الفصل الأربعون: الكلمات الأخيرة

 

الفصل الأربعون

الكلمات الأخيرة
13: 18 - 25

هنا تنتهي العظة وتبدأ ((رسالة)) صغيرة توصل العظة إلى القرّاء. ما أورد الكاتب في بداية عب التعابير المعروفة في الرسائل (من بولس ... إلى ...)، بل بدأ حالاً كلامه كأنه أمام مقال أو عظة طويلة: بعد أن كلَّم الله آباءنا، ها هو يكلّمنا. لا شكّ في أن المسيح صعد إلى السماء، وجلس عن يمين الجلال. ولكنه ما زال يُكلّمنا بواسطة مدبّرين، بعضهم مات، والآخر ما زال حيًا يسهر علينا ويؤدّي حسابًا عن وكالته لدى ربّنا.
وهذه الآيات التي ندرس، نقسمها في ثلاث. طلب الصلاة (13: 18 - 9). نهاية الخطبة (آ 20 - 21). سلامات وأخبار (آ 22 - 25).

1 - تفسير الآيات

أ - طلب الصلاة (13: 18 - 19)
اعتاد بولس أن يبدأ رسالته فيصلّي من أجل قرّائه ويطلب منهم أن يصلّوا معه. هنا ترد الصلاة في النهاية: صلّوا لأجلنا. فالحالة صعبة. وقد يكون ((المدبِّرون)) (ومنهم كاتب الرسالة) في ضيق. أيكون الكاتب في السجن ليقول: لأردّ إليكم؟ هكذا رُدّ بطرس ويوحنا، فرجعا إلى رفاقهم، وأنشدت الجماعة المزمور الثاني وطبّقته على المسيح وعلى الكنيسة (أع 4: 23 ي).
طلبُ الصلاة أمر طبيعي. هكذا يدلّ القرّاء على عرفان جميل تجاه المدبّرين، كما يعبّرون عن المحبّة الأخوية والوحدة بين المؤمنين، تعبيرًا عن إيمان يعيشونه. طلبُ الصلاة أمر معروف في الرسائل، ونحن نجده مثلاً في 1 تس 5: 25 (صلّوا لأجلنا أيها الإخوة). 2 تس 3: 1 (وبعد أيها الاخوة، صلّوا لأجلنا)؛ روم 15: 30؛ أف 6: 18؛ كو 4: 3. نجد هنا صيغة الأمر (بروسوخاستي)، وهذا ما يدلّ على الاستمراريّة: واصلوا الصلاة. لماذا الصلاة؟ بما أن المدبّرين يقدّمون حياتهم مثالاً، فالصلاة لأجلهم تدلّ على ثقة المؤمنين بهم وعلى تعاطفهم معهم. هذا ما يقول بولس لجماعة كورنتوس: ((وستعينوننا أنتم بصلواتكم. فإذا باركنا الله (استجابة لصلوات كثيرين من الناس)، فكثير من الناس يحمدون الله من أجلنا. وما نفتخر به هو شهادة ضميرنا. فهو يشهد لنا بأن سيرتنا في هذا العالم، وخصوصًا بينكم، هي سيرة بساطة وتقوى)) (2كور 1: 11 - 12). ((بايتوماتا)). الكاتب يثق، شأنه شأن بولس، بأنه تصرّف بضمير صالح. اذن، ستكون صلاة المؤمنين مسموعة، لأن استعدادات الراعي حاضرة.
عمل ((المدبّرُ)) ما في وسعه. وهو يطلب الصلاة. وأشار إلى ضميره (سينايديسيس) الصالح (كالين، الحسن، الجميل). كما أشار إلى سلوكه في ما بين الجماعة (أناسترافوماي، هـ ل ك، أى تصرّف تصرّفًا خلقيًا). أترى يبرّر سلوكه تجاه انتقادات وصلت إليه (رج 1كور 4: 1 - 5)، أو لأنه تأخّر في المجيء، أو لأنه بدّل مشاريعه (رج 1تس 2: 18؛ 2كور 1: 17 ي)؟ نجد ((سينايديسيس)) مع ((أناستروفي)) في 1بط 3: 16، 17: نحن أمام صدق الضمير وموقف طيّب تجاه القريب. هذا رأي. وقد يكون هذا الكلام اعترافًا من المدبّر في نهاية حياته على مثال بولس الذي تحدّث عن شهادة ضميرنا (2كور 1: 12). وأعلن في 2تم 4: 6 (هو أو تلميذه): ((جاهدتُ الجهاد والحسن وأتممت شوطي وحافظت على الايمان)).
في آ 19 نجد باعثًا آخر على الصلاة، يدلّ على رباط وثيق بين الكاتب وقرّائه، كما يدلّ على الخطورة التي يعيش فيها. وإن هو طلب ما طلب، فلأنه أحد مدبّري الجماعة. باراكالو: حرّض، طلب، ناشد. ثم ((ابوكاتيستاتو)) يدلّ على شخص أبلى من مرض، من حمّى (مت 3: 5؛ 8: 25)، أو عاد إلى حالة سابقة (مت 12: 13؛ 17: 11؛ أع 1: 6؛ رج إر 16: 15: لأني سأعيدهم). أجل، لا يستطيع الكاتب أن يعود إلى الجماعة. فالصلاة تساعد على تجاوز عوائق بحيث يتمّ السفر بسرعة (تاخيون). إن لم يكن هو في السجن، فربّما تيموتاوس الذي قد يُطلق (آ 23). والكاتب ينتظره ليمضي معه إلى جماعته التي أحبّها.
ب - نهاية الخطبة (13: 20 - 21)
((إله السلام)). رج 12: 11، 14. ولكن مناخ الجماعة ليس مناخ سلام: من الخارج، اضطهاد. وفي الداخل، بلبلة بسبب التراخي واليأس ومحاولات الارتداد عن الايمان. ولكن مثل هذا الدعاء نقرأه في عدد من الرسائل (1تس 5: 23؛ روم 15: 23؛ 16: 20)، فيدلّ على أن الله هو إله الخلاص الذي يصالح نفسه مع الخطأة، ويقطع معهم العهد الثاني في دم المسيح (كو 1: 2). والتلميح إلى قدرة الله التي أقامت المسيح، يدعو المؤمنين إلى الشجاعة والتغلّب على الخوف والتراخي والضجر، يدعوهم إلى الصبر والثبات (11: 19؛ 12: 2 - 3؛ رج 1: 3؛ 2: 9 ي). فعل ((أناغو)) يعني قاد من أسفل إلى أعلى، رفع من جديد، بنى من جديد. قد يدلّ على الصعود (أف 4: 9 - 10) وانتقال من الموت إلى السماء كما يقول انجيل بطرس (19). قابل الكاتب مجد يسوع الحالي وحياته في معبد السماوات، مع آلامه وموته (2: 9 - 10). طبّق هذا الفعلُ على قيامة المسيح في روم 10: 17.
في العهد القديم، يقال أن الله يُميت ويُحيي، يُحدر (كاتاغو) إلى الجحيم ويُصعد (1صم 20: 6؛ طو 13: 2؛ حك 16: 13). كما أن فعل ((أناغو)) يُستعمل للكلام عن الخروج من مصر: أصعد الله شعبه، ونجّاه من العبوديّة والخطيئة (خر 33: 12، 15؛ عد 14: 13؛ 20: 5). وقد يكون الكاتب عاد إلى أش 63: 11: ((أين الذي أصعد شعبه من البحر ورعاهم كغنمه، وجعل في وسطهم روحه القدوس؟ أين الذي سيّر عن يمين موسى ذراعه المجيدة...))؟ إن لقب الراعي الذي أعطي لموسى قد أعطته عب (ومثلها 1بط 2: 5) للوسيط الجديد، للقائد (ارخيغوس) الجديد في شعب الله. سمّى العهد القديم الله الراعي (مز 23: 1؛ رج مز 79: 13؛ اش 40: 11؛ حز 34: 21 ي)، ليدلّ على عنايته وسهره واهتمامه. وسمّى المسيحَ أيضًا (حز 37: 24؛ زك 11: 4 ي). طبّقه يسوع على نفسه (يو 10: 10 - 17؛ رج مت 25: 32؛ 26: 31). قال بطرس: ((متى ظهر رئيس الرعاة...)) (ارخيبويمين، 1بط 5: 4). أما عب فقالت: الراعي (بويمين) العظيم (ماغاس). رج 4: 14 (ارخياروس ماغاس، الحبر العظيم)، حيث يرتفع المخلّص فوق موسى وجميع المدبّرين الذين استشهدوا، وما قاموا بعد (آ 17).
((إن هايماتي)) (في دم). تعود إلى ((أناغاغو))، فتدلّ على أن قيامة المسيح (لا تُذكر إلاّ هنا في عب)، ارتبطت بالآلام. تألّم يسوع فاستحقّ القيامة. أو بالأحرى، كانت آلامه وموته تقدمة ذاته للآب. فكانت القيامة جواب الآب الذي أعلن أنه قبل ذبيحة ابنه. إن يسوع القائم من الموت، دخل السماء، والحبرُ قدسَ الأقداس، بدم ذبيحته (9: 25). ولكن عبارة ((في دم عهد)) تعود إلى زك 9: 11 فتدلّ على دمّ الذبائح الذي له يكرّس العهد المسيحاني. اذن نفهم أن المسيح صار، بفضل ذبيحته (آ 11، يسوع المسيح) الراعي العظيم والوسيط الفاعل في العهد الجديد. فبفضل استحقاقات الجلجلة، ومنذ دخوله إلى المعبد السماوي، نال النعمة وأفاضها (12: 15، 24)، فقدّس شعبه (13: 12)، وغذّاه، وقاده إلى المرعى، وصار ربَّه إلى الأبد (أع 20: 28). نقرأ هنا ((ايونيو)) التي تقابل بين عهد وعهد. عهد مؤقت مع موسى الذي مات قبل أن يُدخل شعبَه إلى أرض الموعد. وعهد أبدي مع المسيح الذي هو حيّ إلى الأبد، ويقود أخصّاءه إلى مدينة الله. فالعمل الذي بدأه سوف يتمّه مهما كانت الصعوبات، بشفاعته المتواصلة من أجلنا (7: 25)، فيوصله إلى النصر (10: 13).
ونصل إلى آ 21. إذا كان الله أقام يسوع من بين الأموات، كالراعي، فالمسيحيّون يتأكّدون أن قدرته وعنايته لا تتركانهم أبدًا. لهذا يطلب منهم الكاتب أن يفعلوا ما في وسعهم. ((كاتارتيزو)). رج 1بط 5: 10؛ 2تم 3: 7): رتّب، نظّم (10: 5؛ 11: 3). ((رقّع)) (مت 4: 21). قد يكون هنا تلميح إلى وضع الجماعة التي تحتاج إلى إصلاح: يعيدها الربّ إلى حماسها الأول، فتفعل الخير (الذي هو عطيّة من الله). وهكذا تُتمّ مشيئة الله (10: 36؛ رج أف 2: 10: الأْعمال الصالحة التي أعدّها الله؛ فل 2: 13: الله يفعل الارادة والعمل). أجل، الله هو الذي يعمل في النفس ما يجعلها مرضيّة لديه (1تم 2: 4؛ 5: 4). هذه هي النعمة. اواراتوس: ما حسن لديه. رج: هـ ل ك: سلك مع الله وحسن لديه (اواراستيو). رج تك 5: 22، 24؛ 6: 9؛ 17: 1؛ 24: 40.... النعمة تجعل الانسان يُسرّ الله، كما تجعله موضوع حبّ الله (حك 4: 10، 14). هدفُ المؤمن الأساسي هو أن يرضي الله (10: 6؛ 2كور 5: 9؛ غل 1: 10؛ أف 5: 10). يطلب من الله أن يعرّفه ارادته، فيعرّفه عليها، بواسطة رسله (1تس 4: 1). وفي الواقع، حين يعمل الانسان بمشيئة الله يكتشف شيئًا فشيئًا هذه المشيئة.
وعطيّة النعمة هذه تصلنا بيسوع المسيح، الوسيط الوحيد. استحقّها بدمه، وهو ما زال يطلب لنا من سمائه تشفّعًا من أجلنا. نلاحظ هنا التقابل بين عمل الله (بوييساي، الله يجري، يعمل ما يحسن لديه) وعمل الانسان (بويون، عاملين بمشيئته. هو الفعل بويايو في الحالين). ويسوع المسيح، الاله الانسان، هو الذي يجمع هذين العملين، عطيّة الله وجواب الانسان. لهذا، تتوجّه إليه المجدلة الأخيرة: له المجد إلى دهر الدهور (2تم 4: 18؛ 1بط 4: 11؛ 2بط 3: 18). كل هذه الرسالة تحدّثت عن الابن، وها هي تنتهي برفع المجد إلى هذا الابن الجالس عن يمين الآب. ((آمين)) تنهي المجدلات في العهد الجديد.

ج - سلامات وأخبار (13: 22 - 25)
توجّه الكاتب إلى قرّائه ليوصيهم بما أرسله (أو ربما كتبه) إليهم. اقرأوا ما كتبتُ ((بإيجاز)). طلب (باراكاليو، سأل)، رج ((إروتو)). ((اناخو)). قبل، تحمّل، سمع بصبر، أعار سمعه. هناك بعض الهم لديه (آ 18). أتراهم لن يقرأوا؟ فالموضوع خطير وعرضة لجدال في نظرهم. فهناك بعض المؤمنين لا يقبلون بإلغاء الفرائض الموسوية إلغاء جذريًا كما فعلت عب. فالتعاليم غريبة (عن الانجيل) ومتنوّعة. أرسل كلام (لوغوس) الموعظة (باراكلسيس) ليثير الهمم المتراخية ويحثّ الجميع على الثبات في ما آمنوا به حين اهتدوا إلى المسيح. هي عظة عن يسوع المسيح، وسيطنا إلى النعمة الآن، ووسيطنا إلى السماء.
قد تدلّ لفظة ((بإيجاز)) على ما أضاف ((المرسل)) على الخطبة ((الطويلة)). وقد تدلّ على أن الواعظ حاول أن يوجز قدر الامكان (9: 5؛ 11: 32؛ رج أف 3: 12، ولكن الموضوع واسع جدًا. لهذا قال في 5: 11: ((لنا، في هذا الموضوع، كلام كثير وصعب الشرح)). لهذا، لم يتوقّف عند التفاصيل (9: 5) لضيق الوقت (11: 32).
((تيموتاوس)) (آ 23). رفيق بولس. يبدو أن القرّاء يعرفونه. هو ((أخ)) (أدلفوس) الكاتب. هو رفيقه في الرسالة، ورفيقه في الايمان. وربّما في السجن. نقرأ ((أبوليو)) (صيغة الكامل المجهول): أطلق بعد أن كان سجينًا (مت 27: 15؛ يو 19: 10؛ أع 3: 13؛ 4: 21؛ 5: 40؛ 16: 35؛ 17: 9). ((غينوسكاتي)) إعلموا (صيغة الأمر، غل 3: 7): خبر طيّب يوصله الكاتب إلى هذه الجماعة. هذا الكلام عن إطلاق سراح تيموتاوس يرسم المناخ الذي فيه دُوّنت عب.
وتنتهي الرسالة بالتحيّات العاديّة. هي قصيرة. ولا تتوجّه إلى الجماعة ككلّ. بل إلى مجموعة محدّدة. هذه الجماعة تحمل سلام الكاتب إلى المدبّرين وإلى الإخوة القديسين (فل 1: 1؛ 4: 21). أي إلى الكنيسة ككلّ. وترد السلامات، لا من الكاتب فقط، بل من الذين أيضًا من إيطالية. نحن هنا أمام افتراضين. إمّا كتبت الرسالة من رومة حيث يقيم الكاتب، فيرسل سلامات من رومة إلى المسيحيّين الذين أرسلت إليهم عب. وإمّا كتبت من كنيسة لا نعرف اسمها، تُقيم فيها حامية إيطالية. فأرسلت إلى رومة التي عرفت الاضطهاد وأدّت أعظم شهادة للايمان.
((النعمة معكم)) (آ 25). هكذا انتهت عب. وهكذا انتهت الرسائل البولسيّة: موضوع المهمّة الرسوليّة هو نقل النعمة، وتقبّلُها يميّز المسيحيّ. هذا التمنّي جاء موسعًا في 2تس 3: 18؛ 2كور 13: 13؛ أف 6: 24، وموجزًا في الرسائل الرعائيّة. هو يرد كما في تي 3: 15. ما ذكر الكاتب المسيح (نعمة ربنا يسوع المسيح، 1تس 5: 28؛ روم 16: 20، 24؛ 1كور 16: 23؛ غل 6: 18)، لأنه ما فتئ يتحدّث في رسالته عن ذاك الذي هو الوسيط والحبر. والنعمة التي نالها لنا هي عطيّة الله نفسه. مبادرة هي من ((الآب، أبي ربنا يسوع المسيح، الذي غمرنا، من علياء سمائه، بكل بركة روحيّة في المسيح)) (أف 1: 3).

2 - قراءة إجماليّة
((صلّوا، لأجلنا، فإنا نثق بأن لنا ضميرًا صالحًا، إذ نريد أن نحسن التصرّف في كل شيء. وأطلب إليكم بإلحاح أشدّ أن تفعلوا ذلك لأردَّ إليكم عاجلاً)) (13: 18 - 19)
طلب الكاتب صلاة القرّاء فدلَّ على ثقته بهم، على موقفه المتواضع، وعلى حرارة محبّته لهم. هذا، مع أن بعضهم صار على حدود الارتداد عن الربّ (6: 4 - 6 ،9؛ 10: 26 - 29، 39). في الحقيقة أراد أن يعمل كل شيء كما يليق. فكمسيحيّ ذي ضمير صالح، ومدبّر مسؤول عن الجماعة، تكلّم بصراحة، عن الأخطار التي تهدّد الجميع. ولكنه لا يجعل نفسه في هذا الخطر. لهذا يطلب الصلاة، بعد أن جعل نفسه مرارًا مع قرّائه (صيغة المتكلّم الجمع، مثلاً 10: 26: إن خطئنا نحن). في هذا المعنى، طلب بولس الصلاة من الكورنثيين: ساعدوني في صلاتكم. وكم يودّ أن لا يبقى بعيدًا عن أشخاص أحبّهم. فهو يرجو أن ينضمّ إليهم. هذا ما قاله بولس لأهل تسالونيكي: ((فُصلنا عنكم حينًا من الوقت... ونحن في اشتياق شديد أن نشاهد وجهكم)) (1تس 2: 17). والسبب؟ يقول بولس: عاقنا الشيطان (آ 18) فما استطعنا أن نجيء إليكم.
((وإله السلام، الذي بعث من بين الأموات من صار، بدم عهد أبديّ، راعي الخراف العظيم، ربنا يسوع المسيح، يؤتيكم أن تتمّوا مشيئته في كل عمل صالح، عاملاً فيكم ما حسُن لديه بيسوع المسيح، الذي له المجد إلى دهر الدهور. آمين)) (13: 20 - 21)
قد تكون هاتان الآيتان خاتمة الرسالة. بعدهما تأتي السلامات والأخبار. أما الدعاء الذي نقرأه هنا فنجده في 1تس 5: 23؛ 2تس 3: 16... مع كلام حول إله السلام. فهذا السلام الآتي من الله، هو سلام الانجيل (أف 6: 15)، هو سلام بين الخالق والخليقة بدم المسيح (كو 1: 20). وهو سلام يتجاوز كل فهم (غل 4: 7). يتعدّى امكانيّات الفكر البشريّ. وأساس هذا السلام نجده في قدرة الله الذي أقام يسوع المسيح من بين الأموات. أجل، هذا الذي تألم ومات، قد كلّل بالمجد والكرامة (2: 9). أما الثمن فدم يسوع، ذبيحة الابن المتأنّس، على الصليب. وقد دلّ الآب على قبوله الذبيحة حين أقام ابنه من بين الأموات، وأصعده إلى السماء، وأجلسه عن يمين الجلال في العلاء (1: 3؛ 12: 2) حيث أعلن ربّ الجميع (فل 2: 8 - 10).
في كل هذا، كان يسوع الراعي العظيم، راعي القطيع الوحيد، الذي اختلف عن سائر الرعاة. هو الحبر الوحيد (4: 14؛ 7: 23 - 24) الذي كفّر حقًا عن خطايانا. وهو وحده الراعي الصالح الذي بذل حياته عن الخراف. بذل حياته بالموت ولكنه استعادها بالقيامة. وفي إطار العهد الأبديّ، أعطى خرافه الحياة الأبديّة، فلا تهلك أبدًا ولا يخطفها أحد من يده (يو 10: 28 - 29). إن عطيّة ((دم العهد الأبدي)) تكمّل نبوءة زك 9: 11 (الله يقول: دم عهدي) ونبوءة حز 37: 26 حيث يعد الله فيقول: ((أقطع عهد سلام معهم. أقطع عهد سلام أبدي)) (رج أش 55: 3؛ إر 31: 31ي؛ عب 8: 8 ي). نتذكّر أن المسيح هو وسيط العهد الجديد، فينال المدعوون الميراث الأبدي، بموته (9: 15). أما الذين داسوا دم العهد، فينالون العقاب الشديد (10: 29). وهكذا يكون دمُ الابن المتجسّد فاعلاً إلى الأبد، للخلاص أو للدينونة.
من أجل هذا يصلّي الكاتب. فكما حاول أن يعمل بمشيئة الله، فليحاول المؤمنون. ولكن الله هو الذي يُعطي النعمة، هو الذي يعمل فينا ما يرضيه. فالانسان الذي تجدّد في المسيح هو انسان استعاد كامل بشريّته. خُلق من جديد بعد الفداء والمصالحة. بما أنه يتجدّد، فهو يعمل الأعمال الصالحة. صار نبتة جديدة، زرعًا جيدًا. فالشجرة الصالحة تثمر ثمارًا صالحة. وصلاحها من الله بعد أن جدّد لها طبيعتها. هذا ما فعله دم المسيح في المؤمنين. جاء يعمل مشيئة الآب (10: 7) منذ جاء إلى العالم. فضمّ إرادتنا إلى إرادته، فصارت الارادتان ارادة واحدة، وهكذا صار بامكاننا أن نُتمّ مشيئة الآب ونعمل ما يحسن لديه.
((وأسألكم، أيها الأخوة، أن تقبلوا كلام الموعظة هذا، إذ قد كتبتُ إليكم بايجاز. وأعلموا أن تيموتاوس أخانا قد أطلق. فإن أسرع في مجيئه، ذهبتُ معه لأراكم. سلّموا على جميع مدبّريكم، وعلى القديسين جميعًا. يسلّم عليكم الذين من إيطالية. النعمة معكم أجمعين)) (13: 22 - 25) أرسلت الموعظة مع كلمة قصيرة. أرسلت لكي تشجّع المؤمنين وتدعوهم إلى الثبات. أرسلت، لا من أجل التوبيخ والتأنيب، بل من أجل البناء. من أجل هذا تحدّث بولس عن ((السلطة التي وهبها الرب للبنيان لا للهدم)) (2كور 13: 10). فالمؤمنون هم أحبّاؤه. قال: ((لا نطيل الدفاع عن أنفسنا عندكم. فنحن نتكلّم أمام الله في المسيح، وهذا كله لبنيانكم)) (2كور 12: 19). فالطريقة التي بها يتوجّه الكاتب إلى قرّائه (3: 10، 12؛ 6: 9؛ 10: 19) تدلّ على حبّه لهم. قال بولس: أتمخّض بكم، فدلّ على أنه أم تجاه أولادها.
قرّاء الرسالة هم إخوته (3: 1، 22) الأحبّاء (6: 9). وتيموتاوس هو أخوه (13: 23). أخوه في الرسالة، أخوه في الجهاد، وأخوه في السفر القريب إلى حيث تقيم هذه الجماعة التي تحتاج إلى من يشدّد عزيمتها ويشجّعها على الثبات في الايمان (أع 14: 22). وبما أن امكانيّة السفر ما زالت بعيدة، أرسل ((المدبّر)) نعمة الله. ينبوع النعمة هو عرش النعمة حيث يصل إلينا العون الإلهي في ساعة الحاجة (عب 4: 16)، والقوّة لكي نتغلّب على هجمات العدو فنثبت إلى المنتهى.

خاتمة
حين قرأنا هذه الآيات الأخيرة (13: 18 - 25)، انفتحت أمامنا أبواب عديدة، وإن كان السرّ ما زال يلفّ الظروف التي فيها دوِّنت عب. هناك هجوم على المدبّرين الجديد، وهم يحتاجون إلى صلاة. كما أنهم حاولوا أن يُبرِّروا أنفسهم تجاه الجماعة: تصرّفوا بضمير صالح. فالجميع يحتاج إلى صلاة: المدبّرون (آ 18) والمؤمنون (آ 21). ويبدو أن التعاون لم يكن دومًا حاضرًا (آ 17). وعرفنا أن تيموتاوس كان في السجن (آ 23)، وربّما كاتب الرسالة الذي طلب الصلاة لكي ((يُردّ)) عاجلاً. أما الرسالة (والعظة) فأرسلت إلى جماعة محدودة، وهذه الجماعة توصلها بدورها إلى المدبّرين وإلى القديسين، أي المؤمنين. وتنتهي الرسالة فتجعلنا أمام الرب يسوع الذي يرعى كنيسته ولا يتخلّى عنها. لقد افتداها بدمه، دمه الكريم (1بط 1: 16)، وأقام معها عهدًا أبديًا. أتراه يتراجع؟ كلا. فهو الذي بدأ مسيرة الايمان وهو الذي يكمّلها. يبقى علينا أن نشخص بأبصارنا إليه فنجد القوّة والشجاعة ولو وصل بنا الجهاد حتّى بذل الدم.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM