الفصل الثالث والثلاثون: موسى والدخول إلى أرض الموعد

الفصل الثالث والثلاثون

موسى والدخول إلى أرض الموعد
11: 23 - 31

توقّفت عب عند سفر التكوين، فأوجزته في بعض صور دلّت على ثبات الآباء في الايمان. وها هي تصل إلى سفر الخروج مع شخص موسى الذي حرّر شعبه وقادهم في طريق وصلت بهم إلى أرض كنعان. ولكن هذه القراءة الماديّة لنصّ التوراة تبقى مغلقة، ولا تفتح القرّاء على أفق الايمان التي تصل إلى المسيح. فموسى صورة عن المسيح، كما كان اسحاق، وعليه أن يختار بين مصر وكنوزها وغناها، وبين المسيح الذي يدعونا لنحمل عاره: نحن لا نرضى بمدينة نعيش فيها اليوم، بل نطلب الآتية (13: 14). هكذا فعل موسى. وما فعله فعله بالايمان. وهكذا يفعل المؤمنون مهما اجتذبهم هذا الدهر وإغراءاته.
أما المقطع الذي نقرأه الآن (آ 23 - 31) فيرد في قسمين: من كنوز مصر إلى عار المسيح. تحرير المؤمنين ودمار الاعداء.

1 - تفسير الآيات

أ - من كنوز مصر إلى عار المسيح (11: 23 - 27)
وُلد موسى في مصر، وعرف غناها. ولكنه تركها مدفوعًا بالايمان. لم يتوقّف عند ما يُرى، بل عند ما لا يُرى.
أولاً: لما وُلد موسى (آ 23 - 25)
هنا وصلنا إلى الحقبة الموسويّة واحتلال أرض الموعد. فبعد إيمان ألهم الصبر والتضحية، رأيناه في حياة الآباء وعملهم، ها هو ايمان يُلهم خيارات حاسمة وأعمال شجاعة، عند موسى ويشوع وغيرهما. إن موسى شخص عظيم وقد قابله التقليد مع ابراهيم. ثم إن قرّاء الرسالة يقدرّونه تقديرًا خاصًا، ويريدون العودة إلى عهد قطعه مع الله، بطقوس وذبائح وكهنوت وهيكل. لهذا توسّع الكاتب في روح الايمان التي أحاطت بحياة موسى الخاصة (آ 24 - 28: رج أع 7: - 2ي)، وألهمت والديه (آ 23) وشعبه (آ 29). فعلى القرّاء أن يستلهموا مثَله ويتبعوا إيمانه بالمسيح (آ 26؛ يو 5: 45 - 47): عدّ عار المسيح ثروة أعظم من كنوز مصر.
إذا كان موسى نجا من الموت رغم قرار فرعون بإهلاك الذكور من العبرانيين (خر 1: 16)، فلأن والديه (فيلون، حياة موسى 1: 9؛ يوسيفوس، العاديات 2/9: 218، في العبرية: والدته) رأيا جماله ونعمة الله عليه (استايوس، خر 2: 2)، فاعتبرا هذا الجمال علامة عن بركة الله وإشارة إلى دعوة رفيعة. إذن، اخفياه لأنهما آمنا ووثقا بعناية الله. شدّد فيلون على جمال موسى: كان الناس يتوقّفون عن أعمالهم لينظروا إليه عند مروره. هو جميل في نظر الله كما قال اسطفانس في أع 7: 20 (استايوستو تيو)، مرضيّ عند الله.
ووجد والدا موسى (عمرام ويوكابد، خر 6: 20) العون والشجاعة في إيمانهما، فعرّضا نفسيهما لملاحقة الملك. فالايمان يتغلّب على الخوف عند البشر (آ 27: لو 12: 4 ،5؛ مز 2: 1 - 4؛ 27: 1 - 6؛ 33: 12). وما ثبّتهما أيضًا في موقفهما هو رؤية إلهيّة. نقرأ ((دياتغما)) (مراحدة في العهد الجديد): أمر، قرار. رج حك 11: 7. من خلال موسى، نظرت عب إلى يسوع الذي نجا من الموت أيضًا رغم قرار الملك هيرودس (رج مت 2: 1ي).
جُعل موسى عند حافة النهر، وتهدّده الموت. لكن أخذته ابنة فرعون وعاملته كابنها (خر 2: 5 - 10؛ يوسيفوس، العاديات 2: 9). كان بإمكانه أن ينعم بكرامات وامتيازات هذا الوضع الملكي، ويتمسّك بهذا اللقب العظيم. ها قد لاحت الأمجاد أمامه. ولكن لا. رأى ضيق اخوته، كما قال خر 2: 10ي، ودفعه الايمان كما قالت عب، فتخلّى عن كل هذه الخيرات التي نعم بها. ((ارنيوماي))، قال كلا. رفض، تخلّى، قطع كل علاقة. وارتبط بهذا الفعل المصدر (لاغستاي، أن يدعى). رج حك 12: 27؛ 16: 16؛ 17: 9 ،هزئ بكل هذا واحتقره. فهناك أمر أهمّ تعلّق به. تضامن مع شعب الله (4: 9)، واختار الخيار الحاسم (أيرايو، في الصيغة الوسطيّة: أخذ على نفسه، اختار، أخذ جانب. مع ((مالون)): فضّل). قاسم شعبه الاضطهاد والمعاملة السّيئة (سينكاكوخيوماي، مراحدة بيبليّة، أسيئت معاملته)، وترك امتيازات قدّمت له (مز 84: 11).
رافق التجرّدُ الاختيار. وكان التعارض الاساسيّ بين ((شعب الله)) و((الخطيئة))، لا بين ((المشقّة)) (سوء معاملة) و((التمتّع)). بالايمان رأى موسى في هؤلاء العبيد العاملين في مصر، الشعبَ المختار ووارث الموعد. عرف أنه ارتبط بالله وبشعبه. هو مدين لشعبه. وإن هو تخلّى عن قضّيتهم خان دعوته، مجد إيمانه. ((بروسكايروس)) موقت، سريع، عابر. رج مت 13: 21؛ 2كور 4: 17 - 18). تجاه هذا، جزاء سماوي، ثابت، نهائي (رج آ 1، 6؛ 10: 35). وحده الايمان يتيح لنا أن نميّز الخير والشرّ، أشياء هذه الحياة الحاضرة واللامرئيّات.
ثانيًا: ترك مصر (آ 26 - 27)
إن اسم الفاعل (هيغيسامانوس، حاسبًا، عادًا) الذي يرد بشكل بدل، يحدّد بوضوح سبب خيار موسى هذا الذي يعارض كل حكمة بشريّة. عار المسيح (خرستوس) هو عار شعب الله (آ 25) والنسل المقدس والمكرّس للرب. ((اونايديسموس))، العار. نقرأ في يش 6: 9؛ عار مصر الذي ناله شعب اسرائيل حين كان في العبوديّة. رج مز 89: 51: ((أذكر يا رب عار عبيدك وما احتملوه من شعوب كثيرين)). ولكن الربّ يقابل هذا التعيير بأمانة لعهد قطعه مع سلالة داود. ويتابع المزمور: عيّروا نسل مسيحك (آ 52). ولكن بما أن الله اختار اسرائيل ليلد المسيح ويحقّق تحقيق مواعيد الخلاص، نستطيع القول إن موسى (والمسيحيين معه) اعتبروا (آ 11) أن الألم من أجل المسيح هو كنز لا يضاهيه كنز. المسيح هو رأس جميع الأبرار في العهد القديم كما في العهد الجديد، وكلّهم يشاركونه عاره. لذلك، فكل ألم هو امتداد أو استباق لألم المسيح (10: 33؛13: 13). لهذا، كانت النظرة المسيحيّة إلى الألم، على أنه وسيلة للاتّحاد بالمخلص (2 كور 1: 5؛ فل 3: 10؛ 1بط 4: 13).
ما الذي يكشف ثمن هذه المحن؟ الايمان. فهو ينظر من بعيد، يحدّق (ابوبلابو، مراحدة في العهد الجديد) في الجزاء السماوي الذي لا يخطئ والذي هو نتيجة الصبر والثبات. هل هناك مقابلة بين كنوز (تيساوروس) وعار المسيح؟ كلا. رج 2 كور 4: 17 - 18. أيكون هذا التلميح إلى مصر دلالة بأن عب دوّنت في مصر، فقابلت بين غنى مصر وفقر فلسطين؟ في أي حال، ترك موسى كل خير من أجل المسيح.
آمن والدا موسى ففعلا ما فعلا ولم يرهبا الملك. وآمن موسى (آ 27) ولم يرهب (الفعل هو هو، فوباين). عارض الوالدان قرار الملك، وما اهتمّ موسى بسخط الملك وغضبه، فخرج من مصر على رأس بني اسرائيل. رج خر 2: 15 حيث يقال أن موسى خاف الملك بعد أن قتل الرجل المصري، ومضى إلى أرض مديان. نقصه الايمان. ولكن بعد اللقاء بالرب قرب العلّيقة الملتهبة، واجه موسى فرعون. ((كاتالايبو)). تخلّى عن ميراث. وهنا: ترك أرضه. مضى.
ويشير الشقّ الثاني من الآية إلى ينبوع هذه الشجاعة التي تتعدّى مقدور البشر. في برية سيناء رأى موسى ذاك الذي لا يُرى (أووراتوس، تسمية الله الاحتفاليّة، 1 تم 1: 17). كان يكلّم الله كما يكلّم الصديقُ صديقه (خر 33: 11؛ عد 12: 8). إن يقين موسى كان من المتانة والثبات، بحيث نفّذ مخطّط الله. ((كارتاريو)) ثبت، تجلّد وانتظر تدخّل الله (2 مك 7: 17).

ب - تحرير المؤمنين ودمار الاعداء (11: 28 - 31)
من الاحتفال بالفصح، إلى عبور البحر الاحمر، إلى احتلال أريحا، هي مسيرة ايمان متواصلة.
أولاً: صنع الفصح (آ 28)
هو أول احتفال بعيد الفصح. ((بوياين (صنع) تو باسخا)) (الفصح). كذا في العبريّة. (رج خر 12: 48؛ عد 9: 2؛ مت 26: 18). صيغة اللاكامل وسط الاحتمال. هذا يعني أننا أمام نظام نهائي. يُذبح الحمل ويُرش الدم (بروسخيسيس مراحدة بيبلية، الرش) على أبواب بني اسرائيل (خر 12). كل هذا فعل إيمان بكلمة يهوه وبرمزيّة هذه الطقوس. إنها تشير مسبقًا إلى النجاة من الخطيئة بفعل دم الفادي. الرب يمرّ ويضرب مصر، ولكنه لا يضرب حين يرى الدم على عتبة الباب وقائمتيه. هو لا يسمح للملاك المهلك ( هـ م ش ح ي ت، 1 كور 10: 10؛ (أخ 1: 12؛ سي 48: 21) أن يضرب (خر 12: 23)، أن يمسّ (تنغانو، كو 2: 21) أبكار بني اسرائيل (رج مز 78: 49 - 51) = أوتون، فاعل ((ديابيسان)) في آ 29. وهكذا خلّص الايمان من الموت. في هذا قال الذهبي الفم: ((إذا كان دم حمل رُشّ على أبواب العبرانيين حماهم من الهلاك الذي دمرّ مصر، فكم خلّصنا دم المسيح الذي يرشّ على قلوبنا، لا على أبوابنا، من روح الشر الذي يترصّد مخرّبًا في ظلمة هذا الليل العميق)).
لم يقل الكاتب شيئًا عن عطيّة الشريعة في سيناء (يو 1: 17؛ أع 7: 35ي). بل ذكر السمة الاساسيّة لدى موسى: هو مؤمن. وبالإيمان سيصير قائد (أرخيغوس) شعب الله. إن رئيس بني اسرائيل المخلّصين آمن بالله، بمجيء المسيح، بمستقبل شعب. إنه مثال للمسيحيين المضطهدين، حين ترك ملذات مصر وقبلَ العار، فكان الصادق الأمين.
ثانيًا: جازوا البحر الأحمر (آ 29)
آمن الاسرائيليون بكلمة الله وقدرته العجائبيّة، فساروا وراء مخلّصهم الذي قاسموه معتقده (3: 16)، وما تردّدوا في ولوج البحر الأحمر (خ 14). ما خابت ثقتهم، فعبروه كأنهم على أرض يابسة (خر 14: 29). وهكذا كان لهم النصر. تحرّروا من العبودية. أما المصريون الذين تبعوهم فغرقوا. ((بايران لمباناين))، اختبروا خبرة (تث 28: 56). حاولوا. ولكنهم غرقوا (كاتابينو، ابتلعتهم المياه). السبب: لم يكن عندهم إيمان. رج حك 10: 18 - 19. صار البحر الاحمر للبعض باب خلاص وللبعض الآخر باب موت (1 كور 10: 1 ي). غاب الايمان فكان الهلاك. ولكن صارت المعجزة ممكنة بواسطة الايمان. فعلى المسيحيين أن لا يخافوا بغض مضطهديهم وهجماتهم. فالله أقوى من فرعون، وخالق الكون هو الذي يوجّه الأحداث لخير مختاريه (رو 15: 3 - 4) فيخلّصهم من وضع ميأوس. فمن أراد أن يدخل أرض الميعاد، عليه أن يمرّ في هذه المحن وأن يؤمن أنه يتغلّب عليها. فالايمان ينقل الجبال (مت 17: 20)
ثالثًا: سقطت اريحا (آ 30 - 31)
بالايمان صنعوا الفصح، جازوا البحر. وبالايمان سقطت أريحا، وما هلكت راحاب. عاد كل شيء إلى الايمان. فالله هو الذي يفعل، والانسان يتمتّع بنتيجة عمله. ذُكر حصار أريحا في يش 6. أمر الرب بالطواف حولها. نفّذ الشعب الأمر، فسقطت (بيبتو، مت 7: 25؛ أع 15: 16؛ رؤ 11: 13؛ 14: 8). لن نتوقّف عند الحفريات الاركيولوجيّة. فالكاتب يربط سقوط أريحا بإيمان بني اسرائيل وطاعتهم لله. لا نعرف ماذا حدث بالضبط. هل كانت حيلة سقطت على أثرها الحامية (ح و م ة، رج 1صم 25: 6) فدخل المهاجمون المدينة؟
لا يهتمّ الايمان بالوسيلة، بل يدرك الهدف. يتدخّل الله فيشهد. والنتيجة هي هنا ولا تحتاج إلى برهان. سقطت القلعة نتيجة إيمان الشعب. هذا يعني أن الحواجز تسقط بفضل سلاح الايمان (أف 6: 13ي). لو كان فيكم إيمان مثل حبّة الخردل.
في آ 31 ذُكرت راحاب في معرض الحديث عن أريحا. فهي التي استقبلت الجواسيس. هي الغريبة التي ستنضمّ إلى شعب الله. وهي الزانية (ز و ن ه) التي نالت الخلاص. تحدّث الكاتب عن مهنتها المشينة، فدلّ على انتصار الايمان فيها. ارتبطت بتامار وراعوت في نسب المسيح، كزوجة صلمون وأم بوعز (مت 1: 5). يقول المعلّمون إن يشوع تزوجّها فكانت جدّة ثمانية كهنة، منهم إرميا وحزقيال النبيّان. ذكر يع 2: 25 اسمها مع اسم ابراهيم. آمنت كما آمن. ورأى فيها آباء الكنيسة ((الكنيسة الآتية من الأمم الوثنيّة)). نشير هنا إلى أن راحاب ذُكرت وحدها كامرأة، في لائحة أبطال الايمان، مع سارة أم الشعب المختار.
استحقّت راحاب هذا المديح لأنها أمنت بالاله الحقيقيّ، فكان اعتراف ايمانها من أجمل ما في العهد القديم (يش 2: 11). وآمنت بالعناية الالهيّة، كما اقتنعت بانتصار الشعب منذ البحر الأحمر. وكان ايمانها فاعلاً وحكيمًا فوصل بها إلى البطولة. ما أكتفت بأن تستقبل الجواسيس استقبالاً حسنًا (داخوماي، كما يليق)، بل أضافتهم وأرسلتهم بسلام (ايريني، رج أع 15: 33). نقرأ ((كاتاسكوبوس)) (جواسيس، مراحدة في العهد الجديد، م ر ج ل ي م). آمنت فنجت مع أهل بيتها (يش 6: 22 - 25)، عكس جميع الذين لم يؤمنوا فقاوموا مخطّط الله. هذا هو معنى فعل ((ابايتايو)): من لا يريد أن يقتنع، من يرفض كلمة الله (3: 18؛ يو 3: 36؛ أع 14: 2؛ 19: 9؛ روم 2: 8؛ 10: 21؛ 11: 30 ،31؛ 15: 21). قال الذهبي الفم ويوحنا الدمشقي: أما تستحون حين يكون إيمانكم أقل من ايمان بغيّ؟
2 - قراءة إجمالية
((بالايمان، لما وُلد موسى، أخفاه والداه ثلاثة أشهر، لأنهما رأيا أن الطفل جميل ولم يرهبا أمر الملك)) (11: 23)
وصل الكاتب إلى موسى. ترك وراءه سفر التكوين مع خبر الآباء، ووصل إلى سفر الخروج ودخول بني اسرائيل إلى أرض الموعد (آ 23 - 31). تميّز موسى، شأنه شأن ابراهيم، في توسّع طويل تجاه حاشية قصيرة لسائر الآباء. هو رجل الايمان الذي يجد كماله في يسوع المسيح. أما آ 23 فتدلّ على أم موسى. أحيط منذ طفولته بمناخ من الإيمان، وذلك في روح الله الحقيقيّ الذي تضمّ مواعيدُه المؤمنين وأولادهم. يقول إن الولد أخفي ((بالايمان)) ولا يشرح مضمون هذا الايمان بالنظر إلى مشيئة الله تجاهه. كان الطفل جميلاً. نحن هنا أمام أكثر من جمال خارجيّ. هذا الطفل هو موضوع نعمة الله، كما قال الذهبيّ الفم.
إن مخافة الله لدى والدي موسى، كان باعثها اعتقادٌ بأن لولدهما دورًا يلعبه داخل مخطّط الله. لهذا لم يرهبا أمر الملك. وهذا الموقف من اللاخوف انتقل إلى موسى حين صار رجلاً: لم يرهبا سخط الملك (آ 27). خاطر الوالدان، فدلاّ على إيمانهما، وزادا في المخاطرة حين جعلا الولد على حافة النهر مع أخته. ولكن الله حفظ الطفل. دربّت الوالدة طفلها كما يجب، فعرف أن يكون مع اخوته في ضيقهم. غير أن اخوته لم يفهموا أن الربّ يخلّصهم بيده (أع 7: 25).
في 3: 2 ي، كان الكاتب قد قابل بين موسى والمسيح على مستوى الأمانة للعهد. كان موسى صورة المسيح، وهذا واضح في الوعد المسيحاني الذي أعطاه الله بأنه سيرسل نبيًا مثله، من بين اخوته، ويصبح كلامه في فمه (تث 15: ،15 18؛ أع 7: 37). أما هنا، فالكلام عن موسى الذي به أعطيت الشريعة للشعب، والذي هو نموذج المسيح في دوره كمخلص: قاد الشعب المختار من عبوديّة مصر إلى حدود أرض الموعد. والمسيح أتمّ نموذجه البعيد كمبدئ خلاصنا الذي لم يستح أن يدعونا إخوته، الذي خلّص شعب الله من عبودية الخطيئة وأوصلهم إلى الراحة الموعودة (عب 2: 10، 11 ،15؛ 3: 14ي؛ 4: 3؛ 12: 2).
بالايمان موسى. لما كبر، أبى أن يُدعى ابنًا لابنة فرعون، واختار المشقّة مع شعب الله على التمتّع الوقتيّ بلذّة الخطيئة، عادًا عار المسيح ثروة أعظم من كنوز مصر، لأنه كان ينظر إلى الثواب)) (11: 24 - 26)
بالايمان كبر موسى. ونجا من الموت، فوصل إلى النضوج والمسؤوليّة. واجه القرار الحاسم الذي يحدّد وجهة حياته منذ البداية. ماذا يختار؟ هو الأمير المصري. يبقى ذاك الأمير، ينعم بالامتيازات التي حصل عليها بنعمة فريدة من لدن الله. قال عنه اسطفانس في خطبته: ((تأدّب بحكمة المصريين كلها. وكان مقتدرًا في أقواله وأعماله)) (أع 7: 22). فماذا ينقصه بعد ذلك. أما هكذا كان يوسف بن يعقوب؟ ولكن موسى أدار ظهره لهذه القدرة وهذه الامتيازات، كما ُطلب منه. فمصيره غير مصير يوسف. لهذا رفض أن يُدعى ابنًا لابنة فرعون. كان باستطاعته أن يقول: أبقى في هذا المركز المرموق وأعين إخوتي. ولكن مشيئة الله كانت غير ذلك: عليه أن يترك الطمأنينات البشريّة ويواجه الأخطار العديدة ليقود شعبًا من الرعاة، من العبوديّة إلى الحرية. كانت خطيئة موسى كبيرة لو أنه عصى النداء السماوي (عب 2: 1؛ أع 26: 19) واختار التمتّع بما يقدّمه القصر الملكي. فالطاعة للنداء طلبت منه إيمانًا يدفعه إلى هدف سماوي، وإن كان هذا الهدف بعدُ بعيدًا. عليه أن يفهم أن سراب العالم لا يقابَل ببركات أبديّة يكفلها وعدُ الله. ففي خط الايمان الذي انطلق مع ابراهيم، فضَّل موسى عار المسيح على خيرات مصر، على مثال بولس الذي قابل بين ضيق هذا الزمان والمجد المزمع أن يتجلّى.
إن التخلّي عن كنوز مصر واختيار الحياة القاسية مع الشعب رغم احتقار هذا العالم وحزنه، وحّدا موسى بمسيح الله. هل يعني أنه تخلّى عن شعبه؟ كلا. بل هو تطلّع، بالايمان، إلى شعب أوسع من شعبه، فكان صورة بعيدة عن المخلّص الحقيقيّ، يسوع المسيح. ثم إن طريق الايمان هي طريق الآلام (كلام يتوجّه بشكل خاص إلى قرّاء الرسالة). وحين اختار موسى هذه الطريق، تبع خطًا سيجد كماله في الذي هو وحده المسيح (عب 2: 10). وهكذا كان انتقال من موسى إلى يسوع المسيح عبر شخص عبد الربّ (أش 53) الذي سحقه الله بالأوجاع فرأى ثمرة تعبه، وبرّر الناس، وحمل خطاياهم بعد أن شفع فيهم.
شابه موسى المؤمنين الذين سبقوه والذين لحقوه، فاندفع بنظرة ترى من خلال المحن والضيقات، في الزمن الحاضر، المجدَ الذي يدوم. نظر إلى الجزاء. إلى ما لا يُرى، إلى من لا يُرى. هذ ما يجب على المسيحيين أن يفعلوه: يطرحون كل ثقل، يسعون بثبات، وينظرون إلى يسوع الذي تحمّل الصليب بدل السرور (12: 1 - 2). تماهى موسى مع شعبه، فعرف عارًا أول. وتماهى مع المسيح فعرف عارًا ثانيًا. واختار هذا الموقف بفرح عارفًا الهدف المجيد الذي يصبو إليه. فلماذا يخاف المؤمنون الاضطهاد والمسيح قال لهم: ((طوبى لكم حين يضطهدكم الناس)) (مت 5: 11).
بالايمان ترك مصر ولم يخشَ (يرهب) سخط الملك. بل تجلّد كأنه يعاين الذي لا يُرى. بالايمان صنع الفصح ورشّ الدم لئلاً يمسّ المهلك الأبكار. بالايمان جازوا في (عبروا) البحر الأحمركأنما في أرض يابسة، ولما حاول ذلك المصريون غرقوا)) (11: 27 - 29)
ويتابع الكاتب خبر موسى. حين ترك موسى مصر، تركها مدفوعًا بالايمان. نحن نعرف أن موسى ترك مصر هربًا من الفرعون بعد أن قتل مصريًا يعنّف واحدًا من اخوته. قال خر 2: 14 - 15: ((خاف موسى وقال في نفسه: ذاع الخبر. وسمع فرعون بهذا الخبر، فحاول أن يقتل موسى، فهرب موسى من وجه فرعون)). ذاك هو الوجه البشري، أما عب فربطت تصرّف موسى منذ هربه وحده إلى هربه مع بني اسرائيل واجتياز البحر الأحمر، بالايمان الذي وجّهه من أجل خلاص شعبه.
وأقام موسى في البرّية أربعين سنة. وجاء وقت عرف فيه أن ساعة الله دقّت، وكانت محنة الملاك في الطريق (خر 4؛ 24 - 25). ولكن موسى واصل طريقه. وقبل أن يخرج مع شعبه، عاش الخروج وعبور البحر الأحمر في السرّ: صنع الفصح، رشّ الدم. أطاع الله، فكان هذا الخلاص الأول من المهلك، رمزًا إلى خلاص آخر من البحر. أما الحمل الذي ذبحه فيشير إلى ((حمل الله)) (يو 1: 29 ،36)، إلى ((حمل فصحنا)) (1كور 5: 7) الذي يفتدينا بدمه الثمين، الذي هو ((دم الحمل الذي لا عيب فيه ولا دنس، دم المسيح)) (1 بط 1: 19)، هذا الحمل الذي دمّر بموته قوّة الشرّ (رمز فرعون عابر الأوثان). حمل الخلاصَ من العبوديّة (عب 2: 14 - 15). المهلك هو هنا. لنتسلّح بذبيحة المسيح بعد أن أخرجنا الله من مصر، من الظلمة ومن العبوديّة (الذهبي الفم).
ترك بنو اسرائيل أرض فرعون، وبدأوا مسيرتهم إلى أرض الموعد، فوجدوا نفوسهم في محنة هدّدت إيمانهم. أمامهم حاجز البحر الأحمر. ووراءهم جيش فرعون الذي بدّل رأيه حين تركهم ينطلقون. إن لم يدلّ الله على أنه إله المستحيلات، فلا سبيل نجاة لمجموعة ضعيفة وغير منظّمة. فحثّ موسى، رجلُ الايمان، هذا الشعب اليائس، وجمعه حول كلمة الله: ((لا تخافوا، قفوا (ثابتين) وانظروا اليوم خلاص الرب. سترون المصريين اليوم ولن تعودوا ترونهم إلى الأبد. الربّ يحارب عنكم، وأنتم لا تحرّكون ساكنًا)) (خر 14: 13 - 14). ففعلت قدرة العلي. والايمان بكلمته نال النصر الكامل، فانفتحت مياه البحر (الذي يدلّ على الشرّ) أمامهم. وهكذا عبر الشعب بقوّة الايمان. أما المصريون فنقصهم الايمان (هنا نتذكّر سفر الحكمة). فالمياه التي حملت سفينة نوح وأغرقت الأشرار، هي ذاتها التي صارت طريقًا للعبرانيين ومدفنًا للمصريين. في هذا الأطار، تحدّث بطرس قائلاً: ((ها أنا أضع في صهيون حجر زاوية كريمًا، فمن آمن به لا يخيب. فهو كريم لكم أنتم المؤمنين. أما لغير المؤمنين فهو الحجر الذي رفضه البناؤون وصار رأس الزاوية، وهو حجر عثرة وصخرة سقوط)) (1 بط 2: 6 - 8؛ رج أش 8: 14 - 15؛ 28: 16). وقال بولس: ((نحن رائحة المسيح الذكيّة بين الذين يخلصون أو الذين يهلكون. فهي للذين يهلكون رائحة موت تقود إلى الموت، وللذين يخلصون رائحة حياة تقود إلى الحياة)) (2 كور 2: 15 - 16).
بالايمان سقطت أسوار أريحا بعد الطواف حولها سبعة أيام. بالايمان راحاب البغيّ لم تهلك مع العصاة لأنها قبلت الجاسوسين (وصرفتهما) في سلام)) (11: 30 - 31)
وتبع عبور البحر الأحمر، أربعون سنة من الدوران في البرية. وما حدث مع موسى حدث مع يشوع: فالعوائق تقف في وجه الداخلين إلى أرض الموعد. بعد عبور الاردن انتصبت أسوار أريحا التي لا يمكن أن تؤخذ. ولكن يشوع كان رجل ايمان، شأنه بشأن موسى. سمع صوت الربّ: ((تشدّد، تشجّع. لا ترهب ولا ترتعب، لأني أنا الرب الهك معك حيثما توجّهت)) (يش 1: 9). مرّ إيمانه في محنة أمام أمر يبدو غريبًا ولامفهومًا: يدور الشعب حول المدينة التي ستسقط، لا بالسلاح، بل بالايمان بقدرة الله. قال الذهبي الفم: ((لا يستطيع صوت الأبواق أن يُسقط الاسوار، ولو ظلّوا ينفخون فيها ربوات من السنين. فالايمان يستطيع أن يفعل كل شيء)).
وارتبط بخبر سقوط أريحا خبر راحاب. جُعلت راحاب هنا مع أبطال الايمان، وهذا أمر له مدلوله. أولاً، هي امرأة. ولن تكون امرأة أخرى سوى سارة زوجة ابراهيم. أما هنا فراحاب وحدها. إن كان من تمييز بين الرجل والمرأة على مستوى الحياة اليوميّة والوظائف الاجتماعيّة. فعلى مستوى الايمان، لا رجل ولا امرأة (غل 3: 28). كان بامكان الكاتب أن يذكر نساء أخرى، ولكن راحاب هي نموذج لهنَّ جميعًا. كانت سارة أم المؤمنات. أما راحاب فأم الخاطئات وصولاً إلى زمن المسيح الذي رفض أن تُرجم الزانية التي قدّمت له (يو 8: 11؛ أنا لا أحكم عليك. إذهبي ولا تخطئي بعد الآن)، والذي استقبل الخاطئة وفضّلها على سمعان: أحبّت كثيرًا فغُفر لها الكثير (لو 7: 37).
أجل، عُرفت راحاب أنها بغيّ (رج بع 2: 25؛ يش 2: 2)، أنها زانية. هذا ما كانت عليه قبل أن تهتدي إلى الايمان وتنضمّ إلى شعب الله، على مثال متّى الذي كان عشارًا (ف 10: 3) وجابي ضرائب (أي: سارق في الأحوال العادية)، وسمعان الذي كان محاربًا مع الغيورين (لو 6: 15؛ أع 1: 13) قبل أن يلتحق بالطريق الرسوليّ. هذا ما تفعله نعمة الله إن نحن تجاوبنا معها بالايمان. فالمسيح جاء يدعو الخطأة إلى التوبة (لو 5: 32). وسيقول لرؤساء اليهود: ((الحقّ أقول لكم، العشارون والزناة يسبقونكم إلى ملكوت الله. جاء يوحنا عن طريق البرّ فلم تؤمنوا به. ولكن آمن به العشّارون والزناة. ومع ذلك، حين رأيتم هذا ما ندمتم بعد حين ولا آمنتم به)) (مت 21: 31 - 32). وراحاب، في عصرها، كانت زانية. آمنت فقيل فيها أنها لم تهلك مع العصاة لأنها آمنت. فالعصيان يعني اللاإيمان (رج 3: 18)؛ يو 3: 36؛ أع 14: 2...). وعبّرت عن إيمانها بشكل منظور في الطريقة التي بها استقبلتهم ((في سلام)). لم تعاملهم كغزاة وأعداء: سمعت ما صنعه الله لشعبه، فآمنت بالاله الحقيقيّ. ((أعرف أن الله أعطاكم الأرض))(يش 2: 1ي). آمنت حيث تردّد شعب الله: هل يقدر الربّ على أسوار أريحا. وكانوا قد تساءلوا في البرية: هل يقدر الله أن يطعم شعبه؟ وقالوا: هل الله معنا أم لا؟
وأخيرًا راحاب ليست زانية فقط، بل هي امرأة غريبة عن شعب الله. فلا يحقّ لها ما يحقّ لأفراد الشعب. ولكنها بإيمانها تجاوزت هذا الحاجز أيضًا: صارت من شعب الله، ونعمت بامتيازات وبركات استُبعدت عنها في الأصل. وهكذا دلّت على أن جميع الأمم تتبارك في زرع ابراهيم (تك 22: 28؛ غل 3: 18 - 19). وحين انضمّت إلى شعب الله دخلت في نسب المسيح.

خاتمة
تابع الكاتب رسمة الايمان بعد ابراهيم. فوصل إلى موسى، رجل العهد، وجعله يتطلّع إلى المسيح صاحب العهد الجديد الأبديّ. قرأ حياة موسى في ضوء حياة المسيح، فجعله مسيحيًا يرى آلام المسيح وعاره قبل أن تحدث، كما رأى ابراهيم مجد الابن وابتهج (يو 8: 56). وتحدّث عن يشوع الذي أدخل الشعب أرض الموعد، فكان مثالاً بعيدًا ليسوع الذي يُدخل البشريّة إلى الراحة. وأخيرًا برزت امرأة فدلّت بإيمانها على أنها أهل للملكوت الذي يحمله المسيح، وهو الذي لم يأت للابرار بل للخطأة. بالايمان صار البحر أمام موسى أرضًا يابسة. وأمام يشوع صارت أسوار أريحا كتلة حجارة. وأما راحاب فسقطت أمامها حواجز الشريعة التي تمنع المرأة الخاطئة من الاختلاط بالابرار، والغريبة من الجلوس مع شعب الله. غير أن كل هذا لم يصل إلى كماله مع العهد القديم، بل هو ينظر إلى العهد الجديد، إلى المسيح الذي بدأ وهو يكمل.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM