الفصل الرابع والثلاثون: أبطال منتصرون وأبطال متألّمون

الفصل الرابع والثلاثون

أبطال منتصرون وأبطال متألّمون
11: 32 - 40

بدأ الكاتب فذكر أسماء أبطال عاشوا الايمان. أشار بسرعة إلى هابيل وأخنوخ ونوح. وأطال الكلام عن ابراهيم وموسى قبل أن يعود إلى يشوع وراحاب. وها هو في نهاية هذا الاتجاه الأول (11: 1 - 40) من القسم الرابع (11: 1 - 12: 13)، يقدّم لوحة إجمالية تحاول أن تقرأ العهد القديم على ضوء الايمان، ومن زاويتين اثنتين: هناك أبطال انتصروا بإيمانهم. صمدوا فظهرت فيهم قدرة الله وعملت المعجزات، وآخرها اقامة الموتى. وهناك أبطال آخرون يشبهون إلى حدّ بعيد كنيسة عب: لم ينتصروا بالقوة، بل بالضعف. لم ينتصروا بالأعمال الخارقة التي عملوها، بل بالآلام التي تحمّلوها. فهؤلاء وأولئك هم مثال لنا، ومعهم نسير لكي نبلغ الكمال، ومعهم نشهد للمسيح الذي تحمّل الصليب قبل أن يجلس عن يمين عرش الله.

1 - تفسير الآيات
في هذا المقطع (11: 32 - 40) الذي ينهي نشيد الايمان كما عاشه المؤمنون في العهد القديم، ويُدعى إلى عيشه المؤمنون في العهد الجديد، نتوقّف عند محطتين وخاتمة: أبطال انتصروا (11: 32 – 35 أ). أبطال تألّموا (آ 35ب - 38). وترد الخاتمة (آ 39 - 40) فتُوجّهنا إلى الموعد الحقيقي، وإلى المصير الأفضل الذي ينتظر المؤمنين.

أ - أبطال انتصروا (11: 32 – 35 أ)
أولاً: أسماء الأبطال (آ 32)
سار الكاتب مسيرته في التوراة، فوصل إلى يشوع، لكي يكتشف وجوهًا فيها انتصر الايمان. وتوسّع في خبر الدخول إلى كنعان من ابراهيم إلى موسى. ولكنه لا يستطيع أن يتابع تحليلاته من سفر القضاة إلى سفر المكابيين، لئلا يطيل الكلام. نقرأ هنا اسم الفاعل لفعل ((دييغيوماي)) روى، أخبر، وصف، رج لو 8: 39؛ 9: 10 ،اذن اختصر. فقال إنه لن يتحدّث عن هذا الشخص أو ذاك، بل يكتفي بأن يذكر الأعمال العظيمة التي عُملت (آ 32 – 35 أ) والآلام الكبيرة التي احتُملت (آ 35 ب، 38) بفضل الايمان. سيذكر المحاربين والشهداء.
تبدأ هذه الآية في إطار خطبة (لا في إطار رسالة): ماذا أقول؟ فإن عب هي عظة تتوجّه إلى مؤمنين بدأ إيمانهم يتزعزع بعد أن انتظروا طويلاً خلاص الله من الضيق الذي يعيشون فيه. وجاءت السلسلة: أربعة قضاة، ملك واحد. نبيّ واحد هو في الوقت عينه آخر القضاة: جدعون (قض 6 - 8) الذي خلّص الشعب من غزوات المديانيين، مع أن القوى لم تكن متعادلة، ومع أنه كان الصغير في بيت أبيه، وكان من قبيلة هي أصغر القبائل، ومع أن الرب أجبره على تسريح الكثير من جيشه. ولكنه انتصر بايمانه. باراق (قض 4 - 5) الذي انتصر مستندًا إلى إيمان امرأة هي دبورة (قض 4: 8 - 9). شمشون (قض 12 - 16) الذي عُرف بمغامراته، ومع ذلك سيقول من عمق ضعفه (وحده في هيكل داجون) وشقائه (بعد أن سلّمته دليلة إلى الفلسطيّين): أذكر، يا رب، وشدّدنيّ)) (قض 16: 28). يفتاح (قض 11 - 12) الذي هو ابن زنى. طُرد من بيت أبيه. (قض 11: 1 - 2). ثم صار رئيس شعبه وقائده، وانتصر حين حلّ عليه روح الرب. أربعة اختارهم الربّ لخلاص شعبه، قبل تأسيس الملكيّة. ثم ذكر الكاتب داود الذي جاء من وراء الغم ليرعى شعبه (1 صم 16: 11 - 13)، وصموئيل الذي مسح شاول وداود، الملكين الأولين في الشعب العبراني. وأنهى اللائحة باشارة إلى الانبياء بشكل عام، ولم يُهمل أحدًا. كان بإمكانه أن يُسمّي إيليا، ولكنه لم يفعل، بل اكتفى بالاشارة (آ 37 - 38) إلى هذا الذي كان بطل الايمان فقال يومًا للرب: ((بنو اسرائيل نبذوا عهدك وهدموا مذابحك وقتلوا أنبياءك، وبقيت أنا وحدي معك)) (1 مل 19: 14).
كان عملُ الانبياء حاسمًا في مسيرة تاريخ شعب الله، فوظّفوا المواهب التي نالوها في خدمة الايمان. عبّروا عن كلمة الله، وطلبوا من المؤمنين التمسّك بهذه الكلمة، ونظروا إلى المستقبل، لا فقط إلى الحاضر، إلى ما لا يُرى، لا فقط إلى ما يُرى. وأعادوا دومًا اسرائيل من طرقات ضلّ فيها (اش 53: 6) إلى الطريق التي تقود إلى الحياة والخلاص (إر 6: 16؛ 21: 8؛ 50: 5). كانوا مناضلين من نوع خاص، فاشتعلوا حماسًا للحفاظ على الديانة من الانحطاط، وخاطروا بحياتهم (إر 11: 19؛ 20: 3ي؛ 38: 4ي؛ عا 7: 10 - 11). ودافعوا أيضًا عن الضعفاء (أش 3: 12؛ 5: 20؛ إر 22: 1ي؛ عا 6: 1ي؛ مي 3: 11). كما ناضلوا في سبيل العهد (هو 4: 12؛ 5: 4؛ 9: 1)، مشدّدين على موقف داخليّ في تقديم الذبائح (عا 5: 21؛ أش 1: 11). في النهاية دعوا الشعب إلى الايمان بالله والأمانة له. وكل هذا يتلخّص في كلام أشعيا ساعة تهدّد الخط البلاد: إن لم تؤمنوا لن تأمنوا. أي إذا لم يكن عندكم ايمان، فلن يكون لكم أمان وسلام. وإيمان هؤلاء الاشخاص بدّل مسيرة التاريخ، وهو يفعل الآن.
ثانيًا: أعمال الابطال (آ 33 - 35أ)
إن انتصار هؤلاء الأبطال في أرض الموعد يرتبط بما في آ 30 - 31. هناك فعل ((كاتاغونيزوماي)) (مراحدة بيبليّة) استعمله يوسيفوس (العاديات 7/2: 53) في معرض حديثه عن انتصار داود على الفلسطيّين. والكتاب عن انتصار باراق على الكنعانيين (قض 4)، وجدعون على المديانيين (قض 7)، ويفتاح على العمونيين (قض 11)، وشمشون على الفلسطنيين (قض 14)، وداود على الفلسطنيين والموآبيين والعمونيين (1 صم : 17ي؛ 8: 1ي؛ 10: 1ي). ((ارغازوماي (صنعوا) ديكايوسينين)) (البرّ، ع ث ه. ص د ق ه): البرّ تجاه الله أو العدالة تجاه القريب. فمن كان بارًا نجاه الله، مارس العدالة في القضاء. ((ابيتينغانو)) لقي بغيته، شارك. أدرك الهدف، نجح. هنا، نال المواعد (ابانغاليا).
بعد هذا النجاح في ((السياسة)) الخارجيّة (انتصار على عدوّ خارجيّ)، وفي ((السياسة)) الداخليّة (إقامة العدالة)، ذكر الكاتب معجزات أجراها رجال الايمان هؤلاء: سيطروا على الوحوش كما فعل شمشون (قض 14: 6) وداود (1 صم 17: 34 - 35) وبنايا بن يوياداع (2 صم 23: 20) ودانيال (وا 6: 23؛ 1 مك 2: 60). سار المؤمنون وسط النار ولهيبها (سبانيمي، أخمد) كما فعل الأولاد الثلاثة الذين يذكرهم دا 3: 49 - 50؛ رج 1 مك 2: 59. والخلاص من السيف يرفعه الأعداء أو ملك متسلّط (4: 12؛ لو 21: 24) يشير إلى موسى (خر 18: 4) وداود (1 صم 18: 11؛ 19: 10؛ مز 144: 10) والانبياء (1 مل 19: 21) بمن فيهم إرميا (إر 26)، والشعب كله كما في أس 3: 6ي. فالايمان ينبوع قوّة للنفس والجسد: يقوّي (إديناموتيسان) في الضعف، ينتشل الانسان من (أبو) الضعف (استانايا، رج 1 صم 2: 4): شمشون في هيكل داجون. يهوديت الأرملة الضعيفة تجاه اليفانا. داود أمام جليات (1 صم 17). يشوع البطل وابن القوة كما يقول سي 46: 1 حسب النصّ العبريّ.
إن عبارة ((قلبوا معسكرات الاعداء)) تنطبق على الحقبة المكابيّة. فإن لفظة ((الوتريوي)) تدلّ على مضطهدي المؤمنين (1 تك2: 7؛ رج 1: 38). ((بارمبولي))، م ح ن ه، تدلّ على المخيمّ أو المعسكر (تك 32: ،3 9 ،22؛ أع 21: 34 ،37؛ رؤ20: 9)، وعلى جيش الأعداء، حيث الأشرار (1 مك 3: 15 ، 23، 27). ((كلينو)) وقع، قلب... وأخيرًا، بفضل ايمان إيليا واليشاع قام ابن أرملة صرفت صيدا (1 مل 17: 2407) وابن الشونميّة (2 مل 4: 33 - 37): تسلّمت (إلابون) كل امرأة ابنها (هيون)، لا من زوجها، ولا من الطبيعة، بل من القيامة (اناستاسيس).

ب - أبطال تألّموا (11: 35 ب - 38)
أولاً : قيامة افضل (آ 35ب - 37)
الايمان ينبوع حياة وقوّة من أجل الظفر. وهو أيضًا ينبوع ثبات في الألم وشجاعة أمام الموت. لهذا، جاءت لائحة جديدة من الشهود (ألوي، آخرون)، فعلّمتنا أن احتمال المحن والعذابات بطولة توازي الانتصار على الأعداء وسياسة البلاد. ((تيمبانيزو)) (مراحدة في العهد الجديد): ضرب كما على الطبل. شكل من أشكال العذاب ذاقه اليعازر (2 مك 6: 19 ،28) والاخوة السبعة الذين ماتوا في زمن انطيوخس الرابع تعلّقًا بإيمانهم. هو عذاب قاسٍ جدًا يشلّع أعضاء الجسد وينتهي بموت الانسان.
حاول المضطهدون أن يخلّصوا اليعازر من الموت، فدعوه إلى التساهل على مستوى الضمير. أما هو ففضّل موتًا مجيدًا على حياة في النجاسة (2 مك 6: 19). يشير الكاتب إلى رفض الشهيد بأن يخلّص حياته على حساب إيمانه. فالايمان هو ينبوع بطولة. هنا نتذكّر 2 تم 2: 11 - 12؛ ((إذا متنا معه نحيا معه أيضًا، وإذا صبرنا ملكنا معه)). أجل، بعد العذاب هناك القيامة.
عذابات عديدة تصيب النفس والجسد، وقد أصابت البشر بسبب إيمانهم (آ 26). لهذا تكدّست الألفاظ التي تتحدّث عن الاضطهاد: امبايغموس (مراحدة في العهد الجديد، غير معروف في اليونانية العادية) يعني الهزء، الكلام القاسي (مز 38: 8؛ حز 22: 4؛ سي 27: 28؛ حك 12: 25) كما يعني المعاملات السيّئة كالضرب واللطم (2 مك 7: 7). هكذا هزئ نكانور من كهنة أورشليم (1 مك 7: 33). وبكيديس من أصدقاء يهوذا المكابي (1 مك 9: 26)، ورؤساء الكهنة من الأنبياء (2 أخ 36: 16) ونذكر بين الذين أسيئت معاملتهم ميخا الذي لطمه صدقيا على فكّه (1 مل 22: 24 - 27) لأنه قال الحقيقة فعاكس الأنبياء الكذبة. حناني الذي جُعل في السجن (2 أخ 16: 10). إرميا الذي ضُرب وحُبست رجلاه في القيود (إر 20: 2).
وبدت القساوة في موت رجال الايمان هؤلاء. زكريا رُجم (2 أخ 24: 20 - 21؛ رج مت 23: 35)، وإرميا أيضًا كما يقول تقليد مسيحيّ أورده ترتليانس وهيبوليتس وايرونيموس. نُشر أشعيا بالمنشار بأمر الملك منسّى كما يقول تلمود بابل. وهناك أنبياء ماتوا بحدّ السيف (2 أخ 24؛ 20 - 22؛ إر 26: 23) ولا سيّما يوحنا المعمدان (مر 6: 27). لا شكّ في أن عب عادت إلى تقليد انطلق من 1 مل 19: 10، 14 (رج روم 11: 13 وإر 2: 30)، يقول: إن عددًا من الأنبياء اضطهدوا واستشهدوا بيد معاصريهم. هذا ما قاله يسوع (مت 23: 31) واسطفانس (أع 7: 52) وبولس الرسول (1 تس 2: 15).
اضطهد الاشرار خدّام الله هؤلاء، فأجبروهم على الهرب والمنفى. لم يكن لهم بيت، فتاهوا في البراري مثل إيليا (1 مل 19: 3ي) ومتتيا (1 مك 2: 28). لبسوا جلد الغنم (ميلوتي، مراحدة في العهد الجديد) مثل إيليا واليشاع (1 مل 19: 12، 19؛ 2 مل 2: 8 ،13 ،14) معوزين، مضايقين (تليبو، رج 1 كو 4: 8)، وليس من يدافع عنهم (كاكوخيو، في المجهول، مجهودين، رج 13: 3؛ 1 مل 2: 26).
ثانيًا: أكبر من العالم (آ 38)
كان هؤلاء أكبر من العالم. لهذا، لم يكن العالم يستحقّهم. لم يكونوا من العالم، كما طلب يسوع من تلاميذه (يو 17: 14 - 15). حكمٌ موجز ومؤثّر: هؤلاء الناس المحتقرون والمعذّبون، الذين يرذلهم العالم ويحسبهم غير مستحقي الحياة (أع 22: 22؛ 1كور 4: 11 - 13)، كانوا في الواقع مجد البشرية وملح الأرض. في الواقع، العالم (كوسموس، رج آ 7؛ 2 بط 2: 5، كما في انجيل يوحنا) لم يكن يستحقّهم. ((اكسيوس)) جدير بهم، يقابلهم، يستحقّهم. فقيمتهم تفوق قيمة الخليقة كلها. ويشدّد الشق الثاني من هذه الآية أيضًا، على حياة هؤلاء القديسين وهؤلاء الأبطال: تاهوا في البراري (1 مك 2: 29 ،31) كالوحوش (2 كور 11: 26)، وفي الجبال (1 مل 19: 8؛ 2 مك 10: 6). لجأوا إلى المغاور (1مل 18: 4، 13؛ 19: 9؛ 2مك 6: 11) وكهوف الأرض. ((أوبي)). رج يع 3: 11: فتحة في الصخر مثلاً أو في المغارة (خر 33: 22، ن ق ر ه؛ قض 15: 11، س ع ي ف).
هذه اللائحة الثانية من شهود الايمان تلفت النظر أكثر من الأولى. فالثبات أمام الموت والعذاب، يدلّ على أهمّية البرهان على غير المرئيات وعلى ما يكفل الرجاء (آ 1). فمهما كان الوضع البشريّ قاسيًا، فالايمان قادر على أن يحفظ الانسان في الأمانة لله ويجعله يحصل على موضوع رجائه. تطلّع الآباء إلى الراحة والوطن السماوي. أما المضطهدون فعرفوا حياة مقلقلة. فانتظروا النهاية ومجيء ذاك الذي يكمّل انتظارهم.

ج - مصير أفضل (11: 39 - 40)
تشكل آ 39 - 40 خاتمة ف 11، فتكوّنان مقابلة بين مصير المسيحيين ومصير القديسين في العهد القديم، وهي مقابلة ستكون أساس التحريض في ف 12 - 13. فالايمان يتضمّن يقينًا أن العناية الالهيّة تقود العالم، أن لا شيء يحصل لشعب الله بدون سماح إلهي، وأن الله يجازي الأعمال الصالحة الجزاء العادل. والبرهان هو أن الله أعان، حمى، حفظ، قوّى هؤلاء المؤمنين كلهم (هوتوي بنتس). فإن حافظوا على أمانتهم وعملوا أعمالاً عظيمة ، فلأن الله تدخّل من أجلهم. شهد لهم ( آ 2) شهد لهابيل (آ 4) وأخنوخ (آ 5) فدلّ على رضاه عنهم، ففعلوا كل ما فعلوا ((بالايمان)) (ديا تيس بستايوس). ولكن هذا الجزاء ليس كل الجزء، فامتلاك الخيرات المسيحانيّة تأخّر (آ 13)، وكذلك الحياة الأبديّة (6: 17ي؛ 10: 36 - 37). لماذا؟ ما الذي قصده الرب بهذا التأخير؟ هل أهملهم، أم هل كان إيمانهم ناقصًا؟ هذا ما تجيب عنه آ 40.
لقد ترتّب مخطط عناية الله بالنظر إلى المسيحيين (بارى هامون، لنا، ثم ((خوريس هامون، بمعزل عنا). لقد هيّأ الله للمسيحيين مصيرًا أفضل (بروبلابو، نظر مسبقًا، مراحدة في العهد الجديد. رج مز 37: 13). ((كرايتون تي)) (أفضل) تدلّ على تحقيق الوعد (آ 39)، على امتلاك الخلاص الأبدي (8: 6). على التتمة. فتلاميذ المسيح يختلفون عن أجدادهم في الايمان. فهم ينالون حالاً بعد موتهم كمال حياتهم والدخول إلى المعبد السماوي. فحبرهم، قلبُ التدبير الالهي، فتح لهم السماء (يو 1: 51) وهم يدخلونها. رسم لهم الطريق إلى مدينة مؤسّسة تأسيسًا متينًا (آ 10 ،13، 14). وسار أمامهم كالقائد (أرخيغوس 2: 10؛ 6: 20). أهل العهد الأول انتظروا. وأهل العهد الثاني امتلكوا. الأولون ظلوا في الطريق. والمسيحيون وصلوا إلى الهدف، إلى الكمال والتتمة (تالايوسيس).
يعتقد المؤمن أن الله يوجّه تاريخ العالم، يرتّب العهدين، ويجعل الأول يهيّئ الثاني. ولكن لا معنى للتهيئة بدون الكمال، والمواعيد إن لم تتمّ. العهد الأول يتطلّع إلى الكنيسة (1كور 10: 11؛ 1بط 1: 12)، وشعبُ الله إلى ((الراحة)) السماوية. بدأ ف 11 في الخلق (آ 2) وانتهى في كمال الخليقة، راسمًا تاريخ البشريّة بالنظر إلى الايمان. إذا كان مجد الشعب الأول كبيرًا، فما يكون مجد الذين اتحدوا اتحادًا وثيقًا بالمسيح المتجسّد، الذي مات وهو حيّ دومًا في المعبد السماوي. صار المؤمنون قريبين من الهدف، ولم تعد المسافة بعيدة. ألا يستحون بأن يكون ثباتهم أضعف من ثبات الأقدمين الذين ورثوا الموعد (6: 12) ولكنه لم يحصلوا عليه؟

2 - قراءة إجمالية
((وماذا أقول أيضًا؟ إنه يضيق بي الوقت لأخبر عن جدعون وباراق وشمشون ويفتاح، وعن داود وصموئيل والأنبياء)) ( 11: 32)
بعد كلام عن حقبة وصلت بالشعب الاسرائيلي إلى أرض الموعد، فهمَ الكاتبُ أن عليه أن يقدّم مقالاً طويلاً ان لم يوجز، فاكتفى ببعض الامثلة السريعة أو بالاحرى بلائحة أسماء عاشت الايمان واستنتج إجمالة حول انتصار الايمان لدى شعب الله تجاه أقسى المقاومات. ((وماذا أقول أيضًا))! أي لا حاجة إلى توسيع أكبر. فما قلناه يكفي لندلّ على مضمون الايمان ومضمون الرجاء. لهذا ذكرت عب أسماء يعرف المؤمنون ما وراءها من تصرّف يعبّر عن الايمان. انطلق الكاتب من الزمان اللاحق ليشوع، فوصل إلى القضاة والملوك، وأشار إلى الأنبياء الذين كلّمنا الله بهم منذ القديم (1: 1).
على المستوى البشري كانوا ضعفاء، ولكن قوّتهم كانت من الله. في هذا قال بولس الرسول بعد أن افتخر بما عمله من أجل الرب: ((فبكل سرور إذن أفتخر بأوهاني، لتستقرّ عليّ قوّة المسيح. أجل، أني أسرّ بالاوهان والاهانات والضيقات والاضطهادات والشدائد من أجل المسيح، لأني متى ضعفت فحينئذ أنا قويّ)) (2 كور 12: 9 - 10).
((أولئك الذين بالايمان قهروا الممالك، وزاولوا القضاء ونالوا المواعد وسدّوا أشداق الاسود، وأخمدوا حدّة النار، ونجوا من حدّ السيف، وتقوّوا من ضعف، وصاروا أشدّاء في القتال، وقلبوا معسكرات الأعداء)) (11: 33 - 34)
هؤلاء الأبطال الذين حاربوا من أجل الحقيقة، سواء ذُكرت أسماؤهم أو لم تُذكر، تغلّبوا على كل أنواع الصعوبات بإيمانهم. هم لم ينتصروا في النضال فقط، بل في العذابات والآلام، في السجن والموت، فارتبط عندهم ثبات الايمان بثقة الرجاء. قهروا الممالك كما فعل داود. زاولوا القضاء، أو بالاحرى قضوا القضاء الحسن في البلاد على ما روى 1صم 12: 3 - 5 عن صموئيل. ((ها أنا أمامكم. فاشهدوا عليّ أمام الرب... هل أخذتُ ثور أحد أو حمار أحد؟ هل أسأت إلى أحد أو ظلمتُ أحدًا...)). فقالوا له: ((ما أسأت إلينا، ولا ظلمتنا ولا أخذت من أحد شيئًا)). فقال لهم: ((يشهد الرب وملكه عليكم اليوم أن لا مأخذ لكم علي)). فقالوا: ((يشهد الرب)). وقيل عن داود أنه ((كان يحكم بالعدل والانصاف)) (2 صم 8: 15). وعن سليمان: ((أقامه الرب ملكًا ليحكم بالحق والعدل، لأنه أحبّ شعبه)) ( 1مل 10: 9).
((سدّوا أشداق الأسود)). هذا ما قاله دانيال لداريوس الملك: ((أرسل الرب ملاكه فسدّ أشداق الاسود فما أساؤوا إليّ)) (دا 6: 22). ((وأخمدوا حدّة النار)). فرض نبوخذ نصر على الفتية الثلاثة أن يسجدوا للتمثال وإلا رماهم في اتون النار. فقالوا: ((إلهنا الذي نعبده هو قادر على إنقاذنا من أتون النار المتقدة)) (دا 3: 17). وفي الواقع لم يكن الفتية ثلاثة بل أربعة، ومنظر الرابع يشبه ابن الله (آ 25). ((وصاروا أشدّاء في القتال)). في هذا المجال، نقرأ بعض آيات مز 18: ((أرسل من عليائه فأخذني، وانتشلني من المياه الغامرة. نجاني من عدوّ لدود، ومن مبغض أقوى مني. هاجموني في يوم بليّتي، فكان الرب سندي. أخرجني إلى الآمان وخلّصني لأنه رضي عني)) (آ 17 - 20) ويتابع المرنّم: ((الرب يضيء سراجي، إلهي ينير ظلمتي. بعونه اقتحم الجيوش، وبه أتسلّق الأسوار... يعلّم يديّ القتال، فتلوي ذراعاي قوس النحاس. تعطيني ترس الخلاص، وعينك يا رب تساعدني)) ( آ 29، 34 - 35)
واسترجعت نساء أمواتهن بالقيامة. فمنهم من عُذّبوا ولم يقبلوا النجاة ليُحرزوا قيامة أفضل. وآخرون ذاقوا الهزء والسياط حتى القيود والسجن)) (11: 35 - 36)
هناك أناس قاموا من الموت وهناك أناس تطلّعوا إلى القيامة، كما كان الأمر بالنسبة إلى المكابيّين. فكلهم فعلوا ما فعلوا يدفعهم الايمان. كان ابراهيم قد اعتبر أن الله قادر أن ينهض حتى من بيت الاموات (آ 19). هذا ما فعله إيليا وأليشاع. ولا ننسى العهد الجديد حين أقام يسوع ابن أرملة نائين (لو 7: 11ي) ولعازر شقيق مرتا ومريم (يو 11: 1ي)، وبطرس طابيتة التي بكتها آرامل يافا (أع 9: 36ي).
وذكر الكاتب ما نال هؤلاء من عذاب وهزء وقيود وسجن: تحملّوا كل هذا وفضّلوه على حياة من الراحة لأنهم آمنوا.
((رُجموا، نُشروا، ماتوا بحدّ السيف. تشردّوا في جلود الغم والمعز. معوزين، مضايقين، مجهودين، هم الذي لم يكن العالم مستحقًا لهم. تائهين في البراري والجبال والمغاور وكهوف الأرض)) (11: 37 - 38)
وتتواصل لائحة الذين تألّموا فشهدوا على أمانتهم لله. إن يسوع نفسه بكي على أورشليم التي قتلت الانبياء، ورجمت أولئك الذين أرسلهم الله (مت 23: 21). كان مصير زكريا الرجم، لأنه وبّخ معاصريه الذين تركوا وصايا الرب . قال : ((تركتم الرب فترككم الرب)) ( 2 أخ 24: 20 - 21). نلاحظ في هذه العذابات، ثبات هؤلاء الرجال الذين رفضوا أن ينكروا الحقيقة التي بها تحرّروا. كما نلاحظ البغض والحقد في عالم كافر يعادي الحقيقة، ويهاجم أولئك الذين وثقوا بمواعيد الله التي لا تتزعزع. رفض المؤمنون العالم فرفضهم العالم. رفضوا أن يسيروا بحسب منطق العالم، فحاول العالم أن يلغيهم ويلغي شهادتهم. لهذا، فالعالم لا يستحقّهم. شعّت حياتهم في عالم مظلم، لهذا قال يوحنا في رسالته الأولى: ((العالم عابر ومن يعمل بمشيئة الله يدوم إلى الأبد)).
((وهؤلاء كلهم ، وإن شُهد لهم بالايمان لم ينالوا الموعد، لأن الله إذ أعدّ لنا مصيرًا أفضل، لم يشأ أن يبلغوا الكمال بمعزل عنا)) (11: 39 - 40)
كل هؤلاء الذين ذُكروا في ف 11، الذين شهدوا للحق وثبتوا خلال الأجيال حتى مجيء المسيح، شهد لهم إيمانهم، أنهم ثبتوا في وجه أقسى المحن والمقاومات، فبيّنوا صدق اعترافهم. ومع ذلك فهم لم ينالوا ما وُعدوا به: فمع أنهم نالوا بركة الله، وجعلوا رجاءهم في مواعد الله، إلاّ أنهم خلال حجّهم الأرضي، لم يروا التتمّة المجيدة لهذه المواعد التي ستصبح حقيقة في المسيح (2 كور 1: 10). ولكن بما أنهم رأوا بعين الايمان الوالجة، وحيّوا تتمّة الموعد من بعيد، عاشوا في الايمان وماتوا في الايمان.
هذا لا يعني أن هؤلاء المؤمنين في العهد الأول، أبعدوا عن ملء التمتّع بالحقيقة الموعود بها، بل إن الكاتب يقول إن الله الذي يُنجز حقًا ما وعد به، أعدّ لنا مصيرًا أفضل. فليس لله مخطط لهم ومخطط لنا. فقد رأوا مسبقًا في الايمان بداية التصميم الأفضل الذي يشمل الحبر الذي يفوق النظام اللاوي (7: 7)، والذبيحة التي تفوق التيوس والعجول (9: 23)، والعهد الذي يفوق العهد الموسوي (7: 22)، والوطن الذي يفوق كل وطن أرضيّ (11: 16). من أجل هذا تكلّم بولس عن سرّ مشيئة الله الذي ارتضى في نفسه أن يحقّقها، أي التدبير الذي يتمّمه عندما تكتمل الأزمنة، فيجمع في المسيح كل شيء في السماوات وعلى الأرض (أف 1: 9 - 10).
فالمؤمنون في العهد القديم يُدركون الكمال الموعود، ولكن لا بمعزل عنا. هم معنا من الأبناء المهيّأين للمجد بفضل مبدئ خلاصنا. فكمالهم (وكمالنا) لا يُنسب إلى آلامهم، بل إلى آلام المسيح عنا جميعًا. فجميع الذين دعاهم إخوته تقدّسوا به، أي صاروا كاملين أمام الله. وهكذا تكون الوحدة والتواصل في المسيح، بالنسبة إلى جميع المؤمنين في العهد القديم وفي العهد الجديد.
العهد الذي نعيش فيه هو عهد التتمَّة، ولكنه ما زال عهد الايمان. هذا ما تشدّد عليه الرسالة بشكل خاص. فايمان الذين عاشوا في العهد الأول، كان لنا مثالاً يدعونا لنقتدي به. فالزمن المسيحي يتضمّن ما تمَّ ((الآن)) وما لم يتمّ بعد. إن الله أتمّ هدفه، وأعطى كامل بركته في عمل ابنه الوسيط والحبر يسوع المسيح. فمعه قام المؤمنون إلى حياة جديدة واختبروا مجد السماء وسعادتها (أف 2: 6؛ كو 3: 1ي). وفيه صارت بركات العهد الجديد حاضرة الآن في واقعنا اليوميّ. وعلى الصليب تمّ عمل الفداء مرّة واحدة. ولكن تبقى مسافة بين ما تمَّ على الصليب وما يتمّ في نهاية الأزمنة. فنحن ما زلنا ننتظر تجديد الخليقة كلّها وافتداء أجسادنا (روم 8: 21 - 25). ننتظر أن يُبتلع ما هو مائت في الحياة (2 كور 5: 1 - 4؛ 1كور 15: 42 ي)، أن تنكشف السماوات الجديدة والأرض الجديدة التي فيها يسكن البرّ (2 بط 3: 13؛ رؤ 21: 1 - 5). وهكذا في حجّنا عبر هذا العالم الذي ما زال يئنّ ويتوجّع (روم 8: 22 - 23)، لا ندهش إن نحن تحمّلنا العذابات واحتجنا الايمان لكي نتغلّب عليها، وعيوننا شاخصة إلى الهدف الذي أمامنا والجزاء الذي ينتظرنا، شاخصة إلى الكمال الأبدي الذي يتمّ حين يصير المسيح كلاً في الكل.

خاتمة
مع هذه القطعة (11: 32 - 40) انتهى الكاتب من رسم لوحة عن أبطال العهد القديم: كانوا مثالاً للمؤمنين الذين يعيشون الضيق الخارجي والفتور الداخلي. اضطهاد من الخارج. فتور في الجماعة، وتراخ في الحياة المسيحيّة. هناك أبطال حاربوا وانتصروا بايمانهم. وهناك ((شهداء)) احتملوا الهزء والضرب والسجن، فانتصروا هم أيضًا بإيمانهم. فماذا يفعل المسيحيون بعد أن رأوا تحقيق كل مواعيد الله في المسيح؟ يشخصون بأبصارهم إلى المسيح الذي بدأ فزرع فيهم الايمان، وهو ينمي الزرع فيصل به إلى الكمال.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM