الفصل الثاني عشر: تثنية الاشتراع والعودة إلىالأصول

 

 

الفصل الثاني عشر
تثنية الاشتراع والعودة إلى الأصول

1- مكانة سفر التثنية
يحتلّ سفر التثنية داخل التوراة العبريّة مكانة فريدة. فهو من جهة يختم القسم الأول من النص الماسوري "توره" (أو بنتاتوكس، أو أسفار موسى الخمسة). ومن جهة ثانية، يشكّل مدخلاً إلى الكتب المسمّاة "تاريخيّة" (يش، قض، 1-2 صم، 1-2 مل)، إلى "التاريخ الاشتراعيّ". وبسبب هذا الموقع الذي يجعله يشكّل مفصلاً، لن نعجب إن رأى بعضهم في سفر التثنية "محور" كل العهد القديم. قال بعضهم: سفر التثنية يشبه "بلّورة" تصفّي التقاليد القديمة في التتراتوكس (تك، خر، لا، عد) لكي يعطيها وجهتها الاشتراعيّة التي ستظهر في الكتب التالية. وفي الوضع الحالي للابحاث التأويليّة حول البنتاتوكس، هذه الصورة لم تعد موضوع وفاق، ولاسيّما وأنها تتضمّن معرفة واستعماله تقاليد لا كهنوتيّة في التتراتوكس بيد كتّاب سفر التثنية. فالعلاقة بين أسفار موسى الاربعة الأولى هي اليوم موضوع جدال. فقد رأى بعض الشرّاح أن تث الذي اعتُبر تقليديًا كنتيجة أولى، قد صار بالأحرى "حجر الأساس" الذي بُني عليه التاريخ الاشتراعي. هذا في زمن أول. وفي زمن ثان، صار توسيعًا لهذه المجموعة اليهوهيّة والالوهيميّة كما نجدها في البنتاتوكس.
غير أن التساؤلات حوله هذه الأفكار التي كانت مقبولة لدى الشرّاح، جاءت مع ذلك تثبت المركزيّة التي يجب أن ننسبها إلى تث، إن من أجل فهم البنتاتوكس، وإن من أجل فهم التاريخ الاشتراعي. فسفر التثنية يبقى المحكّ لجميع النظريات حول تكوين التوراة في المعنى الحصريّ للكلمة، وحول التيّار الاشتراعي.
إن هذه الأهميّة لآخر سفر في الأسفار الخمسة، لا تتوافق مع قراءة للكتاب من نوع "تاريخ الخلاص" لأنها تتضمّن "تسلسل الأحداث" (كرونولوجيا)، وتطوّرًا في تاريخ يهوه مع شعبه. فبين بداية الكتاب ونهايته، لا يحصل شيء جديد سوى تعيين يشوع خلفًا لموسى (تث 7:3-8)، وموت موسى (تث 34: 1-2). والتدرجّ الاخباري الذي يندرج بين الوصول إلى شرقي الاردن، كما يرويه سفر العدد، واحتلال غربيّ الاردن، كما يعالجه سفر يشوع، قد لا يملأ فصلاً واحدًا في كتاب. لاشكّ في أن هناك الكثير من "التاريخ" داخل تث، ولكن هذا التاريخ يظهر في نصوص ترتبط بالمستقبل أو بالماضي، نصوص لم تظهر بحسب مبدأ كرونولوجيّ. وعلى مستوى اللوحة التاريخيّة الواسعة التي تنطلق من الخلق مع سفر التكوين، فتصل إلى نهاية مملكة يهوذا مع 2 مل، يبدو تث وكأنه محطّة نقف فيها. مثل هذه الظاهرة تلفت انتباهنا. فاذا كان تث لا يتسجّل في تاريخ خطوطيّ، فما هو مشروعه؟
2- مشروع سفر التثنية
قد نقع هنا في فخّ حين نعيد وثيقة قديمة إلى غاية محدّدة. وفي ما يتعلّق بسفر التثنية، لا نستطيع أن ننسى السؤال التفصيليّ. فمرمى "تث الاولاني" كان مختلفًا عن مرمى الكتاب في شكله الحاليّ. فالنسخة الأولى لسفر التثنية التي تضمّنت بشكل خاص شرعة تشريعيّة (ف 12-18 بشكل خاص) سبقتها مقدّمة (تث 6: 4- 5) وتبعتها خاتمة (تث 26 ي)، حرّكت إصلاح يوشيّا الذي يرويه 2 مل 22-23، وأعطته طابعًا شرعيًا. فهذا الكتيّب (تث) اليوشياوي (نسبة إلى يوشيا) الذي لا نعرف حدوده بدقّة، لم يظهر بعد كخطبة موسويّة، فيتسجّل في سياق من الغلبة الواثقة بنفسها (بعض استقلال لمملكة يهوذا تجاه الأشوريّين). ولكن لن تمضي بضع عشرات من السنين، حتى تحوّل تث تحولاً تامًا بعد أن توسّع توسّعًا كبيرًا ودخل في التاريخ الاشتراعي. فعمل هذا التدوين أعطى تث بشكل عام شكله الحاليّ وبنيته. إذن، ننطلق من هذه النشرة الاششراعية لسفر التثنية لنقوم بدراستنا. فنحن أمام مجموعة ثابتة لا تشرف عليها الفرضيّات كما هو الأمر بالنسبة إلى "تث الاولاني"، بل أمام نصّ يتّفق عليه العلماء.
ومع ذلك، فهذا التأكيد الأخير يبقى نسبيًا في ما يتعلّق بالنظريات الحاليّة حول التاريخ الاشتراعي الذي يلامس فهم تث. فطرح "نوت" الذي يرى في هذا "التاريخ" كاتبًا واحدًا دوّن ما دوّن بعد سقوط أورشليم (587 ق م) ولكن قبل سنة 539، هذا الطرح بدأ يتحوّل. فهناك نصوص اشتراعيّة عديدة تدلّ على أكثر من يد. كما نجد داخل هذه الأسفار مواقف مختلفة في ما يخصّ الموقف من الملكيّة، أو إمكانيّة مستقبل للشعب بعد الكارثة.
أما تنظيم هذه المعطيات فيتوزّع في نموذجين مختلفين. النموذج الأول يتحدّث عن نسختين متلاحقتين لعمل المؤرّخ الاشتراعي. هناك نسخة أولى سابقة للمنفى، وفي عهد الملك يوشيا. ونسخة ثانية بعد كارثة المنفى (زيد 2 مل 24-25 وأمور أخرى). هذا الموقف الذي أخذ به العالَم الانكليزي، يطرح علينا مع ذلك سؤالين: أين نجد نهاية النسخة السابقة للمنفى؟ إن التلميحات إلى المنفى داخل النصوص الاشتراعيّة هي جدّ عديدة، فهل نستطيع أن نلغيها من النسخة الأولى بمثل هذه السهولة؟
والنموذج الثاني هو نموذج الطبقات التدوينيّة المتعاقبة التي صاغها "سماند" وتلاميذه. فبعد النسخة الاولى المنفاويّة (أي في زمن المنفى) التي قام بها مؤرخّ اشتراعيّ، أضيفت أمور بيد نبيّ اشتراعيّ، كما أضيفت مقاطع أخرى بيد ناموسي أو أكثر (نسبة إلى الناموس أو الشريعة). أخذ عدد كبير من البحّاثة بهذا الطرح وكمّلوه بنواة قبل منفاويّة تعود إلى زمن يوشيا وتتضمّن تاريخ احتلال الأرض. كما تحدّثوا عن المدوّن النهائي للتاريخ الاشتراكي في الزمن البعد منفاويّ. مثل هذه المقاربة تحمل خطرًا لأنها تكثر من الطبقات التدوينيّة التي لم تحدّد، وقد بدت اعتباطيّة.
أمام مثل هذا الوضع، نشدّد على التماسك رغم تشعّب الايديولوجيا الاشتراعيّة وأسلوبها. فننطلق من نموذج تاريخ اشتراعيّ دوّنته "مدرسة" أو "مجموعة" من الكتّاب، مجموعة من الموظّفين العاملين في البلاط الملكيّ، ومن الكهنة "المتحرّرين" العائشين في زمن المنفى. وزيد على هذه النسخة الكثير الكثير على التوالي في داخل هذه "المجموعة" التي تميّز كتّابها بها الواحد عن الآخر، فلم يكونوا من محيط سوسيولوجيّ محدّد.
استقلاليّة تث استقلاليّة نسبيّة. كان الكتاب في شكل مقدّمة للتاريخ الاشتراعي (يش، قض، 1- 2 صم، 1- 2 مل) الذي حاول أن "يعطي معنى" لكارثة المنفى. لهذا، يجب أن يُفهم "مؤلّفه" في هذا السياق. فالأزمة الايديولوجيّة التي انبثقت من منفى 597-587 بالنسبة إلى مملكة يهوذا، ظلّت فوق كل تصوير. فالعمُد التي عليها ترتكز هويّة الشعب قد سقطت: الملك، الهيكل، الأرض، كل هذا لم يعد شيئًا. لهذا وجب على المؤمن أن يستنبط من جديد هويّة جديدة. والبحث عن الهويّة يعني دومًا البحث عن "الاصول"، عن البدايات.
وهكذا ينقل تث 1- 30 الذي يبدو بشكل خطبة كبيرة يلقيها موسى وتقاطعها بعض التدخّلات، ينقل الجماعة المنفيّة التي يتوجّه إليها، إلى الاصول، إلى البدايات. وحين توجّه الاشتراعيّ إلى قرّائه، جعلهم معاصرين لموسى. وهذه "الخدمة الشفافة" تقابل الوضع الحقيقيّ الذي تعيشه الجماعة المنفيّة: فكما في زمن موسى، ما زلنا خارج الأرض، ونحن ننتظر الدخول إليها. نحن في بريّة، في أرض النقص والحرمان، في موضوع يحسّون فيه بإلحاح بالحاجة إلى العون الإلهيّ. وإذ جعل الكاتب قرّاءه في أصول الايمان اليهوي، جعلنا نشعر أنه يريد أن يمحو قرونًا من التاريخ بشكل موقت، ليدلّ على أن بداية جديدة هي ممكنة.
ويظهر مشروع تث خارج المقاطع الارشاديّة، على مستوى النظرة البلاغيّة. نجد أولاً تحوّلاً مستمرًا من المخاطب المفرد (أنت) إلى المخاطب الجمع (أنتم)، وذلك حتى داخل الجملة الواحدة. نأخذ مثلاً 6: 14-15: "لا تتبعوا (أنتم) آلهة أخر من آلهة الأمم الذين حواليكم (أنتم)، لأن الرب إلهك (أنت) إله غيور في وسطك" (أنت). هذه المعطية التي تميّز تث بشكل خاص، قد عُولجت مرارًا دون الوصول إلى اتّفاق. فهذا الاسلوب البلاغيّ قد استُعمل ليدلّ على مختلف الطبقات الادبيّة. فالأقسام مع "أنت" تنسب إلى تث الاولاني. والاقسام مع "أنتم" إلى المدوّن الاشتراعيّ. من أخذ هذه المقاربة بشكل مطلق، وصل سريعًا إلى طريق مسدود. لهذا، يجب أن نفسّر هذه الظاهرة قبل كل شيء كأنها ظاهرة أسلوبيّة. فالتبدّل المتواتر بين "أنت" و"أنتم" يستعمل لايقاظ انتباه القارئ. ويدلّ أيضًا على أن الكلام يوجّه إلى الجماعة وكأنها فرد، وبالتالي على أن كل فرد (أنت) يمثّل الجماعة (أنتم). وهكذا يشدّد النصّ على مسؤوليّة كل واحد تجاه التعليمات التي أعطيت بواسطة موسى من أجل امتلاك الأرض. وهذه المسؤوليّة ترتبط بقرار نتّخذه، وتصميم نضعه أمام عيوننا. وهذه الوجهة التي تشدّد على تصميم الانسان تبرزها تقنيّةٌ بلاغيّة ثانية.
إن الاشتراعيّ يجعل من قرّاء تث معاصرين لموسى. وإذ يفعل هذا يميّز، ولاسيّما في المقدّمة التاريخيّة (ف 1-3)، بين جيلين موسويين: الجيل الأول الذي مات في البريّة، والجيل التالي الذي وُعد بامتلاك الأرض. تماهى القرّاء مع الجيل الأول، وهذا أمر غريب. ثم تماهوا أيضًا مع الجيل الثاني في البريّة. ويذهب الكاتب أبعد من ذلك فيقول إن موسى يستطيع أن يروي لقرّائه أنهم قد ماتوا. نقرأ مثلاً تث 1: 34-35: "سمع الرب صوت كلامكم فسخط وأقسم قائلاً: لن يرى أحد من هؤلاء الناس من الجيل الشرير الأرض الصالحة التي أقسمت أن أعطيها لآبائكم". رج أيضًا 1: 41-42 (قلتم أنتم قد خطئنا). أما 2: 14 فيلاحظ أن "كل جيل المقاتلين قد انقرض من المحلّة كما أقسم الرب فيهم". ويقابل هذا التماهي المضاعف مع الجيل الذي هلك والذي بعده (في 18:3-19 تدلّ صيغة المخاطب على جيل الاحتلال) نهاية خطبة موسى في 30: 15، 19 حيث يكون الحديث عن خيار يتّخذونه. "أنظر، وضعتُ اليوم أمامك الحياة والسعادة، والموت والشقاء... عند ذاك تختار الحياة لكي تحيا أنه ونسلك". هذا يعني أن على القرّاء أن يختاروا، أن يتّخذوا قرارهم. وبقرارهم الخاص يرتبط في النهاية تماثلهم مع أحد الجيلين المذكورين في تث 1-3: جيل الموت أو جيل الحياة. وليس من قبيل الصدف إن شدّدت الفصول التي تحيط بوصيّة موسى (تث 1-3؛ 30) على هذا التماهي المضاعف وعلى النداء إلى الخيار بين الحياة والموت. وهذا المزج بين تماهي يدلّ على أن تث لا يحاول مطلقًا أن يخنهي طابعه المختلف. وقد لاحظ أحد الشرّاح أن الاشتراعي أراد أن يجعل التاريخ الماضي حاضرًا من أجل هدف إرشاديّ، فما اهتمَّ بتسلسل الاحداث. هو يعرف أن قرّاءه يستطيعون أن يفهموا لماذا ألغيت الحقبات الزمنيّة، وأن يدخلوا في حياتهم التاريخ الذي يقدّم إليهم. وهذا "التوافق" بين الكاتب والقارئ يتضمّن بالنسبة إلى تث، تعاملاً مع التقليد وتعاملاً مع الاجيال.
ونجد مثلاً عن هذا التعامل في تث 30 في إعلان امكانيّة سعادة للأيام الآتية: "يهوه إلهك يدخلك إلى الأرض التي امتلكها (ي ر ش، و ر ث) أباؤك وأنت تمتلكها، ويحسن (من طيّب، حسن) إليك وينميك (ر ب ه) أي يجعلك ربوات، أكثر من آبائك... فيهوه يعود ويسرّ لك بالخبر كما سرّ لآبائك" (آ 5، 9 ب). إذا أردنا أن نعرف إلى من يلمّح الآباء، نجد الجواب في 28: 63. أجل، الآباء المذكورون في 30: 5، 9 هم أولئك الذين سمعوا 28: 63: "كما أن الرب يسرّ لكم إذا أحسن إليكم وأنماكم، كذلك يسرّ لكم إذا أفناكم وقرضكم. تُقلعون من الأرض التي أنتم صائرون إليها لكي تمتلكوها". ففي هذين النصين فقط من تث، نجد فعل "ي ط ب. ر ب هـ" (أحسن، أنمى). وفعل "سرّ" (ص و ص) لا يظهر في تث إلاّ في 63:28 و9:30. هذا يعني أن القرّاء الذين يُعلن لهم ما يُقال في 28: 45 من لعنات آتية (وقد اختبروها في حياتهم)، يقدّمون على أنهم الآباء المذكورون في 30: 5، 9. وهكذا يتحوّل القرّاء إلى أبناء صارت السعادة ممكنة بالنسبة إليهم.
وهذا التعامل مع الأجيال يستطيع في مواضع أخرى أن يعبّر بإلحاح عن التواصل والاستمراريّة رغم الانقطاع الذي أحدثه المنفى. وقد لاحظ فون راد أن تث اهتم اهتمامًا خاصًا "بمسألة الأجيال". فأزمة المنفى عنت أزمة إيمان بالربّ، ولاسيّما في ما يتعلّق بالأجيال الجديدة، التي قد تولد خارج الاطار التقليديّ للديانة اليهوديّة. وهذه الأزمة تفسّر إلحاح تث على أن يعلّم تاريخ الرب مع إسرائيل، وعلى الدور المركزيّ الذي يُفرده لربّ العائلة في نقل هذا العلم. نقرأ في 6: 20-23: "حين يسألك ابنك غدًا: لماذا المتطلّبات والرسوم والشرائع التي أمر الرب بها؟ حينئذ تقول لابنك: كنّا عبيدًا في مصر وأخرجنا يهوه من مصر بيد قويّة. صنع يهوه آيات ومعجزات عظيمة وهائلة ضد مصر، ضد فرعون وضدّ كل بيته، أمام أعيننا. ونحن قد أخرجنا من هناك ليدخلنا، ليعطينا الأرض التي أقسم لآبائنا".
هذه الفقاهة تجعل أمامنا ثلاثة أجيال: "أنت" (المخاطب المفرد) الذي يدلّ على الجيل الحاليّ. الابن الذي يشير إلى الجيل الآتي. الآباء الذين يذكّرون المؤمن بالجيل الماضي. وهكذا يرتبط الماضي والحاضر والآتي، ويذكّرنا الآباء بالاصول التي إليها يستند تاريخ الرب مع شعبه. ولكن عن أي أصول (أو بدايات) يتكلّم النصّ؟ هذا السؤال يقودنا إلى طرح سؤال حول "هويّة" الآباء في تث.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM