الفصل الثامن والثلاثون: توصيات في الحياة المسيحيّة

 

 

الفصل الثامن والثلاثون

توصيات في الحياة المسيحيّة
13: 1 - 6

في هذا القسم الخامس (12: 14 - 13: 18) الذي عنوانه ((سبل مستقيمة))، توقّفنا في مقطع أول (12: 14 - 29) عند مقابلة أخيرة بين نظام أول ونظام أخير، بين العهد القديم والعهد الأخير، وأخذنا العبرة التي تدعونا لأن نتفوّق على تابعي شريعة موسى. لا أن نعود إلى الوراء بعد أن استنرنا وذقنا الموهبة السماويّة. وفي هذا المقطع الثاني (13: 1 - 6)، نتأمل في بعض المواقف المسيحيّة التي يدعونا إليها صاحب الرسالة. وهي ثلاثة: ممارسة المحبّة. كرامة الزواج. تجرّد وثقة بالربّ.

1 - تفسير الآيات
لقد وصلنا إلى نهاية الرسالة، بعد أن توسّع الكاتب في موضوع الثبات في الايمان، من كل وجوهه. فقبل الأخبار الأخيرة والسلامات (13: 19 - 25)، كانت هذه التوصيات العمليّة، التي قسمناها فصلين.

أ - ممارسة المحبّة (13: 1 - 2)
ما نلاحظه هنا دعوة إلى الثبات (آ 1)، وتذكّرُ الواجبات المسيحيّة تجاه الاخوة (آ 2 - 3).
أولاً: اثبتوا (آ 1 - 2)
أثبتوا على المحبّة. المحبّة التي يُدعى المسيحيون لعيشها، هي المحبّة الاخوية. هم كلهم أبناء الآب السماوي (هم من واحد، 2: 11). وإخوة يسوع الذي لم يستح بهم. فيلدلفيا (محبّة الاخوة). لا نجدها في العهد القديم ( بل نجد فيلدلفوس، 2مك 15: 14؛ رج 1 بط 3: 8). ولا تظهر إلاّ هنا في العهد الجديد. هي شكل من أشكال المحبّة في المسيحيّة (يو 13: 35). وقد عرفها الوثنيون أنفسهم فقالوا عن المسيحيين: أنظروا كم يحبّ بعضهم بعضًا. هذه المحبة التي هي عطيّة من الله (1 تس 4: 9) هي تفتّح النعمة (2 بط 1: 7) وهي تتكوَّن من الاحترام العميق (روم 12: 10). هي أولى متطلّبات القداسة (1 بط 1: 22). لهذا ذُكرت حالاً بعد إرشاد حول القداسة (هاغياسموس، 12: 14ي). مارسها ((العبرانيون))، (6: 10؛ 10: 33 - 34)، كما مارسها التسالونيكيون، فلا يبقى عليهم سوى المثابرة. لهذا جاء الفعل ((ماناتو)) في صيغة الأمر. هل كانت هذه المحبّة في خطر؟ هذا ما لا يقوله النصّ.
وأحد تعابير المحبّة الأخويّة هو الضيافة، التي هي عمل من أعمال الرحمة (روم 12: 13؛ رج 3 يو 5 - 8). جعلتها الرسائل الرعائيّة ميزة الاسقف (1 تم 3: 2؛ تي 1: 8). أما عب (رج 1 بط 4: 9) فجعلتها واجبًا مفروضًا على جميع المسيحيين. قال الرسول: لا تنسوا. هذا يعني أنه كان نسيان وكان إهمال، بل تهرّب. فقد كانوا يتعرّضون للاضطهاد إن تضامنوا مع إخوتهم. وما الذي يدفع المؤمنين إلى هذا السخاء؟ قد يكون الذي نستقبله رسولاً من عند الله وملاكًا (غل 4: 14). استقبل ابراهيم وسارة ملائكة (تك 18: 1 ي؛ فيلون، ابراهيم ،107 113؛ يوسيفوس، العاديات 1/11: 196)، ومثلهما فعل لوط (تك 19) ونوح (قض 13: 3 - 22) وطوبيا (12: 1 - 20)، ساعة ظنّوا أنهم يستقبلون مجرّد مسافرين. الظاهر في ((فيلوكسانيا)) (الضيافة) هو دومًا أقلّ من الحقيقة. في الواقع، استقبل المسيحيون الله (والمسيح) في إخوتهم، حين استضافوا أولئك الذين أرسلوهم (انغالوي). رج مت 10: 40 - 42؛ 25؛ 40، 45؛ يو 13: 20. كان بامكان الكاتب أن يتحدّث عن استضافة الله ((تيوكسانيا)) ولكنه لم يفعل خوفًا من أن يُفهم كلامه في إطار وثني، والآلهة تزور البشر (أع 14: 11؛ تشبّه الآلهة بالبشر). تحدّث الامبراطور يوليانس الجاحد في رسالة 49 عن ضيافة المسيحيين للغرباء، وقال، إنها كانت من أهم وسائل دعايتهم.
ثانيًا: أذكروا (آ 3)
تقدم آ 3 تعبيرًا آخر عن المحبّة الأخوية. هي تكلّف غاليًا، وتتطلب مبادرة وتجنّدًا: زيارة الاسرى ومدّ يد العون إليهم. فهم أكثر الناس جديرون بالشفقة، ولا سيّما إذا كانوا أبرياء وُوضعوا في السجن بسبب إيمانهم. فالمسيحي الذي امتلأ من محبّة الله، يحسّ نفسه سجينًا مع السجين (سيندادامانوي، مراحدة بيبليّة، رج 1 صم 18: 1؛ نفس يوناتان سجنت، تعلقت بنفس داود)، وهناك ما يدفع المسيحي إلى الرحمة: الخوف من مصير مماثل يصيبه. لقد شارك ((العبرانيون)) في آلام المعذّبين، متذكّرين أنهم بشر مثلهم ويمكن أن يصابوا مثلهم. ((إن سوماتي))، في جسد. رج 2 كور 5: 6. في الواقع، سُجن عدد من المسيحيين خلال الاضطهاد (10: 34)، فعرفوا عن خبرة ثقل مثل هذه المحنة. لهذا، أحسّوا نفوسهم قريبين من هؤلاء التعساء، فتصرّفوا معهم كأعضاء في جسد واحد (1كور 12: 26؛ 2 كور 11: 29). وعبّروا عن تعاطفهم بالصلاة (كو 4: 3، 18)، بالزيارات (مت 25: 39)، بالاحسان (10: 33 - 34؛ 2 تم 1: 6)، بالسعي لإطلاق سبيلهم. فالتذكّر يعني التفكير في شخص من أجل مساعدته (كو 4: 81)، وهو أبعد ما يكون عن الإهمال الذي هو نسيان (آ 2، 16).

ب - كرامة الزواج (13: 4)
بعد واجب المحبّة، يطلب الكاتب من المسيحيين ((العفّة)) (رج 12: 16) والابتعاد عن الفجور والزنى. فالمحبّة الاخوية والقداسة تسيران معًا (12: 11، 14). نحن هنا، لا أمام تمنٍّ وحسب، بل أمام واجب يُفرض على المؤمنين. ((غاموس)) يعني الزواج هنا فقط. ما عدا ذلك، فهو يدلّ على عيد الزواج ولا سيّما وليمة العرس (مت 22: 2 - 12؛ لو 12: 36؛ 14: 8؛ يو 2: 1). من الممكن أن يكون بعض المتعفّفين (1تم 4: 2) حاولوا أن يبعدوا الناس عن الزواج. ولكنه مؤسّسة جديرة بالاحترام (تيميوس). رج ((إن باسين)) عند الجميع، أو في جميع الاحوال، رج آ 18؛ 1 تم 3: 11؛ تي 2: 9.
يبقى على الزوجين أن يحافظوا على الشرائع الزوجيّة في علاقاتهما. ((كويتي))، مضجع. رج روم 9: 10؛ 13: 13. ((أميانتوس)) يُقال عن جسد طاهر (مك 8: 20)، امرأة عفيفة (حك 3: 13). ويُذكر الفسّاق والزناة. عملهم يتمّ في السرّ بحيث لا يراهم أحد. ولكن الله يدينهم (سي 23: 18ي)

ج - تجرّد وثقة بالرب (13: 5 - 6)
ما زلنا على مستوى الحياة الاجتماعيّة . مع آ 7 ي، ننتقل إلى مستوى الحياة الدينيّة. في آ 5 - 6 كما في 1 كور 5: 11؛ 6: 9 - 10 (رج أف 5: 3؛ كو 3: 5) تلتقي محبّة المال مع الفسّاق والزناة. ولا ننسى الوصيتين السادسة (لا تزن) والسابعة (لا تسرق). في هذه الآيات، يحذّر الكاتب المسيحيين من ثلاث شهوات: الأنانيّة (ضيافة، تضحية من أجل المسجونين). زنى وفجور. تعلّق بالمال حتى الجشع. يكون المسيحيون ((أفيلارغيروس)) (لا يحبّ المال) مثل أسقف أفسس. رج 1 تم 3: 3؛ مت 6: 24 - 34 (لا يعبد سيّدين)؛ 1تم 6: 6 - 10 (يرومون الغنى، يسقطون في التجربة). رأى الآباء اليونان أن ((العبرانيين)) الذين سُلبوا (10: 34)، حاولوا أن يجمعوا المال من جديد، فلم يعرفوا أن يتجنّبوا الجشع. ولكن التعلّق بالمال يعني التعلّق بالعالم، كما أن التعلّق بالزنى هو عبوديّة للجسد.
إن المسيحيّ المتجرّد، والعائش حسب الروح الانجيلية، يثق بالله ثقة دائمة، لأن عنايته لا تخيّبه. ((تروبوس)). رج 2 مك 5: 22: السيرة، طريقة العيش. لهذا، فهو يستبعد كل اهتمام للغد، بل يعيش كل يوم بيومه ((باروسين))، ويكتفي (أركيو، مت 25: 9؛ لو 3: 14؛ يو 6: 7) بما جنت يده. فالله لا يتخلّى عن الانسان ولا يتركه وحده. بل يعينه. أعلن تث 31: 6 (في صيغة الغائب): لا يهملك، لا يتركك. فجعلت عب الجملة في صيغة المتكلم حسب يش 1: 5 (رج تك 28: 15؛ 1 أخ 28: 20). تكرّرت النافية خمس مرات (مت 24: 21؛ لو 10: 19) فدلّت على ثقة عميقة بالعون الالهي. مهما كانت الظروف لن أتركك.
حوّل الكاتب النصّ الاصليّ. فكيّف هذه العبارة المطلقة مع تأكيدات العهد الجديد. هناك استعمال ((أنييمي)) (رج أع 16: 26) للكلام عن فكّ قيود سجين. واستعمال ((انكاتالايبو)) بفم المسيح المصلوب (مت 27: 46). فالمسيح المنتصر والممجّد الذي اختبر الضيق والعزلة والتخلّي، لن يترك يومًا تلاميذه بدون عون ولا مساعدة: فهو حاضر دومًا لديهم. إن فعل ((ايريكان)) (صيغة الكامل) يدلّ على أن العون الذي أعطي ما زال يُعطى. في هذين النصّين المأخوذين من الكتاب (مت 31: 6؛ مز 118: 6) يعد الله شعبه بأنه سيدافع عنه دومًا ويمنحه النصر. لهذا يحثّه على أن يكون قويًا ويتشجّع. فيبقى جواب الانسان على عناية الله. ((هوستي))، من هنا، إذن. ((تارونتاس)) اسم فاعل. نتجرّأ، نثق: إن العون الالهي لا ينحصر في طعام أو شراب. إنه يشمل حياة الشعب كلها. لهذا يستعدّ شعب العهد الجديد لمجابهة الصعوبات بثقة،فيردّد ما قاله مز 118: 6 (حسب السبعينية) الذي هو نشيد شكر يصل بالتطواف إلى الهيكل وينتهي أمام مذبح المحرقات حيث تُنحر الضحيّة. هذه الحاجة العباديّة والليتورجيّة هي في محلّها (رج آ 4؛ 12: 28). فالثقة بالله هي تأكيد على عنايته التي لا تترك طالبي القداسة (12: 14). ((بوئيتوس))، عون (مراحدة في العهد الجديد). هذه الصفة استعملها اليوناني العادي للكلام عن عون يحمله الآلهة (فدخلت في السبعينيّة)، ولا سيّما في صنع المعجزات.

2 - قراءة إجمالية
((أثبتوا على المحبّة الاخوية. لا تنسوا ضيافة الغرباء، إذ بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يعلمون. أذكروا الأسرى كأنكم مأسورون معهم، والمجهودين (المعذّبين) كما أنكم أنتم أيضًا في جسد)) (13: 1 - 3)
نجد في ف 13 تحريضًا عمليًا واجتماعيًا وتنبيهًا تعليميًا (آ 1 - 17) يتبعه طلب الصلاة (آ 18 - 19) والنداء الأخير مع التحيّة (آ 22 - 25). طرح سؤال: هل ف13 هو حقًا من يد صاحب عب، وهل يتوافق مع مضمون العظة اللاهوتيّة التي نقرأها في ف 1 - 12؟ قيل: إذا انطلقنا من الألفاظ، اكتشفنا نفَسًا بولسيًا (أحد تلاميذ بولس). وقيل: الكاتب نفسه أضاف هذه الآيات. كانت هناك عظة، فكيفها ((المدبّر)) وجعلها بشكل رسالة. لهذا أضاف ف 13. لهذا يبدو أن الرسالة كلها من يد كاتب واحد. لقد سبق فقدّم تعليمًا خاصًا إلى أشخاص يعرفهم ويحبّهم ويوجّه كلامه إليهم كـ((إخوة)) و((إخوة قديسين)) و((الاحبّاء))، (13: 1، 2؛ 6: 9؛ 10: 8). لهذا جاء ف 13 كخاتمة رسائليّة مع تحريض وصلاة وسلامات.
المحبّة الأخوية التي يحثّ الكاتب قرّاءه على ممارستها، هي محبّة تسود أولئك الذين هم إخوة لأنهم مؤمنون. قال بولس: ((أحبّوا بعضكم بعضًا حبًا أخويًا)) (روم 12: 10). وقال: ((أما المحبّة الأخوية فلاحاجة بكم أن يكتب فيها إليكم. لأنكم أنتم بأنفسكم، تعلّمتم من الله أن يحبّ بعضهم بعضًا)) (1تس 4: 9). وتحدّث بطرس عن ((محبّة أخوية لا رئاء فيها)) (1بط 1: 22؛ رج 2 بط 1: 7، عب الأخوي المرتبط بالتقوى). لقد أعطى الكاتب المفتاح لفهم هذه العلاقة الاخوية في 2: 11ي: الاخوّة بين المسيحيين تنبع من المسيح الذي اتّحد معنا بالتجسّد فصار انسانًا. والذي تضامن معنا عبرخبرة الفداء الذي أتّمه لاجلنا. فالاخوّة المسيحية هي في جوهرها أخوّة في المسيح. هو الابن الوحيد (1: ،2 5ي)، وبالوحدة معه نشاركه في نعمة هذه البنوّة، ونُقبل فيه كأبناء الله. وبما أننا أبناء فنحن ورثة (روم 8: 14 - 17؛ أف 1: 5 - 7).
إذا كانت الاخوّة تنبع من المسيح، فمحبّتنا كاخوة تنبع من محبّته أيضًا. فمحبّته اللامتناهية لأجلنا هي الينبوع والدافع لحبّ بعضنا بعضًا. من هنا وصيّة الرب في العليّة ليلة آلامه: ((هذه هي وصيتي: أن يحب بعضكم بعضًا)) (يو 13: 34؛ رج 15: 12، 17؛ 2 يو 5؛ 1يو 3: 11 ،14، 16 - 18؛ 4: 7 - 12). وفي هذا الخط كتب بولس: حين نرى كمسيحيين أننا نشارك في بركة محبّة الله العظمى في المسيح، فكيف نتصوّر أن لا يحبّ بعضنا بعضًا. فمحبّة الله في يسوع المسيح ربنا، التي لا يمكن لأحد أن يفصلنا عنها (روم 8: 38 - 39) تتجلّى بشكل خاص في محبّتنا داخل الكنيسة: ((أيها الأحبّاء، إن كان الله يحبّنا، فعلينا أن نحبّ بعضنا بعضًا)) (1يو 4: 11).
أحبّ ((العبرانيون)) بعضهم بعضًا، وهم يتحدّرون من شعب واحد. لهذا يدعوهم الكاتب ليتذكّروا الأيام السابقة حيث ارتبطوا برباط الحبّ والرحمة (10: 32 - 34). وهو يطلب منهم الآن أن يستمرّوا في هذه المحبّة الأخوية. تراخوا في إخوّتهم تجاه الغرباء، فهل يتراخوا مع أعضاء الكنيسة. لهذا دعاهم إلى أن لا ينسوا (أن لا يهملوا) ضيافة الغرباء، ((محبّة الغرباء)) (كما في الأصل اليوناني). فالضيافة المسيحيّة تدلّ على أمانة وصدق تجاه حبّ افتُدينا به وهو يوحّدنا كإخوة في المسيح. لهذا قيل لغايوس: ((أيها الحبيب، إنك تعمل عمل الايمان في ما تصنع إلى الاخوة، ولا سيّما وأنهم غرباء. فإنهم قد شهدوا لمحبّتك أمام الكنيسة)) (3 يو 5 - 6). فالضيافة الحقيقيّة تنبع من معين الحبّ الالهي الذي تجلّى لنا ساعة كنا بعد خطأة (روم 5: 8). لهذا يجب أن تكون طوعيّة، غير مكرهة، حرّة من كل تباه وتظاهر. حين طلب بطرس من المؤمنين أن يحبّوا بعضهم بعضًا، قال: ((أضيفوا بعضكم بعضًا على غير تذمّر)) (1 بط 4: 8 - 9).
وتمتدّ المحبّة الاخويّة إلى المؤمنين الذين في الأسر، أو في السجن. هؤلاء لا نستطيع أن نستضيفهم. اذن، نتذكّرهم: نصلّي لاجلهم. نخدمهم قدر الامكان وحسب حاجتهم. فالايمان والحبّ يوحّداننا بهم. لهذ نحسّ معهم، نتعاطف. في 10: 34 قالت عب: ((تألمتم مع الذين في القيود))، أحسستم معهم بالألم. وقال يسوع: ((كنت محبوسًا فأتيتم إليّ)) (مت 25: 35). وأوصى بولس باونسيفورس قائلاً: ((رحمة الله على بيته، لأنه كثيرًا ما فرّج عني ولم يخجل من قيودي)) (2 تم 1: 16). ويشجّع كاتب الرسالة قرّاءه على أن يذكروا الذين يعامَلون معاملة سيّئة، الذين يلقون العار والضيق والسجن شهادة للمسيح. فما حصل لاخوتكم يمكن أن يحصل لكم. فلستم أرواحًا تنجو من هذه المضايقات. أنتم تساعدونهم الآن، فيساعدونكم فيما بعد. نفعل للغير ما يريد أن يفعله الغير لنا (مت 7: 12). وكان بولس قد قال في حديث حول المدد للقدّيسين في أورشليم: ((في الأحوال الحاضرة، ستسدّ فضالتكم عوزهم، لكي تسدّ يومًا فضالتهم عوزكم، فتحصل المساواة)) (2 كور8: 14).
((ليكن الزواج مكرّمًا عند الجميع، والمضجع بلا دنس، لأن الله سيدين الفسّاق والزناة. نزّهوا سيرتكم عن حبّ المال، قانعين بما عندكم، فان الله نفسه قد قال: لا أخذلك ولا أهملك. فنستطيع إذن أن نقول في ثقة: الرب عوني فلن أخشى. وماذا يصنع بي الانسان))؟ (13: 4 - 6)
كانت بلبلة في بداية الكنيسة، ربّما كردّة فعل على مناخ صوّره بولس في بداية رسالته إلى رومة (1: 23 - 27)، اعتبرت أن الزواج نجاسة ونادت بالعفّة التي صارت مرادفة للقداسة. مثلاً نبّه بولس في 1 تم 4: 3ي من الذين يريدون أن يمنعوا الزواج. وأضاف تفسيره: ((كل ما خلقه الله صالح، ولا يُرذل شيء إن قُبل بالشكر، لأنه يقدَّس بكلمة الله والصلاة)). وسيتوسّع المونتانيون في الغرب في هذه النظرة إلى الزواج. ونادى أبناء العهد وبنات العهد في الشرق بالعفّة يعيشها حتى المتزوّجون في بيوتهم. أترى نحن أمام تأثير أسياني وصل إلى قرّاء الرسالة؟ هذا ما يقوله عدد من العلماء.
تحدّث الكاتب عن كرامة الزواج، وحذّر من الزنى. داخل البيت: ليكن فراش الزوجيّة طاهرًا. فلا علاقات زوجيّة خارج الزواج. وكان تنبيه عام: الله يدين الزناة. في هذا قال بولس: ((إن غضبَ الله معلن من السماء على أبناء المعصية)) (أف 5: 6). ويتابع: ((لا تشتركوا معهم (أي الزاني...) في شيء)) (آ 7). وقال في 1تس 4: 3 - 7: ((إن مشيئة الله أن تقدّسوا نفوسكم بأن تمتنعوا من الزنى... يحفظ الانسان جسده في القداسة والكرامة، ولا ينقاد لتيّار الشهوة... فإن الله لم يدعُنا إلى النجاسة بل إلى القداسة)).
الزنى تجربة أولى. والجشع (وحبّ المال) تجربة ثانية تهدّد قرّاء الرسالة. فالوصية السابعة (لا تسرق) تلي الوصيّة السادسة. فكأننا أمام نظرة إلى الوصايا كما نجد مرارًا في العهد القديم. هنا نتذكّر بولس في 1تم 6: 9: ((الذين يرومون الغنى يسقطون في التجربة، وفي الفخّ، وفي جمّ من الشهوات السفيهة المضرّة التي تغرق الناس في الدمار والهلاك)). ثم قال في آ 10: ((حبّ المال أصل كل الشرور)). أما النصيحة فنقرأها في آ 6 - 7: ((التقوى تجارة عظيمة على أن تقترن بالقناعة. إنّا لم ندخل العالم بشيء، ولن نستطيع أن نخرج منه بشيء)). والنصيحة العمليّة: ((لنا القوت والكسوة. فلنقتنع بهما)) (آ 8). ويقول بولس عن نفسه وعن رفاقه في الرسالة: ((كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء)) (2 كور 6: 10). كما يقول في فل 4: 11 - 12: ((تعلّمت أن أكون قنوعًا في كل حال. أعرف أن أعيش في العوز وأعرف أن أعيش في السعة. لقد روّضتُ نفسي في جميع الأحوال وفي كل منها، على الشبع وعلى الجوع، على الرفاهة وعلى الفاقة)).
هكذا بدا في خط معلّمه الذي لم يكن له على الأرض موضع يُسند إليه رأسه (مت 8: 20)، والذي قال: لا تقوم حياة الانسان بوفرة ما يملك من مال (لو 12: 15)، والذي أوصى تلاميذه بأن يكون كنزهم في السماء حيث لا يتلف عثّ ولا صدأ (مت 6: 20)، ونبّههم أن المهم ليس أن نكون أغنياء في نظر الناس، بل في نظر الله (لو 12: 21). فأسقف كنيسة لادوكية حسبَ نفسه غنيًا فما عاد يحتاج إلى شيء. فقيل له: ((كم أنت بائس مسكين فقير)) (رؤ 3: 17). هو يحتاج إلى ((ذهب)) من المسيح، لا من العالم حيث ينقب اللصوص ويسرقون (مت 6: 19). فالمسيح الذي كان غنيًا افتقر لكي يغنينا بفقره (2 كور 8: 9) . فماذا نفعل نحن لنردّ على السخاء بالسخاء؟ ولماذا لا نثق بأن ((الله يوفي حاجتنا كلها بما له من غنى عظيم في المسيح يسوع)) (فل 4: 19).
يبدو أن الذين كُتبت إليهم هذه الرسالة نسوا كيف أنهم في الأيام السالفة رضوا بفرح بأن تُنهب أموالهم عالمين أن لهم ((ثروة أفضل وأبقى)) (10: 34). ويبدو أن التجارب هاجمتهم، فخسروا بعض إيمانهم. وشكّوا بعض الشيء باهتمام أبيهم السماوي بهم (مت 6: 25 - 34: لا يهمّكم... ماذا نأكل؟ ماذا نشرب؟ ماذا نلبس)، مع أنه يهتمّ بطيور السماء وزنابق الحقل. لهذا، ذكّرتهم الرسالة بوعد الله الذي اختبرته الأجيال السابقة وما خابت: لا أخذلك، لا أهملك. قيل هذا الكلام لموسى (تث 31: 6) وليشوع (يش 1: 5). وقال لسليمان داود والدُه: ((لا تخف ولا ترهب، لأن الرب إلهي معك. فهو لا يتخلّى عنك ولا يهملك)) (1 أخ 28: 20). من أجل هذا، يستطيع المؤمنون أن يقولوا مع المرتّل: الرب عوني. وفي النهاية نعرف أن كل شيء لنا شرط أن نكون للمسيح (1 كور 3: 21 - 22). فلا يبقى سوى أن نترك الفرح يسيطر على حياتنا والثقة في قلبنا، بعد أن نلنا نعمة الله وقدرته في ربنا يسوع المسيح.

خاتمة
تلك هي بعض الأمور العمليّة التي يقدّمها الكاتب في نهاية عظته، أو بالاحرى في نهاية رسالته: المحبّة الأخويّة وما يعارضها. الزواج والزنى. التجرّد عن المال والجشع وحب المال. الثقة بالرب تجاه الهموم التي يحسّ بها المؤمن ساعة يكون العالم عدوًا له، بل ساعة يحسّ أن أهل بيته هم أعداؤه. من أجل هذا رسمت عب أمام القرّاء بعض المواقف المسيحيّة. واللائحة يمكن أن تطول. ولكن هذا يكفي، لا سيّما وأن الرسول يبدأ بالمحبّة. فالمحبّة هي ينبوع سائر الفضائل المسيحيّة. فقد قال بولس في غل 5: 22: ثمرة الروح هي المحبّة. ومن المحبّة ينبع الفرح والسلام وطول الأناة... وعندما تطلب عب من المؤمنين أن يمارسوا المحبّة الأخوية تفهمهم أن متطلّبات المحبّة لامحدودة. لهذا كانت الطريق إلى القداسة بعيدة جدًا، لأنها في النهاية تشبّهٌ بالله الذي هو محبّة. فما علينا سوى أن نبدأ الطريق فندلّ على محبّتنا في العمل والحق لا في القول والكلام فقط.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM