الفصل الثاني والثلاثون::ابراهيم ونسله القريب

 

الفصل الثاني والثلاثون

ابراهيم ونسله القريب
11: 8 - 22

تعرّفنا في الاتجاه الأول (11: 1 - 40) إلى الآباء الأولين، الذين جعلهم سفر التكوين قبل الطوفان أو في الطوفان: هابيل، أخنوخ، نوح. ما تميزّوا به هو أنهم أرضوا الله. وما فعلوه كان الدافع إليه الايمان. فإن ف 11 من عب موضوعه الايمان. ومن مثل ابراهيم عاش هذا الايمان. هذا ما نتوسّع فيه هنا (11: 8 - 22) فنتوقّف عند شخص ابراهيم وامتداده في اسحاق ويعقوب ويوسف. هناك ثلاث محطّات وكل محطة لها امتدادها: المنفى وأرض الموعد مع عطية النسل. بحث عن الوطن، ولكنهم ماتوا ولم يبلغوه. وأخيرًا، موت الآباء والبركات التي حملوها.

1 - تفسير الآيات

أ - المنفى وأرض الموعد (11: 8 - 12)
ترك ابراهيم أرضه وبيت أبيه، ومضى إلى أرض الموعد. وارتبط بالأرض نسلٌ كبير يكون كنجوم السماء وكالرمل على شاطئ البحر.
أولاً: أرض الغربة ومدينة الله (آ 8 - 10)
معنى ابراهيم في الاكادي: أحبّ الأب. وفي السامية الغربية: هو رفيع بأبيه. صاحب محتد. هذا الأب يكرّمه الىهود والمسيحيون والمسلمون. انطبعت حياة أبي المؤمنين بتعارض متواصل بين واقع حاضر ومستقبل موعود. وسيقول بولس: آمن (أو: ترجّى) على خلاف كل رجاء (روم 4: 18). وكانت حياته مسيرة متواصلة من إيمان إلى إيمان (روم 1: 17). لهذا، توسّع الكاتب في الكلام على هذا الشخص، وهو الذي خضع لكلمة الله وعمل بها (رج يو 8: 37 - 40). هكذا يجب أن يكون نسله (مت 3: 9).
أشارت عب إلى ثلاث سمات في إيمان ابراهيم: آمن فأطاع الربّ (آ 8)، وترك أرضه (فيلون، الفضائل 214). آمن فصبر وانتظر تحقيق مواعيد الله (آ 9 - 10) وانتظرها مثله اسحاق ويعقوب. آمن فقبل بما يجعل تحقيق الموعد مستحيلاً (ذبيحة اسحاق، آ 17 - 19). وشاركته سارة في هذه ((الذبيحة)). لهذا، برّره إيمانه (روم 4). هذا الايمان دفع ابراهيم إلى طاعة عمياء، إلى طاعة مجرّدة تشبه طاعة نوح. نقرأ ((كالومانوس)) (دُعي) في صيغة اسم الفاعل: قبول باطنيّ وعمل خارجيّ. ما إن رنّت كلمة الله في أذن ابراهيم حتّى مضى تاركًا أور وطنه (تك 12: 1 - 4؛ هجرة ابراهيم 23 ي) التي اشتهرت بحضارتها الرفيعة. خضوع بطوليّ، لأن أبا الآباء يسير إلى المجهول. الله يعرف. أما ابراهيم فلا يعرف. من هنا كان المصدر ((ارخاتاي)). أما فعل أطاع، لبّى (هيبيكوسن، صيغة الاحتمال، في وقت محدّد) فيرتبط بفعل سمع (أكوو). عرف ابراهيم وجهته حين وصل إلى حاران (تك 12: 7) أع 7: 2 - 8.
نلاحط التعارض ((بالايمان دُعي)) (بستاي كالومانوس). ثم ((لا يدري)) (مي ابيستامانوس). هذه الثقة بالله هي أساس كل حياة دينيّة. ترك الأمور المنظورة وتعلّق باللامنظورة فدلّ على يقينه بأن الله حقّ ولا يمكن أن يغشّنا. والكفالة: كلمته (آ 1). هي تكفينا.
بالايمان دُعي. وبالايمان نزل (باروكيسن). رج آ 9. كنعان، أرض العبرانيين (تك 40: 15)، الأرض المقدسة (زك 2: 16؛ 2 تك 1: 7) أرض يهوه (هو 9: 3؛ أش 8: 8؛ مز 85: 2). وهي أيضًا أرض (غي) الموعد (ابانغالى): هي ميراث وعد به الله. ولكن ابراهيم لم يقم فيها، بل نزل كغريب (تك 23: 4). هو مرور عابر، مؤقّت. ((بارويكيو)) أقام بشكل مؤقت (تك 17: 8؛ 26؛ 3، ج و ر؛ لو 24: 28؛ أع 7: 4، 6؛ 29: 12: 7). حرف الجر هو ((ايس)) لا ((إن)): يدلّ على التحرّك وعدم الثبات. ((الوتريا)): كان غريبًا في أرض غريبة، وجعل إقامته في خيمة، لأنها إقامة مؤقتة (كالبدو) نقرأ: كاتويكيو، سكن (تك 37: 1). هكذا كان يفعل الجنود الذين لا يطلبون الإقامة في مكان ما. والمستوطنون تجاه أهل الأرض. لا، لن يلتصق ابراهيم بهذه الأرض، بل يتطلّع إلى مدينة أسّسها الله وبناها. ستكون أورشليم السماويّة.
قابل المعلّمون بين هذه الإقامة وطقس عيد المظال: يقيم المؤمنون في الخيام، فيتذكّرون تنقلاتهم في البرية (لا 23: 43 ي؛ نح 8: 13 - 18)، ويتطلّعون إلى إقامة اسكاتولوجيّة في أخبية (لو 16: 9) يقيم فيها الصديقون، في الفردوس. إن حياة ابراهيم التائهة المؤقته، التي قبلها بارادته بروح الايمان، قد شاركه فيها فيما بعد اسحاق ويعقوب اللذين انتظرا هما أيضًا تحقيق مواعيد الله.
وتفسّر آ 10 نفسية هذا العائش رجاء صابرًا يلهمه الايمان. إذا كان ابراهيم رفض أن يمتلك أرض كنعان ويتمسّك بها، فليس حبًا بحياة البدو، بل لأنه كان ينتظر بثقة مطلقة (اكداخوماي، 10: 13؛ يع 5: 7) أن يدخل المدينة الوحيدة التي تستحقّ هذا الاسم. أساساتها أساسات المدينة السماويّة (رج آ 14 - 16)؛ أش 33: 20؛ مز 87: 1؛ 122: 3؛ رؤ 21: 14، 19). هنا نتذكّر أن الأساس يدلّ على الثبات والمتانة. تُذكر المدينة (بولي)، وتذكر الآساسات (تاماليوس). ولكن ما قيمة هذه الأساسات وأمتن أبنية الأرض هي في نظر ابراهيم خيام تجاه ((المدينة الباقية)) (13: 14). فدوام هذه المدينة وأمانها وجمالها وعظمتها تأتي من الله الذي هندسها ونفّذها حسب التصميم الذي وضعه (8: 2؛ 9: 11، ديميورغوس، مراحدة في العهد الجديد). هناك تقليد يهوديّ متأخّر يقول إن ابراهيم رأى المدينة السماوية ساعة قطع العهد مع الرب (تك 15: 9 - 12): رؤيا باروك 4: 4) ما تاق إليه ابراهيم هو رمز إلى أرض الموعد وأورشليم العليا وسكن الله (غل 4: 26).
ثانيًا: نسل كبير (آ 11 - 12)
بالايمان أيضًا، انتظر ابراهيم النسل الكبير، مع أنه كبر في السن ولم يكن له ولد. ذُكرت سارة التي ربطها الخبر البيبلي ربطًا وثيقًا بدعوة ابراهيم والمواعيد التي نالها (اش 51: 2؛ روم 4: 19؛ 9: 9؛ ربط 3: 6). ((كاي أوتي)). هي أيضًا دخلت مع ابراهيم في المسيرة. آمنت مثل ابراهيم. كما أن تنقلات ابراهيم في كنعان لا تُفهم بدون إيمان (آ 10)، كذلك حبل سارة باسحاق. ((آمنت فحبلت كما آمنت)) (تيودورتيس). وهكذا صارت سارة أم المؤمنين، كما كان ابراهيم أبا المؤمنين. وقد نالت القدرة ((ديناميس)) (رج روم 4: 19. ماتت أحشاء سارة) من أجل وظيفة الامومة التي ضعفت مع الوقت. وهكذا ارتبطت المعجزة بالايمان. رج ((إباي)) (5: 2 ،11، لأن، بما أن). وثقت سارة بأمانة الله الذي يُتمّ دومًا مواعيده بالتمام (10: 23؛ 1تم: 1: 12).
وأبرزت آ 12 عظمة المعجزة التي هي عمل الايمان. ((ديو)) من أجل ذلك. هذا ما يدلّ على السببيّة (مع كاي، واو العطف). رج 13: 12؛ لو 1: 35؛ أع 10: 29؛ 24: 26؛ روم 15: 22؛ 2 كور 1: 20 ؛ 4: 13؛ 5: 9. غصن واحد أعطى نسلاً عديدًا (تك 15: 5؛ 22: 17؛ تث 1: 10 - 11). والمدهش (كاي توتا، فوق هذا، رج روم 13: 11؛ 1 كور 6: 6 - 8: 3 يو 5) هو أن سارة لم تكن قادرة البتّة على نقل الحياة، لأنها كانت ميتة من زمان بعيد (روم 4: 19). الله وحده أعطى هذه القدرة التي تعارض نواميس الطبيعة، وفعل ما فعل لأن سارة آمنت بالله وبمواعيده. نلاحظ دومًا الرباط بين الايمان والحياة.
قبل أن يشير الكاتب إلى ظهور ثالث لايمان ابراهيم، يستخرج العبرة من مثال يقدّمه الآباء. كان الايمان مبدأ سلوكهم بحيث اعتبروا نفوسهم سائرين إلى الوطن السماويّ. تلك تكون عاطفة المسيحيين (3: 7؛ 4: 13؛ أف 2: 19).

ب - البحث عن وطن (11: 13 - 19)
بحث الآباء، وماتوا دون أن يجدوا ضالّتهم. فهم يبحثون عن أكثر من وطن أرضي. هم يبحثون عن وطن سماويّ. واسحاق الذي هو النسل قد مات وقام، لأن المؤمن يتطلّع إلى أبعد من اسحاق، إلى ذاك الذي يرمز إليه اسحاق: يسوع المسيح (ف 12).
أولاً: ماتوا وما نالوا (آ 13 - 16)
عاش الآباء الثلاثة الأقدمون (هابيل، أخنوخ، نوح) مستلهمين مبادئ الايمان وما يحمل من بركة. ولكن الايمان أضاء أيضًا على موتهم بأنواره (كاتا بستين، حسب الايمان، على الايمان). فالايمان هو الذي جعلهم يقبلون الموت دون تذمّر، لأنهم لم يمتلكوا بعد خيرات وعدهم بها الله (كنعان التي هي صورة عن الحياة الأبديّة، (آ 39)، لأنهم لم يروا النسل العظيم الذي سيُولد منهم. ولأنهم لم يمتلكوا الخلاص الذي سيحمله المسيح الخارج من صلبهم (يو 8: 56). ((البُعد)) (بوروتان، رج أش 33: 17؛ لو 17: 12، من بعيد) يسيطر على الانسان ويرميه في الغمّ واليأس. ولكن ايمان هؤلاء الذين ماتوا (اباتانون) امتلأ بالثقة وتفتّح في الفرح. هذه هي ((باريسيا)) (ثقة، جرأة، ارتياح، البعد عن الهمّ). الايمان ويقينه الثابت، وانتصاره على كل الأوهام. وفي الساعة الاخيرة، حيث لن يبقى شيء ننتظره على الأرض، نحتفظ بثقة لا شيء يزعزعها. بالايمان رأى الآباء ما يهيّئه الله، وحيّوا بفرح الوطن السماويّ الذي يطلّ في الافق (اسباسامانوس، رج اسباسموس ابراهيم في يو 8: 56، ويعقوب وهو يموت في تك 49: 18، والجمع المؤمن في مر 9: 15). ((هي استعارة مأخوذة من عالم الملاّحين الذين يرون من بعيد المدن المرغوبة فيمتلكونها بتحيّتهم قبل أن يدخلوا مياهها)) (الذهبي الفم).
حين تقابَل الحياةُ على الأرض مع إقامة الابرار، فهي منفى وموضوع عبور مؤقت، فلا نحسّ أننا في بيتنا. أما الآباء فاستناروا بالايمان وما أحّسوا أن انتظارهم خاب أو أنهم أخطأوا السبيل. عرفوا أنهم على الأرض غرباء ومسافرين (بارابيديموي، تك 23: 4؛ مز 39: 13؛ 1 بط 2: 11؛ رج تك 47: 9؛ 1أخ 29: 15؛ أع 17: 21 مع ((كسانوي)) غرباء). إن عبارة ((على الأرض)) أوسع من ((كنعان)). هي تقابل ((سماوي)) (ابورانيو).
ويرد في آ 14 كلام (منفى، غريب، سفر، حج)، لا معنى له إلاّ بالنظر إلى بحث عن موطن ثابت. حين سمّى الآباء أنفسهم غرباء ومسافرين (تك 23: 4)، دلّوا أيضًا أنهم يطلبون وطنًا، كما بيّنوا نظرتهم إلى حياتهم على الأرض في ضوء الايمان. ((إمفانيزو، يعني أظهر، دل. ويعني أيضًا ((بيّن بوضوح)) (مت 27: 53: يو 14: 21 - 22)، أعلن (9: 24؛ أع 23: 15، 22). هذا الايمان ليس فقط نورًا يولِّد اليقين، بل نداء للبحث أيضًا. إنه يحرّك في القلب رغبة في سعادة، ويدعو إلى امتلاكها. ((ابيزيتيو))، ذهب في طلب، في بحث. رج مت 6: 32؛ 12: 39؛ أع 12: 19؛ 13: 17؛ روم 11: 7. هو إيمان فاعل ناجع.
غذّى برهان ايمان الآباء ومتانته الرجاء الذي وجّههم إلى الوطن الحقيقيّ. وهكذا لم يستغلّوا الظروف (كايروس، الوقت المناسب، رج آ 11؛ أع 24: 25؛ غل 6: 10) للعودة إلى الأرض التي جاؤوا منها (أناكمبتو، عاد أدراجه، مت 2: 12؛ أع 18: 21). تركوا أرضًا وُلدوا فيها وما رجوا عودتهم إليها (إكباينو، صيغة الاحتمال. مراحدة في العهد الجديد، خرجوا) بل هم نسوا تلك الأرض (إمنيمونوون، غير الكامل) لأن فكرهم وقلبهم تعلّقا بالسماء التي يقفون على بابها (تك 27: 17). ركّزوا أنظارهم إلى الأمام فما عادوا يهتمّون بما وراءهم كما قال بولس (فل 3: 13): أنسى ما ورائي وامتدّ إلى ما أمامي. رفضوا أن يضعوا يدهم على المحراث وينظروا إلى الوراء. ((باتريس)) تدلّ على أرض وُلدنا فيها (إر 22: 10؛ حز 22: 15) وتعلّقنا بها. لم يكن ابراهيم غريبًا عن كنعان بالنسبة إلى الكلداي، بل بالنسبة إلى السماء التي هي موضع إقامة دائمة تتجاوب مع تطلّعاته. إن ايمانه جعله ينظر إلى الأمام لا إلى الوراء، إلى فوق لا إلى تحت.
بعد آ 15، نصل إلى آ 16: كانت قلوبهم تصبو إلى وطن أفضل. في الواقع (نين دي). إذن نحن أمام نتيجة لا تسلسل زمني (8: 6؛ 9: 26؛ 1 كور 7: 14؛ 12: 20). إن كان الآباء لا يمتلكون الوطن السماوي (إبورانيو، رج 3: 1)، إلاّ أنهم يصبون إليه بكل جوارحهم (أوراغو في الحاضر. رج 1 تم 3: 1) بحيث يضحّون من أجله برغباتهم البشريّة. تجاه هذا الايمان وهذا الرجاء، قبلهم الله في حياته الحميمة، مع أنه السامي والمتعالي. من جهة، هو لا يستحي من هؤلاء الناس الذين لا يعيشون إلاّ له: هو فخور بهم (كما كان الله فخورًا بأيوب، أي 1: 8) ويحبّهم (2: 11). في هذا قال الذهبي الفم: ((إن إله الكون كله لا يستحي أن يُدعى إله هؤلاء الثلاثة، لأن قيمة هؤلاء القديسين ساوت، لا هذا العالم الأرضيّ فقط، بل عددًا لا محدودًا من عوالم مثل عالمنا! فإنسان واحد يعمل بمشيئة الله أفضل من عشرة آلاف شرير)).
ومن جهة ثانية، قبل الرب إكرام هؤلاء الرجال وعبادتهم. حين لقّب (ابيكاليو، صيغة المجهول، سُمّي، مت 10: 25؛ أع 1: 23؛ 4: 36؛ 10: 5؛ 18، 32) نفسه إله ابراهيم إسحاق ويعقوب (خر 3: 6)، دلّ على أنه إله يتجاوز الموتى (حسب تفسير يسوع في مر 12: 26 - 27)، أنه إله الأحياء، إله الذين تعلّقوا به وأحبّوه على هذه الأرض. فالموت لا يمكن أن يحطّم رباط الايمان (رج مز 73: 23؛ أنا معك في كل حين). لهذا، يقوم الآباء ويكونون دومًا أحياء لدى الله. تلك هي كفالة)) (آ 1) الخلود. وهذا يعني أن رجاءهم لم يكن باطلاً. دُعي الله إلههم. هم يطالبون بذلك ويطلبون. وهذا الاله هيّأ لهم مدينة (آ10) يستقبلهم فيها فيجدون الراحة الأبدية جزاء إيمانهم. ((إتويمازو)) (صيغة الاحتمال، ك و ن). هيّأ، أعدّ. يقال عن سعادة السماء التي يحتفظ بها الله في عنايته (آ 6) من أجل مختاريه (مت 20: 23: 25: 34؛ لو 2: 30؛ يو 14: 2؛ 1كور 2: 9؛ 1بط 1: 4؛ رؤ 21: 2). وهكذا تعرف الجماعة المسيحية أن الله لا يتركها مهما انتابتها صعوبات وأصابتها اضطهادات . فالله يتضامن مع المؤمنين، ويعلن مسؤوليته في حمايتهم وجزائهم. أعلنوا إيمانهم وتعلّقهم بالله، فاعترف بهم الله على أنهم أخصّاؤه.
ثانيًا: موت وقيامة (آ 17 - 19)
أخطر ((محنة)) في إيمان ابراهيم، سبّبها أمرٌ بأن يذبح ابنه (تك 22: 1ي). اجتازها ابراهيم، فأنشد التقليدُ بطولته (سي 44: 20؛ 1 مك 2: 52. وُجد مؤمنًا في المحنة، بستوس؛ حك 10: 5؛ يع 2: 21). كانت المحنة محنتين. الأولى، وجب عليه أن ((يذبح)) بيده ابنًا يحبّه. ((ي ح ي د)) في تك 22: ،2 ،12 16 يقابل في السبعينية ((أغابيتوس)) (حبيب). وهكذا فضّل الله على حبّه البشريّ العميق. الثانية، حين يموت هذا الابن، لن تتحقّق مواعيد الله بنسل كبير (تك 21: 12؛ رج روم 9: 7). هل يطيع أمر الله الأخير أم يبقى مؤمنًا بوعده؟ فهذا الوعد يعارض معارضة جذريّة الأمر، لا سيّما وأنه أكثر من بركة شخصيّة أعطيت لابراهيم. هذا الوعد يُلزم كرامة الله، فوجب على ابراهيم أن يفعل كل شيء من أجل تحقيقه.
نقرأ ((بروس هون)) (آ 18) الذي يعود إلى ابراهيم. هو المسؤول. له قيل. ونقرأ فعلاً لم نعتَد عليه (أناداخوماي). رج أع 28: 7. لن نجده بعد في العهد الجديد، ولا يرادف ((لابون)) (آ 13، نال)، بل يدلّ على قبول إرادي، حارّ (2 مك 6: 19). أخذ على نفسه، التزام، كفل (2 مك 8: 36). أخذ مسؤوليّة على عاتقه. أجل، ابراهيم مسؤول عن الوعد. فماذا سيفعل والله يطلب منه أن يقتل ((حامل)) الوعد؟ إن صيغة الكامل ((بروسانينوخن)) تدلّ على أن ابراهيم قبل في قلبه ما يُطلب منه. امتُحن ابراهيم. وجاءت صيغة غير الكامل (بروسفارو) فدلّت على تحقيق هذه التقدمة دون ضعف، على مدى الطريق الموصل إلى جبل موريا. اختار الكاتب ((مونوغانيس)) (الوحيد) و((بروسفارو)) (في كلام عن ذبيحة المسيح) ليدلّ على تقابل بين ذبيحة اسحاق وذبيحة المسيح (آ 19ب). في الحالتين، كانت الطاعة لكلام الله المحيّر، ينبوع بركات (5: 7؛ 10: 5 - 7). اسحاق ، ي ص ح ق: يضحك الله، يبتسم، يكون راضيًا. لا نجد هذا المعنى خارجًا عن الكتاب المقدس.
بعد الواقع، ها هو التعليم (آ 19): رمز إلى القيامة. إن كان ابراهيم قد قبل بأن يضحّي بابنه الوحيد، ويخاطر بالوعد بنسل، فلأنه آمن بحكمة الله الذي لا يرتبط بهذه الوسيلة أو تلك ليحقّق أهدافه، كما آمن بقدرته اللامحدودة، وهو سيّد الموت والحياة (روم 4: 17). فاستنتج: الرب قادر على أن يقيم الموتى (2 كور 1: 8 - 10). ((لوغيزوماي))، اعتقد (رج أع 19: 27؛ روم 2: 3 ،62؛ 3: 28؛ 6: 11؛ 8: 10). انطلق ابراهيم من يقين إيمانه، فكّر، واتّخذ قراره (صيغة الاحتمال لوغيسامانوس، اعتقد). الله لا يكذب (6: 18). الله هو القدير (ديناتوس، مت 19: 26) تجاه الحياة والموت. لهذا، ما خاب إيمان ابراهيم الواثق بالله. ((هوتن)) لذلك (2: 17؛ 3: 1؛ 7: 25؛ 8: 3؛ 9: 8). ((كوميزو)) اعتنى، ربّى. وهنا استعاد، عاد فحصل (تك 38: 20). كان قد قدّمه، وها هو يستعيده (آ 17). وهكذا انتصر الايمان على الموت.
غير أن هذا الحدث يتضمّن تعليمًا أعمق، لمّحت إليه عبارة: ينهض (إغايراين، يقيم) من بين الاموات (إك نكرون). نحن أمام مقابلة، مقاربة (بارابولي) تدلّ على القيامة العامّة في المستقبل. كما تدلّ على آلام المسيح وقيامته. فاسحاق، الابن الوحيد الذي نجا من الموت بأعجوبة، بدا وكأنه قام. وهكذا كان صورة عن قيامة المخلّص (آ 35). نشير إلى تقليد يهودي متأخّر يعتبر أن اسحاق ذُبح حقًا، ثم قام. وهكذا قدّم نفسه بارادته، ذبيحة (يوسيفوس، العاديات 1: 32؛ تك ربا 56: 4؛ لا ربا 29: 9) فكان الضحيّة الكاملة (نش ربا 1: 14) والمكفّر عن خطايا اسرائيل. وهكذا صارت ذبيحة اسحاق تعليمًا في مثل (9: 9) كما كان الأمر بالنسبة إلى الحيّة النحاسيّة التي رُفعت في البرية. وأعظم جزاء لايمان ابراهيم، هو أنه نال من الله كفالة تشير إلى قيامة المسيح.

ج - اسحاق ويعقوب ويوسف (11: 20 - 22)
وامتدّت البركة من ابراهيم إلى اسحاق، ومن اسحاق إلى يعقوب وعيسو، ومن يعقوب إلى يوسف. حملوا البركة، ومع ذلك ماتوا. ولن تكون لهم قيامة إلاّ مع المسيح.
كان اسحاق أيضًا شاهد الايمان (آ 20). نال بركة أبيه وبالتالي الميراث الذي يتعارض وامتيازات البكر (تك 27: 28ي؛ روم 9: 10ي). آمن بعناية الله، فكان له المستقبل، عكس أخيه عيسو. وفعل يعقوب ما فعله اسحاق: بارك على فراش الموت ابني يوسف، افرائيم ومنسى، ولم يفعل كما يفعل البشر، بل إن الأصغر نال البركة الكبرى (تك 48: 14 - 16). نلاحظ أن عب لا تتحدّث عن بركة الآباء الاثني عشر (تك 49).
((سجد)) (تك 47: 31). رج ((ش ح ه))،انحنى، سجد ( في المزيد، ا ش ت ح و ه). سجد يعقوب لله ليدلّ على أنه خاضع لمشيئته. ((ربدو))، م ط ه، عصا. هي عصا الذاهب إلى الحجّ (تك 32: 11). إنه يتطلّع (مؤمنًا) إلى المدينة المقبلة التي يصبو إليها.
أما يوسف (آ 22) فأعطاه إيمانُه اليقين بأن بني اسرائيل ينجون من عبوديّة مصر. لهذا طلب أن تُنقل رفاته إلى أرض الموعد. مثل هذا التمنّي لا يُفهم على المستوى البشريّ، بل على ضوء الايمان. ((منيموناوو))، ذكر. رج تك 15: 13 - 16)). تذكّرُ الخروج الذي وعد به الله، هو شرط يبرّر أمره بأن لا يتركه رفاته في مصر.
ذُكر كل من اسحاق ويعقوب ويوسف بشكل سريع. هم ينقلون المواعد. وهكذا يجب على المسيحيين أن يفعلوا. هم لم يروا تحقيق المواعد، ومع ذلك آمنوا بها. فانتصر إيمانهم على الموت، وأضاء المستقبل. فماذا يجب أن نعمل نحن بعد أن رأينا تحقيق المواعد في يسوع المسيح، وكم يجب أن يكون إيماننا ثابتًا.

2 - قراءة إجماليّة
((بالايمان ابراهيم إذ دُعي (دعاه الله) لبّى للخروج إلى موضع سيأخذه ميراثًا، وخرج لا يدري أين يتوجّه)) (11: 8)
بعد هابيل وأخنوخ ونوح، نصل إلى ابراهيم، أبي الشعب العبراني، وأبي المؤمنين. أما مفتاح حياة ابراهيم فنجده في تك 15: 6: آمن بالرب فاعتُبر ايمانه برًا، برّره الرب لإيمانه. استعاد بولس هذا الكلام فشرحه عائدًا إلى وجه ابراهيم: ((إن الذي يعمل لا تُحسب له الأجرة نعمة، بل دينًا. وأما الذي لا يعمل، بل يؤمن بمن يبرّر الكافر، فإن إيمانه يُحسب له برًا)) (روم 4: 5). فبسبب هذا الايمان العميق، ورغم المحن والضيقات، اعتُبر ابراهيم أبًا لجميع الذين آمنوا (روم 8: 11 - 16). وقالت غل 3: 9: ((والمؤمنون يبارَكون (يباركهم الله) مع ابراهيم المؤمن)). والنسلُ الحقيقي والأبديّ الذي وعده به الله، يتضمّن جميع الذين آمنوا بالمسيح مثل ابراهيم. لهذا تحدّث بولس عن ((نسل ابراهيم)) الذين هم ((ورثة بحسب الموعد)) (غل 3: 29). تجاه هذا، من رفض الايمان بالمسيح، لا يستطيع أن يقول إنه ينتمي إلى نسل ابراهيم (يو 8: 31 ي). فالتبرير لا يكون من خلال نسل بشريّ، بل بالايمان. والتجديد في الداخل، لا الزرع الخارجيّ، هو الذي يجعل الانسان عضوًا في اسرائيل الحقيقي، اسرائيل الله (عب 10: 38؛ روم 2: 29؛ 5: 1؛ غل 6: 15 - 16؛ يو 3: 8 ،36).
يعلّمنا ابراهيم بمثَله، أن الايمان الحقيقيّ يقود دومًا إلى العمل الحاسم. وأننا ندلّ على ثقتنا بالله حين نطيعه. فالاعمال تدلّ على الايمان. وحيث لا أعمال يكون ايماننا كاذبًا (وكذا نقول عن محبّة تبقى على مستوى العاطفة). هذا ما يقوله يع 2: 14ي عن إيمان بدون أعمال: هو ميت وعقيم. هذا ما تقوله عب عن ابراهيم: دعته كلمة الله، لا من أجل الايمان وحسب، بل من أجل العمل الذي ينبع من إيمان بهذه الكلمة. حين طلب يسوع من تلاميذه أن يتبعوه، لم يطلب منهم فقط نظرة مجرّدة، بل أن يتركوا كل شيء ويحملوا الصليب ويتبعوه (مت 4: 18ي؛ 9: 9؛ 10: 38 - 39؛ 19: 27ي). هذا ما فعله ابراهيم حين سمع النداء. قام بدون تردّد. مضى من أور الكلدانيين، فدلّ العالم على صدق إيمانه. ولم يكن نداء ابراهيم نداء الطاعة فقط، بل وعدًا بميراث يُعطى له. وهذا ما آمن به ابراهيم أيضًا، رغم الظواهر البشريّة.
بالايمان نزل في أرض الميعاد نزوله في أرض غربة. وسكن في أخبية مع اسحاق ويعقوب الوارثين معه الموعد نفسه، لأنه كان ينتظر المدينة ذات الأسس، التي الله مهندسها وبانيها)) (11: 9 - 10)
وكان ايمان ابراهيم لافتًا، لأن ما سينعم به نسله من ميراث غنى وعون وامتياز، نقصه وما كان قد حصل عليه (روم 9: 4 - 5). لم يكن أمامه رجال الله ليسير في خطاهم. فأبوه كان وثنيًا وعابد أصنام (يش 22: 2). وما كان له أن يسمع كلام الانبياء. والأرض التي وُعد بها لم يمتلكها كما امتلكها نسله. ومع ذلك، فحين وصل إلى أرض الموعد التي سُمّيت: ((الموضع الذي سيأخذه ميراثًا)) (آ 8)، أقام فيها كنزيل وعابر، كما في أرض غربة. فكيف نستطيع أن نقول إنه نال هذه الأرض ميراثًا؟ في الواقع (كما يقول اسطفانس، أع 7: 5) لم يعطه الله موطئ قدم، ولم يكن له ولد. ولكن حين بدأ النسل يبرز (عب 11: 11 - 12)، وشارك اسحاق ويعقوب في الموعد، وحين ماتت سارة فبحث لها عن موضع قبر، ظلَّ يقول إنه ((غريب ونزيل)) (تك 23: 4). هو لا ينتمي إلى الأرض، ولا يقيم فيها، بل هو نزيل ونزوله مؤقتّ.
نحن هنا أمام مفارقة في هذا المزج الغريب بين الدخول وعدم الامتلاك. ولن نجد الجواب إلاّ بالايمان. فالذي بدأ بالايمان عليه أن يستمرّ كذلك، لأن الايمان مبدأ الخطوة الأولى ومبدأ الثبات. فحياة الايمان لا تنتهي بالنسبة إلى ابراهيم حين يترك أور وراءه أو حين يضع أولى خطواته في كنعان. فالوضع الذي فيه يتحرّك عنه وصوله إلى أرض الموعد، هو محنة أقسى لايمانه من تلك التي قاساها حين ترك أرضه. ولقد كان أسهل عليه أن يعيش الايمان وهو يتوجّه إلى هدف غير منظور، من أن يعيشه بعد أن وصل إلى هذا الهدف فوجد أن ملء ما وُعد به لم يتمّ بعد. فالعيش كغريب بدون ملجأ أفضل من خيمة في أرض الموعد (هي تتعارض مع ما عرفه في الكلدان من طمأنينة وراحة)، يتطلّب درجة رفيعة من الايمان من قبل ابراهيم.
بالايمان تعلّم ابراهيم أن ينظر أبعد من الحاضر، ينظر إلى البركات اللامنظورة والأبديّة التي أعدّها الله للذين يحبّونه ( 1كور 2: 9)، وأن يحسب آلام الزمن الحاضر بدون قيمة تجاه المجد المزمع أن يتجلّى (روم 8: 18). وهكذا فهم أن البلوغ إلى وطن أرضيّ ليست نهاية الحج، وأن أرض الموعد هي نقطة انطلاق إلى أبعد، إلى واقع أكثر متانة. فظروف إقامته في هذه الحدود كانت له شاهدًا يوميًا بأن النتيجة لم تحصل بعد. وهكذا صارت الأرض علامة إلى مدينة لها أسس (لا كالخيمة). الله هندسها وشيّدها.
((بالايمان سارة أيضًا نالت قوّة للحمل، مع أنها تجاوزت السنّ، لاعتقادها أن الذي وعد صادق. من أجل ذلك وُلد من رجل واحد، يكاد يكون ميتًا، نسلٌ كنجوم السماء كثرة وكالرمل الذي على شاطئ البحر، لا يُحصى)) (11: 11 - 12)
إن سارة، امرأة ابراهيم، لعبت دورًا أساسيًا في تحقيق الموعد بالنسبة إلى نسل كثير. فمع أنها كانت عاقرًا وتجاوزت السن، إلاّ أنها حملت فشاركت ابراهيم في إيمانه. وهنا نتذكّر أش 51: 2 الذي يقول: ((أنظروا إلى ابراهيم أبيكم وإلى سارة التي ولدتكم. دعاه الرب وهو رجل واحد، وباركه وكّثر نسله)). كانت سارة المرأة الحرّة، تجاه هاجر الأمة (غل 4: 22 - 23). وهكذا كانت جميع النساء بناتها (1 بط 3: 6).
بدت المعجزة أولاً، في أن الذي بدا ميتًا صار أبًا لولد، بل لنسل كبير. هو ابراهيم. نلاحظ هنا أن الكاتب يجمع سارة مع ابراهيم، فيقول عن الواحد ما يجب أن يقوله عن الأخرى والعكس بالعكس. فلماذا الدهشة والاثنان صارا جسدًا واحدًا. في آ 11، تحدّث النصّ عن زرع سارة، بينما الزرع هو زرع ابراهيم. وفي آ 12، تحدّث عن حشا ابراهيم الميت، بينما الحشا هو حشا سارة. في أي حال، كلاهما طعنا في السن وما عادا ينتظران نسلاً، فتمّت لهما المعجزة في الايمان.
وبدت المعجزة ثانيًا في أنه من رجل واحد كان نسل كثير. ذاك كان الوضع حين كُتب سفر التكوين في صيغته النهائيّة. ولكن العهد الجديد ينظر إلى نسل آخر يجد ذروته في المسيح. مع هذا النسل الروحي نكتشف حقيقة الموعد في عمقها. فإن بولس يعلّم أن المسيح هو زرع ابراهيم الذي فيه تتبارك الشعوب. وزرعُ ابراهيم يتألّف من الذين اتّحدوا بالمسيح (غل 3: 7 - 9، 16: 29). ففي هذا المنظور الابدي، نجد عدد المفديّين الذين لا يحصون، الذين جاؤوا من كل أمّة وقبيلة وشعب ولسان. غسلوا ثيابهم وبيّضوها في دم الحمل (رؤ 7: 9، 14). البياض علامة النصر. وهذا يعني أن المفديّين انتصروا بدم المسيح.
((على الايمان مات أولئك جميعًا، ولم ينالوا الموعد، بل رأوه من بعيد وحيّوه، معترفين بأنهم كانوا غرباء على الأرض ونزلاء. فالذين يتكلّمون هكذا يوضحون أنهم يطلبون وطنًا)) (11: 13 - 14)
لم يقل الكاتب إن الآباء ماتوا بقوّة الايمان (كأن الايمان أماتهم)، بل ماتوا في الايمان، حسب مبدأ الايمان الذي عاشوا فيه. فكما عاشوا ماتوا. فالموت هو ما يفكّك الانسان. أما الايمان الذي يتغلّب على تقلّبات الحياة، فهو يتجاوز الموت وما فيه من سلبيّة. فإن لم يكن الأمر كذلك، يكون مبدأ الايمان وكأنه ألغي. ولكن ساعة الموت هي في شكل خاص ساعة انتصار الايمان.
مع أن هؤلاء المؤمنين بلغوا أرض الموعد، وصار الميراث لهم حقيقة، إلاّ أنها بدوا وكأنهم لم ينالوا ما وُعدوا به، لأن رجاءهم يتجاوز وطنًا أرضيًا ونسلاً بشريًا. فلو كان كذلك، لهزئ الموت بايمانهم والوعد بامتلاك أبدي (تك 17: 8). لقد واجه ايمانهم التحدّي، وهو يلج الموت وهذا العالم الحاضر. إنه يتطلّع إلى الملكوت السماويّ الذي يدوم. لهذا قال الكاتب إنهم رأوا من بعيد تحقيق الموعد. وثبّتهم الموت في هذا اليقين. فكلام الله صادق ولا يمكن أن يخطئ. وهكذا نعود مرّة أخرى إلى آ 1: ما لا يُرى صار مرئيًا، لا بعين الجسد، بل بعين الايمان. في هذا المعنى قال يسوع لليهود: ((ابتهج ابراهيم بأن يرى يومي،فرآه وفرح)) (يو 8: 56). فمواعيد الله كانت جدّ حقيقيّة بحيث إن حصولها (وإن لم تحصل بعد) بدا أكيدًا وكأنها حصلت. وهكذا جعلت قوّة الايمان الرجاء البعيد وكأنه واقع حاضر. المؤمنون في العالم القديم رأوا وحيّوا تتمّة الموعد، في ساعة موتهم، وكأنهم يرونها بعيونهم.
بالاضافة إلى ذلك، كان انتصار الايمان في وقت الموت قمّة الاعتراف بما أعلنوه في حياتهم كحجّاج: كانوا غرباء ونزلاء على الأرض. هذا يعني أن نظام العالم الحاضر ليس بيتهم الحقيقي ومحجّتهم الأخيرة. ذاك هو وضعهم ووضع كل مؤمن من جيل إلى جيل. نقرأ مز 38: 12 حسب السبعينيّة عن داود: ((غريب أنا ونزيل في الأرض)) (رج تك 23: 4 وما قاله ابراهيم لأهل حت).
((ولو أنهم قصدوا بذلك الوطن الذي خرجوا منه، لكان لهم وقت (مناسبة، ظرف) العودة إليه. ولكن لا، فإن قلوبهم كانت تصبو إلى وطن أفضل، سماوي، لذلك لا يستحيي الله ان يُدعى إلههم. فإنه قد أعدّ لهم مدينة)) (11: 16 - 17)
ذاك الذي ترك بلده، يحسّ أنه غريب في محيط لا ينتمي إليه، فيحنّ إلى العودة. ورجل الايمان هو ((غريب)) روحي ترك وراءه وطنًا لينال الوعد بوطن أفضل. أما قراّء عب فقد حاولوا أن يعودوا إلى الوراء بسبب الضيقات والصعوبات خلال حجّهم. غير أن البركات لا تكون في رجوع إلى الوراء، بل في انطلاق إلى الأمام. ذاك كان وضع بني اسرائيل في برّية قاسية وقفت حاجزًا بينهم وبين محجتهم، فتمنّوا العودة إلى مصر، لا متابعة الطريق فقال الله فيهم: ((لن يروا راحتي)) (عب3: 18 - 19؛ 4: 3). سعى الكاتب أن ينفح روحًا جديدة في قرّائه، بعد أن صار بعضُهم قريبًا من التخلّي عن النضال. وحذرّهم من الاقتداء بالاسرائيليين الجاحدين، وذكّرهم بأن النعمة والعون ما زالا حاضرين بفضل حبرنا الذي مرّ في الألم والعار قبل أن يكلَّل بالمجد والكرامة (2: 9، 18؛ 4: 15 - 16؛ 6: 1). فإن هم عادوا إلى الوراء خسروا نعمة الفداء التي نالها عظيم الكهنة. وأخيرًا شجّعهم: لستم من الذين ينكصون، يتراجعون. أنتم أبناء الايمان أنتم أبناء الخلاص (10: 39).
إن ابراهيم والذين رافقوه قدّموا لنا أجمل مثَل عن الإيمان الثابت الذي يغلب هذا العالم (1 يو 5: 4). كانوا غرباء، فبحثوا عن وطن (آ 14). كان بإمكانهم أن يعودوا إلى أور الكلدانيين، ولكنهم لم يفعلوا. فهم ينظرون إلى وطن أفضل. إلى وطن سماوي لا يشوبه نقص، إلى وطن مجيد وأبديّ. لهذا فرح الله بهم وباندفاعهم الذي لا يقف في وجهه عائق. هم شعب الله الحقيقي، والربّ أعدّ لهم الوطن الذي يصبون إليه. بعد هذا من يفكر بالرجوع إلى الوراء.
((بالايمان ابراهيم، حين امتُحن، قرّب اسحاق. إنه كان يقرّب وحيده، هو الذي نال المواعد. وهو الذي قيل فيه: إنه باسحاق يُدعى لك نسل، كان يعتقد أن الله قادر أن ينهض حتّى من بين الأموات. ولذلك عاد فحصل على ابنه، على سبيل الرمز)) (11: 17 - 19)
تستعيد هذه الآية محنة ابراهيم القاسية في إيمانه، التي بها تقوىّ هذا الايمان وثبت. الله هو الذي امتحنه كما قال تك 22: 1ي حين طلب منه أمرًا يدمرّ الموعد. دلّ أبو الآباء على ثقته التامّة بالله، فأطاع دون أن يطرح سؤالاً على حكمة الله وصلاحه. قابل الذهبي الفم بين أمر الله ووعده، فقال: جاء طلب الله يتعارض مع وعده. ولكن هذا الرجل البار لم يتردّد ولم يعبّر عن خيبته.
أترى سأل ابراهيم الله أن يبرّر مثل هذا الطلب العجيب؟ وهل من الصواب أن يمتحن الله عبده محنة تشمل مثل هذا الضيق؟ قد يكون ابراهيم واجه هذه الأسئلة. ولكنه عاش علاقة حميمة مع الله. لهذا عرف أن الإله القدوس والعادل هو محبّ أيضًا. فلا يمكن أن يكون فيه شيء يعارض الحقيقة. وفهمُ الخليقة الخاطئة والمحدودة لا يطرح سؤالاً على الخالق اللامحدود. فمن تساءل حول كلام الله، يكون وكأنه يسائل صلاح الله. مثل هذه المحنة لم تزعزع ايمان ابراهيم، بل ثبتّته. فالافق البشري لا يستطيع أن يحكم على طرق الله ونواياه (اش 55: 8 - 9: طرقي ليست طرقتم). وفي أي حال، الله هو إله المستحيلات. فقد قال لسارة حين وعدها باسحاق: ((ليس من صعب على الربّ)) (تك 18: 14). وقال الملاك لمريم في البشارة: ((ليس على الله أمر مستحيل)) (لو 1: 37).
تركّز قصد الله وبركته على اسحاق فأعطي الوعد لابراهيم قبل ولادته: ((أقيم عهدًا مع اسحاق)) (تك 17: 21). طلب الله بأن تقدّم ذبيحة بشرية، فبدا طلبُه لا أخلاقيًا ولا بشريًا. ولكن حين طلب أن يكون اسحاق هو الضحيّة، عنى بطلبه أنه يلغي ما وعد به. ولكن هذا السؤال لا يطرحه رجل الايمان الذي جعل حياته في يد الله. هو يطيع وينتظر. فالله ليس بشرّير. ووعده صادق. لهذا، حلّ الخروف محلّ اسحاق. ونجا الوعد. فكان انتصار الطاعة لدى ابراهيم، انتصارًا على تجربة تدفعه لأن يتساءل عن ((كمال)) الله. وفي النهاية، كان هذا الانتصار انتصار الايمان.
((بالايمان أيضًا بارك اسحاقُ يعقوب وعيسو من جهة ما سيأتي. وبالايمان يعقوب، وقد حضره الموت، بارك كلَّ واحد من ابني يوسف، وسجد متكئًا على طرف عصاه. بالايمان يوسف، لما دنا أجله، ذكر خروج بني اسرائيل، وأوصى بشأن رفاته)) (11: 20 - 22)
وتتواصل لائحة الآباء في صور سريعة تجعل أمامنا مثلاً عن ثباتهم في الايمان، في ساعة موتهم. هناك ثلاثة أجيال: اسحاق، يعقوب، يوسف. كان بإمكان الكاتب أن يتحدّث عن حياتهم وموتهم كما فعل مع ابراهيم. ولكن ما قال عن أبي الآباء يكفي حول مبادئ حياة الايمان وممارستها، ساعة كانت توضع أسُس الشعب العبرانيّ. جاء الجيل بعد الجيل، وانتظرت المواعيدُ تتمّتها، وانتصر الايمان على الموت الذي هو المحنة القاسية التي ما بعدها محنة. فموت الايمان يظهر بشكل أقوى من حياة الايمان.
بالايمان بارك اسحاق ولديه. هكذا يبارك الآباء أولادهم، ككفالة على الأيام الآتية. لا، لم يكن ((موت)) اسحاق النهاية، بل البداية والمسيرة إلى وطن أفضل يصبو إليه. ونال يعقوب البركة قبل عيسو، رغم عادة البشر بأن يبارك البكر أولاً. هنا نتذكّر أن هابيل لم يكن البكر، بل قايين. ومع أن اسماعيل كان البكر، إلاّ أن اسحاق نال الموعد. وهذا ما حدث أيضًا حين بارك يعقوب ابني يوسف. منسىّ وافرائيم. بدّل يعقوب يديه فلم يجعل يمينه على البكر، منسّى، بل على الثاني، افرائيم. حين بارك يعقوب افرائيم ومنسّى، قال النص العبري إنه كان على فراشه (اللفظة ذاتها، هـ م ط ة، ولكن تتبدّل الحركات). أما عب فقالت: على عصاه. هو الراعي الذي لا يستقرّ في مكان، بل يسير نحو الوطن السماوي.
وجاء يوسف في خطّ هؤلاء الآباء. ففي نهاية حياته لم يتزعزع إيمانه. تحدّث عن خروج بني اسرائيل وكأنه يراه أمامه، وثق بمواعيد الله، فأعطى أوامره بالنسبة إلى رفاته. هو يرى ما لا يُرى، يرى ما لا يراه الآخرون. هؤلاء يرون شعبًا في العبودية بعد أن قام على مصر ملك جديد لا يعرف يوسف (خر 1: 8). أما يوسف فرأى خروج بني اسرائيل وبالتالي اهتمام الله بشعبه وكأنه يقيمهم من الموت. بالايمان رأى ما رأى.

خاتمة
بعد هابيل وأخنوخ ونوح الذين ساروا مسيرة الايمان، رسم الكاتب وجه ابراهيم في ثلاث لوحات: ابراهيم الخارج من أرض أور والعائش في الخيام، مع أنه وصل إلى أرض الموعد. ابراهيم الذي نال النسل مع أنه ((ميت)) وسارة تجاوزت السن. ابراهيم الذي استعدّ لأن يذبح ابنه دون أن يتساءل عن مصير الموعد الذي يتجسّد في اسحاق. وذكر الكاتب نسل ابراهيم القريب: اسحاق، يعقوب، يوسف. دلّوا على إيمانهم في حياتهم، ودلّوا على إيمانهم في مماتهم. حملوا المواعيد ونقلوها. وجاء بعدهم من تابع المسيرة حتى يسوع المسيح الذي فيه تمّت المواعيد ونالت جميع الشعوب البركة التي بها وُعد ابراهيم.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM