الفصل التاسع والثلاثون: الأمانة للتعليم

 

الفصل التاسع والثلاثون

الأمانة للتعليم
13: 7 - 17

وهكذا نصل إلى نهاية القسم الخامس (12: 14 - 13: 18) مع مقطع أخير يقدّم النظرة الدينيّة الصحيحة والنظرة الدينيّة الخاطئة (13: 7 - 17). توقّفنا عند آ 17 ولم نصل إلى آ 18 ولا إلى آ 19 لأسباب عمليّة، وهكذا يكون الفصل التالي الذي عنوانه خاتمة الرسالة، 13: 18 - 25. يبدأ هذا الفصل (آ 7 - 17) بين نداء يطلب من القرّاء أن يحفظوا الايمان الذي تلقّوه من معلّمين سابقين، من مدبّرين كلّموهم بكلام الله، وصاروا الآن في دار الخلود. ونداء يدعو القرّاء إلى الطاعة والخضوع لمدبّرين يهتمّون بهم الآن. فالتعليم الذي يعود إلى المسيح، والذي انتقل من جيل أول إلى جيل ثان وثالث، هو هو أمس واليوم وإلى الأبد. فلا نتعلّق بالأشخاص مهما كان مركزهم رفيعًا، بل بكلمة الله التي بدأت صغيرة كحبة الخردل، ونمت، وما زالت تنمو. ونحن حين نتعاون مع المسؤولين في جماعاتنا نساعد هذه الكلمة على النموّ، كما نساعد المسؤولين على خدمة الكلمة بسرور وفرح، وكل هذا من أجل فائدة الكنيسة.

1 - تفسير الآيات
بعد مقدّمة تذكّر القرّاء بمدبّريهم وبما علّموهم (13: 7)، يرد التوسيعُ حول مسألة عرفها العالم اليهودي: الطعام بحسب الشريعة (آ 8 - 16). وهكذا نظلّ في هذا التجاذب بين العهد القديم والشرائع حول الأطعمة، والعهد الجديد الذي يتطلّع إلى النهاية في خط المشاركة بذبيحة المسيح. والخاتمة (آ 17) تعود إلى المدبّرين، إلى رؤساء الجماعة، الذين يبدو الكاتب واحدًا منهم. فهو مثلهم يحتاج إلى صلاة الجماعة ليقوم بخدمته بسرور، لا بكرب. واهتمامه أن يكون خدمَ الخدمةَ الصالحة بضمير نقيّ.
أ - المقدمة (13: 7): أذكروا مدبّريكم
مع هذه الآية التي تتحدّث عن الجيل الأول من المعلّمين الذين رقدوا، نبدأ فصلاً جديدًا موضوعه: الأمانة للمسيح الذي يقدّسنا. هذا يتضمّن تجرّدًا جذريًا عن شعائر العبادة الموسوية، وتعلّقًا بتعليم ((المدبّرين)) ومثَلهم. ((هيغومانوس)). هو لقب خاص بالله (الرب هو الراعي، ومع ذلك فقد قال لبطرس: إرع خرافي). ولكننا لا نجده في الرسائل إلاّ في هذا المكان. هناك فعل ((هيغيوماي))، سار أمام، قاد، وجّه، أمر. يدلّ على الاولويّة والسلطة والقيادة. قد يكون قائدًا حربيًا (1 مك 9: 30) أو سياسيًَا: ملك، أمير (سي 17: 17؛ 41: 17)، حاكم (أع 7: 10). قابل سي 33: 19 بين ((مدبّري (هيغومانوي) الكنيسة وعظماء (ماغيستانس) الشعب))، فدلّ على المعلّمين الذين ينقلون التعليم في الجماعة. في بداية المسيحيّة سُمِّي عظيم الكهنة ((مدبّر)). ونسب مت2: 16 اللقب إلى المسيح الذي يرعى شعب الله (عب 13: 20). والرب نفسه طلب من رسله (الوكيل...) أن يكونوا ((دياكونون)) (خدّامًا) بالنسبة إلى المؤمنين (لو 22: 26). ينتج من هذه المعطيات أن المدبّرين هم رؤساء الجماعة. لهم سلطة على إخوتهم. وينعمون بعدد من المواهب (أع 15: 22 - 23، يهوذا وبرسابا وموهبة النبوءة). المدبّرون هو موجّهون وقوّاد، يعملون عمل الراعي، ويدلّون الرعيّة على الطريق. هم يشبهون إلى حدّ بعيد ((إبيسكوبوي)) (الاساقفة)، ((برسبيتاروي)) (الكهنة أو القسس) كما في الرسائل الرعائية، أو ((بروأيستامانوي)) (المترئّسون) كما في 1تس 5: 12. هم يرئسون ولكن كخدّام إخوتهم، كما يقول الانجيل (مر 10: 35).
إذن، تألّفت الكنيسة من ((هيغومانوي)) ومن ((هاغيوي)) (قديسين)، من مدبِّرين (بكسر الباء) ومدبَّرين، من مرشدين ومرشَدين (عب 13: 24). سلّم الله هؤلاء إلى أولئك الذين هم مسؤولون عنهم. لهذا طُلب من المؤمن الخضوع والطاعة (آ 17). ليست سلطة المدبّر سلطة مطلقة، بل ترتبط بسلطة الله. يُطلب منهم أن يختاروا قوّاد شعب الله خلال حجّهم في هذا العالم المعادي (3: 7 ي) إلى الوطن السماوي (13: 14)، في الطريق الذي رسمه القائد (ارخيغوس) .
بما أن على ((العبرانيين)) أن لا ينسوا هؤلاء الرجال المكرّمين، فهذا يعني أنهم ماتوا استشهادًا (ربّما) في أحد الاضطهادات (آ 3؛ 10: 32 - 34). وصلت مقاومتهم حتى الدمّ. وقد تكون الطريق مفتوحة أمام المؤمنين (12: 4). ((إكباسيس)) خروج، ابحار: استعارة بحاريّة (رج 2 تم 4: 6). ثم عاقبة، نهاية. يعني: كيف انتهت حياتهم. كيف ماتوا. ماتوا شهداء حفاظًا على إيمانهم. فيجب على المؤمنين أن يقتدوا بهم. رج ((إكسودوس)) (لو 9: 31، خروج المسيح من هذا العالم، 2 بط 1: 15؛ اريكسيس، موت موسى، يوسيفوس، العاديات 4/8: 315؛ أع 20: 29 وموت بولس). المضاف إليه ((أناستروفي))، طريقة التصرّف، السلوك، نوعيّة الحياة. يقابل ((تروبوس)) (آ5). دلّ الكاتب على أن موت ((المدبّرين)) كان تتويجًا لحياة مثاليّة. حياتهم كانت حياة في الايمان، فكلّموا (لالاين، أع 4: 31) الناس بكلام الله، وقادوهم إليه (2: 3). وحين سفكوا دمهم، أعطوا الشهادة العظمى عن يقينهم ورجائهم (ف 11).
فعلى المؤمنين أن يتأمّلوا في كل عمل من أعمالهم، وأن يتوقّفوا بشكل خاص عند مدلول موتهم وما فيه من إيمان وشجاعة. ((أناتيوريو)): تفحّص بدقّة، تطلّع وتطلّع (أع 17: 23. لا نجد بعد هذا الفعل في البيبليا). بعد ذلك، يسيرون حسب تعليمهم وحسب مثلهم، يقتدون بهم أقتداء (ميميوماي، 6: 12). ((بستيس)) تدلّ هنا على فضيلة أساسيّة تُلهم الحياة الخلقية وتمنحها القوّة والشجاعة. إيمان المدبّرين هو سرّ تصرّفهم (أناستروفي) في حياتهم وفي مماتهم. وإيمان التلاميذ يشبه إيمانهم: فهم أيضًا أبناء الايمان (10: 39).

ب - التوسيع (13: 8 - 16): مسألة الاطعمة
هنا يبدأ الموضوع في مقدمة (آ 8 - 9) تدعو القرّاء إلى التعلّق بيسوع، لا بشرائع قديمة عفّاها الزمن. ويتواصل في كلام عن عبادة الخيمة والمشاركة في ذبيحة المسيح. لا توافق بين الاثنين، وعلى ((العبرانيين)) أن يختاروا. لا يمكنهم بعد اليوم أن ((يعرجوا)) (12: 14) فيذهبوا تارة إلى المجمع ليصلّوا مع اليهود، وطورًا إلى الكنيسة ليشاركوا في ذبيحة المسيح (آ 10 - 13). وبعد أن يتحدّث عن الأساس الاسكاتولوجي (آ 14) الذي يفتحنا على المدينة الباقية، يصل إلى العبادة الحقيقيّة التي هي اعتراف باسم الله (آ 15) وحياة سخيّة في خدمته (آ 16).
أولاً: لا تنخدعوا (آ 8 - 9)
إن آ 8 التي لا ترتبط بأداة بما سبق، بل تبدو بشكل مقدّمة تُشرف على التوسّع التالي. إذن هي انتقالة. نجد فيها اعتراف إيمان قد يكون أجمل ما في العهد الجديد على مستوى التعليم (رج كل ما قيل عن المسيح كالحبر الرحيم...)، وعلى المستوى النفسي (لا تقلّب ولا تحوّل كما في النظام الأول. هو كاهن إلى الأبد). كان يسوع المسيح قلب كرازة المدبرين، وينبوع قداسة حياتهم. من أجله ماتوا. غير أن فراقهم سبّب لدى المسيحيين الذين حُرموا من مثَلهم وتعليمهم وسندهم، عاطفة فراغ مؤلمة وتخوّفًا كبيرًا من المستقبل. فمن يقودهم بعد الآن؟ لهذا ذكّرهم الكاتب بأن لا ينسوا هؤلاء المدبّرين، وذكّرهم بشكل خاص أنه إن مضى الناس، فالمسيح يبقى، وبه نتعلّق، وهو يحفظ جماعته ممّا يهدّدها من ضلال تعليمي (آ 9). أما تعلّق أهل كورنتوس ببطرس وبولس وابلوس، ونسوا أن المسيح هو الذي صلب لاجلهم وبه اعتمدوا (1 كور 1: 12 - 13)؟
هذه العبارة (هو هو أمس واليوم وإلى الأبد) التي تستلهم مز 102: 13، 28 (وأنت يا ربّ تقيم إلى الأبد، وإلى جيل فجيل ذكراك. أما أنت فلا تتغيّر وسنوك يا رب لا تفنى)، تطبّق على الله (رج تث 6: 4؛ الرب الهنا واحد). نفهمها هنا كلامًا حول ألوهيّة المسيح. لهذا رأى فيها كيرلس الاسكندراني وتيودوريتس القورشي، وامبروسيوس (الايمان 5/1: 25) كلامًا حول وجود المخلص مند الأزل. رج 1: 10؛ رؤ 13: 8. وهناك رأي ينطلق من السياق. ((أمس)) (إختس)، ((اليوم)) (سيمارون). رج خر 5: 4_ 2؛ صم 15: 20؛ سي 38: 22؛ 1 مك 9: 44. فيسوع الذي عاش في فلسطين، ومات وقام (أمس) هو نفسه حاضر اليوم مع المدبّرين الذين ينقلون كلمة الله (آ 7؛ 2: 3). هو المخلّص ووسيط العهد الجديد بصلبه وموته وقيامته، هو اليوم حاضر بالنسبة إلى قرّاء الرسالة، وسيظل كذلك إلى الأبد (أيوناس، آ 21؛ 6: 20؛ 7: 17). فهو الجالس عن يمين الله (4: 14). مبدئ إيماننا ومكمّله (12: 2). هذا يعني أن موضوع الايمان لا يتبدّل، ونحن نتعلّق به ((اليوم)) (3: 15).
نجد هنا رأيين. الأول تحدّثنا عنه، وهو يدلّ على استمراريّة عمل المسيح: هو هو أمس واليوم وإلى الأبد. وهناك رأي آخر يقرأ الآية كما يلي: يسوع هو المسيح. عندئذ يكون التشديد على حياة المخلّص الأبّدية، لا على موضوع الايمان. فالانسان يسوع الذين وُلد في بيت لحم ومات على أيام بيلاطس البنطي هو المسيح حقًا (أع 2: 36؛ 9: 22؛ 18: 5، 28؛ 1يو 2: 22؛ 5: 1). إن هذه العبارة الايمانيّة هي التي علّمها المدبّرون، في وجه ((التعاليم المتنوّعة والغريبة)) (آ 9) ، وهي قريبة ممّا في 1 كور 2: 2 (لا أعرف بينكم غير يسوع)؛ 16: 2؛ رؤ 22: 20 (مرانا تا: تعال أيها الرب يسوع. أو مران أتا: جاء ربنا).
تشير آ 9أ إلى تعاليم متنوّعة ترجع في معظمها إلى مناخ يهودي، وتهدّد أرثوذكسيّة الجماعات المسيحيّة (أع 10: 29 - 30؛ غل 1: 6 - 7؛ أف 4: 14؛ 5: 6؛ كو 2: 8، 18 - 23...). لهذا، أضاع عدد من المسيحيين إيمانهم. فجاء الكاتب يحذّر قرّاءه أن لا يحيدوا عن الطريق القويم (بارافارو، انجرّ، مال، حاد، بدّل، شوّه، رج يهو 12؛ باراريو، 2: 1). الخطر حاضر الآن وهو ملّح (الأمر المجهول). ولا نستطيع أن نحفظ نفوسنا بدون قلب (إرادة) قويّ ومستقيم. نجد هنا ((كردويا)) و((بستيس)) كما في 10: 22. ((كالوس))، حسن، جميل، رج روم 14: 21؛ 1 كور 7: 1؛ جدير (1تم 1: 8). الله وحده يعطي (الموهبة السماويّة؛ 6: 4) ثبات (بابايوس1كور 1: 8؛ 2 كور 1: 21؛ كو 2: 7) القلب، ويربط المؤمن بيسوع المسيح. هي نعمة (خاريس) من لدنه تعالى.
في آ 9 ب كلام عن الأطعمة. هناك نوعان من المؤمنين: من يطلب الثبات في الحياة المسيحيّة في نعمة روحيّة، ومن يطلب الخلاص في ممارسات خارجيّة، ولا سيّما على مستوى الطعام. هناك من يؤخذ بتعاليم (ديداخايس) غريبة (كسانايس). ولكن تعدّدها، تنوّعها (بويكيلايس)، يدلّ على أنها غير ثابتة. نجد هنا أناسًا يبحثون عن ينبوع جديد لحياتهم الدينيّة ((بروماتا)) (أطعمة). هي ممارسات نسكيّة كما في روم 14: 15، 20؛ 1تم 4: 3؛ كو 2: 16 ،21 - 22. في الواقع، تُستعمل هذه اللفظة للتمييز بين أطعمة طاهرة وأطعمة نجسة (لا 11: 34؛ 1 مك 1: 65). وهكذا نكون أمام عودة إلى الممارسات اليهوديّة التي خسرت كل قيمتها مع النظام الجديد الذي أسّسه المسيح. قد يشير الكاتب إلى مشاركة في أكل حمل الفصح أو ذبيحة السلامة (لا 19: 5 - 6؛ 22: 29). أو إلى التمييز لدى اليهود بين طعام وطعام. ولكن كل هذه الممارسات لا تنفع من أجل تقديس المؤمنين (9: 10؛ رج 1 كور 8: 8). غير أن بعضهم يعود إليها لأنها منظورة. أما تلميذ المسيح الذي يعود إليها، فهو لا ينتفع في شيء، بل هو ينحدر عن تعليم الخلاص ليعود إلى الممارسات الموسويّة. هل استطاع الحبر اللاوي أن يؤمّن مغفرة الخطايا له ولشعبه؟
ثانيًا: نخرج للقاء يسوع (آ 10 - 13)
* عبادة في الخيمة الموسويّة (آ 10 - 11)
ذكرُ الطعام المهمّ جدًا لليهود من الوجهة الدينيّة، يدفع الكاتب لأن يُسند إرشاده الاخلاقي ببرهان جدليّ (آ 10 - 16)، فيعود مرّة أخرى إلى موضوع الرسالة الرئيسي: التعارض بين التدبيرين. ((إخومن)). لنا. هم لهم، ونحن لنا (رج مجامعهم، الغائب الجمع في مت، أي مجامع اليهود). اليهود لهم احتفالات فخمة. أما اليهود المهتدون إلى المسيحيّة فطقوسهم فقيرة: لا طقوس ذبائحية، لا مشاركة في الأطعمة، لا أمور خارجيّة تلفت النظر. ماذا يبقى من الدين؟! هذا ما ذكّرهم به اليهود الذين لم يهتدوا. ولا ننسى الحرم الذي أصاب من يعترف بأن يسوع هو المسيح (يو 8: 22). فأجاب الكاتب: ما لنا أفضل ممّا لهم. لنا مذبح خاص بنا، وقيمته رفيعة (4: 14؛ 8: 1، عظيم كهنة يجلس عن يمين الله)، أما اليهود فلا يشاركون في ذبيحة التكفير. نحن نشارك في الذبيحة الوحيدة التي تكفّر الخطايا. أما هم فلا. وهكذا تشكل آ 10 - 12 توازيًا تناقضيًا بين عبادة العهد القديم وعبادة العهد الجديد: لنا، ليس لهم. دم (هايما)، حيوانات (زوون). سكيني (خيمة). ((تيسياستيريون)) (مذبح). وهكذا يبدأ التقابل النمطيّ بين الظلّ والحقيقة.
((سكيني)) (8: 5؛ 9: 2 ،3، 8). المسكن، الخيمة الموسوية، الهيكل. وفي النهاية، مجمل شعائر العبادة الماسويّة. خدّامه هم الكهنة اليهود (لاتروو = لايتورغاين، خدم الذبيحة. لا يقوم بالعمل سوى الكهنة، 8: 5؛ 9: 9؛ 10: 2؛ رج حز 45: 4). وحدهم يستطيعون أن يأكلوا من الذبائح التي نحروها (1كور 9: 12 - 13). وهكذا يرتبط الأكل والذبح ربطًا وثيقًا (1كور 10: 18)، إذا عدنا إلى ((إخومن)) (لنا) و12: 28، نفهم أن بني اسرائيل كانوا يشاركون في عبادة مركّزة على الهيكل. هناك مقابلة بين ((خدمة المسكن)) و((خدمة الله))، بين خدمة شيء وخدم شخص حيّ، خدمة الاله الحيّ. تدل الخيمة على ما هو مؤقت وناقص. وهي تُعارض المدينة ذات الأسس (11: 9؛ رج 9: 11، 24) ومقام الله في السماء (12: 22ي). تدلّ هنا على النظام الموسوي الذي زال (8: 5؛ 9 - 21)، كما يزول الظلّ أمام الحقيقة.
((تيسياستيريون)) يقابل ((سكيني))، ويدلّ على قلب العبادة الجديدة. المسيح المذبوح (هناك من تحدّث فيما بعد عن الافخارستيا لأنها ذبيحة ولكنّنا أمام معنى متفرّع). تدلّ آ 11 - 12 على أن الكاتب ينظر إلى ذبيحة الصليب الذي هي الذبيحة الوحيدة التي تعرفها المسيحيّة. فالمسيح الفادي بدمه المراق على الصليب، اجتاز ((المسكن السماوي)) (9: 11)، اجتاز الحجاب السماوي (10: 20)، فنضح بدمه المذبح الذي هو جسده. فالجسد يتماهى مع المذبح.
((لا يحقّ أن يأكلوا منها)). هنا نتذكّر الوليمة المقدّسة التي تتبع الذبيحة: فمن أكل من لحمها، أخذ ثمار الذبيحة (ولكن أي ثمرة من هكذا ذبيحة). صار مشاركًا (1 كور 10: 18)، صار له نصيب (1كور 9: 13). بما أن للمسيحيين مذبحًا، فهناك ذبيحة وطعام مقدّس. وحين يأكلون (مت 26: 26؛ يو 6: 50ي؛ 1 كور 11: 29)، يأخذون ثمار الفداء، يشاركون في ذبيحة المسيح (3: 14). هكذا نكون في إطار الافخارستيا مع ((فاغاين))، ((سوماتا))، ((تيسياستيريون، أكل، جسد، مذبح. بالايمان تتمّ المشاركة في الذبيحة كما قال تيودوريتس، ويقابل الكاتب بين ذبيحة المسيح التي نأكل منها، وذبيحة يوم كيبور. لا يحق. لا امكانيّة (اكسوسيا). وهكذا نصل إلى الفكرة الاساسيّة: لا يحقّ للمشاركين في الذبائح الموسويّة (مسيحيون تراجعوا) أن يشاركوا في ذبيحة المسيح، ولا أن يقطفوا ثمارها من مشاركة في الفداء وتطهير من الخطايا واقتراب من الله.
وتتوسع آ 11ي في التفسير التيبولوجي، النمطي، فتقابل بين ذبيحة المسيح والاحتفال بعيد التكفير (9: 12 ،14، 24 - 26). فالحيوان الذي يُنحر أمام المذبح، يؤخذ خارج المحلّة ويُحرق (لا 16: 27. هي المرة الوحيدة يُستعمل ((زوون)) لتدلّ على حيوانات الذبائح، في البيبليا). نقابل ذبيحة ((الحيوان)) مع ذبيحة يسوع. إلى أي مستوى يقف العهد القديم، وما أتعس المسيحيين الذين يعودون إليه!
* دم يسوع (آ 12 - 13)
قدّم المسيح دمه ليطهّر (1: 3) الشعبَ الجديد ويقدّسه (9: 12 - 14: هاغياسي، 10: 10؛ 12: 14؛ تي 2: 14). وهكذا حقّق طريقةَ الاحتفال بيوم التكفير. ((ديو كاي))، لذلك، لهذا السبب. لا بدّ من تتميم هذه الصورة النبويّة التي تجد حقيقتها فيه. وهكذا كان موته تكفيريًا (باسخو، تألم، مات). توقّف الكاتب فقط عند الدم، وما توقّف عند نحر الذبيحة خارج المحلة. بل اكتفى بأن يقول إن يسوع مات خارج باب المدينة، خارج أورشليم (وهو أمر تاريخيّ). في آ 11 قال: ((بارامبوليس)) (المحلة). وهنا ((بيليس)) (الباب). لم نعد أمام الخيمة التي تنتمي إلى نظام عابر، بل أمام المدينة الثابتة، أورشليم. هناك نُصب إلى الأبد (آ 8) مذبحٌ يأكل منه المسيحيون (آ 10).
في آ 13 انطلق الكاتب من تحديد جغرافي يتعلّق بصلب يسوع (يو 19: 20)، ففسّره في معنى ينطلق من الحرفيّ إلى الروحيّ. ((لذلك)) (توي نين، رج لو 20: 25). انطلاقًا من ذبيحة المسيح المقدسة وظروفها، على المسيحيين أن يخرجوا حالاً من المحلة (إكسارخوماي، صيغة الحاضر، 3: 16؛ 11: 8). أي يعتبرون نفوسهم منفيّين في هذا العالم (آ 14) الذي هو أرض الخطيئة (كيرلس، الذهبي الفم). وبالأخص يخرجون من نظم الشعب القديم (تيودوريتس)، ويتخلّون عن ممارساته الطقوسية وعبادته الأرضيّة (آ 9ي) . فموت يسوع خارج المدينة يعني أنه لم يعد من العالم اليهوديّ وتدبيره. غاب كل تضامن بينه وبين الذين ظلوا متعلّقين (أو عادوا إلي) بالمجمع. هنا نفهم كلام يسوع في خطبة خبز الحياة: ((ما من أحد يجيء إليّ إلاّ إذا اجتذبه الآب الذي أرسلني)) (6: 44). ويبدو أن الخروج من المدينة، يدلّ على الخروج من هذا العالم والصعود إلى السماء. وبما أن المسيحيين يتّحدون به، فقد استبعدوا من الممارسات الموسويّة، ودخلوا به إلى الله. نقرأ ((إكسارخوماتا)) (لا ((فوغاين)) هرب) الذي هو عمل إرادي به ينفي الانسان نفسه، يبتعد.
إن قطع كل رباط ديني مع الماضي اليهودي هو شرط سلبي لكي ننضمّ إلى المسيح الذي دخل المعبد السماوي وأقام فيه (المعبد الأول كان خارج المحلة، خر 33: 17). فموضوع الرجاء المسيحي هو كله في اللامنظور، في السماء، في المستقبل. دخل المسيح كـ ((ارخيغوس)) و((برودروموس))، ونحن نتبعه في طريقه. ولكن هذه الطريق، التي هي في الواقع طريق المنفى، لا تتمّ بدون تجرّد مؤلم. حمل المسيح عاره، والمسيحيون الذين يتركون العبادة اليهودية، يرفضون المساومة (غل 5: 11) والتضامن مع الذين مارسوا معهم طقوسهم، فيحملون هم أيضًا عار المسيح (11: 26؛ 12: 2، فارو، أي أخذ على عاتقه، اتخذ).
تلك هي خاتمة رسالة تتوجّه إلى يهود اهتدوا إلى المسيح وها هم يرتدّون عن المسيح. ليقتنعوا بأن العهد القديم عابر ويتفوّق عليه العهد الجديد مع ذبيحته التكفيريّة التي يقدّمها يسوع المسيح الحبر الجديد. فهل هم مستعدون لأن يقطعوا كل رباط ديني مع اسرائيل ويهربوا إلى المدينة السماوية. غير أن هذا الهرب يعني ((منفى)). هو منفى بالنسبة إلى العالم. هو خروج من المحلة، من الباب. ولكننا لن نكون وحدنا. فحبرنا أيضًا خرج من الباب، ونحن نسير وراءه حاملين عاره.
ثالثًا : المدينة الآتية (آ 14)
هنا يقدّم الكاتبُ الأساسَ الذي يربط هذا التفوّق بنهاية الأزمنة. فالطقوس الموسوية ترتبط بهذه الأرض. أما ذبيحة المسيح فتنظر إلى المدينة الآتية. أجل الرجاء يقدّم الدافع لعيش الشجاعة المسيحية، ويقويّ المؤمنين في الألم والتجرد والاضطهاد بفضل يقين يقول لهم إن وطنهم الحقيقي وموضع الراحة هو المدينة السماوية (فل 3: 20). نحن هنا أمام قمّة من قمم الرسالة مع التعارض بين سيناء وصهيون (12: 18 - 22)، بين عهد وعهد، بين عبادة ملموسة وعبادة روحيّة. كل محن الحياة الحاضرة عابرة (12: 27)، فلماذا نهتمّ لها؟ نتعلّق بما لا يتبدّل، بصهيون المقدّسة (11: 10؛ 12: 22). إن الفرق بين مدينة ومدينة، يفرض اختلافًا في تصرّف سكان كل مدينة: هم يتركون مدينة كي يستطيعوا الدخول إلى الأخرى. مع تدمير أورشليم، فهمَ المؤمنون أن ليس لهم على الأرض مدينة باقية. لهذا، لم يتعلّقوا بأورشليم الأرض، بل تطلّعوا إلى أورشليم السماويّة. هذا يعني أن المسيحيين، شأنهم شأن الآباء، هم مسافرون ولا وطن لهم (11: 13 - 16). وهم يسيرون وراء المسيح نحو المدينة الآتية. في 10: 34 فهم المسيحيون أين هي ثروتهم الحقيقيّة، كما فهموا في 4: 11 الراحة التي يقدّمها الله لهم، والتي لم يستطع بنو اسرائيل أن يبلغوها.
رابعًا: ذبيحة الحمد (آ 15)
هذا لا يعني أن اليهود الذين اهتدوا إلى المسيح لم يعد لهم ذبيحة يقدمّونها لله. بل عليهم أن يؤدّوا له عبادة دائمة، ولكن عبادة روحيّة. يتكوّن الرباط مع ما سبق بروحانية عب. فالمدينة الآتية أو أورشليم السماوية، هي المعبد الذي فيه يمارس المسيح وساطته الكهنوتية. ونحن نتقرّب منه في حياتنا على الأرض، حين نشارك في هذه الليتورجيا. وهكذا تستعيد آ 15 - 16 ما قيل في 12: 28 حول الحياة المسيحيّة: عبادة المسيح هي حياة من الايمان والمحبّة. نحن هنا أمام شميلة تعليمية وعمليّة، تشكّل في الوقت عينه ردًا على العالم اليهوديّ المأخوذ باحتفالاته الضخمة في أورشليم.
ماذا يقدم المسيحيون؟ ذبيحة الحمد (ز ب ح. ت و د ه) أو ذبيحة الشكر التي نرفعها إلى الله لأجل حسناته (لا 7: 11؛ مز 50: 14، 116: 17) ولا سيّما حين يكون المؤمن في خطر الموت (107: 22). طلب حزقيا من اللاويين أن يقدّموا ذبائح الشكر في بيت الرب (2 أخ 29: 31). وأعلن الله في مز 50: 23: ((الحمد هو الذبيحة التي تمجّدني، ومن قوّم طريقه أريه خلاصي)). ذاك هو وضع جماعة قدّسها المسيح، فسارت نحو المعبد السماوي (12: 22). اضطُهدت، وما كانت عبادتها مادية، بل تقدمة ضمير نقي وطريق مستقيمة (10: 22). لهذا تواصلت ذبيحتها (ديا بنتوس، في كل حين، رج 9: 26) عكس ذبائح تتكرّر في أوقات محدّدة في زمن العهد القديم. عبادة المسيحيين دائمة، وهي مشاركة في ذبيحة المسيح الفريدة. هي ثمرة (كربون) الشفاه (خايلايون، رج هو 14: 3)؛ ف ر ي. ش ف ت ي ن و. نبارك الله، ننشد اسمه (مز 54: 8)، ولا سيّما بعد النجاة. لا عبادة بعد الآن سوى العبادة الروحيّة. في هذا قال كيرلس: ((ويسأل سائل: أي نوع من الذبائح هذا؟ أجيب: هو الاعظم، هو الأقدس، هو الافضل)).
خامسًا: حياة ترضي الله (آ 16)
أجل، هذه هي العبادة الحقيقية، في خطّ تعليم الانبياء. قال الله بفم اشعيا: ((إذا بسطتم أيديكم للصلاة أحجب عينيّ عنكم. وإن أكثرتم من الدعاء لا استمع لكم، لأن أيديكم مملوءة بالدماء... تعلّموا الاحسان، اطلبوا العدل، أغيثوا المظلوم، أنصفوا اليتيم، حاموا عن الأرملة)) (1: 15 - 17). وهكذا تعود آ 16إلى آ 1 - 3 مع كلام عن المحبّة الأخويّة والاحسان. إذا كان المسيحيون يصبون إلى المدينة السماويّة، يُطلب منهم ((أوبويا)) (مراحدة بيبلية) أي الاحسان إلى إخوانهم بسخاء. و((كونيونيا)) (أع 2: 42؛ روم 15: 26؛ 2 كور 8: 4؛ 9: 3؛ ا تم 6: 18) أي مشاركة الآخرين في ما أعطاهم الله من خير. ويتذكرون بشكر، أن كل خير لهم إنما هو عطيّة من الله. وهم يدلّون على شكرهم حين تكون يدهم امتدادًا ليد الله مع إخوتهم. وهكذا لا تكون عبادتنا فقط عبادة الشفاه، بل عبادة تتجسّد في العمل اليومي. قال يوحنا الرسول: ((من كانت له خيرات العالم ورأى أخاه محتاجًا فأغلق قلبه عنه فكيف تثبت محبّة الله فيه)) (1 يو 3: 17).

ج - الخاتمة (13: 17): اطيعوا مدبريكم
تعود آ 17 إلى آ 7 مع الكلام عن مدبّري الجماعة. ((هيغومانويس))، مع اختلاف هام. في آ 7 ، كان كلام عن مدبِّرين حملوا كلمة الله وأنهوا حياتهم في الشهادة من أجل المسيح. لهذا ظلّت حياتهم نورًا للجماعة، وموتُهم مثَلاً. في آ 17، يشير الكاتب إلى المدبّرين الحاليين (وهو منهم). هم يتابعون أسلافهم. وكما أطاع المؤمنون السلف، ليطيعوا أيضًا الخلف. فكلاهما امتداد لعمل المسيح الراعي الصالح الذي هو وحده مدبّر نفوسنا، فيختار أناسًا يكون عملهم امتدادًا لعمله. فالكنيسة عيلة الله، وفيها تراتبيّة. من هنا، أهميّة الطاعة والخضوع للرؤساء. في هذا قال يسوع لتلاميذه: ((من قبلكم قبلني، ومن قبلني قبل الذي أرسلني)) (مت 10: 40). لهذا، كانت وظيفة المدبرين إيصال كلمة الله (آ 7)، وواجب المؤمنين أن يثقوا بكلامهم ويطيعوهم. ((بايتو))، اقتنع، خضع، صدّق، رج روم 2: 8؛ غل 5: 7 ، ((هيبايكو)) (مراحدة بيبلية، ولكننا نقرأها في اليونانيّة الدنيوية): خضع، قبل في الطاعة حقيقة تقدّم له. إن الايمان يأتي من كرازة مدبّرين نسمع لهم. والباعث على هذه الطاعة هو أن هؤلاء الرؤساء مسؤولون أمام الديّان (12: 3). هذا يعني من جهة أن الله كلّفهم بهذه الخدمة (هم وحدهم لا أصحاب التعاليم المتنوّعة والغريبة، آ 9)، وهم يتكلّمون باسمه. ومن جهة ثانية، أنهم يمارسون خدمة رهيبة بضمير واع. لهذا وجب عليهم السهر الدائم. رج ((أغريبنايو)): ظلّ سهرانًا، فارقه النوم (مر 13: 33؛ لو 21: 36؛ أف 6: 18؛ مز 127: 1). هذا السهر ليلاً ونهارًا، على مثال ما يفعل الرعاة، نفهمه بالنسبة إلى كنز استودعه الله للرعاة المسؤولين عن نفوس يقودونها إلى الحياة الابديّة (6: 19: 10 - 39).
كيف لا يحبّ المؤمنون مثل هؤلاء ((المدبرين))؟ كيف لا يبتهجون بإيمانهم الحي (3 يو 4)؟ وكيف لا يحزنون حين يرون كربهم (ستانازو، تأوّه، 2 كور 5: 2، 4؛ يع 5: 9)؟ ويظهر هنا كلام التهديد في الرسالة: لا تسمحوا أن يكون عملُهم صعبًا بسببكم، بسبب تمردّكم وعصيانكم. ساعدوهم لكي يقوموا بعملهم أحسن قيام، لكي يقوموا به بسرور، لأن الله يحبّ المعطي الفرحان. هنا نقرأ الذهبي الفم: ((لا يستطيع الطبيب الذي يحتقر مريضه، أن ينتقم منه، بل يبكي ويئن. وإن أنّ، انتقم الله له. فإن ربحنا الله إلى قضيتنا حين نبكي خطايانا، فكيف يجب بالأحرى أن نئنّ على وقاحة الآخرين واحتقارهم... فالأنين أكثر رهبة من الانتقام)).
حين يخضع المسيحيون للمدبّرين، يعيشون المحبّة تجاههم (1تس 5: 12 - 13)، ويتيحون لهم أن يمارسوا وظيفتهم بفرح. فعصيان المسؤولين في جماعة يحافظون فيها على الإيمان والسلام، يدمّر الحياة الروحيّة. استعمل الكاتب ((أليسيتالس)) (مراحدة بيبليّة) ليدلّ على حصاد بسيط جدًا. لن ينتفع المسيحيون إن هم رفضوا أن يسمعوا. أجل المسؤولية الرعائية خطيرة جدًا، قال الذهبي الفم في كتابه ((الكهنوت)) (6: 1). وكم يستطيع كل واحد منا أن يساعد المسؤولين.

2 - قراءة إجمالية
((أذكروا مدبّريكم، الذين كلّموكم بكلام الله. تأمّلوا في عاقبة سيرتهم واقتدوا بإيمانهم... إن يسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الدهور. فلا تنخدعوا (تنجرّوا) بتعاليم متنوّعة وغريبة، إذ بالنعمة يجدر بالقلب أن يثبت، لا بأطعمة لم تجد الذين استعملوها نفعًا)) (13: 7 - 9)
المدبّرون الذين سيُذكرون أيضًا في آ 17 ،24، والذين يطلب لهم الكاتب الاحترام، هم رؤساء الجماعة في الماضي وفي الحاضر. الاولون ماتوا. وهم يُذكرون بالخير. نالوا البشارة من الرب (2: 3) فحملوها إلى المؤمنين، حملوا إليهم كلام الله. علّموهم الأركان الأولى (5: 12). فليتذكّر القراّء الأيام السابقة (10: 32) التي فيها قبلوا هذا التعليم بحماس. ليتذكّروا كيف عاش هؤلاء المدبّرون وكيف ماتوا، فشابهوا الذين ذكرهم ف 11: بالايمان هابيل وأخنوخ ونوح وابراهيم وموسى... فما على المؤمنين إلاّ أن يسيروا في خطى معلّميهم الذين ساروا بدورهم في خطى الاقدمين، وشخصوا بأبصارهم إلى يسوع المسيح مبدئ الايمان ومكمّله (12: 2).
عاش المدبرون حياة الايمان، ووصلوا إلى المجد على مثال يسوع الذي مات وقام وهو الآن عن يمين الآب. فأسم يسوع هو ينبوع قوّة وتشجيع للمؤمنين في كل أجيالهم. وعمله هو هو أمس واليوم وإلى الأبد. هو بدأ وهو يكمّل. بدأ في المؤمنين العمل الصالح، وهو يكمّله في يوم ربّنا. بعد هذا، لماذا الخوف من النضال، ولماذا التعلق بامور لا طائل منها. صرخ الشعب العبراني حين كان في الضيق، في عبودية مصر. سمع الله ورأى. وإن الله الذي تجسّد وشابهنا في كل شيء وعرف محننا وآلامنا، أتراه لا يرى؟ أتراه لا يسمع؟ لو كان كذلك لشابه الاصنام. ولكنه الاله الحي، والحبر الرحيم الحاضر مع اخوته ليتشفّع من أجلهم.
ومع أن الاعتراف باسم يسوع حاضر في جماعة عب، إلاّ أن التعاليم الغريبة تكاثرت وتنوّعت فدلّت على أن المؤمنين لم يبلغوا بعد مرحلة النضوج، أنهم لم يزالوا متقلّبين (5: 11ي)، وأنهم يحتاجون إلى من يذكّرهم بأن يسوع هو هو. لم يكن نعم ولا. بل حياته كله كانت نعم إكرامًا لمجد الله (2 كور 1: 19 - 20). لهذا، نبّههم الكاتب أن لا ينخدعوا، أن لا ينجّروا بحيث يتراخون في سعيهم.
((إن لنا مذبحًا لا يحقّ للذين يخدمون المسكن (الخيمة، الخباء) أن يأكلوا منه، لأن الحيوانات التي يدخل الحبرُ المعبد بدمها، عن الخطيئة، تُحرق أجسادُها خارج المحلة)) (13: 10 - 11)
بعد الكلام عن أطعمة في إطار العالم اليهودي، نصل إلى ذبائح السلامة بشكل خاص. فيها كان يُسمح للكهنة بأن يأكلوا من لحم الذبائح (لا 4: 1ي). أما الذبيحة عن الخطيئة، فلا (لا 7: 1ي). وخصوصًا ذبيحة يوم التكفير (لا 16: 1ي). توقّف الكاتب عند هاتين الذبيحتين الأخيرتين، اللتين لايأكل منهما الكاهن ، فوصل إلى ذبيحة المسيح التي يشارك فيها المؤمنون من أجل التكفير عن خطاياهم. ولكن لا يشارك فيها غيرُ المؤمنين. وجعل في هذه الفئة مسيحيين عادوا إلى شريعة موسى: فهؤلاء لا يحقّ لهم أن يأكلوا.
((لذلك، يسوع أيضًا، تألّم خارج الباب، ليقدّس الشعب بدمه الخاص. ومن ثم، فلنخرج لنجيء إليه، خارج المحلة، حاملين عاره. إذ ليس لنا ههنا مدينة باقية، بل إنما نطلب الآتية)) (13: 12 - 14)
إن جثث الحيوانات التي كانت تُنحر على المذبح في يوم التكفير، كانت تُجعل خارج المحلة حسب لا 16: 27، وتُحرق كلها. المحلّة مقدسة. وخارجها غير مقدّس. لهذا وجب على الذي خرج من المحلة أن يتطهّر عندما يدخلها (لا 16: 26 - 28). انطلق الكاتب من هذا الوضع، فتحدّث عن يسوع الذي تألّم خارج الباب، خارج باب أورشلم، التي بدت كالمحلّة في البرية، في أيام موسى. إذن، ذهب يسوع إلى مكان ((نجس)) وهناك قدّم ذبيحة نفسه التامّة. فمن العجب أن يكون في هذا المكان غير المقدس، قدّس شعبَه بدمه الخاص. هذا مستحيل في نظر العهد الأول. هناك تضارب بين مفهومين. فموضع الجلجلة كان موضع النجاسة، لا موضع القداسة. ولكن حضور الله القدوس (7: 26؛ أع 2: 27) قدّس ما لم يكن مقدّسًا في السابق، وأدخل نظرة جديدة كل الجدّة.
حين تألّم يسوع خارج الباب، تماهى مع العالم في نجاسته. وساعة لم نكن نقدر أن نقترب من الله بسبب خطيئتنا (ونجاستنا)، اقترب الله ذاته منا في شخص ابنه الوحيد الذي جعل قداسته في متناولنا، في ((محلّة نجسة))، وأخذ خطيئتنا التي رفعها وكفّر عنها على الصليب. عبر رشّ الدم خارج الباب، قدّس شعبه (والقداسة هي إرضاء الله بعد أن ابتعدنا عن كل نجاسة وذنب)، وفرزنا للرب، بعد أن ابتعدنا بعصياننا وعقوقنا عن خالقنا (2: 11؛ 9: 13 - 14؛ 10: 10، 14).
ما يطلبه يسوع من المؤمنين هو كل شيء، وهو منطقي. فالخلاص الذي منحنا يسوع كان تامًا. فدى الانسان وأعاده إلى ملء كيانه، جسدًا ونفسًا وروحًا. وإذ منح فداءه، كان هذا الفداء ذبيحة نفسه التامة (روم 8: 32؛ 12: 1). فالصليب هو رمز الانفصال ورمز التكريس، بل إن الصليب هو أكثر من رمز. هو طريق الذين هم للمسيح. فالمعلّم قال للاثني عشر: ((لا تلميذ أعظم من معلّمه، ولا خادم أعظم من سيّده)) (مت 10: 24). وتابع ((ومن لا يحمل صليبه ويتبعني فلا يستحقني)) (آ 38). فعلى تلاميذ يسوع أن يذهبوا إلى خارج المحلة حيث الصليب موضوع، لأنه من العار أن يوضع في المحلة. هو انفصال عن حياة قديمة لم تولد من جديد، وهي تطلب قبول البشر في المحلة. وانفصال المسيح الذي احتُقر ورُذل وصُلب خارج الباب. وإذ نفعل هذا نعرف معنى ((حاملين عاره))، أي نشارك في عاره. إذا تماهى المسيحي مع المسيح وعاره، يستطيع أن يشاركه في آلامه ويتشبّه به في موته (فل 3: 10)، ويبذل حياته لربه ومخلّصه، مثل اسطفانس، ((خارج المدينة)) (أع 7: 58). مضى قراّء الرسالة إلى خارج المحلّة فشاركوا المسيح صليبه. ولكن الآن ضعُفت مقاصدهم، وحاولوا أن يعودوا أدراجهم منتظرين أن يجدوا داخل المحلة حياة أسهل وأكثر إكرامًا في نظر العالم.
((ولنقرّب به لله ذبيحة الحمد في كل حين، ثمرة شفاه تعترف باسمه. أما الإحسان والتعاون فلا تنسوهما، لأن الله يرتضي مثل هذه الذبائح. أطيعوا مدبّريكم واخضعوا لهم، لأنهم يسهرون على نفوسكم سهر من سيؤدّي حسابًا، حتى يفعلوا ذلك بسرور لا بكرب، لأن هذا غير نافع لكم)) (13: 15 - 17)
المسيح هو وسيطنا الوحيد بفضل ذبيحته كفدية عن الخطأة (9: 15؛ 1تم 2: 5 - 6). ((به)) (في بداية الجملة)، بشكل بارز، لا بفعل طقس كهنوتي يرتبط بنظام قديم، ولا بفعل شخص أو نظام، نقدّم الذبائح لله. فأعضاء الجماعة المسيحيّة يكوّنون كهنوتًا مقدسًا واجبه تقديم الذبائح الروحيّة التي يقبلها الله بيسوع (1 بط 2: 5). وهذه الذبائح تحدّد على أنها مديح لله، خدمة تشعر مع آلام الغير وحاجاته. عبادتنا نشيد شكر لله. وهي أيضًا أعمال محبّة، كما قال بولس: ((أناشدكم أن تجعلوا من أنفسكم ذبيحة حية مقدّسة مرضّية عند الله. فهذه هي عبادتكم الروحية)) (روم 12: 1). وهي ذبيحة تقدّم كل حين، لا حسب الظروف والأوقات.
وننتقل إلى آ 17. كان قد طلب الكاتب من قرّاء الرسالة أن يتذكّروا ايمان مدبّريهم الذين غابوا، ويقتدوا بهم (آ 7). وها هو يطلب منهم الآن أن يطيعوا مدبّرين ما زالوا يعملون في وسطهم. مثلُ هذا التنبيه يعتبر أن للكاتب سلطة الرئاسة على هؤلاء ((العبرانيين)). ونعترف أن الجماعة التي يكتب إليها، لا تؤدّي لرؤسائها الطاعة المتوجّبة لهم. قد يكون وصل تقرير إلى كاتب الرسالة، أو كتب إليه أحدُهم حول الوضع الخطير الذي نما وسط الذين يرئسهم. هناك عمل المسؤول وعمل الجماعة من أجل العمل الكنسي. ((تخطيط)) المسؤول وجواب المؤمنين في الطاعة والخضوع.
إن سلطة هذا ((المدبّر)) ليست تسلطًا. هو يستحق الطاعة والاكرام. هو انسان يسهر، ولا يهتمّ بنفسه (لا ينام الليل). إنه من أجل رعيته، واع لواجبه كل الوعي، وبعيد كل البعد عن الأنانيّة. ثم هو يمارس خدمته بالنظر إلى الأبدية. هو يؤدّي حسابًا عن وكالته. ولكن المؤمنين سيؤدّون هم أيضًا حسابًا عن الطاعة التي بها تجاوبوا مع مدبّريهم. الرب يهتم بالرعاة ويهتمّ أيضًا بالقطيع الذي يتبارك بجدّية رعاته وأمانتهم. فليساعدهم المؤمنون لكي يقوموا بعملهم بفرح، لا بحزن. هنا نتذكَّر كلام يوحنا: ((لا فرح أعظم من أن أسمع أن أولادي يسلكون في الحق)) (3يو4). وسيقول بولس لأهل فيلبي: ((أنتم فرحي وإكليلي)) (4: 1). أيستطيع الكاتب أن يقول الكلام عينه لأولئك الذي أرسل إليهم هذه الرسالة. إن كان كذاك يكون قد وصل إلى هدفه.

خاتمة
ذاك كان المقطع الأخير في القسم الخامس الذي موضوعه: السبل المستقيمة. فعلى الكاتب أن يحذّر حتّى نهاية عظته من نظرة خاطئة إلى الدين المسيح، ويقدّم نظرة صحيحة. فالذين يعودون إلى النظام القديم يُخطئون. يريدون أن يميّزوا بين طعام وطعام. ينسون أن ذبيحة المسيح وضعت حدًا للذبائح الموسويّة. إذا كانوا يتطلّعون إلى المدينة الآتية، فلا يمكن بعد أن تكون ذبيحتهم تيوسًا وعجولاً، بل عبادة ترتبط بذبيحة المسيح، عبادة روحيّة تقوم في الاعتراف باسم الربّ وعيش حياة يسيطر عليها الاحسان والتقوى. هذا ما تعلّموه من مدبّريهم الاولين الذين ختموا حياتهم بسفك دمائهم. وهذا ما يجب أن يتعلّمه المؤمنون اليوم من مدبّرين يسهرون عليهم بفرح من أجل فائدتهم. غاب السلف، وها هو الخلف يتابع الرسالة. في الواقع، لنا أمام رسالة بشرية تموت بموت البشر، بل أمام رسالة إلهيّة يكفلها المسيح الذي لا يشبه أحبار العهد القديم المائتين ، بل هو هو أمس واليوم وإلى الأبد. فلا يبقى على المؤمنين سوى الخضوع لهؤلاء المدبّرين، لأن الخضوع لهم يعني الخضوع لمن أرسلهم، يسوع المسيح، الذي هو راعي الرعاة وراعي نفوسنا.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM