عهدًا. وتتردّد في هذا النص كلمة عهد التي تعني الوفاء والضمان والأمان والمودّة والوصيّة والميثاق. العهد يفترض معرفة، العهد يُحفظ ويراعى، العهد يفترض شروطًا يضعها كل من المتعاهدين. العهد يفرض أرضًا مشتركة يقف عليها المتعاهدان فيكونان متساويين في حال من الأحوال.
ويتراءى الله ليقيم مع ابراهيم عهدًا. تنازل الله إلى مستوى الانسان، والمحبة هي ما ينتزع الفوارق ويسوّي الفواصل. الله يرتبط مع الانسان، مع ابراهيم وشعبه، يكون لهم إلهًا ويكونون له شعبًا خاصًا. في مثل هذا العهد يفرض الله شروطه على نفسه. ويفرض شروطه على شعبه، فيوصيه بأن يبقى أمينًا على الوديعة. العهد يكون في قلب الثقة المتبادلة. ابراهيم يثق كل الثقة بالرب، والرب يجعل ثقته بعباده فيسلّم إليهم رسالة ويطلب منهم عملاً.
تراءى الله وأقام مع ابراهيم عهدًا فصار ابراهيم انسانًا جديدًا. تبدّل اسمه فتبدّلت صفاته. كان ابرام عبدًا لأحد الآلهة الوثنيّة، فصار ابراهيم، أبًا لأمم كثيرة هي أمم الله. وستصبح امرأته سارة هي أيضًا انسانًا جديدًا، بانتظار أن يكون أبناء ابراهيم أناسًا جددًا يوم يُختنون فيطهرون، يُختنون فيكرَّسون للرب تكريسًا كاملاً في اليوم الثامن من ولادتهم.
ارتبط الله بابراهيم، ومن خلاله ابراهيم ارتبط بشعب من الشعوب بانتظار أن يرتبط بكل الشعوب. هكذا يرتبط الصديق بصديقه والزوج بزوجته فلا ينفصل الواحد عن الآخر. وإذا كان الموت هو ما يفصل الانسان عن الانسان، فمع الله تتغلّب المحبّة، والمحبّة أقوى من الموت.
تراءى الله القدير وحدّث ابراهيم مرة أولى، فكان جواب ابراهيم السجود إلى الأرض. وحدّثه مرة ثانية ومرّة ثالثة، فسكت ابراهيم، وجواب المؤمن أمام الله القدير هو السكوت والاستعداد للعمل بأوامر الله. بدّل الرب اسم ابرام فتبدّل اسمه، طلب إليهم أن يُختتنوا ففعلوا. عندما يتكلّم الله لا يبقى على الانسان إلاّ أن يقول: تكلّم يا رب فإن عبدك يسمع.
الله يكلّم ابراهيم ويعطيه المواعيد نسلاً يكون كبيرًا وأرضًا تكون له ولنسله. ولكن نسل ابراهيم لن يكون نسله بحسب الجسد فقط، بل نسله بحسب الروح أيضًا. سمعتم ما يقول الكتاب: "صار ابراهيم أبًّا لجميع الذين يبرّرهم الله لايمانهم من غير المختونين، وصار أبًّا للمختونين الذين لا يكتفون بالختان، بل يقتدون بأبينا ابراهيم في إيمانه قبل أن ينال الختان" (روم 4: 11- 12). كان الختان علامة إيمان عميق عند ابراهيم، وهذا الايمان العميق جعله أبًّا لأمم كثيرة. وهنا يزيد القديس بولس: نسل ابراهيم كله هم أهل الشريعة، وهم أيضًا المؤمنون إيمان ابراهيم. فابراهيم هو أب لنا جميعًا كما يقول الكتاب: جعلتك أبًا لشعوب كثيرة (روم 4: 16-17). ولكن نسل ابراهيم هو المسيح وبه يتبرّر جمحِ المؤمنين (غل 3: 16).
ووعد الرب ابراهيم بأرض رأى فيها الشعب اليهودي أرض كنعان. ولكنَّ نظر الرب ذهب إلى أبعد من أرض ماديّة. أجل، لم يذهب ابراهيم كمن لا يعرف إلى أين يذهب، بل أسرع إلى أرض وعده الله بها وأراه إياها. هذا الذي لا بيت له صار له أرض هي عطيّة من الرب، ولكنه تطلع إلى أرض جديدة. هو الغريب والنزيل كان يطلب وطنًا فأعطي له ملك قبر ليشتاق إلى وطن أفضل، إلى الوطن السماوي (عب 11: 13-16).
هذا هو العهد الذي قطعه الرب مع ابراهيم. أعطاه إياه بعد العهد الذي قطعه مع نوح والذي وعد فيه البشريّة بنهاية العاصفة وبدء بناء جديد، وقبل العهد مع موسى والكهنة الذي ستكون علامته بناء معبد سيملأه الله بحضوره (خر 40: 34-35). ولكن العهد الحقيقي والأبدي سيكون مع يسوع المسيح الذي لنا به الخلاص التام الناجز، لا من كارثة تحل بمنطقة من مناطق الأرض، بل من الشر والخطيئة والموت. والهيكل المنتظر بعد ذلك الذي هُدم، سيكون جسد المسيح الذي لنا به الخلاص والفداء ومغفرة الخطايا.
دخل ابراهيم في سلسلة العهد التي وصلت بمخطّط الله إلى قمتها في العهد الذي يربط السماء والأرض في شخص يسوع المسيح الاله والانسان. ونحن نكون نسله وأبناءه إن اقتدينا به ودخلنا في عهد يقدّمه لنا المسيح في دمه. فنحن خلّصنا مرّة واحدة في المسيح الذي مات عنا وقام وظلّ حيًّا إلى الأبد، ولكن يبقى علينا أن ندخل في سرّ الخلاص هذا. ولنسمع ما يقوله لنا الكتاب اليوم: "هذا هو العهد الذي أعاهدهم إياه في الأيام الآتية يقول الرب: سأجعل شرائعي في قلوبهم واكتبها في عقولهم ولن أذكر خطاياهم من بعد" (عب 10: 16-17؛ رج إر 31: 33-34). يبقى علينا أن نسمع كلام الكتاب: "اليوم إذا سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم" (عب 3: 15). هل ننسى "أن كلمة الله حيّة فاعلة، أمضى من سيف له حدّان، تنفذ في الاعماق ما بين النفس والروح والمفاصل ومخاخ العظام وتحكم على خواطر القلب وأفكاره" (عب 3: 12)؟

خاتمة
هذا هو وجه ابراهيم في التقاليد الكتابيّة. تعرّفنا إليه من نصوص التوراة كما وصلت إلينا على يد الحكماء والأنبياء والكهنة: رجل البركة، رجل المخافة، رجل العهد، وفي كل هذا هو رجل الايمان. ونحن نكون من ذريته إن عملنا أعماله (يو 8: 37-39)، وننخرط في تيار إيمانه عندما نرجو مثله أن نرى يوم ابن البشر ونترجّى ظهوره. إن كنتم تسمعون كلام الله أنتم أبناء الله، وإن كنتم لا تسمعون فلستم من الله (يو 47:8).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM