الفصل الخامس عشر :الابحاث حول التقليد الكهنوتي

الفصل الخامس عشر
الابحاث حول التقليد الكهنوتي

اعتاد التقليد اليهودي أن يسمّي الأسفار الخمسة في العهد القديم باسم "الشريعة". وكذا فعل العهد الجديد حين تحدّث عن "الشريعة والأنبياء" (مت 5: 17، 18؛ 12:7...). أما التقليد المسيحيّ فضمّ الأسفار الخمسة إلى الأسفار التاريخيّة. وفعل كذلك المؤرخ فلافيوس يوسيفوس في كتابه ضد ابيون (1: 8). من خلال هذه الفروقات، نجد مناحي مختلفة. فلفظة "شريعة" تعود بنا إلى أمر تلقّيناه، أمر مستمر، يدوم، ويجب أن نحفظه. أما لفظة "تاريخ" فتنطبق على تطوّر الأحداث الماضية. ولكنها لا تستبعد توسّعات جديدة.
نبدأ في مقالنا الذي يجمع الشريعة إلى التاريخ، فنفهم كيف عاد البنتاتوكس (الاسفار الخمسة) إلى نفسه. ونطرح سؤالاً أول: ما معنى عبارة "التقليد الكهنوتي"، هذا التقليد الذي هو الشريحة الاوسع في البنتاتوكس والأحدث عهدًا. وقد طبع بطابعه النهائيّ أسفار موسى الخمسة.

1- الأبحاث حول التقليد الكهنوتي
أ- توسّعات أولى
في بداية الابحاث المكثّفة حول البنتاتوكس في القرن التاسع عشر، تحدّد مدلول التقليد الكهنوتيّ على ضوء لفظتين متواجهتين: الشريعة والتاريخ. في سنة 1807، كان "دي واتي" أول من قام بمقاربة إلى هذا الموضوع في كتابه: "نقد التاريخ الموسويّ"، فأبرز من جهة النصوص التشريعيّة، ومن جهة أخرى النصوص التاريخيّة. غير أنه لم يفصل فصلاً واضحًا بين الاثنين. من جهة، تحدّث عن "حقبة التيوقراطيّة العبرية" التي فيها أنشد "أحد الشعراء" "ولادة وتكوين شعب الله وشرعته المقدّسة". ولكن من جهة ثانية، توخّى الشاعر هدفًا آخر: أراد أن يستخلص من التاريخ "الشرائع التيوقراطيّة". غير أن التوازن بين الشريعة والتاريخ الذي كان منذ البدء سريع العطب، سوف يزول بسبب مواقف متباينة ومتناقضة.
سنة 1843، كتب "إوالد" "تاريخ شعب اسرائيل" في سبعة أجزاء. في الجزء الأول أفرد 32 صفحة للحديث عن "كتاب البدايات" (تك 1- 11). ثم عاد مرارًا إلى هذا الموضوع. فلاحظ أن الكاتب لا يروي خبرًا مفصّلاً يتعاطف معه بحرارة إلاّ إذا أراد أن يبرّر إعلان شريعة، أو شرح فرائض على مستوى الشرائع والأخلاق. غير أن الهدف الرئيسيّ لهذا الكتاب الكبير هو أن يلقي أوسع نظرة إلى اللحمة التاريخيّة كلها، وأن يعود إلى الأصول السحيقة لكي يشرح كل ما جرى فيما بعد. هذا ما فعله اليونان بعد انتصارهم على الفرس. فهذا العمل التاريخيّ قد أراد أن يستعيد كل شيء من زاوية البداية والصيرورة. فقدّم نظرة سريعة إلى معنى التاريخ. فاستعمل من أجل هذا كرسمة توجّه عرضه، نظرية حقبات الكون الأربع التي عرفتها شعوب عديدة في العصور القديمة. وهكذا وزّع التاريخ على آدم ونوح وابراهيم وموسى. وهذا ما يقابل عند هيسيودس (8-7 ق م) الذهب والفضّة والنحاس والحديد. وهكذا فـ "كتاب البدايات" يتحدّث عن بشريّة تمتدّ يومًا بعد يوم بحسب حقبات مماثلة، وتتطوّر على مستوى الفنون. ولكن الصراعات المتنامية تنخرها من الداخل.
ب- أولويّة الشريعة
كان لشرح المعلّم هذا امتدادٌ في لفظة حاول "ولهاوزن" أن يفرضها في "تأليف الهكساتوكس" (1876، أو الأسفار الستة. يزيد سفر يشوع على أسفار موسى (الخمسة). وفي "تاريخ اسرائيل" (1878)، استند إلى العهود الأربعة التي تتوزّع عمله: عهد مع آدم (تك 2-3). عهد مع نوح (تك 9). عهد مع ابراهيم (تك 12 ي). عهد مع موسى (خر 19-24). ولكن لفظة "أربعة" لم تلقَ النجاح المنتظر. فحسب "كوانان"، "تك 1 :28-30 ليس عهدًا بل "كلمة مباركة". ولكن ولهاوزن لم يعُد يتحدّث عن نظام متناقص لعصور الكون. وما يسمّيه الآن "الشرعة الكهنوتيّة" قد وصل إلى ذروته مع عطيّة شريعة موسى، حين غطّى حالاً الإخبار بمواد تشريعيّة. وما رُوي فيما قبل وجد نفسه "خاضعًا لهدف تشريعي". إن "الشريعة" هي "مفتاح القراءة" حتى لأخبار الشرعة الكهنوتيّة. وبمختصر الكلام، الشكل وحده هو تاريخيّ. إنه الإطار للمادة التشريعيّة لكي يرّتبها أو يجعل عليها قناعًا.
وجاء فيما بعد من حاول أن يجد ما يجمع بين هذين الموقفين الطرفين، عائدًا إلى عبارة كوانان "كتاب تاريخيّ وتشريعيّ". هذا ما فعله "فون راد" الذي رأى أن موضوع إخبار التاريخ الكهنوتيّ هو توسّع في نظم عباديّة محدّدة تنطلق من التاريخ. بمثل هذه النظرة صار التاريخ المرويّ أكثر من "إطار" بسيط أو "قناع". غير أنه ظلّ يُروى في هدف إتيولوجي (يبحث عن العلّة والسبب) "كتشريع تاريخيّ" لوجود اسرائيل. نستطيع هنا أن نتكلّم أيضًا عن "تقديم كهنوتيّ لتاريخ الخلاص". مثلاً، يتحدّث شاربار بمناسبة كلامه عن الكهنوتي، عن "تاريخ خلاص تقم فيه بين الفينة والأخرى المباركات والمواعيد إلى أن يظهر ملكوت الله في شعب الله الذي تنظّم تظيمًا تراتبيًا". ولكن في الواقع، يجب أن نقرّ، أنه منذ "ولهاوزن"، قد انتصرت "الشريعة" على التاريخ. هذا يعني أن التقليد الكهنوتي قد يلجأ إلى التاريخ. ولكنه إن لجأ فهو يتوخّى أن يمتّن العلاقات الاجتماعيّة الموجودة في أيامه فيقدّم لها بالخبر صفة شرعية. وهكذا تبدو الشريعة عدوّة كل نموّ ومعارضة لكل تبدّل إجتماعي.
ج- عودة إلى التاريخ في التقليد الكهنوتي
ولكن جاء من طرح مثل هذه المقولة التي بدت في وقت من الاوقات كلاسيكيّة، بل دمّرها تدميرًا. انطلق من وقائع وملاحظات وتساؤلات، فقدّم وجهات جديدة حول موضوع "التقليد الكهنوتيّ والتاريخ". وها نحن نعرض بعضها.
أولاً: قيمة التاريخ
منذ "ولهاوزن"، ميّز العلماء بين خبر تاريخيّ كهنوتيّ حقيقيّ، وما تبقّى في النصّ الذي هو مواد تشريعيّة. ولكن في سنة 1948، تساءل "نوت" في كتابه "تاريخ تقليد البنتاتوكس" عن لاهوت التقليد الكهنوتي على مستوى التاريخ، وذلك بعد أن عزل الشرائع التي أضيفت إلى التاريخ الكهنوتي. ولما انطلق من هنا كان لا بدّ له، أقّله في وقت أول، من تركيز نظره على "التاريخ الكهنوتي". وكان انشداد بين "الشريعة" و"التاريخ" يجد شروط تعايشه في دمج التاريخ الكهنوتيّ والشرائع الكهنوتيّة.
وقدّم نوت رأيًا آخر في كتابه، فأعلن أن في تنظيم شعائر العبادة في اسرائيل نحن أمام تنظيم عبادة "مثاليّة"، أمام "برنامج من أجل المستقبل". وهكذا بيّن أنه من الممكن أن نرى في العلاقة بين التاريخ والشريعة اتجاهًا يتوخّى تبديل النظام، لا تبريره. وهكذا وصل نوت إلى موقف يقول إن التاريخ الكهنوتي لا يعير أهمية كبرى للتاريخ كتاريخ.
ثانيًا: محور اهتمام التاريخ الكهنوتي
أخذ نوت بالرأي التقليديّ فقال إن الإخبار الكهنوتي يبلغ إلى هدفه الحقيقيّ مع تقديم القواعد التي دشّنت سيناء. أما "آليغر" فدافع بالاحرى عن طرح يصعب الردّ عليه. وهو يقول: إن محور الاهتمام الحقيقيّ في التاريخ الكهنوتي، ورغم اتّساع مقطوعة سيناء، لا يكمن في شعائر العبادة ولا في الجماعة العباديّة، بل في أرض كنعان. "فذروة تدخّل الله في التاريخ" هي "امتلاك أرض كنعان" كأساس مادي ومفهومي "تستطيع أن تمتدّ عليه حقًا حياة الشعب وشعائر العبادة كوظيفة طبيعيّة وجوهريّة".
مثل هذا الطرح يحمل إقناعًا، ولاسيّما أن "آليغر" يستعيد نقد "نوت" الأدبيّ الذي يقول إن التاريخ الكهنوتي أنهى الكتاب بموت موسى وما صوّر الدخول إلى أرض الموعد، فعكس شعائر العبادة التي لا يراها التاريخ الكهنوتيّ إلاّ في اسرائيل. فإقامة الانسان في أرضه الخاصة هي أمر معترف به من أجل جميع الشعوب. وهكذا يفرض علينا موضوع التاريخ الكهنوتي الاهتمام من جديد بتاريخ البدايات الذي يتطرّق إلى جميع الشعوب. فهذا التاريخ هو أكثر من مقدّمة في بداية سفر التكوين أو التوراة كلها.
وقدّم "آليغر" بشكل ملموس فكرة جديدة ظهرت من قبل عند "دي واتي": ففي التاريخ الكهنوتيّ، صار التاريخ المرويّ شفّافًا عن طريق اختيار المواد وترتيبها. وهو يجعلنا نرى القرّاء الذين يتوجّه إليهم ونعرف وضعهم الملموس. فهناك خلفيّة تسند فكرة القارئ. وقد فكّر "آليغر" بقرّاء يقيمون في المنفى ببابل (587-539). ونستطيع أيضًا أن نبرز شفافيّة الخبر الكهنوتيّ، إذا أخذنا بعين الاعتبار علاقات النصّ بالادب النبويّ في زمن المنفى، وبالحقبة الأولى التي بعد المنفى، ولاسيّما بكتاب حزقيال. فهذا السفر يقدّم بلا شكّ نظرة إلى التاريخ لا تحاول فقط أن ترتّب مختلف الاحداث في خطّ زمنيّ أو نظام سببيّ أو غائي، بل أن تجد في التاريخ نماذج وأمثلة تلائم جميع الأزمنة. هذه النماذج التي برزت في الماضي، سيكون لها مدلول من أجل المستقبل.
في هذا السياق نشدّد على دراسة "ماك فانيو" في كتابه (الاسلوب الإخباري لدى الكاتب الكهنوتي) الذي سدّ نقصًا في الدراسات فأتاح لنا أن ندرك التقنيّة الأدبيّة في التاريخ الكهنوتي. غير أننا لسنا مجبرين على الأخذ برأي الكاتب الذي يظنّ أننا أمام أدب الطفولة في أرض اسرائيل. فمسألة أصل أسلوب الأدب الكهنوتي ووظيفته والتاريخ السابق له، تبقى عالقة.
ثالثًا: التاريخ الكهنوتي على المحكّ
وأخذت تتكاثر المحاولات التي ترى في النصوص الاخباريّة التي نجدها في التقليد الكهنوتيّ، لا كتابة أصيلة ومستقلّة في ذاتها، بل ملحقات على مواد قديمة في البنتاتوكس الذي يقرأها ويعيد تفسيرها. وهناك من يرى فيها يد المدوّن الحقيقيّ للبنتاتوكس. ما هي النتيجة التي وصلوا إليها؟ إن الإخبار الكهنوتيّ للتاريخ، وإن كان في الاصل مستقلا، لا يجب أن يُعتبر فقط تقليدًا مستقلاً ومتوازيًا مع سائر تقاليد البنتاتوكس التي هي أقدم منه. بل يجب أن نرى فيه بالأحرى نظرة جديدة تعود عودة واعية إلى التقاليد القديمة، كما تحاول في الوقت عينه أن تبتعد عن هذه التقاليد. مثل هذه العودة الواعية إلى "المصادر القديمة" لا تفرض بالضرورة نظريّة الملحقات، أي إعادة قراءة النصّ الأصلي مع إضافات ترافق كل قراءة. بل هي تتلاءم مع وجود "كتاب مستقلّ" شرط أن يكون الكاتب والقرّاء قد عرفوا هذه "المصادر القديمة".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM