الفصل الثاني والعشرون: إرجعي، ارجعي فننظر إليك

الفصل الثاني والعشرون
إرجعي، ارجعي فننظر إليك
7: 1-6

وهكذا تتكرّر المواضيع المعروفة. مواضيع الحبّ. كان الحبيب قد أفهمنا بما فيه الكفاية أنه ينعم بحضور الحبيبة. ولكننا نسمع الجوقة تكلّم العروس وكأنها غائبة فتدعوها لترجع. سترجع وتكون موضوع مشاهدة من قبل الجوقة التي ستصف محاسنها بعد أن جمّلها عريسها بأحلى ما يكون. عند ذاك تنضمّ إلى عريسها: "هنا لحبيبي أنا، وإليه اشتياقي ".
دخلت جوقة "الأمم" في عواطف الحبيب، فألحّت من جهتها على تلك التي تسمّى الآن "شونمية"، لكي تعود وتعود سريعًا إلى عريسها. فكأننا نسمع هنا كلام القديس بولس إلى أهل فيليي، ينطبق على العروس فيقول لها: "انطلقي لتحاولي أن تمسكي ذاك الذي أمسك بك" (فل 3: 12). ليكن اندفاعك مضاعفًا نحو ذلك الذي لا تستطيعين أن تعيشي لحظة بدونه.
(آ 1) "إرجعي " (ش و ب ي). يرد الفعل أربع مرّات. إنه نداء ملحّ يوجّه إلى العروس. إنها غائبة، والجوقة تستحلفها بأن ترجع. تحدّث الشرّاح عن رقصة ليتورجيّة في حضرة عشتار. وآخرون عن رقصة أمام تابوت العهد. وآخرون أيضاً عن رقصة السيف والترس أمام العروس...
بل نحن هنا أمام تحريض يتوجّه إلى الأمّة المشخّصة (كأنها شخص حيّ) لكي تعود إلى فلسطين، لكي تخرج من المنفى وتعود إلى أرض الربّ. هذا ما اكتشفناه في 1: 7- 11؛ 2: 13؛ 3: 6؛ 4: 8؛ 8: 5. هذا الانتظار يملأ قلب شاعر نش فيتوافق مع تيّار أدبيّ قد توسّع فيه هوشع وإرميا. أعلن إرميا 24 مرة أن بني اسرائيل سيرجعون إلى أرضهم (3: 12؛ 12: 15...). رج أش 35: 10؛ 44: 5- 6؛ 51: 11. ولكن هذه العودة التامّة لن تحصل إلاّ إذا عادت القلوب إلى الربّ. قال إر 3: 14: "إرجعوا أيها البنون العصاة". وفي آ 22: "إرجعوا أجها البنون المرتدّون فاشفي ارتداداتكم ". أجابوا: "ها نحن نأتي إليك، لأنك أنت الربّ إلهنا"، رج 4: 1؛ 24: 7؛ هو 3: 5 (يرجع بنو اسرائيل ويطلبون الربّ)؛ 5: 15. فالعودة والبناء يرتبطان ارتباطًا وثيقًا كما في إر 31: 18: "أرجعني فأرجع، فإنك أنت الرب إلهي".
وهكذا نفسّر كلمة نش 7: 1 التي ترد أربع مرات، ارجعي. نفسّرها على ضوء هذه النصوص. هناك تحريض إلى الأمّة لأن تزيل عنها قيودها. وهذا مرتبط بها، لأن تحرّرها هو نتيجة ارتدادها.
لا نقرأ اسم "سولميّة" (ش و ل م ي ه) إلا في هذه الآية حيث يُذكر مرتين. كيف نفسّره؟ قالت البعض: اسم إلاهة، وقد يكون اسم عشتار ربّة أورشليم التي سمّيت "شولما تيتو". وقال آخرون: هو مؤنّث "ش ل م ه" أي سليمان. فيعني "سليمانة". ولكن المؤنث هو "ش ل م ي ت ". ثم لا ننسى أن ألـ التعريف (هـ) يسبق الاسم "الشولمية". والحال أن الـ التعريف لا يستعمل مع أسماء الأشخاص حتى ولو كانت صفة أو اسم فاعل. وما هي عدد من الشرّاح بين "سولميّة" نش والسولميّة التي يتحدّث عنها 1 مل 1: 3؛ 17:2، 21، 22. هي أبيشاج وسميت الشونميّة نسبة إلى موطنها "شونم" على سفح نبي داحي على حدود سل يزرعيل. صارت اللام (ل) نونًا (ن). وشولميّة صارت الشونميّة وهي فتاة جميلة جاؤوا بها إلى سليمان لتخدمه وتؤانسه في شيخوخته. فالاسم الحديث للقرية هو سولام والسبعينيّة جعلت النون مكان اللام.
ولكن لماذا لا نعود إلى اشتقاق الكلمات لنفسّر معنى "هـ- ش ول م ي ه". هو اسم مفعول على وزن "ق و ط ل" كما في قض 13: 8 حيث نقرأ "ي و ل د" (مولود). وهناك علامة المؤنث. وهكذا تصبح "شولمية" المسالمة أو تلك التي وجدت السلام. هكذا ترجم أكيلا الكلمة. نحن أمام السلام الاسكاتولوجيّ الذي يحمله سليمان الثاني إلى شعبه كعطيّة الأزمنة الأخيرة.
"ننظر إليك" ح ز هـ: نظر، شاهد، تطلعّ (مع حرف الجر الباء). هي نظرة عميقة فيها العمق مع السرور والاعجاب (رج أي 36: 25؛ مز 27: 4). وإن عبارة "ن ح ز ه. ب ك " تبدأ الصورة التي نقرأها في آ 2 ي، كما أن آ 9 تُهيّئ ما نقرأ في 5: 10- 16. وظيفة هاتين الآيتين وظيفة أدبيّة.
من يتلفّظ بكلمات القسم الأول من آ 1؟ لا العريس ولا العروس. بل جماعة نكتشفها من خلاف صيغة المتكلّم الجمع (نحن ننظر). هل هي الأمم الوثنيّة؟ ربما. وقد نكون بالاحرى أمام جوقة بنات أورشليم اللواتي يتدخّلن ليحرّكن الصورة التي تلي هذه الآية.
"م ه" (لماذا). ظنّ بعضهم أنها أداة نفي: "أما ترون السولمية"؟ وتبع آخرون السبعينيّة والشعبيّة والبسيطة (منا) فقالوا: "ماذا تنظرون في السولميّة"؟ ولكن حرف الباء لا يكون له معنى آخر غير الذي قرأناه في القسم الأوَّل من الآية، وهو يدلّ على عمق الادراك والبهجة. إذن "م ه" هي أداة استفهام: "لماذا تنظرون الشولميّة"؟ نحن في المذكّر (ت ح ز و ن تنظرون) وإن كان الكلام يتوجّه إلى بنات أورشليم. مثل هذا الوضع عاديّ في نش.
"ك. م ح ل ت. هـ. م ح ن ي م ". عبارة صعبة ترجمتها السبعينيّة والبسيطة: "التي تنزل مثل جوقة، ومثل جوقة مخيمّات ". وهناك من بدّل الزين بالنون فقال: "كهؤلاء اللواتي رأين في الحلم رؤى" (م ح ز ي م). فإن "م ح ل ه" (قض 21: 21) تدلّ على الرقص، فتعبّر عن الفرح بعد انتصار (قض 11: 34) أو خلال احتفال ليتورجي (خر 32: 19). لهذا نقول: كما في رقص، كما لو كانت ترقص.
"م ح ن ي م " هو مخيّم الجنود أو الجيش الذي يخيّم (وقد يدلّ على القافلة) (تك 32: 8، 9، 11؛ 33: 8؛ خر 14: 19- 20؛ عد 10: 5- 6). نشير بصورة عابرة إلى أن "م ح ن ي م " هي اسم مدينة من جلعاد قريبة من يبّوق وتسمّى اليوم خربة محنة وتقع شمالي عجلون. يروي تك 32 أن يعقوب العائد من بلاد الرافدين قد التقى بملائكة الله (الوهيم)، لهذا سمّى المكان بهذا الاسم (آ 3). وإذ استشفّ صراعًا مع عيسو أخيه، قسم إلى مخيّمين الناس والبهائم الذين كانوا معه. لهذا ظنّ عددٌ من الشرّاح أن "م ح ن ي م" نش تدلّ على هذا المكان. فتحرّكات الراقصة رشيقة مثل تحرّكات ملائكة تك 32.
نقول هنا ما قلناه عن الشولميّة: هناك أل التعريف، ولهذا لا يمكن أن تكون "م ح ن ي م " اسم مكان.
إذا كانت "م ح ل ت " تدلّ على "رقصة" و "م ح ن ي م" على مجموعتين أو جوقتين، يجب أن نبحث عن معنى العبارة في العالم البيبلي. هنا نجد تلميحًا خفيفًا إلى إر 31: 4، 13 وتك 32: 2- 22. إن إر 31 هو دراما تُعلن بأطيب الكلمات العودة من المنفى، واجتماع يهوذا واسرائيل (مملكتي الجنوب والشمال) في مملكة واحدة، كما تعلن العهد الجديد. في آ 4، تشاهد عذراء اسرائيل تحمل الدفّ الذي ظلّ صامتًا زمنًا طويلاً وتتقدّم وهي ترقص بفرح. إجتمع الشعب وغمرته خيرات الأرض، فهتف هتافات النصر على مرتفعات صهيون: "حينئذ تفرح العذراء في المراقص، والشبان والشيوخ يبتهجون معًا. وأحوّل نوحهم إلى طرب... " (آ 13).
فالمواضيع التي يتوسّع فيها هذا الفصل هي تلك التي يبرزها نش. إذن، يبدو من الطبيعيّ أن يكون الشاعر الذي عاد في ما قبل إلى إر 31: 16- 21، فأخذ التحريضات الملحّة إلى العودة، قد احتفظ هنا بصورة الرقص كتعبير عن فرح العائدين من المنفى.
ويروي تك 32: 2- 22 من جهته كيف أن يعقوب قضى عند خاله سبع سنين من العبوديّة عند خاله لابان في بلاد الرافدين، ثم عاد إلى فلسطين عبر محنائيم. ويفسّر هذا الاسم في آ 3، 22 بالنظر إلى "محنة" أي "المخيّم". ولكنه يرتبط في آ 8، 9، 11 بالمثنّى "م ح ن ي م " الذي يعني "فرقتين" أو "جوقتين". إذ أراد يعقوب أن يحتاط من هجوم ممكن يشنّه أخوه عيسو عليه، قسم الناس الذين معه إلى فرقتين... وقال: "إن صادف عيسو إحدى الفرقتين فضربها نجت الفرقة الأخرى". ثم صلّى طالبًا العون الإلهيّ، وكانت صلاته بشكل فعل شكر: "عبرتُ هذا الأردن وما لي إلا عصاي، وأما الآن فصار لي فرقتان ".
لقد رأى شاعر نش مشابهة بين الوضعين: اسرائيل العائد من سبي بابل، ويعقوب العائد بعد سبع سنوات من العبوديّة لدى لابان. والفرقتان اللتان تحدّث عنهما تك 32 تشيران إلى زمن المنفى. وإن إعادة الوحدة بين الشمال والجنوب، كانت عنصرًا جوهريًا في الرجاء الاسكاتولوجيّ. وإن 6: 4 كان صدى لهذا الانتظار. وحدثُ محنائيم يبدو بشكل "نبوءة" عن العودة الكاملة.
من طرح السؤال؟ هو العريس الذي أراد أن يحرّك المديح الذي هو موضوع الآيات التالية.
(آ 2) ما أجمل (م ه- ي ف ي). رج 4: 10؛ 7: 7. ما أجمل القدمين... اختلفت هذه الصورة عن سابقتها (4: 1- 5) فبدأت من أسفل وصعدت شيئًا فشيئًا. إن "ف ع م " تدلّ على خطوة الانسان (مز 17: 5 ؛ 85: 14 ؛ 119: 133)، كما تدلّ على القدم (2 مل 19: 24؛ مز 57: 7؛ 74: 3؛ 140: 5). أخذت السبعينيّة والشعبية والبسيطة (رجليكى) بهذا المعنى الأخير. وسار في هذا الخطّ عدد من الشرّاح الذين ظنّوا أن العروس تصوّر وهي ترقص. "ما أجمل القدمين بالخفين" (حرفيًا: النعلين، الحذاء).
إن "النعلين" أو الحذاء المفتوح (السندل كما يقال في العامية) لا يخفي الرجلين بل يبرز جمالهما. هل نستطيع أن نجد معنى آخر؟ يعلن أش 11: 15 أنه في اليوم الذي فيه يجمع الرب مشتّتي اسرائيل، يخرج الذين هم في مصر ويجدّد لهم معجزات الخروج. يشقّ "النهر" سبعة جداول ويجعل شعبه يعبرون بالأحذية (بالنعلين، ن ع لا ي م). قد يكون نش أراد أن يلمّح إلى هذا الخروج الجديد من مصر، كما أشار في الآية السابقة إلى عودة جديدة من بلاد الرافدين.
نقرأ في العبرّية "ب ت. ن د ي ب " أي يا بنت الأمير. تقرأ الشعبيّة والسبعينيّة كما في الخطوط الاسكندراني: "ب ت. ع م ي ن د ب " (بنت عميناداب). ولكننا نجد "ن د ب " في السبعينيّة كما في الخطوط الفاتيكاني، في أكيلا، سيماك والبسيطة. إن عبارة "ب ت. ن دي ب " تذكّرنا بما في نهاية ف 6: "ع م ي. ن دي ب " (شعبي الأمير). لن نتوقّف هنا عند محتد الأميرة التي تزوّجت سليمان، ولا إلى الشونميّة الغنيّة التي عرفت اليشاع (2 مل 4: 8). فبطلة نش التي هي الأمّة المشخّصة، تستحقّ قبل الجميع المديح الذي يُعطى لها بسبب الاختيار الإلهيّ الذي يؤمّن لها وضعًا فريدًا وسط الأمم (6: 8- 9) كما يقول حز 16: 13. سيزداد جمالها يومًا بعد يوم فتبلغ إلى الملك.
"ح م و ق" لفظة لا ترد إلاّ في هذا المكان من التوراة. ولكننا نجد الجذر "ح م ق " الذي يعني الدائرة. وهكذا فهم الترجوم الكلمة. "ي ر ك " هو الورك. إن الشاعر يصوّر دائرة الورك وكأنها عقد أو قلادة. وبما أننا في إطار جغرافيّ، هل نستطيع أن نرى في هذه الصورة رسمة شاطئ فلسطين الذي يبدو بشكل عقد؟ ربما.
(آ 3) "س ر" أي السرّة (حز 16: 4). "ا غ ن " هي كلمة نادرة. لا نجدها إلاّ في خر 24: 6 ؛ أش 22: 24. نجدها في العربية "اجانة" أي حوض كبير كان الأقدمون يمزجون فيه الخمر والماء. "س هـ ر" كلمة لا ترد إلا هنا في التوراة. تعني "مدوّر" إذا عدنا إلى السريانيّة (كريكا). رج 5: 14؛ خر 25: 17، 30، 35. قد يلمّح الشاعر إلى تفاصيل في شكل الأرض تعبّر عن فكرة تقول إن أورشليم هي سرّة فلسطين والعالم. فحسب حز 5: 5، تقع أورشليم "وسط الأمم " وحسب 38: 12 يسكن اسرائيل في سنام الأرض، في قلب الأرض. كان القدماء يقولون إن الهياكل العظيمة تقع في وسط الأرض. وهذا هو الوضع بالنسبة إلى أورشليم كما قالت الأسفار المنحولة. واحتفظ التقليد المسيحيّ بالصورة كما نشاهدها على خرائط القرون الوسيطة في أوروبا...
على ضوء هذه الشروح نفهم "ا ج ن. هـ. س هـ ر". بُنيت المدينة المقدّسة على تلّة وأحاطت بها الوديان العميقة فبدت بشكل قوس.
"بطنك عرمة حنطة". هذا ما يدلّ على جبل يهوذا بلونه الذهبي الأصفر ساعة لا تغطّيه خضرة الربيع العابرة. والسنابل الناضجة تدلت على الوفر في نهاية الأزمنة (هو 14: 6-9): إن مز 72: 16 يتمنّى أن تنبت الحنطة على رؤوس الجبال كما في السهل، فتتماوج في الهواء مثل أرز لبنان.
"س و ج " أي سيّج، أحاط (في العربيّة كما في السريانيّة). لا يحيط الشوك بحقولك الحنطة، بل السوسن. ينبت السوسن في الوديان، وإذا كانت الحنطة على رؤوس الجبال، فهذا يعني أن السوسن يحيط بها، كل هذا يدلّ على بركة الله الفيّاضة.
(آ 4) "ثدياك توأما ظبية". هذه الآية تكرّر 4: 5. تحدّث بعض الشرّاح عن رمز إلى الخصب. وفي إطار الجغرافيا، وانطلاقًا من الجنوب إلى الشمال، قد نظنّ أن الثديين يدلاّن على جبلَيْ عيبال وجرزيم.
(آ 5) وشبّه العنق ببرج كما في 4: 4 (عنقك كبرج داود). وهكذا تتكرّر صورة البرج. "عنقك كبرج عاج ". وننتظر الشطر الثاني من البيت الذي قد يكون ضاع فيحرمنا من عنصر ضروريّ للتعرّف إلى الأمكنة. ولكن يبقى أن الصورة تدلّ على نحافة عنق الحبيبة المصانة. هنا نشير إلى أهميّة الأنف للحديث عن الانفة أي الترفعّ والتنزّه.
"عيناك كبركتي حشبون". شبّهت عينا العروس بحمامتين (4: 1) وكذلك عينا العريس (5: 11). تشبيه معروف في الشرق القديم. إذا عدنا إلى صورة العريس، يتمثّل الشاعر الحمامتين واقفتين في حوض ماء امتلأ حتى فاض. تلك هي الصورة التي نجدها هنا.
"حشبون " ليست "كسفين" المذكورة في 2 مك 12: 13 والواقعة في منطقة حوران (1 مك 5: 36) والتي هي اليوم خسفين شرقيّ درعا. هي العاصمة القديمة لسيحون الاموري (عد 21: 26- 30) التي أعطيت بعد الاحتلال لقبيلة رأوبين (عد 32: 3، يش 17:13) والواقعة على حدود أرض جاد (يش 13: 26). قد تكون حسبان التي تبعد 12 كلم إلى الشمال من مادبا حيث نجد حوضًا كبيرًا وسط آبار عديدة.
"ع ل. ش ع ر. ب ت. رب ي م ". عبارة غامضة بالنسبة إلينا. هل نقول: بيت ربيم فنتطلعّ إلى مدينة "ربة- عمون"، أي عمّان الحاليّة التي تبعد 25 كلم إلى الشمال والشمال الشرقي من حشبون؟
"أنفك كبرج لبنان ". اعتبر بعضهم أن هذا التشبيه لا يليق بالعروس. أيكون أنفها بهذا الكبر وتبقى جميلة؟ ولكن أما نكون أمام استعارة بيبليّة كما في التشبيه بين القشة ورافد الخشب (مت 7: 4- 5)؟ أراد الانجيل أن يطبع في العقل تعليمًا. وأراد نش أن يترجم عاطفة عميقة. ونجد تعبيرًا عن هذه العاطفة حين أنشدت العروس مفاتن العريس فشبّهتها ببناء الهيكل وأثاثه (5: 10- 16).
ولكن أي واقع يحدّثنا عنه هذا البرج؟ يرى معظم الشرّاح أننا أمام برج حقيقيّ في السلسلة الغربيّة أو الشرقيّة من لبنان. لماذا لا يكون جبل حرمون الذي يرتفع إلى 2760 مترًا فوق سطح البحر فيشرف من الجنوب والغرب على دمشق؟ يبدو حرمون بشكل مركز مراقبة يشرف على الطرق المؤدّية إلى فلسطين، طريق الشمالي التي تحاذي الجبل فتمرّ قرب منابع الأردن، وطريق الجنوب التي تمرّ في باشان فتصل إلى سهل بيسان.
إذن، يخاف نش من عدوّ اعتاد أن ياتي من الشمال الشرقيّ (4: 8 ؛ رج إر 4: 6 ؛ 6: 1، 22). هذا العدوّ ليس دمشق التي لم تعد تشكّل خطرًا على فلسطين منذ القرن الثامن، وليست المملكة الأشوريّة (أو البابليّة) التي لم تعد موجودة ساعة دوّن نش. ولكن المشهد الذي يصوّره زك 9: 1- 7 يدلّ على الأمّة. تلك الحالة النفسيّة نجدها في نش. جبل حرمون ما زال يتحدّى خلفاء العدوّ التقليديّ الذين يستعبدون فلسطين (8:4).
(آ 6) حاول بعضهم أن يتحدّث عن شعر العروس ذي اللون الاسود، لكي تتمّ المقابلة بين اللون الأرجوانيّ. ولكن كلمة "راش " (رأس) لا تعني الشعر. وبما أننا في إطار جغرافيّ، تحدّث الشاعر عن جبل الكرمل على أنه يمثّل رأس العروس. هو جبل عالٍ وقد عُرف بخصبه في الأزمنة البيبليّة. في أش 33: 9 ذكر مع باشان وأشجاره الخضراء. وفي 35: 2 قال النبي: "مجد لبنان وبهاء الكرمل ". إذن، أراد الشاعر أن يصف شعر الحبيبة الفيّاض ولفتتها النبيلة.
ووصل النصّ إلى الأرجوان. بعد جبل الكرمل، أطلّ الشاطئ الفينيقيّ على الشاعر، ففكّر بالأرجوان والملوك. وهذا ما جعل البسيطة واكيلا وسيماك والشعبيّة تقول: "مثل أرجوان الملك ". ثم تبدو "الجدائل " بشكل مياه تجري. وهي تأسر "ملك" بدون أل التعريف. هذا الملك هو بلا شكّ ملك صور التي ارتبط مع شعب اسرائيل بمعاهدة منذ أيام داود وسليمان، لاسيّمَا من أجل بناء الهيكل.

* إرجعي، ارجعي يا شولمية
يتكرّر الفعل "إرجعي " أربع مرات. هكذا تتوجّه الجوقة إلى العروس. وهذا الفعل يستعمله الانبياء لكي يتحدّثوا عن العودة إلى الله بالتوبة. لا نفهمه كما في مقاطع أخرى كاستحلاف العروس الخائنة أن تعود عن زناها لكي تلتفت إلى عريسها. فجوق الأمم يدعو بالأحرى العروس ويتوسّلون إليها. فهم ينتظرون خاتمة أعراسا ليتجاوبوا باندفاع حار مع اندفاع عريسها.
إرجعي فننظر إليك. لكي نشاهدك، نتأمّل في عظمة حبّك، وإن حسبتِ أنك لا تزالين ضعيفة. إرجعي لتُفرحي عيوننا وتدهشيها. هذا ما فهمته تريزيا الطفل يسوع فكتبت إلى أختها: "أي نداء هو نداء عريسنا! ما كنا نتجاسر أن ننظر إلى نفوسنا، لأننا كنا نظنّ أننا دون بهاء ولا جمال. ويسوع يدعونا. هو يريد أن يتأمّل فينا ويطيل ".
وتسمّى العروس مرتين "شولمية" (أو: سولميّة). هي زوجة سليمان، ملك السلام (3: 7 ي). هي تحمل اسم سليمان المسيحاني وتنعم بسلامه. قال فرنسيس السالسي: "كما أن المخلّص يدعى ابن السلام أو سليمان المسالم، هكذا سمّيت عروسه: هادئة وابنة السلام ".
فاذا كان على الحبيبة، مهما طالت هذه الحياة، أن تقترب دومًا من عريسها، أن "ترجع " إليه، فلكي تتعرّض لناره ونوره. هذا ما أحسّ به أحد الشرّاح فقال: "حتى الآن كانت الحبيبة السوداء، الجميلة، المحتجبة، الفرس، سوسنة شارون، وردة السهول، الحمامة، التي لا عيب فيها، الجنة المقفلة، الينبوع المختوم، العروس، الأخت، الكاملة، العجيبة، المهيبة، الشبيهة بالسحر، بالشمس، بالقمر. عشرون صورة ترعها في جمالها الحارّ، في عذابات الحبّ. وها هي قد وجدت أخيرًا اسمها الحقيقيّ بعد أن انتهت مأساة المنفى. ففي أعراسها الجديدة، في أبديّة زواجها التصوّفي، هي "شولميّة"... لقد حوّل الحبّ الحبيبة إلى صورة حيّة عن الملء والحياة. هي صورة السلام المنتصر التي تنظر إليها جوقة الأمم بإعجاب. نظرة لا نهاية لها "في اندفاع جريها لكي تنال الأجر" كما قال بولس الرسول في 1 كور 9: 24.
ولكننا لسنا أمام جري، بل أمام رقصة ساحرة تقدّمها العروس للجميع في اندفاعها المتجدّد. وهذا ما نفهمه من الجوقة بصبايا يعيّدن فيهتفن: "لماذا تنظرن الشولميّة كأنها ترقص بين صفين"؟
هي الجوقة، وقد يكون العريس هو الذي يتلفّظ بهذه الكلمات لتكون له فرحة سماع كل صبايا العالم، جوقة أمم الأرض، لكي يمتدحن الجمال الفريد لدى الفريدة. غير أننا نستغرب حين نراها "ترقص بين صفّين". أو"ترقص في جوقتين".
ولكن هذا ليس بمستغرب إلاّ بالنسبة إلى ذلك الذي ينسى أن الحبيبة اسمها اسرائيل. وأن اسرائيل مقسوم منذ سنة 931 إلى مجموعتين من القبائل، إلى مخيّمين: اسرائيل في الشمال ويهوذا في الجنوب. حرّكت صاحب نش رغبة في الوحدة، فرأى اسرائيل المقسّم الآن يستعيد وحدته، فيصبح الشعبان شعبًا واحدًا، وهكذا يتحوّل المخيمّان المتعارضان إلى جوقتين ترقصان الرقصة الواحدة.
واسم "بنت السلام" (شولمية) الذي أعطاه العريس لتلك التي يحبّ، يؤكّد أيضاً هذا التفسير: انتقال من الحرب بين مخيّمين متعاديين إلى سلام ومصالحة مع جوقتين ترقصان. فالجوقة تشاهد في الحبيبة الراقصة كلّ تناسق ديناميكي وإيقاعيّ بين متعارضين تصالحا. بعد قساوة الانقسام والمنفى، تصالح المخيمّان اللذان كانا متعاديين حين انعكس عليهما الحبّ المنتصر فالحبّ يصالح الاضداد، يلغي الاضداد في رقصة كونيّة تعكسها الشولميّة في العودة من المنفى والأعراس الجديدة. يجب أن تظهر على عين الخليقة لكي تشبع الخليقة من التأمّل في كون تصالح وخُلق على صورة العروسين اللذين انتصرا في وحدة حبّهما. وما زالت الشولميّة تحمل على صدرها المخيّمين اللذين تصالحا منذ الآن على إيقاع جديد في رقصتهما الكونيّة.
تحوّلٌ عجيب في هذين المخيّمين اللذين كانا أعداء البارحة وكانا يتحاربان. تحوّل إلى حبيبين اثنين يرقصان فتبدو حركاته متكاملة، لا مبدأ انقسام. حلم عميق في قلب المسيحيّين المنقسمين. حلم قديم في قلب البشريّة: أن تجتمع جميع الشعوب في شعب واحد. والبشرية متأكّدة أنها ستستجاب في يوم من الأيام.
قال أغناطيوس الانطاكي الاسقف الشهيد في القرن الثاني، وهو مولع بقضيّة الوحدة. قال في رسالته إلى الأفسسيّين: "ليصبح كل واحد منكم جوقة نشيد. وإذ تتبنّون معًا لحن الله في تناسقكم وتوافقكم، تنشدون للآب بصوت واحد بيسوع المسيح ". ولكننا سوف نجد دومًا جوقة الرقص الموحّدة وجوقة المخيّمين المتحاربين. فقد كتبت تريزيا الطفل يسوع إلى أختها: "ماذا ترين في العروس إلاّ أجواق الموسيقى في مخيّم حربيّ ".

* ما أجمل خطواتك
ولكننا لا نجد في حبيبة نش سوى الرقص. وفي عدّة أبيات شعريّة يرافقها الغناء مع التصفيق بالايدي، ستحسّ جوقة الأمم بالافتتان أمام جمال خطوات بنت الأمير، فيقلن: "ما أحلى خطواتك بالحذاء، يا بنت الأمير! دوائر فخديك حليّ صاغتها يد ماهرة. سرّك كأس مدوّرة مزيج خمرها لا ينقص. وبطنك عرمة حنطة يسيّجها السوسن ".
وتبدو الصور هنا جريئة، بل هي للوهلة الأولى "شهوانيّة". ولكن لا ننصدم منها ولا نتشكك فنعطيها معنى ليس لها. هي في واقعها نقيّة وطاهرة كتلك التي يستعملها الربّ في بداية هوشع وإرميا، في حز 16 و23، كما في هذا الفصل أو ذاك من سفر التكوين. فكلمة الله لا تستحي ممّا خلقه الله. "إذن لنسمع الأقوال الإلهيّة التي بها يصوّر الكلمة جمال عروسه التي لا عيب فيها، على مثال أناس خرجوا من اللحم والدم وتحوّلوا إلى أشخاص روحيين". ذاك كان كلام غريغوريوس النيصيّ.
إنطلق الاحتفال من الرقص، فبدأ وصف الحبيبة بالقدمين ثم ارتفع تدريجيًّا إلى ملء النور في الوجه الملكيّ. وهكذا انكشف شيئًا فشيئًا وفي جوّ متزايد من الدهشة، جمال امرأة سيعمل بلد كامل، بل الكون كله، ليبني جسدها كله. إلى أن يجد هذا الجسد ملء كماله في الرأس.
ونتصوّر طوعًا أمام جسد العروس الذي ينمو، بناء جسد المسيح الذي إليه نصل كلنا لنكوّن الانسان الكامل الناضج الذي يحقّق ملء المسيح... وهو جسد متنامٍ يسير إلى الذي هو الرأس، أي المسيح، الذي فيه يجد الجسد كله وحدته وتناسقه (أف 4: 13، 15- 16). فحبيبة نش صوّرت في نموّها المتناسق نموّ الكنيسة.

* ما أجمل خطواتك يا بنت الأمير
إن جمال الحبيبة ليس جمال تمثال من حجر أو خشب، بل جمال شخص حيّ يتحرّك أمامنا ويرقص. ونحن نسمع وقع حذاء هذه الأميرة، "بنت الأمير". وهو لقب لم يُعطَ لها فقط بسبب خفّتها الفريدة في الرقص، ولكن لأن الأمير الذي انطلق أمامها في مركبته، لأن ملكها الحبيب هو في الوقت عينه عريسها والخالق الذي هي ابنته. فقد قال لها: "خالقك هو عريسك " (أش 54: 5). مقابل هذا لا تسمّى العروس أبدًا "ملكة". فلا ملك إلا الله وحده.

* سرّتك كأس مدوّرة
وتتواصل صورة الحبيبة ببساطة العبارات البيبليّة ونحافتها، فتذكر السرّة والبطن وتقول: "سرّتك كأس مدوّرة، مزيج خمرها لا ينقص. وبطنك عرمة حنطة يسيّجها السوسن ".
يريد الشاعر أن يدلّ على خصب العروس. ففلسطين هي أرض الحنطة والخمر. قال 2 مل 18: 32: "أرض حنطة وخمر، أرض خبز وكروم ". و"الأرض المتزوّجة" (أي: تزوّجها الرب) كما يقول أش 62: 4- 5، ستعرف مع يوم المسيح خصبًا خارقًا على مستوى الحنطة والخمر. قال يوء2: 24: "ستمتلئ البيادر حنطة، تفيض المعاصر خمرًا وزيتًا". وقالت زك 9: 17: "يخلّصهم إلههم في ذلك اليوم... بالحنطة ينمو الفتيان، وبالخمر العذارى" (رج مز 72: 16).
وهذا ما يتحقّق في مجيء يسوع المسيح مع معجزة الخمر التي فاضت في أعراس قانا (يو 2: 1ي)، ومعجزة الأرغفة التي تكاثرت على الجبل (يو 6: 1ي). خصب عجيب في الارض التي هي العروس، خصب عجيب في اتحاد الحبّ بين العريس والعروس. هذا ما ترمز إليه صورتا "كأس الخمر" و"عرمة القمح" اللتان انضمتا إلى سرّة العروس وبطنها. كأس لم ينفد منها الخمر. في قانا نفدت الخمر، ولكن لما تدخّل المسيح أعطى خمرًا لا تنفد إلى الأبد. وعرمة قمح ستبقى عرمة على مثال قصعة الدقيق التي لا تفرغ وخابية الزيت التي لا تنقص: هذا ما وعد به إيليا الأرملة في صرفت صيدا (1 مل 17: 14). وهكذا دلّت هاتان العبارتان على وفر كبير، على خصب لا ينفد أبدًا.
غير أن هذا الخصب ليس على مستوى الجسد والشهوة. وهذا ما يدلّ عليه سياج السوسن الذي يحيط بعرمة القمح. على أي حال، لن نجد أبدًا في نش خصبًا على مستوى الجسد عند العروس. لا يُذكر الأولاد الذين قد تحبل بهم الزوجة من زوجها. ولا نسمع العروس والعريس يتطّلعان في ساعة من الساعات ومن خلال أحاديث يتبادلانها، إلى وجود أولاد يجسّدون حبّهما. وهكذا نكون على مستوى من الحبّ غير ذلك الذي يتطلعّ إلى العناق الزوجيّ من أجل ولادة الأولاد. فهناك خصب من نوع آخر.
في نش، لا موضوع للحب إلا الحبّ نفسه. ولا هدف للحبّ إلاّ الحبّ. وليس هناك من أولاد لأن "الزواج " لا يتوخّى إيلاد البنين. إنه الحبّ المطلق حيث يتأمّل الرجل في المرأة ليصبح معها إنسانًا كاملاً. وهكذا نستطيع القول إن الحبّ في نش هو حبّ ثوريّ، حبّ متحرّر. تلك هي نظرة بعض الكتّاب المعاصرين.
أما العروس في نش فتختلف عن هذا الموقف الأنانيّ الذي يلغي العالم الذي يحيط بها. فهي لا تستطيع أن تنفصل أبدًا عن رفيقاتها، أو أن تنعم بدون حضور شعبها كله الذي تريد أن تجتذبه معها (1: 3- 4؛ 6: 2). والعريس من جهته، في الوليمة التي قدّمتها له حبيبته، أراد أن يرى الجميع يتّكئون إلى هذه المائدة: "كلوا يا رفاقي واشرَبوا، واسكروا يا أحبّائي" (5: 1).
ونزيد فنقول إن بحث هذا الحبّ عن العقم كنا معارضين كل المعارضة لوصيّة الله حين خلق الرجل والمرأة. قال: "أنموا واكثروا واملأوا الأرض " (تك 1: 28). أن يكون للزوجين أولاد، تلك هي الوصيّة الأولى في التوراة، والتي يعتبرها المعلّمون أساسيّة في الكتاب المقدّس.
من هذا القبيل يتوافق حب بوعز وراعوت في هذا النشيد المليء بالعذوبة والعفّة مع الهدف الذي جعله الرب للرجل والمرأة في سفر التكوين. ولكنه يتعارض كل التعارض مع ما نراه عند العروس والعريس في نش. تستطيع راعوت، وحبيبة نش أن تعجب الواحدة من الأخرى. نضعهما الواحدة تجاه الأخرى فتكبر الواحدة بالأخرى، تكتشف راعوت في حبيبة نش إلى أي نقاوة ومجانيّة وتكريس يدعى حبّها إلى أن يرتفع. وترى حبيبة نش في راعوت معنى واقعيّة أعراسها، وكم عليها أن تبرهن في حبّ عريسها وخدمته، على الأمانة والرقّة والمودّة. غير أن خصب حبّهما يختلف. وُعدت راعوت في يوم عرسا بسلالة بشريّة لا تعدّ ولا تُحمى. والكتاب ينتهي في السلالة فيدلّ على أجمل احتفال بيبليّ للحبّ البشريّ.
ولكن حبيبة نش تختلف عن راعوت في هذا المجال. لا يعطى لها وعد بنسل على مستوى الجسد. ومع ذلك، وإن لم يكن هذا الخصب جسديًا، إلاّ أنه حقيقيّ. وهو خصب يرمز إليه وفرة القمح والخمر في اتصال مع بطن العروس. خصب واقعيّ، إنما خصب روحيّ يعلنه ويرمز إليه عبر كل تاريخ اسرائيل، عقم عدد من الناس أعطاهن الله بأن يحملن بشكل عجائبيّ. إنه خصب النعمة الذي نظر إليه المرنّم حين أنشد "المرأة العاقر كأم سعيدة يحيط بها أبناؤها" (مز 113: 9).
مثل هذا الخصب عظّمه أشعيا حين تجرّأ فقال لأورشليم العروس: "أهتفي أيتها العاقر التي ما عرفت أوجاع الولادة. فبنو المهجورة (لا زوج لها) أكثر من بني المتزوّجة" (التي لها زوج) (أش 54: 1). وهي كلمات استعادها بولس الرسول في غل 4: 26- 27 لكي يطبّقها على كنيسة المسيح. حينئذ "تقولين في قلبك: من ولد لي هؤلاء؟ كنت ثكلى وعاقرًا، كنت مطرودة ومنفيّة، ومن ربّاهم لي " (أش 49: 21)؟
إن الحب البتوليّ الذي عاشه عروسا نشيد الأناشيد هو حبّ خصب رغم عقمه الظاهر، وهذا لا يعرف حدودًا للولادة. وما يوحي إلينا بهذا الكلام هو أن الخصب في هذا المقطع من نش قد اجتمع مع رمزي الحنطة والخمر اللذين سيكونان رمزين في الافخارستيا، رمزين لاتحاد يسوع مع جماعته في الحبّ، لاتحاده مع الكنيسة عروسه. قال يسوع في خطبة الوداع التي هي نشيده: "أثبتوا فيّ وأنا فيكم ". وبعد أن أفهم تلاميذه بهذه العبارة المذهلة حميميّة اتحاده مع جماعته واتحاد جماعته معه، قال: "من يثبت فيّ وأنا فيه، فذاك يأتي بثمر كثير" (يو 15: 5).
ثمار الاتحاد هي الأولاد. وفي فم يسوع يُعطى البشر كأولاد لمن يعيش متّحدًا معه. خصب النفس. خصب الكنيسة العروس. وهذا ما يتحقّق بشكل جوهريّ في الافخارستيا وبالافخارستيا. هذا ما استشفّه يوحنا الصليب فقال: "تتكوّن عرمة الحنطة من الحبّ الذي يستعمل لصنع خبز الحياة".

* ثدياك توأما ظبية
واللافت في هذه النظرة هو أننا نقرأ حالاً: "ثدياك توأما ظبية صغيران بعد". صورة عرفناها وهي تشير إلى حلم كبير بأن يتوحّد الأخوان المنفصلان، اسرائيل ويهوذا، فيجدا من جديد أمّهما المشتركة ويصيرا من جديد شعبًا واحدًا (2: 16؛ 4: 5؛ 6: 2- 3). وهكذا ينضمّ موضوع الوحدة إلى رمزَي الحنطة والخمر كما سينضمّ إلى هذين الرمزين في سرّ الافخارستيّا، سرّ وحدتنا. ففي ليلة الخميس الأسرار سينشد يسوع سرّ الوحدة بين أخصّائه.
إنطلق أحد اللاهوتيّين من تفسير أوغسطينس للمزمور 92 فأبرز هذا الرباط المثلّث بين الخصب والبتوليّة والوحدة. وهو رباط ينكشف في الكنيسة، في مريم العذراء، في عروس نش: تأمّل في مريم وفي الكنيسِة ذات البتوليّة الخصبة وذات الخصب البتوليّ. وشدّد على التشابه بين البتولين الأمّين فلاحظ أن الكنيسة تلد أولادًا تجمعهم من كل مكان. تلد أعضاء الجسد الواحد (جسد المسيح السرّي). ومريم التي تلد الابن الوحيد يسوع المسيح، تصبح أم العديدين. وإذ تلد العديدين تصبح أمّ الوحدة.

* عنقك برج من العاج
بدأ صعود العروس مع خطوات رقصتها، فتواصل بشكل تدريجيّ باتجاه الرأس. ولهذا قال الشاعر: "عنقك برج من العاج ".
فالاندفاع والبياض والعنفوان في العنق، كل هذا جعل الشاعر يفكّر كما في الوصف الأوّل (4: 4) ببرج عاجيّ فيه القوّة والرشاقة. قوّة المرأة التي تحمل في هذا الشرق أحمالاً ثقيلة. ورشاقة المرأة التي تبحث عن كرامتها.
ويصل الشاعر إلى العينين فيقول: "عيناك كبركتَي حشبون عند أبواب بيت ربيم ".
يُدعى نظرنا لكي يحطّ من جديد على هاتين العينين الكبيرتين، اللتين نستطيع أن نقرأ في أعماقهما نفس الحبيبة كما في بحيرة شفّافة. نقاوة عيني الحمامة. شفافيّة وعمق مياه فيها تغطس السماء. ويبدو في هذه الصورة الثالثة أن العروس تركت حجابها الذي كان يغطّي حتى الآن وجهها (4: 1؛ 4: 3؛ 6: 7). وأن عينيها اللتين تشبهان مياه بحيرة هادئة تعكسان الآن بشكل مباشر وجه مجد ربه المحبوب (2 كور 3: 18).
إن حشبون وبيت ربيم تذكراننا بالعمونيّين والموآبيّين، بجيران بني اسرائيل المبغضين (عد 21: 26؛ إر 49: 3). أما تُجرح العروس حين تقرأ هذين الاسمين في عينيها؟ ولكن يذكّرنا نش دومًا أن اسرائيل والأمم الوثنيّة تشارك في الحبّ الذي يكنّه العريس لحبيبته. كان قد قال الرب في الفترة عينها تقريبًا للنبيّ زكريا (9: 7): "أقضي على كبرياء الفلسطيّين... ولكن يبقى منهم بقيّة لالهنا. ويكون لهم مكانهم وسط عشائر يهوذا، ويكون أهل عقرون كما كان اليبوسيّون" (أي يدخلون في شعب الله، ويعاملون مثله).
وبين العينين ينتصب الأنف. هي المرّة الوحيدة التي فيها يظهر الأنف في صور الحبيب الثلاث. جعل الشاعر، شأنه شأن العنق، يحلم ببرج ساحر ومهدّد، وبالتالي مختلف كل الاختلاف عن ذاك البرج العاجيّ الجميل. فقال: "أنفك كبرج لبنان المشرف على دمشق ".
ينتصب الأنف في وسط الوجه فيدله على أنفة العروس، كما يبدو بشكل تحدٍّ لعدوّ قد تكون مشاريعه جاهزة، ولكنه "برج لبنان". فالقوّة عند الحبيبة تترافق دومًا مع الجمال.

* رأسك عليك مثل الكرمل
بدأت صورة الحبيب بالرأس (5: 11) في القصيدة الرابعة. أما صورة الحبيبة في هذه القصيدة الخامسة، فبدأت بالقدمين وانتهت بالرأس، وهذا أمر له معناه. فعلى قمّة الجسد يبدو الرأس الآن تاجًا يتوّج الجسد. لهذا قالت الشاعر: "رأسك مكلّل كالكرمل وشعر رأسك أرجوان. جدائله تأسر الملك ".
إنها تشبه جبل الكرمل الذي يتقدّم إلى البحر بشكل رأس مستدير، وهي تفرض نفسها مجيدة مثله. وإن ظهرت في سواد الشعر الابنوسي (مثل معز في جلعاد) انعكاسات أرجوانيّة، فلأن نيران الشمس لعبت في شعر تلك التي وُصفت "مشعّة كالشمس". وهكذا تجعل الشمس من هذا الرأس رأسًا ملوكيًا. أجل، لقد جاء الوقت لكي تتنشّق في المجد تلك الشمس التي انعكست عليها.
والجدائل الجميلة والسوداء عند العروس، صارت لملكها شبكة تأخذه فيها. ولأن ملكها أسر في هذا الشعر، صار له انعكاسات أرجوانيّة.
أجل، أنشدت الجوقة: "أسر الملك في جدائلك". في القصيدة الأولى كنا قد رأينا الحبيبة سجينة، رأيناها فرسًا في مركبات فرعون (1: 9). والآن، ها هو الملك سجين. هو سجين حبيبته. وإذ أرادت أن تأسره لم تحتج إلى السلاسل الثقيلة ولا إلى القلادات القويّة. فجدائل شعرها الخفيفة تكفي. شيء قليل يأسره.
حين فكّر يوحنا الصليب بهذا الوضع، بدا مشدوهًا فقال: "شعرة صغيرة فقط، رأيتها تطير على عنقي... نظرتها على عنقي فأخذت بها. لو لم يكن في رحمته العظيمة قد نظر إلينا وأحبّنا أولاً (كما يقول يوحنا) لما كان أخذ بشعرة حبّنا الحقير: لأن حبّنا لا يرتفع عاليًا، فهو يتوصّل إلى إمساك هذا العصفور الإلهيّ الذي هو رفيع جدًا. ولكن لأن حبّه تنازل فنظر إلينا وحرّك طيراننا ورفعه، فأعطى قيمة لحبنا، لأجل هذا أخذ هو نفسه بهذه الشعرة خلال طيرانه. فهو بنفسه رضي بها، سرّبها، ولهذا أُخذ. هل يصدّق عن عصفور يطير "مسح الأرض " أن يأسر النسر الملكيّ الرفيع، لو لم ينزل هذا النسر لأنه أراد أن يؤخذ في شباكنا".
وأنشدت تريزيا الأفيليّة: "فكل سجن سماويّ، سجن الحبّ الذي أعيش معه، جعل الله سجينًا وجعل قلبي حرًا. ولكن هذا يؤلمني بأن أرى الله سجيني بحيث أموت لأني لا أموت "
وكانت تريزيا الطفل يسوع تحبّ صورة النسر، فقالت ببساطة، وجعلت في كلماتها ثقتها المطلقة بالحبّ الرحيم: "كيف نخاف بعد هذا ذاك الذي يؤسر بشعرة واحدة تطير على عنقنا. إذن، كن أسيرًا يا قديرًا في السماء. كن سجين التي هي سجينتك إلى الأبد".


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM