الفصل الثامن عشر: ضربات مصر في الخبر الكهنوتي

الفصل الثامن عشر
ضربات مصر في الخبر الكهنوتي

إن خبر ضربات مصر قد طرح أكثر من سؤال على مفسّري الكتاب المقدّس. وقد توقّفت الأبحاث الأخيرة عند التأليف الأدبي لهذه الفصول (خر 6- 14). فميّزت تقاليد مختلفة حول ضربات مصر التي نجدها أيضًا خارج سفر الخروج (مز 43:78- 51؛ 105: 27-36). كل عرض من هذه العروض يختار ما يختار من أجل خبرة، لكي ينقل تعليمًا خاصًا به. وهذه النيّة الارشاديّة والمواعظيّة الحاضرة منذ البداية، ستصبح واضحة في نهاية تقليد العهد القديم، في حك 11-19 حيث نجد الكثير من السمات المدراشيّة.
نودّ هنا أن ندرس من زاوية التأليف الأدبي أحد مصادر ضربات مصر، الخبر الكهنوتي، لكي نكتشف ميزاته الخاصّة واتجاهه. ونعتبر أن العناصر الكهنوتيّة هي: خر 6: 2-12؛ 7: 1-13، 19 أ، 20 أ، 21 ب، 22؛ 8: 1-3، 11 أ، 12-15؛ 8:9-12؛ 11: 9-10؛ 12: 1، 3-14، 28، 40، 41؛ 14: 1-4، 8 أ، 15-18، 21 أ، 22، 23، 26، 27 أ، 28، 29. إن ف 6-14 يصوّر الخروج من مصر الذي تشكّل فيه الضربات محطّة خاصّة.
ونطرح أسئلة: كيف يترابط الخبر الكهنوتيّ الذي يتحدّث عن ضربات مصر؟ ما هي وظيفة الضربات في مجمل الخبر؟ هل يدخل في الخبر ما قيل عن الأبكار والفصح؟ ونبدأ بتحليل مفصّل لما في 7: 1- 5، فنجد بعض الإضاءة على هذه الاسئلة. بل نجد العناصر المفصَل في ف 7-14، أي المتتالية حول ضربات مصر ونهايتها في معجزة البحر.

1- خطبة برنامج في 7: 1- 5
هذه الخطبة التي تفوّه بها الله أمام موسى، تعلن مسيرة الأحداث حتى تحرير اسرائيل النهائيّ (خر 7: 5). وهي تتألّف من قسمين تدلّ عليهما سمات نجدها في النصّ. 7: 1-4أ: "فقال الرب لموسى... ولا يسمع لكما فرعون". ثم 7: 4 ب-5: "أجعل يدي على مصر... وأخرجت بني اسرائيل من بينهم".
تبدأ الخطبة بتقليد موسى وهارون مهمّتهما. واحد يكون "الله". والثاني يكون "النبيّ". ثم فصّل الله مسؤوليّة كل منهما. وبدأت المداولات مع فرعون، وتقسية قلب فرعون، وفشل المهمّة، لأن فرعون لن يسمع. فالله هو الذي يوزّع الأدوار. ونحن نجد أربعة أشخاص على المسرح: الله، موسى، هارون، فرعون. إثنان بينهما يفعلان بشكل خاص ويجعلان العمل يتقدّم: الله وموسى (آ 2، أنت... آ 3، أنا). وذهب موسى (وهارون) ليكلّما فرعون. في ذلك الوقت قسّى الله قلب الملك. يتركّز هذان العملان على ملك مصر. ولكن الكلمة الأخيرة ستكون له. سيرفض ما طُلب منه.
بعد 4:7 أ حصل تبدّل هام: وحده الله ظلّ يعمل وجاء العمل في صيغة المتكلّم المفرد: أجعل (أنا) وأخرج (أنا) جيوشي (أنا) شعبي (أنا). هناك عمل واحد ليس فاعله الله. نقرأه في آ 5أ: "يعرف المصريون أني أنا يهوه". ولكن هذا العمل هو نهاية عمل الله الذي أجبر المصريّين على الخضوع له. وانتهت المرحلة الأولى بالفشل. أما الثانية فيتوّجها النجاح.
هناك إشارات عديدة في النصّ تساند هذه القسمة. الاختلاف في فاعل الافعال. موقف فرعون أو المصريّين. رفض ثم اعتراف بالله. وفي بداية كل قسم من الخطبة يعلن الله عمله بذات الفعل في العبريّة (ن ت ن، جعل). وهذا ما يجعلنا في الإشارة الرابعة والأهمّ. في 7: 4 أ نجد عبارة فريدة في العهد القديم: "أجعل يدي على مصر". ما معنى هذه العبارة؟ هي تشبه عبارة تستعمل دومًا مع فعل يكون فاعله الله: "أجعل وجهي ضدّ" (لا 17: 1؛ 20: 3، 6؛ 17:26؛ حز 8:14؛ 7:15 أ). هذه العبارة هي بداية حكم ينتهي بموت الأشخاص المشار إليهم. وسياقها الأول هو الحقّ المقدّس، شريعة القداسة (لا 17-26) وقد استعادها بعض الأنبياء في أقوال دينونة ضد اسرائيل (إر 21: 10؛ 44: 11؛ خر 8:14؛ 7:15 أ، 7 ب). ويرتبط قول الحكم (أو: الشجب) هذا بسياق قانونيّ خاص باسرائيل وبعلاقة الله مع شعبه. في 7: 4، يتبدّل السياق لأن الله يتدخّل ضدّ أمّة غريبة. ولكن هنا كما في الحالات السابقة، ينتهي عمل الله بإزالة الخصم أو الخاطئ.
هذا ما يتيح لنا أن نفترض معنى مماثلاً لعبارة "أجعل يدي على". فالله يعلن بهذا القول عزمه على تنفيذ العقاب الذي يعدّه للمصريّين. هو يتدخّل بشكل مباشر. سيضع يده على المحراث. ويد الله هي علامة قدرته. وهكذا نستطيع القول: أرفع يدي على مصر (كمن يضربها بعصا). هذه الفعلة تقرّر مصير مصر وبالتالي مصير اسرائيل. فعمل الله المباشر ضدّ مصر تكون له نتيجتان: يخرج بني اسرائيل من مصر، ويهلك المصريّين. وهو يتوخّى أن يعرّف المصريّين أنه يهوه. ويشدّد التقليد الكهنوتيّ على أهميّة هذا الواقع حين يستعمل هذه العبارة الفريدة التي لا نجدها إلاّ في خر 7: 4.

2- مرحلتان في خبر خر 7-14
تجاه قسمَي خطبة الله، نجد قسمين في الخبر (ف 7-14). هذا ما يشير إليه الكهنوتيّ حين يذكّرنا بعبارات وجدناها في الخطبة البرنامج (7: 1- 5). فالمرحلة الأولى التي هي مرحلة المداولات مع فرعون تبدأ في 7: 7. يشير الكهنوتيّ إلى عمل موسى وهارون حين بدأا يكلّمان الله باسم فرعون. وتنتهي هذه المرحلة في 9:11-10 الذي يُبرز فشل موسى وهارون في مهمّتهما. ونحن نجد هنا عبارات 7: 1-4أ: أكثر الله الآيات (3:7 ب؛ 9:11 ب). ولكن فرعون لم يسمع (4:7 أ؛ 9:11 أ). لأن الله قسّى قلبه (3:7 أ؛ 11: 10 ب). لم يطلق بني اسرائيل (2:7 ب؛ 11: 10ب. لم يتركهم يذهبون).
والمرحلة الثانية في الخبر، حيث يعمل الله وحده لا بمشاركة مرسليه، "فيرفع يده على مصر" (7: 4 أ)، تبدأ في ف 12 بعد فاصل حول الفصح وموت الأبكار (12: 1، 3-14، 28) سنعود إليه. كما رافق بدايةَ مهمّة موسى وهارون إشارة زمنيّة (عمر موسى 80 سنة وهارون 43). لقد بدأ خبر الخروج من مصر بإشارة إلى الزمن الذي فيه أقام بنو اسرائيل في مصر (12: 40، 430 سنة). ثم صوّر الكهنوتيّ بشكل موجز أول عمل من أعمال الله: أخرج جيوش بني اسرائيل من أرض مصر (7: 4 ب؛ 12: 41 ب). وعمل الله الثاني هو محو المصريّين، ونحن نقرأه في ف 14. ولكن في هذه المقطوعة تبدو المقابلات مع 7: 4-5 واضحة في الوقائع لا في الألفاظ. غير أننا نلاحظ في خبر معجزة البحر ظهور عبارة الاعتراف بالله: "يعرفون أني أنا يهوه" (7: 5 أ، 14: 4، 18). ولكن لن يكون الحديث عن يد الله الممدودة على مصر (7: 5)، بل عن يد موسى الممدودة على البحر بأمر من الله (16:14، 21، 26، 27). فالناس وقوى الطبيعة هم وسطاء ينفّذون دينونة الله. وينتهي الخبر بوصف الكارثة التي ابتلعت فرعون وجيشه (14: 28) والتذكير بسير اسرائيل نحو البريّة بين سورين كوّنهما ماء البحر (14: 29). وهكذا نكون أمام رواية حدثين أعلن عنهما 7: 4-5: خروج اسرائيل من مصر، محو المصريّين.
وهكذا يبدو خبر التقليد الكهنوتي مقسومًا إلى مرحلتين واضحتين. الأولى (ف 7-10) تصوّر "الضربات": يعمل الله مع موسى وهارون، ولكن هذا العمل يبوء بالفشل. ظلّ فرعون ثابتًا ولم يتراجع. والمرحلة الثانية (ف 12- 14) تورد الخروج من مصر ومعجزة البحر. الله وحده يفعل، وعمله يصل إلى مبتغاه. وتأتي بعض التفاصيل التي ستلقي ضوءًا على الطريقة التي بها يتلاحم هذان القسمان.

3- معجزة البحر في التقليد الكهنوتيّ
لقد سبق للتقليد الكهنوتيّ وأبرز في 7: 4 مدلول المرحلة الثانية (خر 12- 14). فاستعمل في البداية عبارة فريدة في العهد القديم: "أجعل (أرفع) يدي على مصر". وتُزاد إشارات تسير في الخطّ عينه. هناك أولاً عبارة الاعتراف بالله (يعرفون أني أنا يهوه) التي تُستعمل في الكهنوتيّ مع الحديث عن الخروج من مصر في حصر المعنى. رج 7: 5؛ 14: 4، 18: يعرف المصريون ساعة معجزة البحر. ونجد أيضًا في التقليد الكهنوتيّ أربعة استعمالات لهذه العبارة (6: 7؛ 16: 6، 12؛ 29: 46). إن 6: 7 تتجاوب مع 29: 46. حين يعرف بنو اسرائيل الله، فالله هو في سيناء، وقد أسّس شعائر العبادة. غير أن المرجع التاريخيّ لَوْحَيّ الله يبقى الخروج من مصر. فيهوه هو ويظلّ ذاك الذي "أخرج اسرائيل من مصر". في 16: 6، 12، في خبر عطيّة المن، عرّف يهوه بنفسه أنه أصل الخروج من مصر. والآيتان تتجاوبان. إذن، نستطيع أن نعتبر الاشارة الواضحة إلى الخروج في 16: 6 وكأنها متضمَّنة في 16: 12.
وهناك ملاحظة ثانية تؤكّد موقع خر 14 المركزيّ في الخبر الكهنوتيّ للخروج من مصر. فعبارة "التعرّف" ترد في التقليد اليهوهي لضربات مصر. ولكن اللافت هو أنها ترتبط بوجهات مختلفة جدًا في الخبر: ترتبط بالضربة عينها (17:7) أو بالطريقة التي بها تنتهي الضربة (8: 6) أو بالشكل الذي فيه يعفّ الله عن شعبه حين يضرب المصريّين (18:8؛ 7:11). ثم إن خبر الضربات يجب أن يحرّك لدى السامعين (10: 2) التعرّف إلى الربّ. أما الكهنوتيّ فلا يستعمل هذه العبارة خلال خبر الضربات. بل هو يحتفظ بها لبداية هذا الخبر ونهايته، ويفرد لها مكانة خاصّة فتأتي بكل ثقلها على معجزة البحر. الكهنوتيّ هو المصدر الوحيد الذي يستعمل هذه العبارة خلال هذا الحدث.
هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لا يقرّ فرعون ولا المصريّون أبدًا بحضور الله قبل أن يغرقوا في البحر. ولكن اليهوهي مثلاً يرى أن الفرعون وشعبه قالوا بوجود الله عبر تصرّفهم. مثلاً، طلب فرعون من موسى أن يصلّي من أجله إلى الربّ (8: 4، 24؛ 28:9؛ 10: 17). أقرّ بخطيئته وإن بشكل عابر (9: 27؛ 10: 16، 17). حتّى في مصر نجد أناسًا يخافون الله ويهربون إلى ملجأ يقيهم الضربات (9: 20- 21. قد تكون هذه إضافة). ولكن في التقليد الكهنوتيّ، لا يكون فرعون طيّعًا ولا يلين، بل يبقى في قساوته. يبدو وكأنه لا يتحرّك حين يحدّثه سحرته الذين رأوا "إصبع الله" في هذه الأعمال (8: 15). لا يسمع فرعون. وهذا لا يمنعه حتى النهاية من أن يرى الأمور بوضوح (14: 3: تاهوا في البريّة). ولكن عند ذلك ستنقلب الادوار، والله سيعرّف بنفسه "فيتمجّد على حساب فرعون وكل جنوده" (14: 4، 17). كل هذه الاشارات تتجمّع وتدلّ على نيّة عميقة لدى الكاتب. تقسّى موقف فرعون، ولن يعترف المصريون بالله إلاّ خلال تدخّله الأخير. فخبر الضربات الذي يسبق خر 14 يهيّئ هذا الحدث الذي يشكّل بلا شكّ ذروة خبر الخروج من مصر في نظر الكهنوتي، الذي استبعد كل ما يمكنه أن يكون استباقًا لهذا العمل الأخير والحاسم.
والعنصر الثالث الذي يتيح لنا أن نحيط إحاطة أوسع بهدف الكهنوتيّ في توجيه الخبر نحو معجزة البحر، نجده في فعل "مجّد" (14: 4، 17). فالفعل "ك ب د" المستعمل هنا في وزن "انفعل" (يشبه المجهول) مع الله كفاعل الفعل، لا يرد مرارًا في هذا الشكل. فالكهنوتيّ يستعمله فقط ثلاث مرات وكلّها في ف 14 (آ 4، 17، 18). ونجده أيضًا في حز 22:28؛ 13:39 (رج أش 15:26؛ 66: 5؛ حج 1: 8). فالكهنوتي يرى أن الله يتمجّد في حدث محسوس من أحداث التاريخ: نجاة بني اسرائيل وزوال المصريّين. بعد ذلك الوقت، يستطيع "مجد الله" أن يتدخّل (خر 7:16، 10). ويعرف بنو اسرائيل "وزن" الله في تاريخهم. وهذا "المجد" قد اقتناه الله لنفسه وحده ساعة الخروج من مصر. إذن، يحتلّ خر 14 مكانة فريدة في الخبر الكهنوتي: في ذلك الوقت اقتنى الله المجد الذي فيه سيظهر بعد ذلك في اسرائيل.
ثلاثة عناصر أظهرت بشكل واضح كيف بنى الكهنوتي بناء محكمًا هذا القسم من تاريخ اسرائيل مع ذروة في عبور البحر: عبارة الاعتراف بالله. مقابلة هذه العبارة مع المصادر الأخرى. استعمال فعل "مجّد" في خر 14. وهكذا نرى بعد تحليل 7: 1-5 والعناصر البنيويّة في ف 14، أن الكهنوتي صاغ خبر الخروج من مصر في قسمين متميّزين. الاول وموضوعه الضربات قد انتهى بالفشل. ويصل الخبر إلى الذروة في معجزة البحر (القسم الثاني) حيث يتمجّد الله حين يحكم على المصريّين. ولكن، هل من موضع لما في خر 12: 1- 14، 28 في هذا التصميم؟ لماذا لا يقول خر 7: 1-5 شيئًا واضحًا عن الفصح وموت الأبكار؟ هل نستطيع أن نُدخل كلَّ هذا في تصميم الخبر الكهنوتيّ؟

4- خر 12: 1- 14، 28 والخبر الكهنوتيّ
طرح خر 12 عدّة أسئلة على النقد الأدبيّ منذ القرن التاسع عشر. فالقسم الأكبر من هذا الفصل يعود إلى المرجع الكهنوتيّ وإن دوّن على مراحل. فبعد دراسة خر 7-14 في الكهنوتيّ، يبقى علينا أن نتساءل كيف ينضمّ ف 12 إلى هذه المجموعة. مسألة دقيقة. هناك براهين تقول بانتماء هذا الفصل إلى التقليد الكهنوتيّ وهناك براهين ترفض هذا الانتماء.
نجد سلسلة أولى من البراهين تتحدّث عن انتماء 12: 1-14، 28 إلى الخبر الأصليّ. لهذا يُطرح السؤال: لماذا روى الكهنوتيّ موت الأبكار وعرض بالتفصيل عيد الفصح؟ من جهة، نتردّد في حذف هذا المقطع الهام في تقليد الخروج من المصدر الكهنوتيّ. وهل يغيب مثل هذا المقطع بعد أن أورد اليهوهي بعض أجزاء منه؟ هذا من جهة. ومن جهة ثانية، نحن نعرف ميل الكهنوتي إلى ذكر شعائر العبادة. فهو يقحم عادة شرائع عباديّة في خبره، ويبرّر أصلها بواسطة وقائع يوردها: الختان (تك 17). السبت (خر 16). خيمة الاجتماع (خر 25-26). وخبر الخروج من مصر يصعب تفسيرُه إن حذفنا الفصح وموت الأبكار. عند ذاك، يأتي 12: 40-42 بشكل مفاجئ، وبدون تهيئة. ما الذي أعطى بني اسرائيل إشارة بالانطلاق؟
في ألفاظ خر 12: 1-14، 28، نجد لفظة "حكم، دينونة" (ش ف ط ي م) (12: 12) التي تتجاوب مع خر 6: 6 ب؛ 7: 4 ب. فهذه "الأحكام" قد تشير في الأصل إلى موت الأبكار، فتدلّ على عجز "آلهة مصر". وهناك عبارات خاصة بالكهنوتي: "بين الغروبين" (12: 6). "فريضة أبديّة" (12: 14). "جماعة اسرائيل" (12: 3، 6). "جمهور اسرائيل" (12: 6).
غير أن هناك براهين أخرى ترفض وجود 12: 1-14، 28 في الخبر الأصليّ. أولاً، إن تصميم الأحداث في 7: 1-5 لا يترك مكانًا لموت الأبكار ولا لعيد الفصح. فالمرحلة الأولى مرحلة "الآيات والمعجزات"، قد أعلنت في 3:7 واختُتمت في 11: 9- 10. والخروج من مصر الذي أعلن في 7: 4- 5، يتمّ بعد 12: 40-42 وينتهي في ف 14. فماذا نزيد على هذا البناء؟ عند ذاك، يجب أن نسير في خطّ معاكس للتقليد الكهنوتيّ، فنقول بأنه يروي أحداثًا لم يعلن عنها من قبل. فيبدو أنه ليس من تلميح إلى موت الأبكار ولا إلى الفصح في 7: 1- 5.
ولكن 7: 4 ب (أرفع يدي على مصر) قد تشير إلى ذلك. غير أن هذه العبارة المعزولة تبدأ العمل كله، لا حدثًا خاصًا في هذا العمل. كيف نجعل مثل هذه العبارة الهامة تلقي بثقلها على واقع ثانويّ بالنسبة إلى خر 14 ومعجزة البحر؟ فذروة الخبر هي معجزة البحر لا موت الأبكار. أو هل نستطيع القول بأن "الأحكام العظيمة" (6: 6؛ 7: 4) لا تعلن موت الأبكار؟ قد نظنّ ذلك، لأننا نجد أيضًا لفظة "الأحكام" في 12: 12. ولكن رغم الظواهر، لا نستطيع أن نربط هذه النصوص بعضها ببعض. لأن الشكل ليس هو هو: استعمل 12: 12 لفظة "أحكام" ولكن في عبارة نجدها عند خر 5: 10، 15؛ 9:11؛ 41:16؛ 25: 11؛ 22:28، 26؛ 9:30، 19 (ع س ه. ش ف ط ي م. ب)، لا في خر 6: 6؛ 7: 4. ولن نجد في مكان آخر تلميحًا إلى "أحكام آلهة مصر" في خبر الخروج.
وأخيرًا، هناك إشارات عديدة تدعونا إلى أن نربط خر 6: 6؛ 7: 4، بـ خر 14. ففي معجزة البحر نفّذ الله "أحكامه العظيمة". ضمّ خر 6: 6 إلى "الأحكام العظيمة" ذكر "يد الله الممدودة". إن هذه العبارة تعني في التقليد قدرةَ الله التي تعمل في معجزة البحر. في 7: 4، تبدو "الأحكام" مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بعبارة الاعتراف بالله التي تأتي بعد ذلك. وفي خر 14 لا في خر 12 يتمّ هذا الاعتراف بالله. وأخيرًا، يتضمّن نص خر 28: 22 ثلاث عبارات ترتبط ارتباطًا وثيقًا: الفعل "مجّد" (في صيغة انفعل). عبارة الاعتراف بالله. لفظة "الأحكام". قد تنتمي هذه العبارات إلى الاطار اللفظيّ عينه. فلفظة "أحكام" عند حزقيال ترتبط دومًا بعبارة الاعتراف في أقوال ضدّ الأمم. وهذا ما لا نجد له أثرًا في خر 12. أما عبارة الاعتراف فتظهر مع فعل "مجّد" في خر 14: 4، 17، 18.
ونجد نقطة لافتة في خر 14. لا نجد في الألفاظ ولا في المواضيع ولا في لحمة الخبر، تلميحًا إلى موت الأبكار وعيد الفصح. هذا ما يدهشنا ولاسيّما أن موت الأبكار بدا العنصر الحاسم في تحرير اسرائيل. فنظنّ أننا أمام خبرين، وأن ما يُروى في الضربات وعبور البحر، يجب أن يميّز بوضوح عن كل ما يتعلّق بموت الأبكار والفصح. وألفاظ 12: 1-14 لا تتحدّث عن ارتباط هذه الآيات بالتقليد الكهنوتيّ. فعبارة "جماعة اسرائيل" ثم "جمهور اسرائيل" (3:12، 6) قد وُجدتا في الإضافات الكهنوتيّة التي دخلت إلى البنتاتوكس في وقت متأخّر. وكذا نقول عن عبارة "بين الغروبين" التي نجدها في خر 16: 12؛ 39:29، 41... أما "فريضة أبديّة" فلا تعني إلاّ هذه الآية وحدها.
ونلاحظ أن القطع الليتورجيّة ارتبطت كلها بسياق التيوفانيا، أي الظهور الالهيّ. فالختان (تك 17) والسبت (خر 16) وخيمة الاجتماع (خر 24- 39)، وأول عيد كبير في البريّة (لا 9)، كل هذا قد دخل في عالم عباديّ يرتبط بظهور الله أو مجد الله (خر 17: 1؛ حز 16: 10؛ 16:24، 17؛ لا 9: 4، 6، 23). أما في خر 12، فلا نجد أثرًا لظهور إلهيّ. لكن ف 12 يبدأ بشكل مفاجئ بدون تهيئة، وبدون ارتباط مع السياق السابق، وهو يحدّد موقع المشهد "في أرض مصر". هذه الاشارة قد تدلّ على نيّة الكاتب بأن يربط بشكل واضح الفصح بالخروج من مصر. وإن هو شدّد على هذا الأمر، فبسبب التردّد في محيطه. وهذا ما يدلّ على أن يدًا ثانية عملت في هذا النصّ. ونتخيّل بصعوبة أن يكون الكهنوتيّ قد تحدّث بالتفصيل على ليتورجيا في مصر، قبل أن يكشف الله عن نفسه لشعبه، وقبل أن يستعيد هذا الشعبُ الحريّة. بل إن الكهنوتيّ جعل بني اسرائيل يُسرعون من أجل التدخّل النهائي لله. عند ذاك يستطيع الشعب أن ينشد، أن يمدح، أن يعبد إلهه بعد أن صار في الحريّة. قبل ذلك كان يعيش في "رقاد" لا يسمح للرجاء أن يموت، فيكون على مثال النار تحت الرماد.
وبمختصر الكلام، يبدو أن خبر الكهنوتيّ الاصليّ لم يتضمّن رواية موت الأبكار والاحتفال بعيد الفصح. فكل هذا قد زيد فيما بعد.

خاتمة
توقّفنا في هذه الدراسة عند البنية الادبيّة للخبر الكهنوتيّ. وتعلّمنا أشياء كثيرة. قال الشرّاح إن موت الأبكار هو الضربة الأولى، وبالنسبة إليها بنى الكاتب سائر الضربات. وأخذنا نحن بالموقف الذي يعتبر خبر موت الأبكار في الدرجة الثانية. وكل هذا له نتائجه بالنسبة إلى مدلول الفصح وأصله.
واكتشفنا بنية الخبر الكهنوتيّ مع الضربات ومعجزة البحر. لم يكن الاسلوب حيًا كما في اليهوهي. وتُرك الحديث عن تردّد فرعون وتطلّباته التي تثير الامل واليأس عند بني اسرائيل. ترك الكهنوتيّ كل هذا الرسم الحيّ. فجعل الله الشخص المسيطر في الخبر. وصارت الدراما دراما إلهيّة حيث البشر ممثّلون صامتون لا يلعبون دورًا. يبقى علينا أن ندرس مواضيع الخبر لنكتشف التعليم الخاص، والسياق المعاش الذي هو إطار هذا التعليم. هذا ما نقوم به في الفصل التالي.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM