الفصل السادس عشر :التاريخ وبناء السطر في التقليد

 

الفصل السادس عشر
التاريخ وبناء السطر
في التقليد الكهنوتي

التاريخ هو إيراد الوقائع والأحداث الماضية التي تتعلّق بالبشريّة، بمجتمع من المجتمعات، بشخص من الأشخاص. أما السطر فهي خبر شعبي أو أدبيّ نُسقط فيه أحداثَ الماضي على الحاضر بعد أن "نجمّلها" ونعطيها هدفًا تعليميًا. هناك انطلاق من التاريخ والواقع، لنجعل القارئ في بداية البشريّة وأصولها. فما يحدث له الآن، حدث لأول انسان، لأول عائلة على الأرض.
هذا ما نحاول أن نتطرّق إليه في إطار التقليد الكهنوتي

1- معطيات يطرحها التقليد الكهنوتي
ننطلق من مبدأ يقول إننا نستطيع أن نجد في الهكساتوكس مواد "الكتاب الكهنوتي"، أي الإخبار التاريخيّ الكهنوتيّ وقد حُفظ لنا في مقاطع تتوزّع أسفار موسى الخمسة وسفر يشوع. فهذا التاريخ الكهنوتي يتواصل في عباراته الأخيرة حتى سفر يشوع. دوّن في الأصل بشكل مستقلّ، أو تكوّن من إضافات وملحقات. فصاحب" المؤلّف" عرف البنتاتوكس القبل كهنوتي وأقدم تدوينات الأنبياء الاولين (يش، قض، 1-2 صم، 1-2 مل) واللاحقين (أش، إر، حز، الاثنا عشر). كما ظنّ أن قرّاءه يعرفون هذه الأسفار. وقد ألَّف "كتابه" ساعة بدأ المنفيّون في بابل يتطلّعون إلى إمكانيّة العودة من المنفى.
لهذا، لا بدّ من طرح الأسئلة على هذا الكتاب من جهة التاريخ؟ هل نوى أن يروي لنا التاريخ؟ ما هي نظرته إلى التاريخ؟ أمّا السؤال الأول فيرمي إلى إبراز نيّة الكاتب في إيراد أمور تاريخيّة واقعيّة. والثاني يتعلّق بكل ما يعني فلسفة التاريخ. وقد نستطيع أن نطرح سؤالاً ثالثًا: هل ينقل التاريخ الكهنوتي معلومات يستطيع التاريخ الحديث أن يستعملها؟ نحن نعرف مراجع التاريخ الكهنوتي، لهذا نشير إليها بطريقة عابرة.
حسب مقاييسنا، يتوخّى كاتب من الكتّاب أن يدوّن التاريخ إن ظنّ أنه يروي أحداثًا حصلت في الحقيقة، وأن هذه الاحداث قد تعاقبت وامتدّت في الزمن كما يرويها. ويكون قريبًا من مؤرّخ العصور الحديثة إن أبرز في خبره مقولات السببيّة والنموّ والتطوّر. أما الآن، فنطرح على نفوسنا السؤال التالي: هل توخّى الكاتب الكهنوتيّ أن ينقل ما حصل في الحقيقة، وهل أراد أن يصوّر هذا التاريخ في مسيرته المتماسكة والمتواصلة في الزمن؟
تلك كانت نيّة مصادر البنتاتوكس القديمة، رغم خلفيّات كرازيّة، والحدود التي يفرضها الفنّ الأدبيّ على مواد مستعملة. لقد أرادت هذه المصادر أن تُعلم اسرائيل بماضيه. هل أراد المؤرّخ الكهنوتيّ أن يعمل الشيء عينه؟ للوهلة الأولى يبدو الجواب بالايجاب. فقد استعاد الخطوط الكبرى كما وُجدت عن البنتاتوكس. بدأ مع الخلق. وعرف زمن البدايات والطوفان. وتحدّث عن الآباء ابراهيم واسحاق ويعقوب. ورأى عائلة يوسف تذهب إلى مصر. وصوّر تحرّر بني اسرائيل من مصر، كما تصوّر سنوات العيش في البريّة. وتوقّف طويلاً عند سيناء. وفي النهاية قاد الشعب إلى الأرض التي وُعد بها الآباء. وهكذا نحسب حساب الخطّ الإخباري وهدف الكاتب بأن يورد الأمور التاريخيّة التي ارتبطت بهذا الخطّ.

2- النهج الأدبيّ واللاهوتيّ لدى الكاتب
لا يكتفي الكاتب بأن يستعيد خطّ الإخبار المركّز على التاريخ. بل هو يضيف الأسماء والأعداد. ويجعل كل هذا في ترتيب ونظام. جعل الأسماء في سلسلة الانساب، وقدّم لائحة الشعوب والقبائل. وجاءت أرقامه حسب نهج كرونولوجيّ قد صيغ صياغة بارعة. ورتّب مختلف البنى بما فيها من تمثّلات تتداخل وتتنضّد أقلّه في بعض أجزائها. والبنية التي تتضمّن كل التاريخ الكهنوتيّ وتتقاسم "المؤلّف" كله في عشرة أجزاء تختلف في حجمها، تشير إليها عبارة: "وهذه مواليد" (توليدوت). والجزء العاشر الذي هو مواليد يعقوب والذي يشكّل النصف الثاني من "الكتاب"، يتوزّع بدوره على ثماني حواش تروي الهجرات، وتنتهي كل مرّة بحدث من الأحداث، وتبدأ الخبر المقبل الذي يجري في مكان آخر.
أ- نذكر أولاً "تولدوت" أو المواليد في التاريخ الكهنوتيّ
- تك 2: 4، مولد السماء والأرض. هو خبر مباركة.
- تك 5: 1، مواليد آدم، سلسلة أنساب.
- تك 6: 9، مواليد نوح، خبر، مباركة+ عهد.
- تك 10: 1، مواليد أبناء نوح، لائحة الشعوب.
- تك 11: 10، مواليد سام، سلسلة أنساب.
- تك 11: 27، مواليد تارح، خبر، مباركة+ عهد.
- تك 25: 12، مواليد اسماعيل، سلسلة العائلة.
- تك 25: 19، مواليد اسحاق، خبر، مباركة.
- تك 36: 1، مواليد عيسو، سلسلة العائلة.
- تك 37: 2، مواليد يعقوب، خبر، هجرة.
ب- ونذكر ثانيًا الهجرات في التاريخ الكهنوتي
- اسرائيل في مصر، الخروج من مصر، خر 12: 37 أ، 40-42؛ 13: 20.
- تدمير المصريّين، نحو بريّة شور، خر 15: 22 أ، 27؛ 16: 1.
- وحي حول السبت، نحو بريّة سيناء، خر 17: 1 أ ب؛ 19: 1-2 أ.
- وحي حول المعبد، نحو بريّة فاران، عد 10: 11-13؛ 12: 16 ب.
- خطيئة الشعب، نحو بريّة صين، عد 20: 1 أ.
- خطيئة موسى وهارون، نحو هور الجبل، عد 20: 22 ب.
- موت هارون، في فيافي موآب، عد 21: 4 أ، 10- 11؛ 22: 1ب.
- موت موسى، الدخول إلى كنعان، يش 4: 19 أب؛ 5: 10- 12؛ 18: 1.
ج- المقاطع "اللاهوتيّة" في التاريخ الكهنوتي
- تك 1، خلق العالم.
- تك 6-9، الطوفان والعهد مع نوح.
- تك 17، عهد مع ابراهيم.
- تك 35، مباركة يعقوب.
- خر 6- 11: إرسال موسى وهارون، المعجزة أمام فرعون.
- خر 14: غرق فرعون (الذي يمثّل الآلهة الوثنيّة) في البحر.
- خر 16: المن والسلوى. وحي حول السبت.
- خر 24- عد 4: سيناء: الوحي وترتيب المعبد في المخيّم، في المحلّة.
- عد 13- 14: التعرّف إلى الأرض: خطايا الشعب والرؤساء.
- عد 20: عطيّة الماء في البريّة: خطايا موسى وهارون.
- عد 20: إجلاس اليعازر على كرسي الكهنوت، موت هارون.
- عد 27- تث 34: إعطاء السلطة ليشوع، أوامر من أجل احتلال الأرض، موت موسى.
يبدو أن الكاتب أعطى أهميّة كبرى للنصوص التي ترينا الله وهو يتكلّم. قد نستطيع أن نسمّيها: "النصوص اللاهوتيّة" في التاريخ الكهنوتي. وهي ترد في كل مرّة اثنين اثنين. في بداية الكتاب، في تك 1 :28، نجد برنامج التاريخ. ونستطيع في طريقنا أن نتحقّق إن كان قد تحقّق أم لا وذلك حسب الحالات. وعبر ذلك، وحين ندخل في التفاصيل بأي شكل كان، يصير التاريخ المكتوب في التاريخ الكهنوتي مسيرة نستطيع أن نحدّد فيها موقع كل نقطة في الزمان وفي المكان. هذا ما يدلّ على تمثّل واضح للتاريخ أراده الكتّاب ونحن نثق بهم.
غير أن الأوامر كثيرة. والوجوه والأحداث توزّعت بشكل مباشر في الزمان والمكان حسب مبادئ جماليّة. لهذا، حين نلج عميقًا في "الكتاب" يبدأ الشكّ يساورنا. هل يخضع الكاتب للوقائع، وهي صفة ضروريّة لمن يريد أن يروي التاريخ؟
د- رمزية الأرقام 2، 7، 10
حين نقرأ النصوص نجد الأمور اثنين اثنين. في زمن البدايات، الخلق والطوفان الموضوعان الوحيدان الذين يرويهما الكاتب حتى النهاية. ونوح وابراهيم اثنان قد نعما بعهد (بريت). وابراهيم ويعقوب قد نعما برؤية في زمن الآباء. وموسى وهارون هما قائدا اسرائيل في زمن التحرّر والمسيرة في البريّة. ومقطوعة المن (خر 26) وسيناء (خر 25 ي) هما خبرا تنظيم عبادي. في حدث المن تنظّم السبت. وفي سيناء، المعبد وخدمة الله. وهناك أيضًا خطيئتان: ساعة أرسل الجواسيس (عد 13-14) وقرب الصخر الذي يُعطي الماء (عد 20: 1-13). على هارون أن يموت قبل أن يدخل أرض الموعد. وموسى أيضًا. جلس اليعازر على عرش الكهنة. ويشوع على عرش "الأمير".
وهناك رسمات مبنيّة على الرقم 7: سبعة أيام الخلق. الأيام السبعة التي فيها انتظر موسى قبل أن يُدعى إلى اللقاء بالله على الجبل في النار. والرقم عشرة حاضر أيضًا: عشرة أجيال من الخلق إلى الطوفان. عشرة أجيال بين نوح وابراهيم. عشر "توليدوت" أو مواليد. وهكذا، يغيب الشعور أننا أمام كميّة كبيرة من الأحداث التاريخيّة التي قد تكون غامضة. كما يغيب هذا الشعور بأننا أمام أخبار عن أوقات حرجة وغير متوقّعة وغير مفهومة، في طريق البشريّة، عن أوقات تلعب فيها الحريّة والصدفة لعبتهما.
في هذا المجال، تبدو مراجع البنتاتوكس القديمة، حاملة ثقل تاريخيّ حقيقيّ. وهذا ما نجده أمام تكديس التقاليد الواحد بجانب الآخر وفوق الآخر. كانت مكدّسة من قبل. فجاء التاريخ الكهنوتي فامسك بها وخلق منها شكلاً جميلاً بعد أن فرض نفسه على نماذج سابقة. وهكذا أبعد، حوَّل، بدَّل، زاد أشياء جديدة. وعمل ما عمل بحريّة تامّة.
هـ- الكاتب ومراجعه
نأخذ هنا بعض الامثلة لندلّ على الحرية التي بها تعامل الكاتب مع مصادره. إذ أراد أن يبرز التقابل بين ابراهيم ويعقوب، اقتطع أمورًا في أخبار اسحاق ويوسف. أبعد عن دورة يعقوب أخْذ البركة الابويّة بالحيلة، والعداوة بين الاخوين (تك 27: 1- 45).
وحين تحدّث عن تحرّك يعقوب إلى الشرق، وجد سببًا جديدًا يبرّر هذا "الارتحال": أرسله والداه إلى فدّان أرام، لأنهما لم يريدا له أن يتزوّج امرأة كنعانيّة كما فعل أخوه عيسو (تك 34:21-35؛ 46:27؛ 28: 1-9). هذا الموضوع قد وجده الكاتب عند اسحاق فجعله عند يعقوب. ترك الكاتب صورة اسحاق، ونقل بعض سماتها إلى دورة يعقوب. وهكذا فعل بالنسبة إلى ما فعله ابراهيم حين قال إن سارة اخته وفعل ما فعله اسحاق بالنسبة إلى رفقة. وهكذا نفهم أن الكاتب لم يطرح سؤالاً على التاريخ كتاريخ، بل عاد إلى مجموعة أحداث حول مسألة من المسائل: أين يجب أن نطلب امرأة؟ في سائر الشعوب أم في شعبنا وأمّتنا؟
وهناك تبديلات ثانويّة كانت لها في الأصل متانة تاريخيّة. في تك 17: 17 صارت ضحكة سارة ضحكة ابراهيم. كما أغفل الكاتب الكلام عن عهد سيناء قبل الأوان. قال اليهوهي إن أنوش بدأ الدعاء باسم يهوه. وإن نوحًا سوف يقدّم ذبيحة. أما الكهنوتي فربط كل هذا بحدث سيناء. هو لا يستبق الأمور. وهكذا لا نكون فقط أمام نظرة جماليّة، بل أمام نظرة لاهوتيّة فكرّت فيها الجماعة طويلاً وأنضجتها قبل أن "تدونّها".
و- تسلسل الانساب وتسلسل الأزمنة
ونقول الشيء عينه عن الانساب والأزمنة. وظيفتها وظيفة لاهوتيّة. دوّن التاريخ الكهنوتي في حقبة (القرن 6 ق م) كان أهل إيونية (على شاطئ تركيا (الحالية) يكتبون السطر ليبنوا نهجًا من الانساب. مثلاً هاكاتايوس ابن ميلتيوس (540- 480 ق م)، المؤرخ والجغرافيّ. استعان بالأنساب فعاد إلى الأزمنة الغابرة وأعطى لكل جيل قيمة متوسّطة. وهكذا كان أول من حاول أن يقدّم كرونولوجيا كاملة من أجل زمن الأبطال. ونجد في التاريخ الكهنوتي محاولة مماثلة. فالقيمة المتوسّطة للجيل هي مئة سنة. ولكن في ما يتعلّق بالأنساب والاعداد بشكل عام، يرتبط التاريخ الكهنوتيّ بالتقليد القديم في الشرق الأوسط. فتنظيم سلسلتين من الأنساب قبل الطوفان وبعده، تدلّ على ذلك، هذا بالإضافة إلى رقم عشرة. ونقول الشيء عينه حين نرى الكاتب يعيد جميع الأحداث إلى بداية واحدة على مثال السطر في البدايات. ولكن إن عدنا إلى التفصيل لا نستطيع أن نميّز ما أخذه الكهنوتيّ من التقليد، وما صاغه هو بنفسه.
هنا نلاحظ أنه ليس من براهين في الاتنولوجيا (علم السلالات البشرية). أما السلالات فقد وُضعت لكي تورد وقائع تاريخيّة. وساعة نرى الكهنوتيّ "يكتب"، نرى أنه قد وضع أمامه أهدافًا غير الأهداف التاريخيّة. مثلاً، إنّ متوشائيل في اليهوهي (تك 4: 18، والد لامك) صار "متوشالح" (تك 5: 21، وهو والد لامك أيضًا في 5: 24) الذي يعني "رجل السلاح، المحارب". وهكذا يُعرف وضعه كخاطئ في اسمه. وهكذا يكون الطوفان النتيجة الواضحة للخطيئة. أما الأعمار قبل الطوفان، فقد ترتّبت بحيث إن الخطأة (مثل متوشالح) يهلكون في الطوفان، وبحيث إن جميع الأجداد استطاعوا أن يروا أخنوخ مرتفعًا إلى السماء، لأنه الكامل الذي سلك مع الله (تك 5: 24).
حسب التاريخ الكهنوتي، جميع الآباء بعد نوح، وعددهم عشرة، ما زالوا أحياء حين ولادة ابراهيم. بعد ذلك ماتوا الواحدُ بعد الآخر. فهناك أشخاص برزوا، وأحداث ظهرت بواسطة الأرقام والاعداد. في النصّ العبريّ الماسوريّ، يجعل الكاتب حدثَ الخروج يجري سنة 2666 لخلق العالم. هذا يعني بالضبط ثُلثَي أربعة آلاف سنة. والسنة 4000 العظيمة والعجيبة، يتحدّد موقعها حسب معلومات بيبليّة ولا بيبليّة في زمن المكابيّين، في سنة 164 ق م بحسب الروزنامة العاديّة. تلك السنة هي بالتحديد سنة تقديس جديد لهيكل أورشليم بعد أن دنّسه السلوقيّون. مثل هذا النظام الكرونولوجيّ قد تكون لامسته يد في زمن المكابيّين. غير أننا نظنّ أن النظام الأصيل للأرقام أبرز سنة مهمّة جدًا هي سنة بناء هيكل أورشليم. لم يعد في أيدينا المفتاح لنفهم النظام الانسابي والأزماني في التاريخ الكهنوتيّ، ولكننا فهمنا أن الأبواب التي استطعنا أن نفتحها لا تصل بنا إلى التاريخ وإن هي انطلقت من التاريخ.
ز- الكلمة والواقع
إذا كان هذا هو وضع الأسماء والأرقام، فماذا يكون من أمر الكلمة والواقع؟ تحدّث "آليغر" عن شفافيّة العرض الكهنوتيّ. ترد الأفعال في صيغة الماضي. ولكن ما يرويه الكاتب يناسب أوضاع قرّائه وامكانيّاتهم وخبراتهم والأسئلة التي يوجّهونها إلى نفوسهم. فهو يقدّم من خلال الماضي مساعدة للعيش في الوقت الحاضر، كما يعرض حلولاً لأسئلة يطرحها المؤمن على نفسه. وهذا ما نستطيع أن نبرهن عنه من خلال التقارب بين ألفاظ التاريخ الكهنوتي وألفاظ النصوص النبويّة التي تعود إلى ما بعد المنفى.
ونأخذ على ذلك خبر الجواسيس في عد 13-14. فالخطيئة التي اقترفها موفدو القبائل والشعب كله في بريّة فاران تُسمّى باسم خاص "تشنيع الأرض" (عد 13: 32؛ 14: 36- 37، قالوا إن الأرض شنيعة مع أنها هديّة من عند الربّ). أما مضمون التشنيع فيرد كما يلي: "هي أرض تأكل ساكنيها" (عد 23:13). إذا قابلنا بين هاتين العبارتين، نصل إلى حز 36: 1-5 والنبوءة "على جبال اسرائيل". هذه الجبال جرداء. وقد صارت ملك شعوب آخرين وموضوع هزئهم. صارت "تشنيعًا (مذمّة في فم) الناس" (حز 36: 3). فوعدها (أي: الجبال) يهوه بأنه يُعيد إليها شعب اسرائيل فيعيش عليها من جديد في السعادة ويكون كثيرًا جدًا. فكيف شنّع (ذمّ) الناس جبال اسرائيل؟ قالوا عن الأرض: "تأكل رجالها" (آ 13). فالعلاقة واضحة بين النصّين بالنسبة إلينا. وبالنسبة إلى قارئ التاريخ الكهنوتيّ الذي عاش في زمن يعود فيه من المنفى ويقيم في الأرض من جديد. ولكن عددًا كبيرًا من الناس رفضوا العودة. في مثل هذه الحال، جاء التلميح إلى نصّ حزقيال كلامًا يشير إلى أن تأخير العودة وتبرير هذا التأخير بكلام يذّم الأرض ويشنّعها، هي طريقة بها نتبنّى تجاديف سائر الشعوب فنجدّف على الله.
حين نأخذ بعين الاعتبار كل هذا، نفهم فهمًا أفضل معنى التبدّلات التي قام بها التاريخ الكهنوتيّ لتأليف أقدم شكل لخبر الجواسيس (عد 13-14). بين "ماك افينيو" أن التاريخ الكهنوتيّ استبعد من أخبار الجواسيس القديمة ومن أخبار الحرب القديمة، كل ما يُشتمّ منه رائحة الحرب. فروى تجسّسًا سلميًا للأرض التي سوف يمتلكونها. وهنا أيضًا جعلَنا النصّ نستشفّ ما يجري في مملكة الفرس: لا يؤخذ شيء بالقوّة. قد نظنّ أن موفدي المنفيّين ذهبوا يستعلمون أولاً إن كانت العودة ممكنة والإقامة. وبعد ذلك، نظّموا قوافل العائدين. ومن الواضح، أن كل شيء يرتبط بالتقرير الذي يقدّمه العائدون لدى عودتهم.
ونستطيع أن نكتشف بالطريقة عينها أن التاريخ الكهنوتي لا يهتمّ برواية الماضي في الأخبار والمواضيع. فما يريد أن يبيّنه هو عالم القارئ. وهكذا ارتبط تاريخ البدايات بالحاضر. كان سبب الطوفان "خطيئة كل بشر". هذه الخطيئة التي هي الخطيئة الأساسيّة في البشريّة، والتي اسمها "عمل العنف" (ح م س)، تعود بنا إلى خطيئة قايين وإلى العطش إلى الانتقام عند لامك. كما أننا نستطيع أن نعود أيضًا إلى حز 28: 1-19: فمجمل المدلولات التي نقرأها في تك 6: 9-13 (مقدّمة إلى الطوفان)، تعود إلى القول الثالث الذي قيل على ملك صور.
نجد في هذا القول على صور سطرة قديمة تتحدّث عن سقوط كائن من السماء في البداية. خطيئته الاصليّة هي الكبرياء. وهي ترتبط مع ما فعلته صور من عنف. في هذا التأوين، ترك المؤرخّ الكهنوتيّ الكبرياء الاصليّة، وقدّم إلى قرّائه سطرة قديمة عن السقوط الذي يتبع الخطيئة. فما أفسد في الماضي خليقةَ الله الحسنة، هو هذا العنفُ الذي يجب على الأنبياء أن يندّدوا به. عند ذاك يستطيع القارئ أن يستنتج: إذن، يجب أن يعود الطوفان اليوم. وهكذا كان قول حزقيال جسرًا يُخرج من الماضي خطيئة البشريّة الأولى، ومن بداية العالم الطوفان البعيد. وهكذا يصبحان كلمة لنا في اليوم الحاضر.
ونستطيع أن نفسّر بهذه الطريقة مجمل التاريخ الكهنوتيّ. فيُروى كل حدث بشكل شفّاف. ما وُجد مرّة قد يتكرّر أكثر من مرّة. وتوافقُ البنى ينير حاضر القارئ، كما ينير حاضر كل واحد منا، لأن الكلمة ليست بعيدة عنا.

3- مشروع الكاتب الكهنوتي
كيف نستطيع أن نسمّي المشروع الذي نجده في خلفيّة هذه الطريقة في الإخبار؟ إنه يشير إلى ما حدث في الماضي. ولكنه لا يهتمّ بمعرفة متى حصل هذا الحدث، ولا كيف ينبثق ممّا سبق، ولا كيف أثَّر في ما لحق. فكل ما جرى في أي وقت من الزمن الماضي، يستطيع أن يحصل من جديد في زمن القارئ. وهكذا يستطيع الماضي أن ينير الحاضر. إذن، نحن أمام نظرة إلى التاريخ تجد عددًا كبيرًا من النماذج وتتمثّلها في العالم الذي تعيش فيه. كل هذه التمثّلات كانت هناك في الماضي. وكلها تستطيع أن تعود. لهذا، كان من المفيد أن نرويها. فإذا عادت، نستفيد من الماضي لنتعلّم كيف نتعرّف إليها.
تلك طريق أولى. وهناك طريق ثانية: ما هو هدف المؤرخّ الكهنوتي الذي يختفي وراء شفافيّة أخبار الماضي؟ ثم نقابل كل هذا مع الخطبة الميتولوجيّة، مع سطرة البدايات. فهذه السطرة يتحدّد موقعها في بدايات (أي خارج الزمن) الأخبار التي تبقى مفيدة لجميع الأزمنة ولجميع الأمكنة، فتنير هكذا زمننا الحاضر. وقد يحصل أن يصبح بعض الاشخاص في عالم الميتولوجيا والصور القديمة. غير أن السطرة لا ترتبط بالوجود التاريخي لهذه الوجوه الميتولوجيّة.
ولكن إن وضعنا جانبًا تاريخ البدايات المنبثق من المصادر القديمة، فالإخبار الكهنوتيّ يستند إلى مصادر تاريخيّة ويوسّع منظارها. غير أنّه يبقى أمينًا للتعاقب التاريخيّ للأحداث الرئيسيّة. غير أنه يقدّمها وكأنها سطر، وكأنها تعود إلى عالم الميتولوجيا. فهي بشكل من الاشكال تحوّل التاريخَ إلى سطر. وفي النهاية، يدعو الإخبار الكهنوتيّ القارئ لكي يرى في كل متتالية زمنيّة، مجموعة صور جُمعت جمعًا فنيًا. وإذ يستند هذا الإخبار إلى التاريخ، يوجّه أنظاره إلى نماذج، إلى أخبار تاريخيّة تصبح له مثال الحياة. وهذا الإخبار لا يفصل النماذج بعضها عن بعض. بل يتوسّع في الانساب ويُدخل تسلسل الأزمنة. وهو يفعل هذا كردّة فعل واعية على اتجاه يعزل عناصر موجودة في الخبر، بحيث لا ينقطع حبلُ الأحداث. ولكن في سطر البدايات، هناك أيضًا تسلسل في السطر الفرديّة كما في سطرة اتراحسيس. وهكذا نستطيع أن نقدّم استنتاجًا موقتًا: في التاريخ الكهنوتيّ لا يتوقّف زمن البدايات حالاً بعد الطوفان، بل هو يمتدّ على كل التاريخ الذي يرويه الكتاب.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM