الفصل السابع عشر: التاريخ الكهنوتيّ تاريخ لا يتطور

الفصل السابع عشر
التاريخ الكهنوتيّ تاريخ لا يتطوّر

ونسأل راويًا لا يريد أن يروي التاريخ، بل نماذج من هذا التاريخ: ما هي نظرته إلى التاريخ؟ ما هي "فلسفة التاريخ" عنده؟ لاشكّ في أن له نظرته إلى الطريقة التي بها يرتبط الحاضر بالماضي والمستقبل بالنسبة إلى قرّائه. وهو يعبّر عن نظرته هذه إمّا بشكل إجمالي، وإمّا عن طريق نماذج ينعزل فيها الواحد عن الآخر. ونحن نستطيع أن نطرح هذا السؤال على الإخبار التاريخيّ الكهنوتيّ، لاسيّما وأنه يستند إلى مؤلّفات تاريخيّة، كما أنه لا يتنكّر لأصوله وإن كانت له أهداف أخرى.

1- الطرح
في مصادر البنتاتوكس القديمة، كانت هناك فلسفة تاريخ. ففي تك 12: 1-3، وفي خلفيّة بشريّة حكم عليها باللعنة (تك 11: 1-9)، صار ابراهيم بداية بركة جديدة منحها الله له، فامتدت بشكل ديناميكيّ إلى جميع الشعوب. فتاريخ الآباء، أقلّه في صياغة سابقة للبنتاتوكس الاشتراعيّ، بل تاريخ كل اسرائيل حتى امتلاك الأرض، يفسَّر بمقولتين: الوعد وتتمّة الوعد. فسفر التثنية والتاريخ الاشتراعي وبعض عناصر من مقطوعة سيناء (خر 19- عد 10)، تستعمل مقولة "المعاهدة" (الحلف) بين يهوه واسرائيل كمبدأ تفسيريّ. لهذا، يبدو من الضروريّ أن نطرح على نفوسنا السؤال التاليّ: كيف حدّد المؤرخّ الكهنوتيّ موقعه بالنسبة إلى العمل الأدبي الذي سبقه؟
ويُطرح سؤال آخر. هناك عدد كبير من العناصر التي نقرأها في مقطوعات التاريخ الكهنوتي ترتبط بعض الارتباط بالامل بالعودة، خلال المنفى أو بعد المنفى. وهكذا يلتقي الكهنوتي مع مجمل الأنبياء الذين أنشدوا هم أيضًا الأمل بالعودة. ولكن هذا الأمل ارتبط عندهم بما يُسمّى نظرة ديناميكيّة إلى التاريخ: سيكون المستقبل أعظم من الماضي. وعملُ الله الجديد الذي سوف يتجاوز كل ما فعله في الماضي، هو الآن أمامنا. ويتبع خطُّ الزمن طريقًا صاعدة. ما هو الآن هو حسن. والآتي أحسن منه. كل هذه النظرة يتوسّع فيها أشعيا الثاني. فهل أخذ بها المؤرّخ الكهنوتي وهو الذي يتحدّث عن الأمل بالعودة؟
ما دام الشرّاح لم يروا في التاريخ الذي يرويه التقليد الكهنوتي سوى نظرة شرعيّة إلى الجماعة العباديّة بعد المنفى، لم يكن مثل هذا السؤال يُطرح. ولكنه بدأ الآن، بعد فرضيّة تقول إن جماعة العبادة في البريّة ليست شكلاً يرتبط ببداية الشعب، بل مثالاً عن المستقبل وعن نهاية الأزمنة. ماذا نقول في كل هذا؟
2- الوعد وتتمّة الوعد
اعتاد المؤرّخ الكهنوتي أن يعبّر عن فكره بوضوح. لهذا نبحث عن تفاسير خاصّة به بالنسبة إلى التاريخ. هو ما استعاد موضوع "ابراهيم كبداية بركة لجميع الشعوب" واستبعد بشكل واضح اللاهوت الاشتراعيّ حول العهد. وبالتالي أعطى لفظة "ب ر ي ت" معنى آخر. أما مقولتا الوعد وتتمّة الوعد، فهما تلعبان دورًا هامًا يُشرف على كل مسيرة التاريخ الذي يرويه.
هذا التاريخ لا يبدأ مع الآباء، بل مع الخليقة. وقد بيّن "شتاك" أن أقوال الله الخالق في تك 1، لم تكن أوامر تحقّقت كلها بشكل مباشر، بل رسمة إجماليّة صاغها الله من أجل حالة الكون الأخيرة. فالخالق قد وضع مرّات عديدة في عمله الخلاّق بداية وقائع لن تبلغ إلى حالتها الأخيرة إلاّ في مسيرة الزمن. وهذا ما نراه بشكل خاص في العمل الثاني الذي قام به الله في اليوم السادس، وهو آخر أيام الخلق وأهمّها. ففي البركة التي أعطاها الله للبشر (تك 1: 28)، أعطى مخطّط مشروع لسلسلة الأحداث التي يرويها فيما بعد المؤلّف التاريخيّ. وهذه البركة التي ستتكرّر، تقابلها عبارات تدلّ على أنها تمّت.
وحين نأخذ بعين الاعتبار هذه الاسكاتولوجيا كما نفترضها في التاريخ الكهنوتي، نطرح السؤال: هل أعلن شيء في تك 1: 28، لم تصوّر تتمَّتُه في هذا "الكتاب"، وبالتالي لم يتحقّق في زمن المنفى أو بعد المنفى؟
هنا نقدّم برنامج التاريخ الكهنوتيّ كما ينطلق من تك 1 :28 مع لست ألفاظ: بارك (ب ر ك)، نما (ف ر ه)، كثر (ر ب ه)، ملأ (م لا)، امتلك الأرض (ك ب ش)، ملك على الحيوان (ر د ه). نجد البركة والنمو والكثرة في تك 1: 28؛ 1:9، 7؛ 2:17، 6، 16؛ 3:28؛ 9:35- 11؛ 3:48- 4. وفي تك 1: 28 يزاد: ملأ، ملك، امتلك. وفي تك 9: 1، 7: ملأ. أما التتمّة فترد في تك 27:47؛ خر 1: 7؛ يش 18: 1 مع فعل نما، كثر. ويزاد في خر 1: 7: ملأ. وفي يش 18: 1: امتلك الأرض. أما في تك 9: 2 فنحن أمام إعادة ومراجعة مع تشديد على أن الحيوان سيخاف ويرتعد من الانسان.
وها نحن نعود إلى الشرح. فحسب تك 1: 28، على البشريّة الصغيرة في البداية أن تنمو وتكثر وتمتدّ على سطح الأرض. "انموا، تكاثروا، املأوا الأرض". وسوف تتكرّر هذه البركة بعد الطوفان، ساعة تجد البشريّة نفسها في بداية جديدة. وستُعطى هذه البركة أيضًا بشكل خاص إلى ابراهيم ويعقوب اللذين منهما يخرج شعب اسرائيل. ونلاحظ التتمة مرتين. في تك 27:47 وفي خر 1: 7. ونقرأ في خر 1: 7 بركة على ابراهيم ويعقوب، وبركة على البشريّة كلها: "ونما بنو اسرائيل... وامتلأت الأرض منهم".
بركة من أجل النموّ والتكاثر في تك 1: 28. وبركة لكي تمتلك الشعوب الخارجة من هذا التكثير، أرض الآباء. هكذا يجب أن نفهم صيغة الأمر: "تسلّطوا عليها". ونجد موضوع الوعد والبركات مرة أخرى مع ابراهيم، ولكن في ألفاظ أخرى، هو وعد ابراهيم وإسحاق بأرض الوعد، والعودة إلى ذلك الوعد دومًا في التقليد الكهنوتيّ. وبعد أن تتحقّق البركة من أجل إنماء الشعب (تك 1: 7)، يأتي وعدٌ ثان يقرّر مسيرة العمل كما يعرضها خر 6 بوضوح. ليس اسرائيل بعدُ في أرضه، ويجب أن يُقاد إلى تلك الأرض. أن يكون هذا تتمّة تك 1: 28 بالنسبة إلى البشريّة كلها، هذا ما تعبّر عنه بوضوح إحدى الجمل الأخيرة في التاريخ الكهنوتيّ. ففي يش 18: 1 نقرأ من جديد لفظة وجدناها في تك 1: 28 ولم تستعمل بين ذينك النصّين: "كل جماعة بني اسرائيل اجتمعت في شيلو وأقاموا هناك خيمة الاجتماع. وخضعت (ك ب ش) لهم الأرض (أرص)". هكذا يكوّن تك 1: 28 ويش 18: 1 تضمينًا أدبيًا يحيط بالمؤلّف الكهنوتي كله.
ويبقى في تك 1: 28 عنصر واحد يجب أن نتطرّق له، هو سيادة البشر على الحيوانات. فلا نجد في التاريخ الكهنوتيّ شيئًا يدلّ على أن هذا القول قد تمّ. ولكن هذا لا يعني أننا أمام وعد لم يتمّ. فهناك النصوص الموازية حول السلام المسيحانيّ مع الحيوانات. ولكن هذا الموضوع قد تطرّق إليه الكهنوتيّ بشكل يختلف عن التتمّة: تحويل مشروع الله من أجل العالم. ففي ما يخص تسلّط الانسان على الحيوان، يرى الانسان أمامه مصيرًا جديدًا، كما يقول الادب الرافدينيّ.
فالأمر الذي أعطي للبشر وللحيوان بأن يأكلوا النبات (لا اللحوم) نقرأه في تك 1: 29، وحالاً بعد البركة في 1: 28. وهذا الذي دمّرته خطيئة كل بشر (من الانسان والحيوان) هو الذي سيقود إلى الطوفان. فالخطيئة هي عمل عنف (ح م س). والناس والبهائم بدأوا يقتلون الحيوان لكي يقتاتوا من لحمه. وهكذا تعدّوا بشكل صريح الأمر الذي أعطاهم الله بأن يعيشوا من النبات. وبعد الطوفان، وعد الله نوحًا بأن لا يرسل بعد طوفانًا على الأرض. ولكن وجب عليه أن يخفّف إلى حدّ ما درجة الخطورة في ما يمكن أن يحصل من أعمال عنف، لكي يستطيع أن يفي بوعده. ففعلَ حين سمح للبشر بأن يأكلوا لحمًا بعد ذلك الوقت. هذا هو معنى الجملة في تك 2:9 التي تستعمل لغة الحرب المقدّسة وتدخل حالة الحرب بين الانسان والحيوان. "يخافكم ويرتعد منكم جميع وحش الأرض، وجميع طير السماء، وكل ما يدبّ على الأرض، وجميع سمك البحر. إنها مسلّمة إلى أيديكم".

3- نظرة جامدة إلى التاريخ
وهكذا لا يتجاوز العنصر الأخير في تك 1: 28 أفق التاريخ الذي يرويه الكهنوتي. لسنا هنا أمام وعد آخر لا يتمّ في داخل الخبر. ففي نظر قرّاء الكهنوتي، فالوعد الذي بموجبه يكون ابراهيم ويعقوب جدّي الملوك، قد تمّ منذ زمن بعيد. ونقول الشيء عينه عن الوعد عن ذلك الذي يقول إن يهوه سيكون إلههما وإله نسلهما. إذن، نستطيع أن نؤكّد أن التاريخ الكهنوتيّ لا يعرف عن المستقبل شيئًا يتجاوز الوقائع التي يصوّرها التاريخ المُروى. فبعد أن عبر اسرائيل الاردن، ما عاد التاريخ الكهنوتي يعرف تاريخًا ديناميكيًا يتجاوز دومًا نفسه ويقود إلى نهاية لا يترجّاها انسان.
فإذا عدنا إلى النظام النباتيّ في الفردوس وإلغائه بعد الطوفان، نكون بالاحرى أمام خطّ تصاعديّ ظاهر. هل كان "إيوالد" على حقّ حين قابل هذه النظريّة مع نظريّة متشائمة عن التاريخ بعصوره الأربعة. إن التاريخ الكهنوتيّ لا يدافع عن هذه النظريّة بشكل مباشر. ولكنه يصوّر هو أيضًا التاريخ على سفح ينحدر بالانسان من أفضل العوالم الممكنة إلى عالم جديد يأتي في الدرجة الثانية على مستوى النوعيّة. هي مقابلة لا بأس بها. أما في ما يتعلّق بانحطاط عصر ذهبيّ نحو عصر حديديّ، فنحن نستطيع أن نقابل بين النصوص الكهنوتيّة وسطر اتراحسيس.
يعالج هذا الخبر السطري بشكل سريع جدًا خلق البشريّة. هو أول حدث عظيم يرويه. ثم يتابع روايته بخبر البشر والآلهة حتى الحقبة التي تلي الطوفان بشكل مباشر. في ذلك الوقت، اختلفت مجموعة الآلهة حول الطوفان وحول اتراحسيس، بطل الطوفان، فاتّفقوا على تنظيم حضور البشر في الكون على أسس جديدة. إن العلماء لم يتّفقوا بعد على السبب الحقيقيّ الذي دفع الآلهة إلى تدمير البشر. هل هو تمرّد البشر على الآلهة؟ هل هي رغبتهم بأن يأخذوا شيئًا أرفع منهم ولم يكن معدًا لهم؟ أو هل هو سبب بيولوجيّ تكاثر على أثره البشر؟ قد يكون السببُ الخطيئةَ كما يكون تكاثرَ البشريّة.
أما عبارة الاتّفاق بعد الطوفان، فهي تعكس إشكاليّة تكاثر السكّان، لأن القرار الذي اتُّخذ يقوم بأن يخفّف سكان العالم. وفي أي حال يقول اتراحسيس إن عالمًا جديدًا قد قام بعد الطوفان، لأن العالم الأول لم يستطع أن يدوم. قد تختلف الاسباب بين سطرة اتراحسيس والتاريخ الكهنوتيّ، إلاّ أن المقابلة ممكنة بين هذين "الكتابين" اللذين وصلا إلى خبر الطوفان.
ماذا يعني كل هذا من أجل فهم التاريخ الكهنوتيّ؟ تحدّثت سطرة اتراحسيس عن حقبة سيطر فيها الاضطراب على العالم، فبحثت متلّمسة حالة نهائيّة، لأنها تريد أن تلقي ضوءًا على وضع العالم الحاليّ الذي يعيش حقبة من الهدوء. وهذا ما عمله الكاتب الكهنوتي. ولكن حين أراد أن يصل إلى حقبة ثابتة لا قلق فيها، عبَرَ مرّتين حقبة ديناميكيّة. سار مرّة أولى بمحاذاة سطرة اتراحسيس إلى هدوء أولى جاء بعد الطوفان. ولكن بدأت حقبة ثانية ديناميكيّة بالنسبة إلى البشر الذين يقيمون في هذا البناء، أخذ الخبر اسرائيل نموذجًا له. فما قدِّم للبشريّة في صباح الخلق قد صحّح. وها أمام البشريّة واجبٌ يدعوها إلى النمو عددًا، ويدعو كل شعب لكي يمتلك الأرض التي قُسمت له. وهكذا نكون من جديد أمام حقبة ديناميكيّة، أمام تاريخ يتّجه نحو مستقبل أعظم. عند ذاك يتحقّق الوضع الذي أعدّه الله. ويتوقّف الخبر هنا، كما توقّفت ممطرة اتراحسيس بعد الاتفاق الذي وليَ الطوفان. فالعالم هو الآن في الحالة التي يجب أن يكون فيها، وهو لا يتطلّب تبدّلاً.
ونجد أيضًا في الكتاب الكهنوتي، في نهاية الحقبة الديناميكيّة الثانية، خبر كارثة تعيد على أثره كلمةُ الله النظر في النظام القديم. فخطيئة الشعب في خبر الجواسيس (عد 13-14)، وخطيئة القوّاد الروحيّين في خبر عطيّة الماء (عد 20: 1-13)، تقودان جيلاً كاملاً مع قوّاده إلى الموت في البريّة. كيف لا نتذكّر هنا طوفان نهاية أزمنة البدايات؟ في عد 27 ستتبدّل ظروف القيادة في اسرائيل من أجل حقبة امتلاك الأرض: في الحقبة الديناميكية، كان موسى على علاقة بالله، وكان هارون خاضعًا له. والآن، ها هو اليعازر الكاهن الذي يقول ليشوع، خلف موسى، ما ينقل الله إليه من كلام نبويّ.
إن ثبات الكون الذي وصل إلى شكله النهائيّ بفضل تدخّلين من الله، يكفله عهد وعهد. فعهد نوح يكفل ثبات بناء الكون. وعهد ابراهيم يكفل عدد الأمم وامتلاك الأرض وحضور الله في المعبد في وسط اسرائيل. في الحالتين، نحن أمام عهد دائم (ب ر ي ت. ع ل م). وتختلف قيمته عن قيمة "المعاهدة" الاشتراعيّة، لأن قيمته لا تتعلّق بأمانة البشر للعهد. فحين يخطأ جيل من البشر يسقط ويُعاقب، هذا ما لا شكّ فيه. ولكن الله لا يستعيد شيئًا. والجيل المقبل يستطيع من جديد أن يعود إلى بنية العالم النهائية والثابتة.

4- المنفى والكتاب الكهنوتي
وسقط اسرائيل أيضًا وهو في المنفى. هو يمثّل قارئ الكتاب الكهنوتي. فوضعُ البريّة، بل وضعُ مصر، يتكرّر. ولكن هناك أملاً بالعودة لا يستند إلى اسكاتولوجيّة من الاسكاتولوجيات، ولا إلى انتظار تدخّلات الله الجديدة من أجل مستقبل يتجاوز التدخّلات القديمة. بل هو يستند إلى واقع يقول إن الله أعطانا بعد عبور الاردن، أرضًا نمتلكها إلى الأبد ولا يستعيدها من قبل ذاته. ويروي التاريخ الكهنوتيّ الأخبار بشكل نماذج. هذا يرتبط بواقع يقول إن الأرض قد تسقط من شكلها التام إلى نقص في الصيرورة. عند ذاك، يجب أن نستعيد بشكل من الاشكال طريق الحقبة الديناميكيّة. وهذا ما يربط نتائج القسم الأول من اعتباراتنا مع ما قلناه في القسم الثاني حول رؤية التاريخ الخاصّة بالكتاب الكهنوتيّ.
هذا الفهم للتاريخ يؤثّر في اسرائيل العائش في المنفى على مثال نبيّ اسكاتولوجيّ يعيد إليه الأمل. ولكنه لا يثير في الوقت عينه هذا القلق الحارق الذي أشعله الأنبياء. وإذ تبدو البشريّة وكأنها وصلت اليوم إلى حدود النموّ، فرؤية عالم ثابت يقدّمه لنا خبر التاريخ الكهنوتي، يستحقُّ وحده أن يلفت انتباهنا.
وهذه الرؤية هي خاصّة جدًا، بحيث إن الخيار القديم بين "الشويعة" و"التاريخ" لم يعد له من وجود. فخبر الماضي لا يشرِّع بأي حال الأوضاع الحاضرة. وقرّاء الكتاب الكهنوتيّ لا يعيشون في أي حال داخل بُنى أرادها الله ورتّبها ترتيبًا هادئًا، وقد تفرض نفسها علينا. هذا من جهة. ومن جهة ثانية لا يحرّك الخبر انتظار الأزمنة الأخيرة التي ما زالت مجهولة والتي ستدهشنا. فالشكل المثالي للعالم كان هناك في ذاك الوقت، وهو معروف. بفضل الله هو دائمًا هناك، ويكفي أن نعود إليه.
نستطيع أن نتساءل في النهاية: حين حمّلنا التاريخ الكهنوتيّ حملاً ثقيلاً من التشريع، أما جعلنا الميزان يميل إلى "الشريعة"؟ وفي التدوين النهائي للبنتاتوكس، أما خنقت الأخبارُ التاريخيّة التي وُجدت في المصادر القديمة أو لاهوت العهد الاشتراعيّ، طريقةَ معالجة التاريخ الكهنوتيّ بحيث جعلته لا منظورًا؟ وفي نهاية هذا المقال، يبقى السؤال الذي طرحناه في البداية مطروحًا. فلا بدّ من طرحه أيضًا انطلاقًا من قراءة "قانونيّة" (أي حسب قاعدة الايمان) يهوديّة أو مسيحيّة. ولكننا لن نجد الجواب في كتب مثل التاريخ الكهنوتي، إلاّ إذا تخلّينا عن مفاهيم مثل مفهوم "تاريخ الخلاص".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM