الفصل الثامن والعشرون: الإيمان وعقاب المعاندين

الفصل الثامن والعشرون

الإيمان وعقاب المعاندين
10: 19 - 31

نحن هنا في نهاية القسم الثالث (5: 11 - 10: 39) والتحريض الأخير (10: 19 - 39) الذي قسمناه فصلين مع أننا اكتشفنا فيه أربعة مقاطع. كان عنوان هذا الفصل (10: 19 - 31): الايمان وعقاب المعاندين. أما عنوان الفصل الذي يليه (10: 32 - 39) فيكون: الايمان ومجازاة المؤمنين.
في نهاية التوسّع حول كهنوت المسيح، فهمنا أن على المسيحيين أن يثقوا ثقة مطلقة بيسوع حبرهم. غير أن هذه الثقة ليست طمأنينة عمياء ولا استسلامًا فارغًا. فهي تتضمّن ملء الايمان واعتراف الرجاء وحرارة المحبّة. ولكن المسيحيين لم يكونوا على هذا المستوى. وبعد أن حثّهم الكاتب، هدّدهم بالمصير الذي ينتظرهم: تركوا الاجتماع الاسبوعيّ، فدلّوا في الوقت عينه أنهم تركوا الجماعة التي ينتمون إليها، ووصلت بهم الأمور إلى اللاإيمان وإلى الجحود. نسوا ابن الله ودم عهده وروح نعمته. فيا لهول ما ينتظرهم!

1 - تفسير الآيات
نقرأ هنا مقطعين. نداء إلى الايمان والرجاء والمحبّة (10: 19 - 25). عقاب ينتظر الخطأة (10: 26 - 31).

أ - نداء إلى الايمان والرجاء والمحبّة (10: 19 - 25)
بدأ الكاتب فذكّر القراء بالعرض اللاهوتي حول يسوع الحبر الذي دخل إلى المقدس السماوي، ثم دعاهم إلى ممارسة الفضائل الالهية الثلاث. وانتهى بتحذير يربط المقطع الثاني بالمقطع الأول: اليوم يقترب. وهذا اليوم هو يوم الدينونة الذي ينتظر المعاندين.
أولاً: لنا كاهن عظيم (آ 19 - 21)
يتحدّث الكاتب إلى اليهود، فينطلق في حديثه من العهد القديم: السماء قدس الأقداس والمسيح حبرنا. الاحتفال بيوم التكفير، المرور خلال الحجاب. ما يطلبه الانسان هو الوصول إلى الله. وحده يسوع يعرف الطريق وهو يسير أمامنا كالسابق والقائد. نقرأ هنا كلمة ((إخوة)) (أدلفوي) التي تشدّد على جماعة تلاميذ المسيح، والتي ظهرت للمرة الأخيرة في 3: 1 ،12. فان ((أون)) (اذن، من ثم) تربط هذا التحريض الاخلاقيّ بالبرهان العقائديّ (7: 1 - 10: 18)، كما تربطه بالارشاد الذي قرأناه في 3: 1 - 4: 16. فقد توخّى الكاتب أن يعلّم قراءه، كما توخّى أن يحثّهم على عيش إيمانهم. أما ثقتهم فتستند إلى ثلاثة أمور: فُتح المعبد السماوي. الطريق إليه آمنة. إلى هناك سبقنا المسيح الكاهن والضحيّة. وسيُقال أيضًا في آ 35: جزاء عظيم يتنظرنا. لهذا، كانت ثقة المسيحيين (وجرأتهم) مفعمة بالفرح.
نقرأ هنا ((باريسيا)) التي تدلّ على جرأة لا تردّد فيها، وحريّة لا يعيقها عائق. في العهد القديم، كان الحبر وحده يدخل قدس الاقداس، مرّة في السنة. أما الآن، فجميع المؤمنين يقدرون أن يدخلوا المعبد السماوي، ويكونوا في حضرة الله. ((ايسودوس)) يعني العبور والدخول. دم يسوع (إذن، تشديد على بشريّته) هو الذي نال لنا هذا الامتياز. وفيه (ان) نجعل ثقتنا. لقد فُتحت السماء (ايس). هنا نورد كلام الذهبيّ الفم: ((هكذا يستطيع بولس أن يكلّمنا حين يدلنا على الاختلاف في الحبر، في الذبيحة، في المعبد، في الوصيّة، في المواعد. اختلاف عظيم. فعند اليهود، كل هذا زمني وعندنا أبديّ. كل هذا يُمحى ويسقط هناك. وهنا، كل شيء دائم. من جهة، الضعف. ومن جهة أخرى، الكمال. والظلال والصور تجاه الحقيقة التي لا تتبدّل)).
وتتحدّث آ 20 عن الطريق التي تقود إلى السماء، التي هي المسيح (يو 14: 6). هو السابق (6: 20، برودروموس). فتح الطريق (9: 12). وأخصّاؤه (هامين، نحن) يسيرون فيها. ((إنكاينيزو)) (في صيغة الاحتمال)، شقّ، تأخذ معنى ليتورجيًا (9: 18) في ارتباطها بالاقداس (هاغيا). هي طريق مقدسة، تقود إلى السماء. حتّى مجيء المسيح كانت مقفلة، والدخول إلى المعبد السماوي غير ممكن. لهذا، سُمّيت الطريق ((جديدة)). هي جديدة، وتبقى جديدة، لأن لا شيء يشيخ في العهد الجديد (8: 13). ((بروسفاتوس)) (مراحدة في العهد الجديد). في الاصل (بروس فونوس): قُتل منذ فترة قصيرة. أما المعنى العام فهو: ما دخل قريبًا في الاستعمال (عد 6: 3؛ جا 1: 9)، أو الانسان الذي يشيخ. يرادف ((كاينوس)) (تث 32: 17) ويعارض ((ارخايوس)) (سي 9: 10) و ((بلايوس)).
الطريق الحية قد تدلّ على الايمان أو حياة النعمة. ولكن بالعودة إلى 7: 25 (حي ليشفع بهم)، والتعارض مع موت الضحايا في العهد القديم، هي تدلّ على المسيح نفسه الذي هو طريقنا (ديا) إلى الآب. صارت الطريق شخصًا حيًا (يو 14: 6) تقود إلى الحياة (إر 21: 8 ،طريق الحياة)، فتحمل الذين يدخلون فيها. هناك من اعتبر الحجاب بابًا (به ندخل)، بينما هو حاجز يمنع الدخول (6: 19؛ 9: 3). والجديد الذي عمله يسوع هو أنه حطّم هذا الحاجز، ليلة آلامه (مت 27: 5). أما ((ساركس)) (الذي ارتبط بالطريق، هودوس) فيدلّ على الطبيعة البشريّة التي اتّخذها يسوع ليصير شبيهًا بنا (2: 14). هكذا نكون أمام المسيح الكاهن (آ 21)، أي الابن المتجسد والطريق الحية، الذي يدخلنا بذبيحته إلى المعبد السماوي، منذ صعوده. وحده استطاع إزالة العائق، وبه وصلنا إلى الآب (يو 14: 6).
ومع الدخول إلى السماء، لنا شفيع مسموع لدى الله (آ 21). رج 3: 1 - 6؛ 4: 14. هنا نعود إلى العهد القديم مع عد 12: 7 (موسى في شعب العهد)؛ زك 6: 11 حيث ((بيت الله)) هو المعبد السماويّ (رج 1تم 3: 15). قرأنا هنا ((هياروس ماغاس)) (كاهن عظيم) كما في 4: 14 (رج لا 21: 10؛ عد 35: 28؛ تي 2: 13) التي تدلّ على نشاط هذا الوسيط الذي هو كاهن وملك. لا، ليس المسيحيون وحدهم في هذه المسيرة، فلهم كل غنى بيت الله.
ثانيًا: نتجاوب معه (آ 22 - 24)
بما أن لنا هذه التطمينات المميّزة والمجانيّة، يبقى علينا أن نكون منطقيّين مع أنفسنا، فنتجاوب مع عطايا الله، ونسير في الطريق المفتوحة أمامنا، فنقترب من الله (بروسارخوماي، رج 4: 16). فما كان مستحيلاً على أهل الشريعة القديمة (10: 1) صار حقًا لنا، وإذا شئنا، واقعًا. غير أن هذا الدخول يفرض ثلاثة شروط باطنية. أولاً: الصدق والأمانة. ((القلب)) (كارديا) يدلّ على العواطف الحميمة، وعلى الإرادة العميقة. ((أليتينوس)) في السبعينية تقابل ((ي ش ر)) (مستقيم) أو ((ا م ت؛ ا م و ن ه)) (الجذر ا م ن: ما هو ثابت، متين). إذن، نحن أمام نيّة مستقيمة وعزم ثابت في البحث عن الله والتكرّس له (أش 38: 3). ذاك هو التحريض الجوهري لمسيحيين يمرّون في المحنة: ضجروا وصاروا قريبين من اليأس. ثانيًا: الايمان (بستيس). ((لا شيء عندنا منظور، لا الكاهن ولا الذبيحة ولا المذبح)) (الذهبي الفم). ايمان لا تردّد فيه ولا ارتياب، كذلك الذي يتحدّث عنه ف 11 (بليروفوريا، رج 6: 11؛ روم 4: 19 - 21): يقين مطلق وناشط، لأنه يستند إلى الله ومواعيده (4: 1 - 11). ثالثًا: نقاوة باطنية لم تستطع الشريعة القديمة تأمينها. أما المسيحيون فحصلوا عليها بالمعموديّة التي تدلّ عليها عبارتان متوازيتان: فالماء الطاهر ليس فقط ماء نقيًا، بل ماء مقدسًا (هيدور كاتارون = م ي م. ق د ش ي م، عد 5: 17 = م ي م. ط هـ و ر ي م، خر 36: 25). إن المعمودية المسيحية هي غسل ماء (أف 5: 26؛ 1بط 3: 21) يغسل نجاسات الجسد (لووو، يو 13: 10؛ أع 9: 37؛ 16: 33؛ رج تي 3: 5) ولطخات الضمير (6: 1؛ 9: 14؛ 10: 2). نقرأ ((سينايديسيس))، الضمير، النية. موقف من يوافق حياته مع مواعيد الله ومتطلّباته. هي ترتبط مع ((بستيس)) (الايمان)، و ((هومولوغيا)) (اعتراف، آ 32).
((رانتيزو)) يعني نضح، رشّ (9: 13، 19، 21)، طهّر (مز 51: 9). في الاصل، هناك الطقس اللاوي مع رشّ البشر بدم الذبائح (خر 24: 8؛ 29: 21). وهذا ما يفعله الماء في العماد، الذي يفعل فعل كلمة الله (4: 12). إن هذا التطهير الكامل والمستمدّ من الخطايا، هو ما يدعونا إلى الثقة. ((فإن نقصت هذه الاستعدادات، لا نستطيع أن نتقبّل ملء الأشياء المقدسة... لا يدخلُ انسان عاديّ إلى هنا. تطهّر اسرائيل في جسده، ونحن في ضميرنا)) (الذهبيّ الفم).
حين يتقبّل المسيحيون العماد، يعلنون اعتراف إيمانهم بشكل احتفاليّ (هومولوغيا، 4: 14؛ 1تم 6: 12). وجوهر هذا الاعتراف: الحياة الأبديّة. إذن، نحن أمام اعتراف رجاء (11: 1). ونحن نتمسّك به بشكل خاص (كاتاخو، 3: 6، 14) في وقت الاضطهاد. فالمحن لا تقدر أن تؤثّر في ثقة تستند حصرًا إلى الله وإلى أمانته (1تس 5: 24؛ 1كور 1: 9؛ 10: 13). إن الرب يُتمّ دومًا ما يعد به (6: 13؛ 11: 11؛ 12: 26). واليهود الذين اهتدوا إلى العهد الجديد، يختلفون عن جيل البريّة المتحسّر دومًا إلى عبوديّة مصر، يتمسّكون بكل قلبهم بالتزامهم الجديد. ((أكلينيس)) (مراحدة بيبليّة): لا يميل، مستقيم، ثابت، متين، لا يتحرّك. رج ((بابايا)) (6: 19). ذاك هو موقف الانسان الذي وُلد ولادة جديدة.
بعد الايمان (آ 22أ) والرجاء (آ 23)، ها هي المحبّة (آ 24). كما كانت آ 23 صدى 4: 14، أشارت آ 24 إلى 6: 10 (رج 3: 12 - 13). فالتلميح إلى العماد الذي هو عمل كنسيّ، يتيح لنا أن ننتقل من فرائض على مستوى الفرد، إلى واجبات اجتماعيّة. بما أن المعمّد ارتبط بالكنيسة، فهو لا يستطيع أن يعيش دون أن يهتمّ بالقريب وببناء الجماعة. إذن، يهتمّ باخوته. فعل ((كاتانويو)) (تنبّه) يدلّ على تفحّص وتفكير. الأعمال الصالحة (ضد الاعمال الميتة، 6: 1)، بل الأعمال الجميلة (كالا) أي الأعمال التي هي أهل للمديح لجمالها الخلقيّ. ((باروكسيسموس))، لفظة طبيّة تدلّ على أرفع درجة في الحمّى. تستعمل في التوراة في معنى الغضب (ق ص ف، تث 29: 28؛ إر 32: 37؛ أع 15: 39). تعني هنا: الحافز، المحرّك. نحن أمام مزاحمة لممارسة المحبّة على مستوى العون الماديّ (12: 15) أو الإصلاح الأخويّ (رج كاتانويو).
ثالثًا: لا نهجر الاجتماع (آ 25)
إن فريضة حضور اجتماع الجماعة (حيث المسيح حاضر، مت 18: 20) بشكل مستمرّ، يُعبَّر عنها في اسمَي فاعل يردان في صيغة النفي (لا تهجروا، غير هاجرين) وصيغة الايجاب (حرّضوا، محرضين). اعتاد (كاتوس إتوس، رج أع 25: 16) بعض المسيحيين أن يعفوا نفوسهم من المشاركة اليوميّة (أع 2: 46) أو الاسبوعيّة (أع 20: 7) في اجتماعات الكنيسة، عن إهمال، بل عن سابق قصد (إنكاتالايبو، ترك، هجر، مضى). هم لا يفهمون معنى الليتورجيا أو الصلاة المشتركة، أو يعيشون أنانيّتهم، فلا يحملون العون إلى الجماعة. فرض المعلّمون على اليهود الحضور إلى المجمع، وهكذا فعلت عب، لأن هذه الاجتماعات تحمل التشجيع (باراكالونتس) والمساندة الاخويّة في زمن الاضطهاد. في هذا المعنى قال الذهبي الفم: ((الجماعة المسيحيّة تنمي المحبة... كما الحديد يشحذ الحديد، كذلك التقارب ينمي المحبّة. وإن الحجر الذي يضرب حجرًا يخرج شرارة، فكم بالأحرى النفس التي تذوب في النفس)). في هذه الاجتماعات اعتاد المؤمنون أن يحثّوا بعضهم بعضًا، وأن يتساندوا بالنصائح الأخويّة (3: 13؛ روم 12: 8؛ 1كور 14: 3).
وما يدفع المؤمنين إلى الحرارة في الاقتراب من الله، إلى اعتراف الرجاء... هو أن مجيء الرب قريب (آ 37، نقرأ هنا ((هيمارا))، اليوم، رج أش 5: 4؛ 1كور 3: 13). أجل، صار المؤمنون في نهاية المطاف، وهم لن ينتظروا طويلاً (2تم 4: 1). هنا ينتقل النصّ من اسم الفاعل إلى الحاضر، ليُبرز النداء الموجّه إلى الجماعة. ((انغيزو)) (اقترب) لفظة خاصة للحديث عن عودة الرب (روم 13: 12؛ فل 4: 5؛ يع 5: 8؛ 1بط 4: 7). ((بلابو)) (رأى) يدلّ على معرفة أكيدة تستند إلى الخبرة (3: 19؛ روم 7: 23؛ 1كور 10: 18).

ب - عقاب ينتظر الخطأة (10: 26 - 31)
جاء إعلان يربط العقاب بالخطيئة، ثم مقابلة بين ناموس موسى والعهد الجديد. وأخيرًا أعلنت الدينونةُ المريعة: ماذا يكون مصير من استهان بنعمة الله وعامل إبن الله وعهده معاملة مبتذلة؟
أولاً: الخطيئة والعقاب (آ 26 - 27)
أعلنت آ 26 في ألفاظ مأخوذة من العهد القديم موضوعًا سوف تتوسّع فيه عب في ف 11: خطورة الخطايا التي نقترفها بملء اختيارنا (عمدًا، لا سهوًا أو جهلاً). إن الطابع الاراديّ والواعي كل الوعي، يعطي الذنب خطورة خاصة. لهذا، جاءت ((إكوسيوس)) (2مك 14: 3؛ 1بط 5: 2) في بداية الجملة. يقابل في العبرية: ونحن رافعون ايدينا. رج ((ب ز د و ن)) بوقاحة (تث 17: 12؛ 18: 22). نحن هنا أمام خطايا التجديف والتمرّد على الله. مثل هذا الخاطئ في اسرائيل لا يستفيد من ذبائح عن الخطيئة كانت تقدّمها الشريعة القديمة. في آ 25 قرأنا عن هجران الاجتماع، وهنا في آ 26 عن غياب الذبيحة. ومع أن الخاطئ سقط عمدًا، فهو لا يزال يعاند ولا يريد أن يتوب. صرنا أمام حالة تدوم، لا أمام فعل اقترفه المؤمن مرّة واحدة. نقرأ ((هامرتونتون)) : اسم الفاعل. يقيمون في الخطيئة ولا يتوبون.
وأخيرًا هذه الخطايا الاراديّة هي ضد النور. ((معرفة الحق)) (ابيغنوسيس تيس أليتاياس) تدل على الاستنارة في العماد، على الاعتراف الايماني. الله هو الذي يعطي هذه المعرفة التامة (6: 4) التي يتقبّلها المؤمن (التاين ايس، يذهب إليها، 2تم 3: 7)، يأخذها (لاباين) فينال الخلاص. إن اختيار هذه العبارة العقلانيّة والاشارة إلى وقت حاسم في الماضي (رج آ 39 وثلاثة أفعال في صيغة الاحتمال) يدلاّن على طبيعة الخطيئة: أنكر المسيحيّ بشكل نهائي التزامه العمادي، وعاد عن الحقّ بملء إرادته. ذاك هو الجحود. بعد ذلك، لا تنفعه ذبيحة المسيح التكفيريّة، بعد أن قطع رباط الايمان مع المخلّص الذي جاء لكي يخلّصنا من الغضب الآتي (1تس 1: 10؛ رج يو 3: 16). فُصلت ((تيسيا)) (ذبيحة) عن ((هامرتيون)) لتبرز هذه الاخيرة مقابل ((هامرتونتون))، وهكذا بدا التوازي واضحًا. أما صيغة الجمع فتدلّ على استحالة كل غفران. نحن في خطّ معاكس لما في 8: 12؛ 9: 14، 26؛ 10: 10، 17، ولكن الجاحد يرذل العهد، وبالتالي يجعل نفسه خارج التدبير الخلاصيّ. رج آ 18 (لا تقدمة بعد عن الخطيئة). نقرأ ((أبولايبو)) الذي لا يعني في عب: ترك وراءه (تي 1: 15؛ 2تم 4: 13، 20)، بل ((احتفظ)) (4: 9؛ يهو 6). نحن هنا على المستوى اللاهوتي: لم يحتفظ الله بشيء للجاحدين. فكأننا أمام تجديف على الروح القدس.
لا سبيل غفران للجاحدين (أديناتون، 6: 4)، بل ينتظرهم أقسى عقاب (آ 27). هنا يبدأ العذاب، تبدأ جهنّم. ساعة انتظر المؤمنون الدينونة (9: 27، كريسيس) برغبة وثقة (10: 25)، على الخطأة أن ينتظروها (إندوخي، مراحدة بيبليّة) في الخوف والرعدة. إذا كان الحاضر كذلك، فما يكون المستقبل. اعتبر الجاحد عدوًا (هيباننتيوس، رج اختروس في 10: 13)، فصار فريسة النار (شُخِّصت النار، رج 12: 29). في السبعينية، ((زيلوس)) (ق ن ا ه) تدلّ على عمل الله وغيرته، إمّا لخلاص شعبه، وإما لمعاقبة الخطأة. يكون هذا ((الغضب)) مع ((النار)) (تث 29: 19؛ مز 79: 5؛ مز 38: 19، اشتعل الغضب) فتعبّر عن انتقام (آ 30) الله الذي يعاقب الخطأة بلا رحمة. ((نار غيرة)) (بيروس زيلوس) تقابل في العبرية: ق ن أ ت. إ ش. رج أش 26: 11؛ 66: 24؛ صف 1: 19؛ 3: 8. فالنار هي أداة انتقام الله (تث 4: 24 = عب 12: 29؛ حز 36: 5؛ مر 9: 48؛ رؤ 11: 5). هذا هو العقاب الأبديّ.
ثانيًا: ناموس موسى والعهد الجديد (آ 28 - 29)
ويأتي برهان مع ((بالحري)) (من الأقل إلى الاكثر)، أخذ من عالم القانون (في 6: 7 - 8 ،أخذ البرهان من عالم الطبيعة)، فبيّن أنّ مثل هذه القساوة تفرض نفسها، وأن الكاتب لا يغالي في ما يقول. ففي شعب اسرائيل، كل دعوى تطلب شهادة شخصين أو ثلاثة (تث 19: 15 - 21). فإن ثبتت التهمة، يعاقب المذنب بلا شفقة (آ 21)، وإلاّ كان ((القاضي)) مخطئًا إلى الله. نقرأ ((اويكتيرمون)) (صيغة الجمع، روم 12: 1؛ 2كور 1: 3) التي تقابل ((ر ح م ي م)). هناك حالات يُحكم فيها بالاعدام. مثلاً، من جدّف على اسم الله (لا 24: 13 - 16)، من زنى ولا سيّما مع الأقارب أو مع الحيوان (لا 20: 11 - 17)... رج تث 13: 9 حيث يمنع المشترع كل رأفة، وتث 17: 2 - 7 الذي يتكلّم عن عبادة الأوثان التي تلي الجحود (ب ر يت و. ل ع ب ر). لهذا استعملت عب: أتاتيو: تجاوز شريعة أو عهدًا (مع نوموس في أش 24: 7. مع وصيّة، انتولي، في مر 7: 9. مع ((دياتكي)) عهد، في غل 3: 15). وهكذا يعني الفعل رفض (مر 6: 28)، رذل (لو 10: 16؛ يو 12: 48)، ثار (2مل 18: 7). يتصرّف الانسان بمكر، يخون (خر 21: 8؛ إر 3: 20). نحن أمام معاندين، متمرّدين (آ 27) لا يقيمون أي اعتبار للشريعة (لو 7: 30)، بل يحسبونها باطلة أو رديئة (اتاتيسيس، 7: 18؛ 9: 26، مبتذل في آ 29). بعد أن تعلّقوا بالعهد، رذلوه، تركوه جانبًا وكأنه ما كان (غل 2: 21؛ 1تم 5: 12).
ويكون العقاب مناسبًا للخطيئة (آ 29). عقاب مسيحيّ في العهد الجديد أقسى من عقاب اسرائيليّ في البريّة. ((تيموريا)) (مراحدة في العهد الجديد): عقاب، قصاص، انتقام. لا ((كولاسيس)) (مت 25: 46؛ 1يو 4: 18): هناك تقابلٌ بين الذنب والمجازاة (حك 19: 13؛ 2مك 6: 12، 26) يبدو مقبولاً لدى كل انسان (دوكايتي، ترون، تظنون، مت 17: 25؛ 18: 12). دلّ الجاحد على احتقار لابن الله. داسه (كاتاباتيو، يدلّ على الاحتقار). يقال عن التلميذ (مت 5: 13) أو التعليم الذي هو درّة تدوسها الخنازير (مت 7: 16). في الحالين، نحن أمام شيء ثمين أو شخص كريم. استعمل العهد القديم هذا الفعل قرابة خمسين مرة، ولاسيّما في المزامير وعند الانبياء: داس العهد (أش 10: 6؛ 18: 7...)، ضيّق عليه (عا 4: 1؛ 5: 12).
وعى الجاحد كل الوعي تصرّفه وما فيه من احتقار. ((هاغيوماي)): اعتبر، حسبَ (11: 26؛ 2كور 9: 5؛ 1تم 1: 12؛ 6: 1). اعتبر الجاحد دم المسيح الذي ختم العهد الجديد (9: 20؛ 13: 20) شيئًا مبتذلاً، عاديًا، دنيويًا، لا قدس فيه (كوينوس يقابل هاغيوس، القدوس، أو ((كاتاروس)) الطاهر، رج مر 7: 2؛ أع 10: 14؛ روم 14: 14). هذا الدم الذي اغتسل فيه المؤمن في المعموديّة (إن هو، الذي فيه قدّس، رج 10: 14، 19؛ 1كور 1: 2 ،30)، واعتبره مقدّسًا، وبه نال غفران الخطايا والدخول إلى المعبد السماوي، يحسبه الجاحد دمًا مثل دم كل انسان. قدِّس (هيغياستي). الله قدّسه، كرّسه، جعله خاصته. هكذا كان الكاهن يكرَّس بالدم في العهد القديم (خر 29: 20) فيدلّ على خضوعه لكلام الله وتتميم مشيئته. فمن احتقر هذا الدم، رفض كل انتماء إلى الربّ.
وأخيرًا، تصرّف الجاحد بوقاحة (هيبريزو، لو 18: 32؛ أع 14: 5) ضد الروح القدس الذي أناره، سقاه الماء الحي في المعموديّة (6: 4؛ تي 3: 6). هذا خطر يفوق خطر تجاوز ناموس موسى. قال تيودوريتس: ((لم يعارض شريعة (من عنده) بشريعة موسى، بل يعارضها بدم المسيح)). ((بنفما تيس خاريتوس)) (روح النعمة): الروح القدس التي به ننال النعمة. ونستطيع أيضًا أن نقول إن الجاحد يهين روح محبّة الله التي عملت ما عملت لأجله (4: 16؛ 12: 15؛ زل 12: 10، روح. ح ن). هذه الخطيئة الاراديّة ضد الروح والمحبّة هي ذروة الشرّ (هيبريس، احتقار مهين، روم 1: 30). هو لا يُغفر (مر 3: 29). كان التعارض تامًا بين ((هيبريس)) و((خاريس)). كيف عاملَنا الله بنعمته، وكيف احتقرناه بتصرّفنا.
ثالثًا: الدينونة الرهيبة (آ 30 - 31)
إن الاستشهادين الكتابيين اللذين يؤكّدان قساوة العدل الالهي، يردان في شكل بلاغي، كنداء مباشر إلى وجدان القرّاء، ليحرّكا فيهم الخوف. بما أن الله هو عادل وأمين (ثابت في أحكامه)، فالجاحد لا يقدر أن يُفلت من عقابه. جاء الاستشهاد الأول من تث 32: 35، بشكل مثل ردّده المعلمون. والثاني من تث 32: 36 (= مز 135: 14). في الأصل، نحن أمام قول عن الرحمة، والرب يدين شعبه، وعلى عبيده يشفق، مع انتقام من الاعداء. أما في عب، فالديّان الذي يتدخّل لا يعفو عن الخطأة، ويعاقب أشدّ عقاب الجاحدين (رج آ 17، لن يذكر الرب الخطايا).
وترد دهشة مفاجئة (آ 31) لا ترتبط بما سبقها: هي صرخة الخوف والرعب. إذا كانت النظرة إلى دينونة الله، تثير كل هذا الهلع (فوبارا، الهول، آ 27)، فلأن الوقوع في يدي الله مرعب (فوبارون). الله الحيّ (زونتوس)، رج 3: 12. هذا ما يدلّ على قدرة الله التي تفعل بسرعة فتعاقب. ويدلّ على أن الله يرى ويسمع (وإن ظلّ صامتًا)، وليس كآلهة الخشب والحجر. إن يد الله تمسك الخاطئ كما يمسك الجلاّد من حُكم عليه بالموت. ونحن هنا أمام موت الجسد (الموت الاول) وموت الروح (الموت الثاني)، أي عقاب جهنّم (مت 10: 28؛ لو 12: 5).

2 - قراءة إجمالية
((ومن ثم، أيها الاخوة، فبما أن لنا بدم يسوع، ثقة بالدخول إلى المعبد (قدس الأقداس) من هذه الطريق الجديدة الحيّة، التي شقّها لنا خلال الحجاب، أعني جسده (بشريّته)، وكاهنًا عظيمًا على بيت الله، فلندنُ بقلب صادق، وفي كمال الايمان، وقد تطهّرت قلوبنا من كل دنس ضمير شرير، ونضح الماء النقيُّ أجسادنا)) (10: 19 - 22)
إن خاتمة الاتجاه التعليميّ المركزي في عب، يرد في تحريض جدّي جدًا إلى القرّاء، كي يضعوا موضع العمل في حياتهم اليوميّة، الحقائق التي عُرضت عليهم. وهذا التشديد على علاقة بين اللاهوت والعمل، يميّز الاسلوب الرسائليّ في العهد الجديد. فالتعليم ليس فقط نظريات. يجب أن نطبّقه. يُعلَن الايمان ويُعاش أيضًا. والحقيقة تتجسّد في العمل.
بدأ الكاتب فتوجّه إلى قرّائه. سمّاهم ((الاخوة)). نحن في جوّ احتفاليّ. وهو يطلب منهم أن يبرهنوا عن إيمانهم بأعمالهم. هو لا يحكم عليهم، بل يعتبرهم اخوته ويثق كل الثقة بعمل الله فيهم (رج 3: 1، الاخوة القديسين؛ 3: 12، الاخوة؛ 6: 9 ، الاحبّاء). هذا يعني أن هذه الرسالة (أو هذه العظة) هي أبعد ما تكون عن عرض تعليميّ مجرّد. ثم إن الكاتب يجعل نفسه مع القرّاء، فيستعمل صيغة المتكلّم الجمع (لنا بدم يسوع، إن خطئنا...).
امتلاك الثقة بالدخول إلى المعبد الذي فيه يظهر المسيح في حضرة الله من أجلنا (6: 19 - 17؛ 8: 1 - 9؛ 9: 11 ،12، 24)، هو النتيجة المنطقيّة لتعليم حول خدمة المسيح الكهنوتيّة ومدلولها. وما يعطينا هذه الثقة هو دم المسيح، أي تقدمته كالابن المتجسّد وموته التكفيريّ. ذكر التائب اسم يسوع فدلّ على بشريّته وبالتالي على عمله البدليّ حين افتدى الجنس البشريّ. والجرأة على الدخول إلى حضرة الله التي يكفلها الانجيل، تتعارض مع خوف الكهنة من دخول قدس الأقداس، بل عظيم الكهنة الذي لا يدخله سوى مرّة في السنة. رج 4: 16 حيث تستند الثقة إلى عمل المصالحة الذي قام به حبرنا فمنحنا الرحمة والنعمة والغوث. قال بولس: ((لنا فيه الجرأة، بالايمان به، على الدنوّ من الله في ثقة)) (أف 3: 12).
لسنا أمام معبد أرضيّ (هو ظلّ السماوي، عب 8: 5؛ 10: 1). ولسنا أمام طريق قديمة (مع ذبْح تيوس وعجول). هي طريق جديدة وحيّة فتحها يسوع حين قدّم نفسه. هي جديدة لأنها تنفصل عن القديمة، فتدشّن مساحة العهد الجديد. ما من أحد سار فيها قبل يسوع. وهي جديدة، لأنها تختلف عن القديمة، التي هي ناقصة، وقد شاخت وبليت (8: 13). وهي حيّة، لأنها طريق الحياة الابديّة. هي ليست جامدة، ليست طقسًا ميتًا. هي شخص حيّ، فادينا يسوع المسيح (7: 16، 24، 25، 28)، الابن المتجسّد الذي صُلب ومجّد فصار الحياة والطريق (يو 14: 6). وهكذا استطعنا أن ندخل فيه (هو المعبد السماوي)، وبواسطته، بعد أن اتّحدنا به. لا، لم يعد المسيحيون غرباء ونزلاء في هذا العالم. هم قريبون من الله، ولن يسألوا مثل توما عن الطريق. فالمسيح مرّ أمامهم (سابقهم) وفتح لهم الطريق. دشّن الطريق الجديدة التي يمكننا أن نسير فيها. كان الحجاب حاجزًا، فأزاله. وها قد صار جسده الهيكل الجديد ومركز حضور الله على الأرض (يو 2: 21).
والثقة لنا بأن نقترب من عرش النعمة، تتقوّى باعتبار يقول لنا إن لنا عظيم كهنة على بيت الله، وهو الفادي الذي فتح لنا الطريق. هو القيّم على البيت، وهو يسمح لنا بالدخول لنكون في حضرة الله. مثل هذه الحقيقة تؤسِّس هذا الارشاد الذي قيل في 4: 16 وأعيد هنا ليدعونا إلى الاقتراب (1) بقلب صادق أي بتكريس ذاتنا. (2) بثقة الايمان ومتانته وكماله. (3) بقلوب تطهّرت من كل غشّ. (4) بأجساد غُسلت بماء طاهر. وحده القلب الذي تطهّر يمكن أن يكون قلبًا صادقًا، ويعرف ثقة الايمان. مثل هذا القلب يخصّ الانسان الذي اغتسل بماء طاهر. في العهد القديم، اقترب الناس من حبرهم، ونحن بواسطة حبرنا الوحيد نقترب إلى معبد الحضور الالهي. هم اغتسلوا بالماء ورشاش الدم (خر 29: 4 ،21)، كذلك يُفرض الغسل على الذين ينتمون إلى الكهنوت المقدس كما قال بطرس: ((كونوا كهنوتًا وقدّموا ذبائح روحيّة يقبلها الله بيسوع المسيح)) (1بط 2: 5).
حين تحدّث الكاتب عن أجسادنا التي اغتسلت بماء طاهر، فكّر بوعد حز 36: 25 الذي يقول: ((أرشّ عليكم ماء طاهرًا، فأطهّركم من جميع أصنامكم وما به تنجّستم)). لسنا فقط أمام تطهير خارجيّ، لهذا يتابع النبي فيقول: ((أعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل في أحشائكم روحًا جديدًا، وأنزع من لحمكم قلب الحجر وأعطيكم قلبًا من لحم. وأجعل روحي في أحشائكم، وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها)) (آ 26 - 27). وقال بولس في المعنى عينه: ((خلّصنا الله بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس الذي سكبه فينا بواسطة يسوع المسيح مخلّصنا)) (تي 3: 5 - 6). وقال في أف 5: 26 إن المسيح طهّر الكنيسة ((بغسل الماء مع الكلمة)) (هذه هي المعمودية).
((ولنتمسّك باعتراف الرجاء على غير انحراف، لأن الذي وعد أمين. ولينتبه بعضنا لبعض تحريضًا على المحبّة والأعمال الحسنة (الجميلة، الصالحة). لا تهجروا اجتماعكم الخاص، كما هو من عادة البعض، بل حرّضوا بعضكم بعضًا، وبالغوا في ذلك بقدر ما ترون اليوم يقترب)) (10: 23 - 25)
إن نداء الكاتب لأن نتمسّك بالاعتراف هو تكرار لنداء 4: 14 (نثبت على الاعتراف) الذي هو صدى لتنبيه قرأناه في 3: 6 (نحن بيته إن أقمنا على الثقة) و3: 4 (نشارك المسيح إن ثبتنا على الايمان). والآن، أضافت عب: على غير انحراف، بلا تراخ ولا تخاذل. أما الاعتراف فهو اعتراف الرجاء المرتبط بالايمان. فقد رغب القارئ أن يرى قرّاءه يحفظون كمال رجائهم، حتى المنتهى (6: 11)، ويعون العون الذي وجدوه في وعد الله. يتمسّكون تمسّكًا وثيقًا بالرجاء الذي وُضع أمامهم (6: 18). فهذا الرجاء هو مرساة أمينة، راسخة (آ 19). فالعهد الجديد (الذي يتفوّق على القديم) مع كاهنه الفريد وذبيحته الكاملة، هو أساس رجاء أفضل (7: 19، 22).
هناك اعتبار هام بأن المواعيد التي بها آمنا، والتي هي أساس رجائنا، هي مواعيد الله التي تطلب جواب الايمان الواثق واعتراف الرجاء الذي لا يحيد. فلو كانت هذه المواعيد مواعيد بشرية، فهي ليست بأكيدة، ولن تتمّ. وهكذا يسقط الايمان والرجاء. أما وهي مواعيد الله، فهي تُعلن بشكل مطلق، وما تعد به يدوم على الأمانة إلى الأبد. وهذا ما يؤمّن الأساس المنطقيّ الوحيد لاعتراف الرجاء لدى المسيحيين. الله الحي وعد، ولهذا السبب تكلّم بطرس عن رجاء حيّ وُلدنا له من جديد (برحمة الله العظيمة) عبر قيامة المسيح من بين الأموات (1بط 1: 3). فالانحراف عن اعتراف الايمان هذا، يدلّ على تراجع في ثقتنا بالله وعلى نظرتنا إلى أمانته.
في آ 24، نصل إلى النداء الثالث في الإرشاد: ندنو، نتمسّك، ننتبه. نحن أمام نداء إلى المحبة، نمارسها مع الاخوة، ونمارسها داخل الجماعة بحيث لا تتفكّك ساعة يسير كل واحد في طريقه. ارتبط النداء الأول (آ22) بالايمان، والثاني (آ 23) بالرجاء، والثالث (آ 24) بالمحبّة (رج 1كور 13: 13). قبل ذلك، حثّ الكاتب قرّاءه أن ينتبهوا إلى يسوع رسول وحبر اعترافنا (3: 1). وها هو يلحّ عليهم الآن لكي يتنبّهوا إلى إخوتهم في الايمان ويحثّوهم على محبّة اخوتهم وعلى الأعمال الحسنة. هذا يعني ضعفًا في العلاقات بين المسيحيين، ناتجًا عن ضعف في محبّة توحّد أعضاء الجماعة وعن أعمال رحمة تكون تعبيرًا عن هذه المحبّة. عدم الاهتمام بصحّة الجسد الذي هم أعضاؤه، يدلّ على أنانيّة وانغلاق على الذات وانعزال. فالذي لا يحبّ اخوته المسيحيين من كل قلبه (1بط 1: 22)، لا يحسّ بالحاجة لأن يكون معهم. وهكذا تكون صحّة اعتراف إيمانهم موضوع شك. فصدقُ محبتنا للاخوة دليل على صدق محبتنا لله.
ويظهر ضعف المحبّة في تصرّف فردي، ولا سيّما حين يهمل المؤمن اجتماع الجماعة. فمن لا يهتمّ بإخوته المسيحيين، لا يهتمّ بالمسيح، وهذا ما يقود إلى اللاإيمان والجحود. يجب أن نبرهن عن واقع المحبّة المسيحيّة في علاقة شخصيّة ومتبادلة داخل الجماعة. فإن كانت المحبّة تنعش الجماعة، فالجماعة أيضًا تنعش المحبّة: فحين تلتئم الكنيسة، يشجّع الأعضاء بعضهم بعضًا، يحضّون بعضهم على الأعمال الحسنة وعلى مجابهة الصعوبات.
وينبّه الكاتب قرّاءه إلى هذا التشجيع المتبادل لأن ((اليوم يقترب)). اليوم هو اليوم الاخير، يوم النهاية، يوم الدينونة والتعرّف إلى الله، يوم الربّ. هناك من رأى أن الكاتب انطلق من سقوط أورشليم سنة 70 ب.م. ليتحدّث عن هذا اليوم. ربما. ولكن يبقى أن عب هي في إطار عام: يوم عودة المسيح في الزمن الحاضر ليقيم ملكوته الذي لا ينتهي، أي الأرض الجديدة والسماوات الجديدة.
((لأنّا إن خطئنا عن اختيار بعد إذ نلنا معرفة الحقّ، فليس بعدُ ذبيحة عن الخطايا. بل هناك ما يُنتظر من هول الدينونة وغضب نار سوف تلتهم المعاندين)) (10: 26 - 27)
إن خطر الجحود الحقيقيّ ونتائجه المريعة، التي سبق الكاتب ونبّه لها (2: 1ي؛ 3: 12؛ 4: 1ي؛ 6: 4ي)، هو موضوع تحذير جديد ومتشدّد. فالذين سقطوا في حالة لا دواء لها، فأنكروا إيمانهم، هم أعضاء الجماعة المسيحية الذين أخطأوا عمدًا (اختلفوا عن الجهّال والضالين، 5: 2)، فكان عنادُهم جذريًا تجاه الانجيل. انقطعوا عن العهد، فما عادت الذبيحة تفيدهم من أجل غفران خطاياهم. يسمّيهم سفر الامثال: ((التاركين طريق الاستقامة ليسلكوا طريق الظلام، الفرحين بارتكاب المساوئ والمبتهجين بأكاذيب الشرّ)) (2: 13 - 14). لقد تخلّوا عن اعتراف الايمان، وعن القداسة التي لا تنفصل عن هذا الاعتراف. مثل هذا الخاطئ يبتعد عن هدف يعرف أنه الحقّ، ويتمرّد على العهد الذي به خُتم. يخطأ ضد النور (6: 4) فيدلّ على أنه يفضّل الظلمة على النور (يو 3: 19). يرفض الخلاص ويختار الدينونة (تث 30: 15 - 20). مثل هذا الانسان الذي تخلّى عن العهد، لا تبقى له ذبيحة عن الخطايا. فماذا يبقى له إذن؟
بعد أن جحد ايمانه، وقطع نفسه من نعمة الله، لا يبقى له سوى الدينونة التي اختارها بما فيها من هول، لا الخلاص. صار عدوّ صليب المسيح، وكانت آخرته الهلاك (فل 3: 18 - 19). واستباقًا لهذه النهاية، يكون له الخوف والرعدة كما سيقول الكاتب في آ 13: ((فيا لهول الوقوع في يدي الله الحي))! أما هنا فتصوَّر الدينونةُ على أنها ((غضب نار تلتهم المعاندين)). هذا ما تقوله روم 1: 18 عن ((غضب الله الذي أعلن من السماء على كفر البشر وشرّهم. فهم يحجبون الحقّ بمفاسدهم)). وستقول عب 12: 29: ((إلهنا نار آكلة)). أما الجحود الذي يتكلّم عنه الكاتب فهو في الدرجة الأولى عودة إلى اليهوديّة. فماذا ينتفع مثل هذا المسيحي بعد، من ذبائح لم تنفع اليهود أنفسهم لأنها كانت ناقصة؟
((فلئن كان من يتعدّى ناموس موسى يُقتل بلا رأفة، على شهادة اثنين أو ثلاثة، فكم ترون يستوجب عقابًا أشدّ من يطأ ابن الله ويعدّ مبتذلاً دمّ العهد الذي قُدِّس به، ويهين روح النعمة)) (10: 28 - 29)
إن الجحود يعاقب عقابًا قاسيًا، في النظام الموسوي، وبدون رأفة. يكفي لذلك شاهدان أو ثلاثة (تث 17: 2 - 7). عندئذ يُحكم بالموت على عابد الأوثان، على المتعدّي على شريعة العهد. تقول تث 13: 8 مشدّدةً على ما يصيب ذاك الانسان: ((فلا تلتفت إليه، ولا تسمع له، ولا يتوجّع قلبك عليه، ولا تتحمّله، ولا تستر عليه، بل اقتله قتلاً)). ويأتي البرهان من الأقل إلى الاكثر، وشعب العهد القديم نال المواعيد ولم ينل تتمّة المواعيد. أما أعضاء جماعة العهد الجديد فنالوا المواعيد وتتمتها في المسيح، فما عادت لهم فقط امتيازات عظيمة بل مسؤوليّة أعظم. اذن، إن كان هكذا يعاقب أبناء شريعة موسى، فكيف يعاقب المسيحيون؟
وما الذي فعله هؤلاء المسيحيون المعاندون؟ (1) داسوا ابن الله، أي عاملوه باحتقار حين اعتبروه انسانًا فقط وأنكروا لاهوته. رذلوا يسوع كالابن الذي فيه تكلّم الله، وافتدى الجنس البشري، الذي به خُلق الكون، وبقوّة كلمته يُحفظ العالم في الوجود (1: 1 - 3). كما أنكروا تفوّق الابن على الملائكة مع أن الله قال له: انت ابني (1: 4 - 13). وأنكروا تفوّقه على موسى الذي هو خادم في البيت، أما يسوع فالابن (3: 5 - 6). تركوا الاعتراف بيسوع ابن الله وعظيم كهنتنا، الذي يتفوّق تفوّقًا لا محدودًا على هارون، الذي مرّ عبر السماوات وبه نقترب بثقة إلى عرش النعمة (4: 14 - 16). رفضوا بازدراء ذاك الذي هو وحده ابن الله الأزليّ، الذي تجسّد وصُلب وقام وتمجّد، الذي هو أعظم من ابراهيم ومن سائر الآباء، بعد أن صار كاملاً إلى الأبد (7: 4ي، 26 - 28). (2) دنّسوا دم العهد الذي به قدّس. في نقطة أولى، كان الموضوع شخص المسيح الالهي (إله من إله). وهنا، عمل الفداء الذي أتمّه كالابن المتجسّد. فدم المسيح في عب، يدلّ على موته الذبائحيّ على الصليب حيث قدّم نفسه ذبيحة تكفيرية عنا. هو دم العهد، لأن ذبيحة الابن اتمّت مواعيد العهد الجديد التي أنبأ بها الأنبياء. في 13: 20 يتكلّم الكاتب عن ((دم العهد الأبديّ)). بهذا الدم المراق يقدّس المؤمن، أي تزول نجاسته ويُصبح مقبولاً لدى الله. يتطهّر ضميره من الأعمال الميتة ويُدعى إلى خدمة الإله الحيّ (1: 3؛ 9: 14؛ 10: 14). فكأس الشركة التي نشربها حين نتذكّر فادينا، هي دم العهد الجديد في دمه (1كور 11: 25). أسبوعًا بعد اسبوع، اعتاد المؤمن أن يشارك في سرّ جسد المسيح ودمه لغفران الخطايا. ولكن ايمانه كان مصطنعًا ولم يكن حقيقيًا، فابتعد عن جماعة المؤمنين، وما جعل ثقته في دم يسوع من أجل الغفران، بل نجّس هذا الدم، حسبه كلا شيء، حسبه دمًا عاديًا، مبتذلاً. هذا الدم الذي كان باستطاعته أن يُدخل المؤمن إلى قداسة الله، يُحسب الآن نجسًا، لا مقدسًا. وهكذا يتعارض هذا الانسان مع ما أعلنه من إيمان حين استنار وذاق الموهبة الالهية (6: 4). (3) أهان روح النعمة. فتمرّدُه على الانجيل هو إهانة للروح القدس الذي جعل في قلب الانسان نعمة الله العاملة في يسوع المسيح. فمعارضو يسوع، خلال حياته على الأرض، نسبوا أعماله وما فيها من نعمة، إلى روح الشر، لا إلى روح الله، وهكذا أنكروا عمل الروح القدس واعتبروه عملاً شيطانيًا، لا عملاً إلهيًا. مثل هذا التشويه للانجيل وما فيه من إهانة، وتحويل حقيقة الله إلى كذب وما فيه من لاإيمان (روم 1: 5)، ورفض النعمة والنور وتفضيل الكفر والظلمة عمدًا، تلك هي الخطيئة التي لا تقود إلا إلى الموت والتي لا مغفرة لها (1يو 5: 16)، ذاك هو التجديف على الروح القدس (مر 3: 22 - 30).
ربط الذهبيّ الفم وغيره عبارة ((داس ابن الله)) بتقبّل الافخارستيا بشكل لا يليق. لا شكّ في أن بولس كتب أن ((من أكل خبز الرب وشرب كأسه وما كان أهلاً لهما خطئ إلى جسد الرب ودمه)) (1كور 11: 27). وقال: ((أكلَ وشرب دينونة لنفسه)) (آ 29). ولكن يبدو أيضًا أنه إن بحثنا عن مدلول الجماعة المسيحية في آ 29، نقول إننا أمام انسان أنكر عماده الذي فيه لبس المسيح (غل 3: 27)، واعترف بموته ودفنه وقيامته (روم 6: 3 - 5؛ كو 2: 12). وهكذا يكون هذا الشخص استهان بكلمة الله، استهان بالمعموديّة التي جعلته ابنًا مع الابن ووارثًا الخيرات الآتية. استهان بالافخارستيا التي تضمّ الجماعة في جسد واحد على مثال جسد الرب الذي هو نتيجة حبّات عديدة توحّدت لتدلّ على الكنيسة.
((فإنا نعرف الذي قال: لي الانتقام. أنا أجازي. وأيضًا: إن الرب سيدين شعبه. يا لهول الوقوع في يدي الله الحي)) (10: 30 - 31)
إن التنبيه الاحتفاليّ حول خطر الجحود ونتائجه، لم يعبَّر عنه بلغة ((الحرم)) من قبل الكاتب. وهذا واضح من الطريق الثابتة التي فيها يستعمل صيغة المتكلّم الجمع (إن خطئنا، لأنا نعرف نحن) في التشجيع كما في التنبيه منذ آ 19ي: ندنو، نتمسك... إن خطئنا، نعرف. تماهى مع القرّاء فدلّ على حبّه لهم واهتمامه بهم لكي يقودهم بعيدًا عن هوّة الجحود: رفض أن يعاملهم وكأنهم من الخارج، لأنه مهما كان موقعهم خطرًا، إلاّ أنهم لم يتركوا شركة النعمة التي يجدونها في إطار عمل العهد الجديد. لهذه فنداؤه إليهم كما إلى الذين معه يعرف أن الله لا يمنح فقط النعمة بل يعاقب على المعصية. ومهما حاول أن يعذر عدم نضوجهم، فهم لا يستطيعون أن يدافعوا عن جهلهم له. فإن أداروا ظهرهم له، يواجههم انتظار دينونة مرعبة (آ 27)، لأن هذا الاله الذي عرفوه هو الذي قال: ((لي الانتقام، أنا أجازي)). وقال: ((الرب سيدين شعبه)). فهذا الاله الذي اعترفوا به على أنه إله النعمة والرحمة، هو أيضًا إله القداسة والعدالة: الأمانة لعهده تقود إلى البركة، والعصيان يعني المجازاة والعقاب.
إن الاستشهادين اللذين أوردهما الكاتب، يعودان إلى نشيد موسى الذي وجّهه إلى شعب اسرائيل، وذكّرهم باهتمام الرب بهم، وحذّرهم من نتائج نكران الجميل والجحود. أما الاول (تث 32: 35، لي الانتقام) فيطبّق على الاعداء الذين من الخارج، الذين رفضوا أن يعرفوا طريق الرب، وإلى الاعداء الذين في داخل جماعة العهد الذين ثاروا على الرب بعد أن اعترفوا به. أما الثاني (تث 32: 36) فيتحدّث عن مجازاة بشكل عقاب (مز 135: 14)، خصوصًا تجاه الذين استهانوا بالنعمة. إن انتقام الله من شعبه يعني في الوقت عينه دينونة الذين عارضوا سيادته. ذاك هو المبدأ الذي قيل فيما بعد، في نشيد موسى: ((حيّ أنا مدى الدهر. إذا صقلتُ بارق سيفي، وأخذت بيدي زمام القضاء، رددتُ الانتقام على أعدائي، وأنزلتُ العقاب بالذين يبغضونني)) (تث 32: 40 - 41). أما الدينونة فتفصل الأشرار عن الأخيار.
والنتيجة التي نستخلصها من هذه الاعتبارات: الوقوع في يدي الله الحيّ مرعب. فهو إله، وهو سيّد الخليقة وديّانها. هو لا يُشبه الاصنام والآلهة الكاذبة، التي ليست آلهة ولا كيان لها، التي لا قوة لها. أما هو فهو الله الحي. وحده الله. وهو يستطيع أن يدين الدينونة العادلة. كان كلام عن الله الحي في 3: 12: ((فاحذروا، اذن، أيها الاخوة، من أن يكون لأحد منكم قلب خبيث وغير مؤمن، فيرتدّ عن الله الحي)). يريد الانسان أن يهرب من الله، فيقع بين يدي الله الحي: ترك الله كالمخلّص، فوجد الله كالديّان. والخوف من يوم دينونة الله يصوّر بشكل مرعب في رؤيا يوحنا: ((وملوك الأرض وعظماؤها وأقوياؤها... يلجأون إلى المغاور وهم يقولون للجبال: أسقطي علينا وأخفينا عن وجه الجالس على العرش وعن غضب الحمل. جاء يوم غضبهما العظيم، فمن يقوى على الثبات)) (6: 15 - 17)؟

خاتمة
في هذا الارشاد الذي فيه ينبّه الكاتب قرّاءه، نلاحظ انتقالاً من التشجيع إلى التحذير والتهديد، ثم رجوعًا إلى التشجيع. بعد أن انتقل الكاتب من التعليم النظري حول كهنوت المسيح، وصل إلى الممارسة العمليّة، فدعا الجميع للاقتراب من هذا المسيح بعواطف الايمان والرجاء والمحبّة، وللتمسّك بما اعترفوا به في الماضي اعترافًا يفترض فيه أن يعيشوا المحبّة والتكاتف والمثابرة على الاجتماعات مهما كانت الظروف. ولكن حين رأى صاحب الرسالة ما وصل إليه بعض المؤمنين، والخمير القليل يخمّر العجينة كلها، وبعض الجاحدين يزيغون بالجماعة عن طريق المسيح، أطلق كلامًا قاسيًا: الرب يدين وتكون دينونته قاسية. يدين الجميع حتّى كاتب الرسالة. كلنا نعمنا بعطايا الله وخلاصه، ولكننا مهدّدون كلّنا بدينونته المرعبة.
فالويل لنا إن وقعنا في يدي الله الحي!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM