الفصل الثالث عشر: العودةإلى الآباء في سفر التثنية

 

الفصل الثالث عشر
العودة إلى الآباء في سفر التثنية

ما نلاحظه للوهلة الأولى حين نقرأ سفر التثنية، هو المكانة التي أفردها "الكاتب" للآباء. فهم يلعبون دورًا كبيرًا في نقل الرسالة إلى الأبناء. وبعد أن نتوقّف عند هذا الدور، نتعرّف إلى هؤلاء الآباء منذ موسى حتى زمن المنفى.

1- دور الآباء
الآباء (ابوت) أو الأجداد يلعبون دورًا هامًا جدًا بالنسبة إلى تث. ترد اللفظة قرابة خمسين مرّة في قرائن لاهوتيّة هامّة، وداخل جمل مقولبة وذلك في أربع عبارات:
- المجموعة الأولى تربط الآباء بقسَم الرب (ش ب ع). والحديث يدور على الأرض (ا د م ه. أو: أ ر ص) التي أقسم للآباء (تث 1: 8، 35؛ 6: 1، 18، 23؛ 13:7؛ 8: 1...). ونجد أيضًا العهد (ب ر ي ت) الذي أقسم للآباء (4: 31؛ 7: 12؛ 18:8...). وهناك ثلاثة نصوص أخرى لا تحدّد بشكل مباشر مضمون الحلف (8:7؛ 9: 15؛ 18:13).
- يظهر "الآباء" في الكلام عن يهوه: هو "إله الآباء" (1: 11، 21؛ 4: 1؛ 3:6؛ 1:12...).
- وهناك سلسلة أخرى تتحدّث عمّا لا يعرفه القرّاء ولا آباؤهم: "سائر الآلهة التي لم تعرفها أنت ولا آباؤك" (13: 7؛ 28: 64؛ 32: 18). والمن (8: 3، 16). والشعب (28: 36).
- وفي النهاية يُذكر الآباء في أماكن متفرّقة: 4: 37؛ 5: 3: خطيئة الآباء؛ 31: 16: رقد مع آبائه.
إن هذا التذكّر المتوازي للآباء في تث، لم يستغلّه الشرّاح. والسبب: لأن ذكر الآباء لم يطرح سؤالاً. فحين نقرأ تث على أنه نهاية البنتاتوكس، يتّضح لنا أن آباء تث يعودون بنا إلى تقاليد الآباء في تك. وهناك بعض نصوص تث تماهي بشكل واضح بين الآباء في تث والآباء في تك. وساعة يُذكر الآباء للمرّة الأولى في تث 1: 8، يُوضح النصّ أنه يشير إلى ابراهيم واسحاق ويعقوب. وهذه الاسماء نجدها أيضًا في نهاية الكتاب (تث 34: 4). بهذه الطريقة كوّنت أسماء الآباء تضمينًا يربط تك بما في تث.
ومع ذلك، يجب أن نطرح السؤال: من هو المسؤول عن هذا التماهي في مسيرة تث التدوينيّة؟ سبق ورأينا أن الآباء المذكورين في تث 30: 5، 9، لا يشيرون إلى ابراهيم واسحاق ويعقوب. ولكن إذا حلّلنا ذكر "أبوت" انطلاقًا من السياق الاشتراعيّ، باعتبار أن تث هو مدخل إلى التاريخ الاشتراعيّ، نصل إلى القول: الآباء المذكورون في تث ليسوا ابراهيم واسحاق ويعقوب، بل جيل مصر أو جيل الخروج. وفي نصوص أخرى، هم يدلّون على الأجداد بشكل عام دون التلميح إلى جيل محدّد. والسبب هو أن بحث تث عن الاصول يصل بنا إلى الخروج. وبالنسبة إلى مدوّني تث، يبدأ تاريخ اسرائيل في مصر. والآباء هم الذين يذكّروننا بهذه البدايات. أو يوجزون استمرار تدخّل الله من أجل شعبه، أو آنيّة هذا التدخّل بالنظر إلى الأجيال الماضية.

2- نصوص تذكر الآباء
أولاً: ما لم يعرفه الآباء
هذه العبارة تجعل القرّاء في تواصل مع الآباء. ولكنها تدلّ في الوقت عينه، على قطيعة على مستوى الجيل الحاليّ. ففي ما يتعلّق بالمن الذي لم تعرفه أنت ولم يعرفه آباؤك (تث 8: 3، 16)، نحن أمام جديد إيجابيّ يتعلّق بعمل الله من أجل شعبه. في الحالات الأخرى، تدلّ العبارة على وضع متأزّم. ففي ف 28، يصوَّر المنفى كعمل الرب الذي اجتذب شعبه إلى "شعب لم تعرفه أنت ولا آباؤك" (آ 36). أو كوضع فيه يعبدون "آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك" (آ 64). هذا "الجديد" على مستوى السبي الذي يشكّل تهديدًا للعلاقة مع الربّ، يشدّد على مسؤوليّة الجيل الحاليّ، الذي وُضع بين آباء ما قبل المنفى والأجيال الآتية التي ذُكرت في السياق عينه.
و"الآلهة الآخرون" الذين يحذّر تث منهم المؤمنين، يتميَّزون بعبارة "لا معرفة" في 7:13؛ 32: 17. وكل هذا يشدّد على قطيعة تكوّنها عبادة هؤلاء الآلهة بالنسبة إلى تاريخ الربّ مع اسرائيل.
في جميع هذه النصوص، لا يدلّ الآباء على جيل محدّد. بل هم يرمزون إلى ماضي اسرائيل منذ مصر أو منذ الإقامة في الأرض (ف 28). ونحن لا نجد فيها تلميحًا إلى ابراهيم واسحاق ويعقوب.
ثانيًا: إله الآباء
نقرأ في تث 8 مرات عبارة "إله الآباء". وأكثر النصوص التي تستعمل هذه التسمية هي جزء من الطبقات الاشتراعيّة الثانويّة. وهذا ما يفسّر من جهة استعمالها النادر في التاريخ الاشتراعيّ (غيابها من إرميا). كما يفسّر ورودها المتواتر في الخبر الكهنوتيّ (27 مرّة في 1-2 أخ؛ 3 مرّات في عز).
ترد عبارة "إله الآباء" أولاً في مقدّمات مختلف أجزاء تث: نحن هنا أمام استعمال واع يعبّر به الاشتراعيّ عن تواصل الأجيال. فذكر "إله آبائك" أو "إله آبائكم" يسبقه أو يليه بشكل عام "إلهك" أو "إلهكم" (1: 10، 11، 21؛ 4: 1، 2؛ 6: 2، 3...). وهكذا يشدّد النص على أن يهوه هو إله الجيل الحاليّ (وهذا ليس بمعقول في زمن المنفى) كما كان إله الأجيال السابقة.
وهذه التقنيّة البلاغيّة التي تُوضع في خدمة الكرازة، تجد قوّتها في واقع يقول إن يهوه كإله الآباء يرافق مرات عديدة (أربع من ثماني مرات) تذكيرًا بالمواعيد (د ب ر. كلمة) التي أعطيت للقرّاء كما في 1: 11: "لينجِّكم الرب إله الآباء ألف مرة وليبارككم كما قال لكم". فالإله الذي يتوجّه إلى الجيل الحاليّ، هو ذاك الذي توجّه إلى الآباء. وفي أكثر الحالات، الآباء هم الأجداد بشكل عام، أجداد جماعة المنفيّين. فهذه النصوص لا تأخذ "الخدعة" الموسويّة (أي الله هو الذي يتكلّم) على حرفيتها. فإنّ 12: 1 (وهذه هي الرسوم والاحكام التي تحفظونها في الأرض التي أعطاها الرب إله آبائك لتمتلكها) هو تعبير يتوجّه بشكل مباشر إلى القرّاء الحاليّين والآتين. ولكن غابت في هذه الآية الجملة الموصوليّة "التي أنا آمرك بها اليوم"، وهو تفصيل يرافق تشريع موسى. أما عطيّة الأرض فقد افترض أنها تمّت (الفعل هو في صيغة الماضي، ن ت ن، أعطى). وهناك تذكّرات أخرى لإله الآباء تشير إلى تماه أدقّ مع الآباء الذين كانوا في مصر. فإذا قابلنا الموجز التاريخيّ في تث 26: 5-6 (آ 7: "صرخنا إلى الرب إله آبائنا") مع قريبه عد 20: 15-16، نفهم أن هؤلاء الآباء، لا يدلّون على ابراهيم واسحاق ويعقوب، بل على الأجيال التي نزلت إلى مصر أو أقامت فيها. وهذه الإشارة إلى مصر تبدو واضحة في 29: 24، حيث تفسَّر كارثة المنفى على الشكل التالي: "لأنهم تركوا عهد الرب، إله آبائكم، الذي عقده معهم حين أخرجهم من أرض مصر".
ثالثًا: عهد أقسم به للآباء
هذا العهد (بريت) الذي به أقسم الله للآباء يتجذّر تجذرًا واضحًا في تقليد عطيّة الشريعة على حوريب. نقرأ مثلاً 7: 12: "العهد والامانة اللذان أقسم الرب عليها لآبائك" يتحدّد كما في آ 10: "عهد وأمانة لألف جيل للذين يحبّونه ويحفظون وصاياه". وهكذا جُعل العهد بشكل واضح في سياق الدكالوغ (أو: الوصايا العشر) (رج 5: 9- 10) ووحي الشريعة. والسياق عينه يفرض نفسه في 4: 31: "لا ينسى عهد آبائك الذي أقسم به لهم". تشكّل هذه الآية تضمينًا مع 4: 31 (إحذروا أن تنسوا عهد الرب) حيث ينبَّه القرّاء أن لا ينسوا "عهد الرب إلههم الذي عقده معهم". بعد ذلك (أي بعد آ 23: منع الصور لأن يهوه إله غيور) يتماهى هذا العهد أيضًا مع عهد حوريب. هنا نلاحظ أن تث يميّز بين فعل "ش ب ع" (أقسم) و"ك ر ت" (قطع)، في ما يتعلّق بالعهد. ففي الكتاب كله، العهد هو حصرًا موضوع قسَم للآباء. ولكنه لا يُعقد (يُقطع) إلاّ مع القرّاء. وهكذا نكون مع الفكرة اللاهوتيّة التي تتحدّث عن الوعد والتتمّة. في هذا السياق نفهم أيضًا ما في 3:5: "ليس مع آبائنا قطع يهوه هذا العهد، بل معنا، نحن الأحياء اليوم جميعًا". فكيف نستطيع أكثر من ذلك أن نشدّد على آنيّة هذا العهد لجماعة المنفى التي صارت "معاصرة" لموسى؟ لاشكّ بأن العهد قد وُعد به في قسَم للآباء في مصر، ولكن تحقيقه الجديد يرتبط بهذا الوقت وهذه الساعة. وهكذا يذكّر الاشتراعي في الجيل الثاني (4: 31؛ 5: 2؛ 7: 7-8) أهل الجلاء، بواسطة الآباء، بالأصل الخروجي (نسبة إلى خروج الشعب من مصر) للعهد الذي ظلّ (أو يجب أن يصير) أساس العلاقة مع يهوه.
رابعًا: الأرض التي أقسم عليها للآباء
يحتلّ هذا القول المكان المركزيّ وسط عبارات تتحدّث عن "الآباء". وعلى مستوى المبنى، نستطيع أن نتحدّث في هذا المجال عن ثلاث مجموعات. تتحدّث المجوعة الأولى عن الأرض التي أقسم الرب عليها للآباء (18:6؛ 8: 1؛ 31: 20، 21). وتحدّد المجموعة الثانية بأن هذه الأرض تُعطى لهم (8:1، 35؛ 10: 11؛ 11: 9، 21: 330: 20؛ 31: 7). أما المجموعة الثالثة فتقول: لتعطى لنا (23:6؛ 3:26، 15)، أو: لتُعطى لك (6: 10؛ 13:7؛ 28: 11). وهكذا نميّز بين الذي توجّه إليهم القسَم وبين الذين أعطيت لهم الأرض. ولكن نحذر أن نرى في هذه المجموعات الثلاث تطوّرًا من الأقصر إلى الأطول، أو أن ننسبها إلى ثلاث طبقات تدوينيّة.
فجميع النصوص التي تقدّم النسخة القصيرة للقسَم على الأرض، هي جزء من الاشتراعيّ الثاني. وفي المجموعتين الثانية والثالثة، نجد نصوصًا من الاشتراعي الاول والثاني. وتحديد القسَم بـ "تعطى لهم" أو "تُعطى لك"، يعود إلى نظرة اشتراعيّة إلى جيلَيْ البريّة. وهو يشدّد على انفتاح هذا القسم على القارئ الأخير. وعبارة الأرض التي أقسم عليها الآباء، تتوزّع في كل أجزاء تث ما عدا في الشرعة التشريعيّة (ف 12 ي). وهذا ما يؤكّد مرّة أخرى الطرح الذي يقول إننا نجد النواة السابقة لسفر التثنية، في هذه الفصول. والتذكير المستمرّ للحلف على الأرض يحمل وظيفة تدوينيّة، ولاسيّما على مستوى الاستعادة التاريخيّة (ف 1-3؛ 5؛ 9: 7- 10: 11).
فقارئ سفر التكوين حين يسمع الخطبة حول الأرض التي أقسم الله عليها للآباء، يتذكّر الوعد بالأرض في أخبار ابراهيم واسحاق ويعقوب. وفي العبارة الأخيرة في تث، تظهر أسماء هؤلاء الآباء الثلاثة في بعض النصوص التي تشير إلى القسم بالنسبة إلى الأرض (1: 8؛ 6: 10؛ 30: 20؛ 34: 4). بالإضافة إلى ذلك، أما يشبه الاستعمال المستمر ("التي أقسم")، ما في النصّ الذي ندرس؟ ولكن حين نمعن النظر، نرى أن فعل "ن ش ب ع" (أقسم)، لا يرد مرارًا في تك 12 ي. إن وُجد، ففي نصوص ترتبط بالتاريخ الاشتراعيّ المتأخّر (تك 22: 16؛ 24: 7؛ 26: 3؛ 50: 24). ولا نستطيع القول دومًا إن عبارة "التي أقسم" تدلّ في كل مرّة على نصوص محدّدة.
ونبدأ بتفسير الحلف على الأرض انطلاقًا من السياق الاشتراعيّ. فنلاحظ أن كل الايرادات المتعلّقة بالأرض التي أقسم عليها للآباء، توجد في إطار الكلام عن مصر، عن الخروج، عن إفناء الأعداء (رج "حروب يهوه"). فإن تث 26: 15 يتضمّن صلاة (ربما الاشتراعي الثاني) تشكّل خاتمة المجموعة التشريعيّة التي يتلوها كل جيل في الأرض. "فاطّلع من مسكن قدسك، من السماء، وبارك شعبك اسرائيل، والأرض التي أعطيتها لنا كما أقسمت لآبائنا، أرضًا تدرّ لبنًا وعسلاً". هذا الوصف للأرض يرد مرارًا في تث، ونحن لا نجده في تقليد الآباء، بل في تقليد سفر الخروج (رج خر 8:3، 17 مع دعوة موسى). والآباء هنا ليسوا ابراهيم واسحاق ويعقوب، بل جيل الخروج (الاول).
ونأخذ مثلاً آخر: استُعمل 18:6-19 كباعث به يحرّض الكاتب الشعب بأن لا يجرّب الرب، وبأن يحفظ وصاياه (آ 16-17). "هكذا تصيب خيرًا (تكون سعيدًا) وتدخل وترث الأرض الصالحة التي أقسم عليها الرب لآبائكَ، أن يطرد جميع أعدائك من أمامك كما قال الربّ". نلاحظ أولاً إطار "الحرب" الذي يميّز خر (23: 27-28) وتث، ويعارض الموقف المسالم في خبر الآباء تجاه سائر الشعوب. والصفة: "ط و ب ه" (طيبّة، صالحة) التي تصوّر أرض الوعد لا نجدها في تك. أما خر 8:3؛ عد 7:14، فيعودان بنا من جديد إلى تقليد الخروج. في هذا الاطار نحدّد موقع الآباء الذين توجّه إليهم قسَم الرب. ففي نظرة الاشتراعي وُعدت الأرض للآباء في مصر. ويتحدّث حز 20 بوضوح عن تقليد حلف الله في مصر. ففي هذا الموجز التاريخيّ، يذكّر الرب قرّاءه بأصولهم في مصر. "عرّفت نفسي لهم في أرض مصر. رفعت يدي وأقسمت بأن أخرجهم من أرض مصر إلى الأرض التي اردتها لهم، أرض تدر لبنًا وعسلاً، وهي فخر (أجمل) جميع الأراضي" (حز 20: 5-6). ويسمّى هذا الجيل في مصر "الآباء" في آ 18، 24. وتعلن نهاية هذا النصّ لاسرائيل المنفيّ، الدخول إلى "هذه الأرض التي رفعت يدي وأقسمت أن أعطيها لآبائكم" (حز 20: 42).
نحن هنا قريبون من الاشتراعيّ الذي يذكّر سامعيه بجذورهم في مصر التي هي شفّافة لجماعة تعيش في المنفى. فهناك موازاة بين مصر وبابل. ويهوه الذي تدخّل من أجل الآباء في مصر يستطيع أيضًا أن يتدخّل من أجل الجلاء في بابل.
فإذا كان الآباء يدلّون في نظر الاشتراعي على مصر، فإقحام أسماء ابراهيم واسحاق ويعقوب قد تمّ في تدوين لاحق. وهكذا يسهل التماهي بين الآباء كما في سفر الخروج والآباء في سفر التكوين، لأن تث لم يعد فقط مقدّمة للتاريخ الاشتراعيّ، بل نهاية البنتاتوكس كله. فالقارئ الذي انطلق من تك ففكّر بابراهيم واسحاق ويعقوب حين قرأ تث، يكفيه أن يخلق إطارًا آبائيًا حول الكتاب من أجل إقحام أباء الشعب في البداية (8:1؛ 6: 10) وفي النهاية (30: 20؛ 34: 4).
ومع ذلك، فهناك نصوص في جسم الكتاب تقاوم هذا التماهي. مثلاً: 9: 5. فهذه الآية تبدو في شكلها الحالي كما يلي: "ليس بسبب برّك واستقامة قلبك أنت آت لتمتلك أرضهم، ولكن لأجل إثم أولئك الأمم طردهم الرب من أمام وجهك ولكي يفي بالقول الذي أقسم الرب عليه لآبائك ابراهيم وإسحاق ويعقوب". لا نجد في أخبار الآباء وعدًا يشير إلى طرد الأمم (هذا الوعد يرتبط بزمن الخروج). فتقليد الاحتلال العسكري يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالخروج. ولما أراد الكاتب أن يجعل القارئ يماهي بين الآباء في زمن الخروج والآباء في زمن التكوين، زاد أسماء ابراهيم واسحاق ويعقوب. والملاحظة عينها تنطبق على 29: 12-13 حيث يُضاف أسماء ابراهيم واسحاق ويعقوب في سياق يرتبط فيه الآباء بعبارة العهد (يهوه، إله اسرائيل. اسرائيل شعب يهوه) التي تميّز تقليد سيناء. ونقول الشيء عينه عن 9: 26-27 حيث زيدت أسماء ابراهيم واسحاق ويعقوب.
إذا كان وجود الآباء مرتبطًا بالتدوين الأخير للبنتاتوكس (أي بعد تدوين تث)، فهل يعني هذا أن المدرسة الاشتراعيّة تجهل كل تقليد آبائي؟ ونطرح السؤال: ماذا يمتلك الاشراعي عن الحقبة السابقة لمصر؟ نجد في تث نصيَّن فقط يتحدّثان بوضوح عن النزول إلى مصر. في 10: 22 يُذكر الآباء السبعون الذين ساروا في طريق مصر (يرتبط بالنصوص الكهنوتيّة، رج تك 46: 27؛ خر 1: 5). وفي 26: 5 نقرأ: "النؤمن التاريخيّ" الذي يعود إلى تقليد قديم: "كان أبي أراميًا تائهًا، ونزل إلى مصر". لا يقال اسم ذاك الأب. وإن لمّح إلى يعقوب كما يرى معظمُ الشرّاح، فتذكّر هذا الجدّ الارامي لا يوافق كثيرًا دورة يعقوب في تك، ولا نزوله إلى مصر في مركبات الفرعون (تك 49: 19- 20). وقد رأى أحد الشرّاح أن الاشتراعي تحدّث عن جده بشكل يحمل على الشفقة: كان غريبًا، وكان تائهًا. فهو لا يريد أن يعرف شيئًا عن ابراهيم واسحاق ولا عن يعقوب. ففي مصر بدأ تاريخ اسرائيل. والجدّ الذي نزل إلى هناك كان آراميًا.
إن رفض تقليد يعقوب (وكل تقليد آبائي) يرتبط بالنبيّ هوشع "الأب الروحي" للتيّار الاشتراعيّ. ففي هو 12، نجد نقدًا قاسيًا لهويّة دينيّة تمرّ بالدم، تمرّ بواسطة جدّ هو يعقوب. ويحرّض النبيّ السامعين لكي يتخلّوا عن هذا الطريق، ويتوجّهوا إلى الرب إلههم منذ مصر. أما الرباط به فتمرّ عبر الوساطة النبويّة (هو 12: 10، 14). وقد اختار تث بوضوح هذا الموقف الذي يرتبط بالخروج ويبدو بشكل دعوة ونداء: دور موسى مهمّ في تث. وعلى كل جيل أن يعرف مسؤوليّته تجاه متطلّبات الله. ودور الآباء في تث يتسجّل في هذا المنظار. أما أخبار ابراهيم واسحاق ويعقوب فترتبط بسلالة إخباريّة. أما الآباء في تث فهم مجموعة لا اسم لها. هم يدلّون على الجذور الخروجيّة للقرّاء كما يدلّون على تواصل تاريخ اسرائيل مع يهوه. ولكن تذكّرهم يدلّ في الوقت عينه على أن الحاضر والمستقبل لن ينجحا إلاّ إذا اختار القرّاء الحياة، أي التوراة ووساطتها الموسويّة.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM