الفصل الرابع عشر: الآباء والتاريخ الاشتراعي

الفصل الرابع عشر
الآباء والتاريخ الاشتراعي

1- من الخروج إلى التثنية
إن التفسير الخروجيّ للآباء في تث يتثبّت في التاريخ الاشتراعي، يش، قض، 1-2 صم، 1-2 مل. فمنذ بداية يش نجد عبارة الأرض التي أقسم الله عليها للآباء. نقرأ في يش 1:6: "تشدّد وتشجّع فإنك أنت تورّث (تعطي ميراثًا) هؤلاء الشعب الأرض التي أقسمت لآبائهم أن أعطيها لهم". رج تث 7:31: "تشدّد وتشجّع...". وهكذا يرتبط يش مع تث.
فالقسَم الموجّه إلى الآباء، يظهر في إطار التاريخ الاشتراعيّ للمرة الأخيرة في يش 43:21-44. هي مقدّمة لوصيّة يشوع (الأخيرة) في ف 23 الذي يتحدّث عن احتلال الأرض. "وأعطى الرب اسرائيل جميع الأرض التي حلف أن يعطيها لآبائهم. فتملّكوها وأقاموا بها". "وأراحهم الرب من كل جانب بحسب جميع ما أقسم عليه لآبائهم، ولم يثبت في وجوههم أحد من جميع أعدائهم، بل أسلم الرب إليهم جميع أعدائهم. لم تسقط كلمة واحدة من جميع كلام الخير الذي كلّم به الرب آل اسرائيل. بل تمّ كله" (يش 43:21-44). في هذه الآيات الثلاث نجد ست مرّات لفظة "كل". كل ما وعد به الرب قد تحقّق. وعلى مستوى أحداث التاريخ الاشتراعيّ، بدا يش كتتمّة المواعيد للآباء، كما شدّد عليها تث. وفي الوقت عينه توجّهت هذه الآيات إلى القرّاء الذين حُرموا من هذه التتمّة (هم خارج الأرض). من هذا القبيل، يبدو هذا القول في بُعد آخر: فمع تتمّة التاريخ، لا ينقص شيء من آنيّة الموعد. فالوعد بالأرض يحتفظ بأهميّة لاسرائيل رغم أنه تمّ مرّة أولى.
والآباء الذين يذكّرون الشعب بهذا الوعد هم (في يش وفي تث) الجيل الذي أقام في مصر، جيل الخروج (لا جيل ابراهيم...). يُذكر موضوع الراحة (يش 21: 43-44) واللبن والعسل... وكل هذا غريب عن التقاليد الآبائيّة.
وبعد يش 21، تتحدّد العلاقة بين "الآباء" و"الأرض" بشكل مختلف. لن يقولوا: "الأرض التي أقسم الرب عليها لآبائهم". بل "الأرض التي أعطاها الرب لآبائهم" (1 مل 8:40). إن ظهور هذه العبارة يدفعنا إلى أن نسوق الملاحظتين التاليتين. الأولى، يرى الاشتراعي أن الأرض لا تُعطى بشكل نهائيّ إلاّ مع بناء الهيكل. ولكن كما في يش 43:21-44؛ 23: 1ي، يأخذ الكاتب بعين الاعتبار وضع القرّاء. ففي صلاة التدشين (1 مل 8)، يبدو المنفى وتدمير الهيكل حاضرين. "وإذا خطئوا إليك... وأسلمتهم إلى أعدائهم فسبوهم إلى أرض عدوّة... إن عادوا إليك... وإن صلّوا إليك جهة أرضهم التي اصطفيتها والبيت الذي بنيته لاسمك، فاسمع من السماء" (1 مل 46:8- 49). والملاحظة الثانية، الآباء الذين أعطيت لهم الأرض هم جيل احتلال الأرض. هم قرّاء تث (الذين يوعدون مرارًا بعطيّة الأرض) الذين صاروا الآباء في 1 مل 8.
إن تحوّل قرّاء تث إلى "الآباء"، يظهر في استعمال "ك ر ت" (قطع عهدًا). "ص و ه" (أمر، أوصى). هذان الفعلان خاصان في تث بالسامعين (تث 5: 3؛ 6: 1). وقد ارتبطا الآن بالآباء. فإن 1 مل 8: 21، يتحدّث عن "عهد قطعه الرب مع آبائنا حين أخرجهم من أرض مصر". ونقرأ في 2 مل 17: 3 عن "كل التوراة التي أوصيت بها آباءكم".
ويقدّم قض 2: 12 حقبة القضاة بهذا الكلام: "تركوا يهوه إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر". ترد ذات العبارة (تركوا الرب إله آبائهم) للكلام عن حكم أمون سلف يوشيا. فتاريخ اسرائيل منذ زمن القضاة حتى حكم يوشيا، يحيط به موضوع العصيان للربّ، إله الآباء. هنا نلاحظ أهميّة يوشيا في نظر تث، هذا الملك الذي سلك في كل طريق داود أبيه (2 مل 22: 2). مع حزقيا ويوشيا، نحن أمام ملكين يشذّان عن القاعدة في تاريخ اسرائيل السلبيّ منذ زمن القضاة (لم يصنعا الشرّ). وهذه النظرة السلبيّة إلى التاريخ تصبح شفّافة في نصوص تذكر عصيان الآباء وأبنائهم كما في قض 19:2: "ولكن عند موت القاضي، كانوا يعودون إلى الفساد أكثر من آبائهم". عند ذاك تصبح حقبة موسى "العصر الذهبيّ". ففي تلك الحقبة تحقّقت المواعيد التي أعطيت للآباء في مصر. ولهذا، على قرّاء تث أن يجعلوا من حقبة الخروج واحتلال الأرض حقبة خاصّة بهم.
وهكذا لا مكان لابراهيم واسحاق ويعقوب في التاريخ الاشتراعي. وإن ذُكروا ففي إطار بعد اشتراعيّ (مثلاً، 1 صم 12: 8؛ 2 مل 13: 23). أما يش 24، فيبدو أنه دوّن بَعد الجلاء. فهذا النصّ الذي يتوازى في أمور كثيرة مع نح 9، يجمع الآباء الثلاثة في استعادة التاريخ. ونلاحظ أن ابراهيم وحده يسمّى "الأب"، ساعة ظهر الآباء في يش 24 وفي سائر النصوص الاشتراعيّة. نقرأ في آ 6: "أخرجت آباءكم من مصر". فالكتّاب الذين بعد المنفى عرفوا الفرق بين ابراهيم واسحاق ويعقوب وبين آباء تث. فهذان النوعان من الآباء يعكسان نمطين من السطر في البدايات. ففي نظر الاشتراعي، اسرائيل الحقيقيّ والوحيد هو في الجلاء البابليّ. وهو يجد جذوره في نمط "خروجي" مع الآباء في مصر. أما ابراهيم واسحاق ويعقوب فبدوا الجذور من أجل الشعب الذي ظلّ مقيمًا على الأرض ولم يذهب إلى الجلاء. ومع ذلك، فهؤلاء الآباء الثلاثة قد دخلوا في تث.

2- تث خاتمة البنتاتوكس
يبدو أكيدًا أن التوراة في المعنى الحصري كوثيقة رسميّة، قد رأت النور في إطار السياسة الفارسيّة، وسمّيت "الترخيص الملكي". والنظرة إلى "نشر" البنتاتوكس الذي وافقت عليه السلطة الفارسيّة، تضمّنت داخل العالم اليهوديّ بحثًا عن توافق بين مختلف التيارات اليهوديّة، في إطار التقليد الكهنوتي والتقليد الاشتراعيّ. في هذا السياق، انفصل تث عن التاريخ الاشتراعي (كمقدّمة يش، قض، 1-2 صم، 1-2 مل) وارتبط بالبنتاتوكس، وذلك من أجل تقوية النزعة الاشتراعيّة. ولكن كيف شدّدوا على انتماء تث إلى هذه المجموعة المؤلّفة من الأسفار الخمسة؟ عاد المدوّن الأخير وأقحم أسماء ابراهيم واسحاق ويعقوب مع الآباء. صار الآباءُ ابراهيمَ واسحاق ويعقوب. وهذا الأمر لا نجده في التاريخ الاشتراعيّ. وهذا الاقحام قد جُعل في مواقع "استراتيجيّة". في بداية تث (1: 8) وفي نهايته (34: 4). ثم إن التماهي ظهر في 10:6 وهو أول نصّ يتحدّث عن القسَم للآباء بعد نظرة إلى التاريخ الماضي في تث 1-3 و5. في 30: 20 تمّ الاقحام في نهاية الخطبة الموسويّة الكبرى. وفي النهاية دخلت أسماء ابراهيم واسحاق ويعقوب في مقاطع (9: 5، 27؛ 29: 12) لا تسمح بتلميح إلى تقاليد الآباء. وإذ ذكّر المدوّن الأخير هذا المثلّث سبع مرّات، وإذ ماهى بين الآباء والمثلّث، فصل تث عن التاريخ الاشتراعيّ وثبّت تماسك البنتاتوكس. فالمواعيد التي أعطيت للآباء تبدو موزّعة في الأسفار الخمسة، من تك إلى تث (تك 24:50؛ خر 32: 13؛ 33: 1؛ لا 26: 42؛ عد 32: 11؛ تث 34: 4). والنصّ الأخير الذي يتضمّن هذا الوعد يرتدي أهميّة خاصة. فحالاً قبل موت موسى، أراه الرب الأرض وقال له: "هذه هي الأرض التي أقسمت لابراهيم واسحاق ويعقوب قائلاً: لنسلك أعطيها". في هذه الآية، نجد تحوّلين رئيسيّين بالنسبة إلى ذكر القسَم الالهيّ في تث: فابراهيم واسحاق ويعقوب لا يسمّون "الآباء". والقسَم جاء في خطبة مباشرة لا في المصدر. يعود هذان التحوّلان إلى واقع يقول إن ف 24 الذي يعكس آخر مراحل تدوين البنتاتوكس، وإن آ 4 تدخل في هذا الإطار. فهي تستعيد الوعد الاول بالأرض كما أعطي لابراهيم في تك 12: 7: "لنسلك أعطي هذه الأرض". وفي نهاية المسيرة، تكرّر الوعد وتطبّق على الآباء الثلاثة. هذا الوعد لم يتمّ في سياق البنتاتوكس، وهذا ما يجعل التوراة (بحصر المعنى) كتابًا مفتوحًا. ونحن نفهم هذه اللاتتمّة في إطار الحكم الفارسيّ الذي لا يستطيع أن يقبل إلاّ بالمواعيد الالهيّة، لا بخبر احتلال مناطق قريبة من أرض اسرائيل. فإذا كانت التقاليد الآبائيّة تحيط بالبنتاتوكس (ما عدا تك 1- 11)، فالتقاليد الخروجيّة تحافظ على استقلاليّتها. ونذكر هنا أن تك 12-25 يشكّل وحدة كبرى مستقلّة تقدّم لتاريخ البدايات الذي يكفي نفسه بنفسه، اللحمة الأقدم. و"الانقطاع" بين تاريخ الآباء وتاريخ الخروج يبدو واضحًا في خبر دعوة موسى (خر 3) حيث الأرض الموعود بها للجيل المقيم في مصر، تقدَّم على أنها مجهولة وغير مرتبطة بوعد آبائي (خر 3: 8-9). ففي وثيقة تمّ الاتفاق عليها، كان لا بدّ من جعل سطرتين تسكنان معًا. وإن تث قد عكس في تدوينه الأخير وجود هاتين السطرتين. فحين نقرأ تث كخاتمة للبنتاتوكس، نرى أن الكلمة الأخيرة هي للأصول الآبائيّة. ولكن إن توّقفنا عند التاريخ الاشتراعيّ، تأخذ الأصول الخروجيّة أهميّة خاصة. ومهما كانت الطريقة التي بها نقرأ تث، فهو يجعل كل فرد وكل جماعة أمام مسألة حيّة هي مسألة الأصول التي فيها يتجذّر التاريخ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM