الفصل التاسع عشر: ضربات مصر،معجزات نبي من الأنبياء

الفصل التاسع عشر
ضربات مصر، معجزات نبيّ من الأنبياء

درسنا في الفصل السابق البنية العامّة للخبر الكهنوتيّ الذي يتحدّث عن ضربات مصر وعبور البحر الأحمر (خر 7-14). فاكتشفنا مرحلتين في هذا الخروج من مصر. وظهر بوضوح أن موت الأبكار والفصح لم يكونا في أصل الخبر، بل جُعلا فيما بعد ساعة التدوين النهائيّ للبنتاتوكس: كان الخبر يمرّ بشكل مباشر من الضربات إلى عبور البحر دون تدخّل ضربة من نمط خارق.
أما الآن، فنحاول تفحّص تفصيل هذه البنية التي كنّا قد توقّفنا عند خطوطها العامّة. ما هو مدلول خبر ضربات مصر في التاريخ الكهنوتيّ؟ ما هو المعنى الخاص بمعجزة البحر؟ ما هي الأوساط التي منها استقى الكهنوتيّ أفكاره، وإطار خبره، واللطائف الخاصة بما رواه؟
هناك تفصيل قد يجعلنا في طريق يحمل ثمرًا، فيقودنا إلى حلٍّ مرضيّ لهذه الأسئلة. سمّى الكهنوتيّ الضربات "الآيات والمعجزات" (7: 3)، أو "المعجزات" (7: 9؛ 11: 9- 10). هذا ما يُستعمل عادة للحديث عن الأعمال الرمزيّة عند الأنبياء. مثل هذه المقاربة تدعونا إلى أن نحدّد نقاط اتصال بين هذا الخبر الكهنوتيّ وتقليد الأنبياء، فنتوصّل بالتالي إلى إيضاح بعض النقاط الغامضة في خر 7-14.
فإذا أردنا أن نتحقّق من هذه الفرضيّة، نجمع في مرحلة أولى ما في النصّ يدلّ على أن ضربات مصر هي فعلات نبويّة. وفي مرحلة ثانية نقابل بشكل خاص موضوع تقسية القلب عند الكهنوتيّ وعند الأنبياء. كل هذا يصل بنا إلى سؤال نطرحه: أما تقدّم دينونةُ الأمم التي أعلنها الأنبياء الاطارَ الذي يوافق تفسير معجزة البحر في التقليد الكهنوتيّ؟ وأخيرًا، نعود إلى الفرضيّة التي انطلقنا منها لكي نكتشف الفروقات على مستوى المعنى والمبنى بين الخبر الكهنوتيّ والتقاليد النبويّة الموازية.

1- ضربات مصر هي "آيات ومعجزات"
تلتقي أربع إشارات رئيسيّة في خطّ قراءة "نبويّة" لضربات مصر. فألفاظ الكهنوتيّ التي تدلّ على الضربات، تقدَّم لنا كقطعة الانطلاق من أجل بحثنا. ثم إن الخبر الكهنوتي يشير إلى حضور نبيّ وسط الذين يعملون باسم الله. وتجاه موسى وهارون نجد المزاحمين التقليديّين للآباء، نجد السحرة. أخيرا، مبنى الأخبار يذكّرنا بالفعلات النبويّة.
المفردات (أو الألفاظ) هي العنصر الأول الذي يتيح لنا أن نكتشف اتّجاه خبر المعجزات. في هذا المجال، يتحدّث الكهنوتيّ عن الآيات والمعجزات عن "المعجزات". أما اليهوهي فيفضّل لفظة "الآيات" و"العجائب" (أو المدهشات). أما التسميّة "ضربة"، فهي لا ترد إلاّ نادرًا، ولا تطبع بطابعها مجمل الظواهر التي سبقت الخروج من مصر. أما الكهنوتيّ فهو دقيق في اختيار مفرداته. استعمل مرّة واحدة عبارة "آيات ومعجزات"، فكانت أول ذكر وجدناه في سياق الضربات (7: 3). ثم استعمل مفردة واحدة (معجزات). في المرّة الأولى، يصوّر عمل العصا التي تحوّلت إلى "تنين" (7: 9). وفي المرّة الثانية في إجمالة تبدو بشكل خاتمة (11: 9، 10). إن خر 7: 7 و11: 9، 10 يحيطان بكل الحدث، وبالتالي يحتلاّن مكانة هامّة من أجل تفسير المقطع. ونلاحظ أخيرًا أن لفظة "معجزات" لا توجد سوى مرّة واحدة خارج الكهنوتيّ في هذه الفصول.
إن عبارة "الآيات والمعجزات" تميّز تثنية الاشتراع. إذن، ننطلق من تث فنفهم أن "الآيات والمعجزات" تدلّ على ضربات مصر. ويطرح تث سؤالاً حول تقبّل الآيات وفهمها، فيستعمل ذات الألفاظ لكي يتحدّث عن الفعلات النبويّة.
يرى معظم شرّاح تث أن "الآيات والمعجزات" تدلّ على الضربات. أما العبارة "بيد قديرة وذراع مبسوطة" التي تأتي مرارًا بجانب العبارة الأولى، فهي ترتبط حصرًا بمعجزات البحر. ولكن آخرين يرون أن لا اختلاف بين العبارتين: إنهما تشيران كلاهما إلى مجمل أحداث خروج مصر. ونستطيع أن نضع العبارة محل الأخرى في تث. لهذا نستطيع أن نؤكّد أنهما متساويتان وتصوّران الاحداث الخاصّة التي رافقت الخروج من مصر. وسوف ننتظر الأدب الاشتراعيّ المتأخّر لكي نجد التمييز بين العبارتين للحديث عن مرحلتي الخروج.
ولكن حين نتفحّص هذا الطرح، نجد بعض الاعتراضات الهامة. نلاحظ مثلاً أن يد الله وذراعه وحدهما قد "أخرجتا" شعب اسرائيل من مصر. نجد فعل "ي ص ا" (أخرج، وزن أفعل، أي فعل لكي يخرج) مع ذكر "اليد القديرة والذراع المبسوطة" (تث 5: 15) أو ذكر "اليد القديرة" وحدها (تث 6: 21؛ 8: 7؛ 9: 26). وفي كل هذه الحالات تكون غائبة عبارةُ "الآيات والمعجزات". وحين نجد العبارتين مع فعل "ي ص ا" (في وزن أفعل)، في تث 19:7؛ 8:26، فالعبارة الأقرب إلى الفعل هي "يد قديرة وذراع مبسوطة". وحيث لا تظهر يد الله وذراعه، لا حديث عن الخروج من مصر (تث 2:29؛ 11:34).
ينتج عن هذا أن عبارة "بيد قديرة وذراع مبسوطة" ترتبط بشكل خاصّ بالخروج من مصر في حصر المعنى. ثم، يبدو أن عبارة من هاتين العبارتين لا تحلّ محلّ الأخرى. ففي تث 6: 21-23 تبدو الظواهر غشّاشة. تشكّل آ 21 المقدّمة. عند ذاك تتوسّع هذه الاجمالة في مرحلتين: الآيات والمعجزات (آ 22)، ثم الخروج من مصر (آ 23). في هذا التوسّع، حافظ الكاتب على الترتيب. ولكن هناك حالة واحدة قيلت فيها العبارتان: تث 8:26 حيث "الآيات والمعجزات" تُذكر بعد "بيد قديرة وذراع مبسوطة". قد نشرّ هذا القلب بالاسلوب الليتورجي (في هذه القطعة) الذي لا يشير إلاّ إلى الوقائع المهمّة في تاريخ اسرائيل. فاستجابة الصلاة (آ 7) لا يمكن أن تكون إلاّ الخروج من مصر. وذُكرت "الآيات والمعجزات" لأنها شاركت في هذا الخروج. وكما لاحظنا أعلاه، فعبارة "بيد قديرة وذراع مبسوطة" تتبع حالاً فعل "أخرج".
إذن، حين يستعمل الكهنوتيّ عبارة "الآيات والمعجزات"، في سياق ضربات مصر، فهو يحدّد موقعه في خطّ تقليد يشهد له تث. وهناك نقطة أخرى في "آيات ومعجزات". فأوضحُ نصّ في هذا المجال هو تث 29: 1-3. فآيات الماضي ومعجزاته لم يفهمها جيل الخروج، لأن الله لم يعطهم قلوبًا ليفهموا وعيونًا ليروا وآذانًا ليسمعوا (3:29). هذا يعني بشكل ضمنيّ أن الله يمنح هذه النعمة للسامعين الآن هذا الإرشاد. فلا تصل "الآيات والمعجزات" إلى نتيجة إلاّ إذا أعطى الله شعبه أعضاء الادراك التي هي ضروريّة من أجل الفهم. والوضع مماثل في خر 7: 3. إن الله "قسّى قلب فرعون"، وأكثر من الآيات، فلم يسمع فرعون. فمنذ البداية جعل الله وظيفة الآية كدليل تبوء بالفشل، لأنه لم يعط فرعون قلبًا يستطيع إدراكها.
وهناك نقطة أخيرة يتيح لنا فيها تث أن نتقدّم في تفسير النصوص الكهنوتيّة في سفر الخروج. فـ "الآيات والمعجزات" تظهر في تث في قرائن مختلفة عمّا في خر (تث 13: 1-4؛ 46:28). إن تث 13: 1-4 يدعونا إلى مقابلة مع التقليد النبويّ. هذا المقطع يحذّر المؤمنين من الأنبياء الكذبة. إذا قام متنبئ أو راء فأجرى آية أو "معجزة" ودعاهم إلى عبادة الاصنام، فيجب أن لا يتبعوه. فاستقامة الايمان أهمّ من هذه الأعمال الخارقة. وسمّى تث "الآية والمعجزة" باسم الشقاء الذي يصيب اسرائيل حتى الفناء إن لم يسمع لربّه.
في نهاية هذه المسيرة الأولى، بدا واضحًا أن الكهنوتيّ يرتبط بتقليد يمثّله تث حيث يتصوّر ضربات مصر. ويدعونا تث 13: 1-4 أن نقرّب هذه الاحداث من الأعمال النبويّة. وسنأخذ نصوصًا أخرى لكي نتحقّق من هذه الفرضيّة.
في نصّين من نصوص أشعيا (18:8؛ 20: 13) تسمّى أعماله النبي الرمزيّة "آيات ومعجزات". ولكن اللفظة الثانية (معجزة) (م و ف ت) المستعملة في الكهنوتيّ، هي التي تجد لها سندًا قويًا في التقليد النبويّ. فالكهنوتي يستعمل هذه اللفظة وحدها ثلاث مرّات (خر 7: 9؛ 11: 9، 10). وهي ذات لون نبويّ، فتدلّ أكثر المرّات على عمل من أعمال النبيّ يشير إلى مصير النبيّ، أو مصير شخص من الأشخاص (1مل 13: 3، 5؛ 2 أخ 32: 24، 31). وهدف العمل هو تثبيت كلمة النبيّ بفعل يقوم به. أعلن النبيّ دمار بيت إيل، وإذ أراد أن يثبت كلمة الربّ هذه، أنبأ بأن المذبح سوف ينشقّ وينتشر الشحم الذي يغطّيه (1مل 3:13- 5). تمّت "المعجزة"، وهكذا لا يبقى شكّ في صحّة النبوءة. فالعمل الرمزي هو صورة مسبقة لعمل الله كما يعلنه النبيّ قبل أوانه. ونقول أخيرًا إن لفظة "معجزة" ترد أكثر من مرّة عند حزقيال. في استعمالات أربعة تدلّ اللفظة على عمل رمزيّ.
2- الإشارة إلى حضور نبيّ
هناك عنصر آخر يتيح لنا أن نرى في "الضربات" صورة مسبقة عن مخطّط الله الذي أوكل الأنبياء بإعلانه. هذا ما نجده في الطريقة التي بها يقدّم الكهنوتيّ مرسلي الله. فموسى وهارون يحتلاّن مكانة خاصّة جدًا في الخبر الكهنوتيّ. ففي خر 7: 1 يقول الله لموسى: "أنت أقمتك إلهًا لفرعون، وأخوك هارون يكون نبيّك". كلمات لم نسمع مثلها في كل العهد القديم. أما في ما يتعلّق بموسى، فقد نجد تأكدات مماثلة. فقد سمّي "إله" في خر 16:4 (حسب الالوهيمي). وهناك مقاطع متأخّرة في تث، تمنحه مكانة كبيرة (تث 18: 15، 18؛ 34: 10، 11). ولكن ما نلاحظه في خر 7: 1 هو ما يقوله عن هارون: هو المقطع الوحيد في العهد القديم يمنحه لقب "نبيّ" وهو لقب نادر في البنتاتوكس.
حين ابتعد الكهنوتيّ هنا عن تقليد هارون أو كبير الكهنة، أعطانا المفتاح لكي نفهم خبره: فكل الأعمال التي تمّت بواسطة هارون، ستكون أعمال نبيّ من الأنبياء. غير أنه يبقى خاضعًا لموسى كما "لإلهه". وبعد خر 10:9، سيعمل موسى وحده. في أيّ حال، هذه الملاحظة تتيح لنا أن نسير خطوة في طريق التفسير. فالأعمال التي سبّبت ضربات مصر تتلوّن بلون نبويّ، ونجد الشخص الذي يعملها وقد وُضع في خط الأنبياء.

3- السحرة
وهناك إشارة ثالثة تدلّ على تجذّر الخبر الكهنوتي في هذا المحيط عينه. فالكهنوتيّ يُدخل في توسّعه موضوعًا غاب كلَّ الغياب عن سائر المصادر: هو السحرة. وهكذا يُنمي بفنّه المزاحمة بين السحرة من جهة وموسى وهارون من جهة ثانية. فالمعجزة الأولى هي نجاح خفيّ للحزبين (خر 7: 11-12). استطاع السحرة أن يحوّلوا عصيّهم إلى "تنانين" كما فعل هارون. ولكن عصا هارون التهمت عصيّهم. وفي المعجزة الثانية والثالثة تبقى الضربة بدون غالب ولا مغلوب (7: 19، 120، 21 ب، 22؛ 8: 1-3، 11 ب). ولكن الضربة الرابعة ستكون المفترق: ما استطاع فنّ السحرة أن يُخرج البعوض (8: 12- 15). حينئذ أقرّوا أن "إصبع الله" هي التي تعمل. وفي الضربة الخامسة، إتخذت الامور منحى خطيرًا بالنسبة إلى السحرة الذين امتلأوا هم أنفسهم بالقروح (9: 8-12). نلاحظ أن موسى هو الذي أشرف على هذا العمل، لا هارون (9: 10). ومنذ ذاك الوقت، الله هو الذي سيقسّي قلب فرعون (12:9). ولكن حتّى الآن كان الكهنوتيّ يقول "ظلّ قلب فرعون قاسيًا" (13:7، 22؛ 8: 5). هنا دخل الله بنفسه على "المسرح"، وما عاد النصّ يتكلّم عن السحرة.
ولكن من أين جاءت أهميّة السحرة؟ فالأنبياء الكبار ولاسيّما أنبياء الفترة المنفويّة، يقدّمون لنا إشارات ثمينة. فقد قاموا بحرب على حكمة الأمم، وخصوصًا حكمة بابل. فقد بدا أنبياء اسرائيل باهتين تجاه المعلّمين في هذه المدينة العظيمة التي سحرت الشعوب المجاورة بعلمها. وارتبط الكهنوتي بهذا التقليد بواسطة الألفاظ التي استعملها.
في خر 7: 11 نجد مجموعتين مختلفتين: "الحكماء" و"العرّافين" وقد جُمعتا فيما بعد في فئة واحدة هي فئة السحرة. اللفظة الثانية هي نادرة. فإذا وضعنا جانبًا خر 7: 11 فلا نجدها إلاّ في سفر التكوين (خبر يوسف) وفي سفر دانيال. لا توجد هاتان اللفظتان في الكهنوتيّ إلاّ في هذا الموضع. وهما جزء من المفردات التي يستعملها الأنبياء. فالعرّافون كانوا ممنوعين في الشريعة (خر 17:22= تث 18: 10). وقد أظهر تت 18: 14-15 سمّو النبيّ على العرّافين وممارساتهم. وشدّد أش 29: 14 على عجز "الحكماء" عن فهم مقصد الله حين يُكثر عجائبه. أما إر 8: 8- 9 فهو حرب على "الحكماء" الذين يحتقرون كلمة الله. وحين يتّجه الأنبياء نحو حكمة الأمم، فهدفهم مختلف عن هدف الكهنوتيّ: يريدون أن ينزعوا القناع عن الباطل ويعرّون أوهام الذين يتكلّمون عليه (أش 19: 11-15؛ 47: 9- 15؛ إر 50: 35). ويمكن أن يكون الكهنوتي الذي استعاد ذات الموضوع وذات المفردات، قد مزج خبر الضربات باهتمامات مماثلة، هي اهتمامات الأنبياء في عصره.

4- مبنى الأخبار
وهناك برهان أخير يدلّ على القرابة بين الكهنوتيّ والتقليد النبويّ للأعمال النبويّة. حين نتفحّص بنية كل ضربة من الضربات يظهر تصميم هو تصميم أخبار الأعمال النبويّة. وهو رسمة في ثلاثة عناصر: أمر الله. تنفيذ هذا الأمر. شرح مع ذكر النتيجة التي تتضمّن عبارة الاعتراف بالله. وهذا ما نجده في خبر الطوفان كما لدى الكهنوتيّ. أما سائر المصادر فتقدّم أخبارًا أكثر تشعبًا بتصميم لا يعرف وضوح الخبر الكهنوتيّ: أمر الله لموسى وهارون. تنفيذ الأمر. النتائج التي حصلوا عليها. لم يسمع فرعون.
وبمختصر الكلام، جعلنا الكهنوتيّ ندرك في خبره طرق تفكير وفنونًا أدبيّة (أعمال نبويّة) عرفها التقليد النبويّ. ولكن لابدّ من الحذر، لأن الكهنوتيّ يبتعد في نقطة هامة عن التصميم العام للآيات النبويّة. فالعناصر الثلاثة تتضمّن أكثر المرّات عبارة الاعتراف بقدرة الله. أما الكهنوتي فتجنَّب ذلك (على ما يبدو) في خبر الطوفان. قبل أن نعود إلى السبب الذي لأجله أغفل الكهنوتيّ هذا العنصر، نتوقّف عند موضوع هام حلّ محلّ الاعتراف بعظمة الله هو: تقسية القلب.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM