الفصل العشرون: القساوة في قلب فرعون

الفصل العشرون
القساوة في قلب فرعون

يبدو أن الأنبياء قد أثّروا في الكهنوتيّ، لأن كرازتهم تلمّح مرارًا إلى قساوة القلب لتشرح عدم تقبّل الكلمة لدى السامعين. ونستطيع القول إن هذا كان علامةَ صدق لرسالتهم. فكما في خر 2:7-4، أعلم الله الأنبياء، منذ الانطلاق، بالصدى السلبيّ الذي يستقبلهم (أش 6: 10- 11؛ إر 1: 10؛ حز 3:2-10؛ 3: 4). ويبدو أن الكهنوتيّ دخل في ذات التيّار بالألفاظ التي استعملها. ترك مفردات خاصّة باليهوهي (ك ب د: ما كان ثقيلاً) وأخذ أخرى من الالوهيمي (ح زق: قسّى). ولكن الكهنوتيّ سيلفت انتباهنا إلى حالتين. في 3:7 نجد استعمالاً فريدًا لفعل يعني الصعوبة والمعاندة (ق ش ه. رخ قسّى في العربيّة). وفي خر 14، تكلّم الكهنوتيّ عن قساوة القلب ساعة احتفظت سائر المصادر بهذا الموضوع للضربات. ما هو هدف الكهنوتيّ؟ إذا أردنا أن نكتشف هذا الهدف، نكوّن فكرة دقيقة عن الدور الذي لعبه هذا الموضوع في قلب الخبر الكهنوتيّ. ونورد المفردات الخاصّة. عند ذاك نبحث عن المحيط الحياتيّ الذي وُلدت فيه هذه الفكرة المتشعّبة.
سبق وقلنا إن الكهنوتيّ يعير اهتمامًا خاصًا لموضوع تقسية القلب، لأنه يجعله مكان تفسير الآيات أو عبارة الاعتراف بعظمة الله في نهاية كل ضربة. فأمام تهديد مختلف المعجزات، والتحذيرات المتلاحقة، رفض فرعون أن يتزحزح قيد أنملة. استطاع أن يتصرّف بهذه الصورة، ما دام سحرته يستطيعون مقاومة موسى وهارون، أقلّه في الظاهر (حز 7: 13- 32؛ 8: 15). ولكن أجبروا على الانسحاب بعد أن امتلأوا بالقروح. عند ذاك بدأ الله يقسّي قلب فرعون. هذا ما يقابل الوقت الذي فيه أخذ موسى دورًا قام به هارون، فاحتلّ المشهد كلّه (9: 10-12).
فالمجابهة المباشرة بين الله والفرعون صارت قريبة جدًا. وساعة معجزة البحر، فرض الله حلّ الأزمة. في هذا الخبر نجد موضوع تقسية القلب وقد تكرّر ثلاث مرّات (14: 4، 8، 17). ولكن تجاه "المعجزات" جعلت قساوةُ القلب فرعون أصمّ أمام مرسلي الله، ودفعته إلى أن يمجّد عملهما. أما هنا، فبدت هذه القساوة في سلسلة من ردّات الفعل: لاحق الفرعون بني اسرائيل. فردّ الله مُظهرًا أنه سيّد الأمم وقوى الكون. وهو سوف يتمجّد على حساب فرعون وجيشه فيقرّ الجميع أنه الربّ. فعبارة الاقرار بعظمة الله التي حلّ محلّها ذكرُ تقسية القلب في خبر الضربات، سوف تظهر من جديد في قلب معجزة البحر (14: 4، 18). وعمل الله الأخير سيقود فرعون إلى الاعتراف بسرّه كما قال في 7: 5: "يعلم المصريون أني أنا الرب". والمفارقة في الكهنوتيّ نراها حين تستجلب تقسية القلب هنا الاقرار بالربّ.
إذن، يبدو تسلسل الخبر كما يلي: جاءت "الآيات والمعجزات" فسبّبت تقسية القلب. وتقسية قلب فرعون دفعته إلى النهاية المأساويّة التي فيها يعترف بالله. فتقسية القلب تشكّل منعطفًا في الخبر، فيفصل عبارة الاعتراف عن "الآيات والمعجزات" ليستطيع أن يربطها بالعمل الأخير الذي هو معجزة البحر.
إن مفردات الكهنوتيّ، التي تصوّر قساوة القلب، تجد لها سوابق في مختلف التقاليد. فالجذر "ق ش ه" قد اختاره الكهنوتيّ عمدًا، وجعله في موضع مميّز في الخبر. لا نجد هذا الجذر إلاّ مرّة واحدة في الخبر الكهنوتيّ الذي يستعمله في ف 7-14. يستعمله بشكل توطئة لأنه جزء من الخطبة البرنامج (خر 7: 1-5 الذي يتضمّن معنى ف 7-14). في وزن "أفعل" نجد هذا الجذر مع ثلاثة مفاعيل. وفي الأدب الاشتراعي، نقرأ "قسّى رقبته" أو "شعب قاسي الرقاب" ونجد أيضًا عبارتين: قسّى الرقبة، عاند. ثم: لم يسمع (2 مل 17: 14؛ إر 26:7؛ 23:17...). وفي الخبر الكهنوتيّ للضربات نجد ردّة تتكرّر مع تقسية القلب: لم يسمع لهما فرعون.
فالشعب الذي يقسّي رقبته ولا يسمع، يهدَّد بالفناء بيد الله (خر 9:23، 10؛ 33: 3؛ تث 9: 13- 14؛ 2 مل 17: 14، 18...). في تث 2: 30، يأتي "الروح" بعد الفعل. تلك هي حالة فريدة. قسّى الله قلب سيحون، ملك حشبون، وهذا ما قاده إلى الهلاك في حربه ضد شعب اسرائيل. ونجد الفعل مع "ل ب" (اللبّ، القلب) ثلاث مرّات (خر 7: 3؛ مز 59: 8؛ أم 28: 14). في خر 7: 3، الله هو الذي يقسّي القلب. وفي مز 59: 8؛ أم 28: 4، الانسان هو الذي يقسّي قلبه. في كل هذه الامثلة وفي مختلف البنى الممكنة، الموقف الذي يصوّره النصّ هو موقف دينيّ سلبيّ ونتائجه مشؤومة.
وهناك عبارة ثانية استعملها الكهنوتيّ على مدّ خبره للضربات وعبور البحر. نجد "ح ز ق" (قسّى) مع "ل ب" (القلب). لا يحمل هذا الفعل عادة وجهًا سلبيًا. بل يعني: شجّع، ثبّت، قوّى. وهو يظهر مرارًا في سياق من الحرب وفي أقوال خلاص تبشّر بالنصر (مز 4:27؛ 25:31). ففي تث 6:3-7، ساعة تقديم يشوع لتسلّم وظيفته يقال له: "تشدّدوا وتشجّعوا ولا ترهبوا (الأمم)، لأن الرب إلهك يسير معك. لا يُهملك ولا يتركك".
لا نجد إلاّ نصوصًا قليلة تستعمل هذه اللفظة بشكل سلبيّ (يش 11: 20، قسّى قلوبهم حتى خرجوا على بني اسرائيل، إر 3:5؛ حز 4:2؛ 7:3). يوجز يش 20:11 احتلالات يشوع للأرض، ويعطي سبب إفناء الأمم المقهورة: الله "قسّى" قلوبهم، بحيث بدأوا الحرب مع شعب اسرائيل فنالوا الهزيمة. وصوّر إر 3:5 عناد اسرائيل الذي لا يريد أن يعود إلى الله رغم الدروس التي أعطيت له. وفي حز 4:2؛ 7:3، أعلن الله للنبيّ أنهم لا يسمعون له. سيجد أمامه شعبًا معاندًا. ولكن واجبه يدعوه أن يتكلّم رغم كل شيء (حز 2: 5؛ 3: 11). وفي خبر ضربات مصر، هو الفعل المستعمل في النصوص المنسوبة إلى الالوهيمي للتحدّث عن تقسية القلب. ومفعول الفعل هو دومًا "ل ب" في سفر الخروج، كما في يش 11: 20؛ حز 2: 5 (بشكل صفة). في إر 3:5، المفعول هو "الوجه" (ف ن ي م). وفي حز 7:3، هو "الجبهة" (م ص ح). نلاحظ أن حز 2: 4؛ 7:3 يقدّم "ل ب" مع "ق ش ه" (7:3)، "ح ز ق" (2: 4). موازاة لافتة. وهذا يعني في هذا السياق أن الجذرين يتقابلان.
إن هذا البحث في مفردات الخبر الكهنوتيّ، قد فتحت الطريق أمامنا لكي نكتشف أصل موضوع تقسية القلب. فاللفظتان تقدّمان طريقين للتفسير ووسطين مختلفين. فالجذر "ح ز ق" يشير إلى إطار الحرب المقدّسة، ووسط سياسي وحربيّ. وتقسية القلب تكون موقفًا يدفع فرعون إلى أن يجابه الله. ولكن اللفظة لا ترتبط حصرًا بهذا الحقل من المعنى. فقد اكشتفنا أعلاه بعض الحالات التي فيها يصوّر الجذر موقفًا دينيًا خاصًا في سياق نبويّ (إر 5: 3؛ حز 7:3). أما فعل "ق ش ه" فيوجّهنا إلى سياق نبويّ، وقد تأثّر بسفر التثنية ونبوءة حزقيال. والإطار دينيّ دومًا. فالموضوع هو خلاص اسرائيل أو شجبه بيد الله. وما يلفت النظر استعمال هذا الفعل مع "ل ب" (حز 7:3؛ مز 8:95؛ أم 28: 14). فبما أن الكهنوتيّ يُفرد لهذه اللفظة مكانة خاصّة في تقديمه للأحداث، فنحن نفضّلها في تفسير موضوع تقسية القلب. وبما أن سياق خر 7-14 يصوّر تسلسل أعمال بها الله يتمجّد فيعترف به خصومه أنه يهوه (لا سياق حرب بين اسرائيل ومصر، أو بين الله والفرعون)، فهذا ما يجعلنا قريبين جدًا من الإنباء بالدينونة لدى الأنبياء، كما في حز 2: 1-3: 11. ونقاط المقابلة كثيرة.
- كما في خر 7: 1- 5، نحن أمام خطبة يلقيها الله وفيها يكلّف نبيّه بمهمّة. ولكن نلاحظ منذ الآن الاختلافات: في خر 7: 1- 5، هارون هو نبيّ موسى. والكهنوتيّ لا يتحدّث عن إرساله، بل عن تقليد وظيفة.
- منذ البداية، ينبئ الله بفشل رسالة مرسليه.
- نجد "ح زق" و"ق ش ه"، جنبًا إلى جنب (خر 4:2؛ 7:3).
- يرتبط هذان الفعلان بلفظة "ل ب" (القلب).
- ترتبط تقسية القلب بموضوع واحد في خر 7: 1-5 وحز 2: 1-3: 11: إن سامعي مرسلي الله لا يريدون أن يسمعوا (خر 7: 3-4؛ حز 2: 5؛ 3: 7).
- هو موقف يحمل الشرّ وقد يحمل الموت (خر 7: 4-5؛ حز 2: 10).
- تظهر عبارة الاعتراف بالله في حز 2: 5 وخر 7: 5، ولكن في سياقين مختلفين بعض الاختلاف: الله حاضر بواسطة نبيّه في حزقيال. وهدف كرازته يكمن في أن يجعلهم يقرّون بوجود نبيّ في وسط الشعب. أما في خر 7: 5، فالله هو الذي يعرّف بنفسه.
استعمل حز الصفة، أما الكهنوتيّ فاستعمل الفعل والمصدر لأنه يُريد أن يجعل كل العمل مركَّزًا بين يدي الله. عملُ الله هو المحور. أما النبيّ فيجد نفسه أمام شعب لا يسمع له. وبما أنه يصف وضعًا من الأوضاع، فهو يستعمل الصفات.
وهكذا بدا خر 7: 1-5 قريبًا من حزقيال بالالفاظ المشتركة والمواضيع المماثلة والفن الأدبيّ الواحد وذات الواقع المعاش (انطلاق في رسالة). ولكن تبقى بعض الاختلافات الهامة. لا يستعمل الكهنوتيّ فعل "أرسل" (رج حز 2: 3)، ولا عبارة المرسل (حز 2: 4 ب)، ولا يطبّق عبارة الاعتراف بالله على النبيّ كما في حز 2: 5. هذه العوائق لا تكفي لتسمح لنا بأن نضع النصّين في خانة واحدة. ولكن يبقى أن نص حز قد أعطى عناصر تفسير ثمينة تتيح لنا أن نحدّد مدلول ووسط المواضيع التي توسّع فيها الكهنوتيّ. ففي إطار نبويّ، كانت تقسية القلب جوابًا يُعطى لمرسلي الله، فيعود إلى وضع دينونة، ويصلت على السامعين سيف التهديد والحكم. فهل نجد في الكهنوتيّ ما يقابل دينونة الله هذه؟ وهل تستطيع معجزة البحر أن تفسَّر على أنها دينونة الله؟ قد يساعدنا على ذلك تحليل مفردات خر 7-14. هذا ما نراه في فصل لاحق يشدّد على أن عمل الله حين أخرج شعبه كان فعلاً نبويًا به يدين مصر

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM