الفصل التاسع والعشرون: الإيمان ومجازاة المؤمنين

 

الفصل التاسع والعشرون

الإيمان ومجازاة المؤمنين
10: 32 - 39

بعد تعليم طويل قدّمه صاحب الرسالة، بدأ بإرشاد طويل سيمتدّ على أكثر من فصل في عب. في 10: 19 - 31، أشار إلى العقاب المريع الذي يصيب الجاحدين. وها هو الآن يتذكّر حياة المؤمنين السابقة، ليعودوا إلى حبّهم الاول (10: 32 - 39).
كما في 6: 9 (أقرب إلى الخلاص) جاءت كلمات التشجيع بعد كلمات التهديد. أما هدف الرسالة فدعوة القرّاء إلى الثبات. فالضجر هو الذي يتهدّدهم. تحمّسوا واعترفوا بالمسيح، إلى متى يدوم حماسهم واندفاعهم؟ من أجل هذا، ذكّرتهم الرسالة بالماضي المجيد من حياة عرفت الضيق والشدة، كما عرفت تكاتف الاخوة متطلّعين إلى الجزاء الذي ينتظرهم. في هذا يقول الذهبي الفم: ((حين يقوم طبيب عظيم بعملية عميقة ويضيف على الألم جرحًا لاذعًا، يعجّل فيخفّف عن العضو المتألّم ويمنح هذه النفس المضطربة العون والمقوّيات. ما أراد أن يقطع اللحم الحي، بل جعل على الجرح الأول الأدوية المخففة وكل ما يزيل الوجع. هكذا فعل بولس: وجب عليه أن يحرّك المؤمنين، أن يلامسهم بالتوبة فيذكّرهم بجهنم، ويؤكّد لهم أن الذي يستهين بنعمة الله يهلك هلاكًا. ولكنه ما أراد أن تصل نفسهم إلى اليأس من فرط الخوف، ولا أن يسيطر الوجع عليها، عزّاهم بمديحه وتحريضه وقدّم لهم امكانية السباق مع أنفسهم)).

1 - تفسير الآيات
في هذا الفصل الذي يتحدّث عن المؤمنين الثابتين في إيمانهم، نتوقّف عند مقطعين: سخاء الأيام السالفة (10: 32 - 35). الثبات الضروري (10: 33 - 39).
أ - سخاء الأيام السالفة (10: 32 - 35)
يأتي هذا المقطع في ثلاث: نضال سابق. وكيف تمّ هذا النضال؟ ضيق، تضامن، تعاطف، خسارة ما يملكون. وجاءت الخاتمة تدعو إلى الأمانة التي ينتظرها جزاء عظيم.
أولاً: نضال طويل (آ 32)
إن صيغة الأمر (اناميمنيسكاستي، تذكروا) تربط هذا التحريض بما في آ 20 - 24 (نقترب، نتمسَّك). يشير النصّ إلى حالة تسبق الحالة الحاضرة ولا تحدّد على مستوى الزمن، بل على المستوى الخلقيّ (بروتارون، رج 4: 6؛ 1بط 1: 14). أما الوقت، فهو ذاك الذي جاء حالاً بعد المعموديّة وحماس المعمّدين الجدد. لقد كان العماد لهؤلاء المهتدين ينبوع نور (6: 4) ومعرفة حق (10: 26) وحياة سخيّة. فالأيام الأولى في الايمان الجديد كانت أيام بطولة (فل 1: 29؛ 1تس 2: 14 - 16). لقد قاسى المسيحيون بصبر وثبات (هيبومونيو) المحن العديدة. يشدّد النصّ على ((باتيماتون)) آلام، عذابات. جاءت أحداث مؤلمة ومأساويّة فهاجمت المؤمنين، وهدّدت بكثرتها (بولين، رج آ 11؛ أع 24: 2؛ 27: 10) ومداها المؤمنين بالسقوط. اذن، تبدو المقاومة بشكل ((تليبسيس))، نضال (مراحدة بيبليّة). هي استعارة أخذت من حلبة السباق (12: 1؛ 2تم 2: 5؛ رج 2كور 4: 7 - 9). ((أنظر، لا يقول فقط: عملتم نضالاً، بل يضيف: نضالاً طويلاً. ولا يقول: تجارب، بل نضال. هي لفظة مديح وثناء عظيم)) (الذهبيّ الفم).
ثانيًا: عناصر هذا النضال (آ 33 - 34)
تميّز آ 33 بشكل واضح نوعين من المحن واجهها المؤمنون بشجاعة (توتو مان... توتو دي، مرة، أخرى، مراحدة في العهد الجديد). ((أونايدسمويس)) (ح ر ف ه، تعني اللوم، التعيير، اللعنة) يرافقها الهزء (إر 20: 8؛ 24: 9؛ حك 5: 3) والكلام المسيء (مز 15: 3؛ رج 1تم 3: 7) الذي يطلقه الأشرار والمتكبّرون على شعب الله (با 2: 4؛ 3: 8؛ حز 34: 29؛ 36: 15؛ يوء 2: 9) أو على البار المضطهد، بسبب أمانته لله (مز 69: 7 ،9 ، 10 ،19، 20). هذا ما يصيب المؤمنين من قبل مضطهديهم، فيتحمّلونه من أجل الله (13: 13؛ رج مز 89: 51؛ أش 37: 3؛ 51: 7؛ إر 15: 15).
ارتبط ((التعيير)) بالمضايق (تليبسيس) كما في أش 37: 3 (رج يو 16: 21). هنا، الاضطهاد (في معنى ديني). رج يو 15: 20؛ أع 20: 23؛ 2كور 1: 4 ،8؛ 6: 4؛ رؤ 7: 14. يتضمّن هذا الضيق عددًا من الأمور المؤلمة: الفقر (يع 1: 27؛ رؤ 2: 9. لهذا يطوّب لو 6: 20 المساكين. صاروا فقراء بسبب الاضطهاد. انتزعت منهم أموالهم أو رفضوا التعامل معها)، الأسر (فل 1: 17)، الجلد وسائر العذابات (مت 24: 9). هذا شرط للدخول في الحياة الأبديّة (أع 14: 22؛ 2تم 3: 12). قد يجعل الايمان فاترًا (مت 13: 21). وقد يجعل المؤمن متمسّكًا بالمسيح إن هو ثبت (هيبوموني). رج 2تس 1: 4؛ روم 5: 3؛ 12: 12 ((تياتريزو)) (مراحدة بيبليّة). ظهر على المسرح، وذلك بشكل علني، فرآه الجميع. وهذا ما أثّر على المؤمنين وزاد في ضيقهم. اذن، لم يكتف ((العبرانيون)) بأن يثبتوا أمام التعيير والمعاملة السيّئة، بل دلّوا على محبتهم بعضهم لبعض (آ 24). لم يتخلّوا عن إخوتهم المضطهدين. تضامنوا معهم مهما كلّفهم هذا التضامن. لم يشاركوا فقط في فترة معيّنة، بل ((صاروا مشاركين))، ودامت شراكتهم. صاروا كنيسة في الاضطهاد.
وكيف تمّت هذه المشاركة؟ جاءت ((كاي غار)) (أجل، لأن) فشرحت ما قيل (4: 2؛ 5: 12). جُعل أعضاء الجماعة في السجن (13: 3: عار وعذاب، آ 33؛ رج 2تم 2: 9). رأوا فيهم المسيح (مت 25: 36) فتألموا معهم وتعاطفوا (سينباتيو، 4: 15): زاروهم، أغاثوهم. قال بولس: ((حين يتألّم عضو تتألّم الأعضاء كلها معه... أنتم جسد المسيح وأعضاء بعضكم لبعض)) (1كور 12: 26 - 27). رأى المسيحيون كيف نهبت أموالهم أو وُضعت عليها الأيدي (ربّما لأنهم تعاطفوا مع إخوتهم)، فتحمّلوا هذه المحنة بصبر وبدون تذمّر، بل قبلوها بفرح (روم 5: 3) فساروا في خطى الرسل (أع 5: 41). سبق لهم وتجرّدوا في قلبهم، من أموالهم، فتحمّلوا السلب والنهب (وهذا ما يحصل حتّى اليوم، بروسداخوماي، رج 11: 35؛ فل 2: 29). هذا ما وعدهم به يسوع (مت 5: 11) مع خيرات يمنحها لهم إن هم تركوا كل شيء وتبعوه: ((نال في هذه الدنيا، مع الاضطهادات، مئة ضعف من البيوت)) (مر 10: 31). ويتحدّث النص هنا عن ثروة (هيباركسيس)، رج أع 2: 45 (مع كتيماتا). وقرأنا قبل: ((هيبارخونتا))، أموال. نحن نستعدّ أن نقبل خسارة خيرات حين نعرف أننا نحصل على أفضل منها، على خيرات تبقى. هنا نفهم فعل ((غينوستاين)) (علم)، اعتبر. وكانت هذه النظرة فعل ايمان يدلّ على ما تعيشه الجماعة، لا في فترة محدّدة، بل مدّة طويلة.
ثالثًا: جزاء الأمانة (آ 35)
تستخلص آ 35 العبرة من هذا الماضي، وتنقلنا إلى فكرة الجزاء السماوي القريب. فإن كان المسيحيون قد برهنوا بشكل ساطع على ايمانهم ورجائهم ومحبّتهم الاخوية، فهذا يعني أنهم جديرون بالبطولة، وأنهم يقدرون أن يواصلوا ما بدأوا به. قال الذهبي الفم: ((لم يقل: خسرتم ثقتكم، فاستعيدوها. وهكذا لم ينزع منهم الأمل. بل قال: أنتم تملكونها، فلا تخسروها. وهكذا شجّعهم، لأننا نحتاج إلى عمل أقل لكي نتجنّب أن نخسر ما نملك، من أن نستعيد ما خسرناه)). فبعد الاختبار الذي عاشه المسيحيون، عليهم أن يحافظوا على هذه الثقة التامة التي هي جرأة وفرح (باريسيا، آ 19). إن فعل ((أبوبالو)) (فقط في مر 10: 50) يقال عن ميراث أو ثروة. قالت عب: خسرتم الأمور المادية، فلا تخسروا الامور الروحيّة، لا تخسروا (لا تفقدوا) الثقة والجرأة، فلم يبق لكم ثروة سواها. هي أجركم اليوم. من هنا فعل ((إخاي)) في صيغة الحاضر. ونقرأ ((ميستابودوسيا)) (2: 2؛ 11: 26، لا نجدها في الكتاب المقدس): الأجر، الجزاء الذي يقابل العمل مقابلة تامة (2تم 4: 8). لكل عمل جزاؤه، وثقتكم تحمل جزاءها في ذاتها، فلا تفقدوها، وإلاّ فقدتم كل شيء.

ب - الثبات الضروري (10: 36 - 39)
لا بدّ من الثبات حتى مجيء الرب، وهو يأتي ولا يبطئ. لهذا يطلب منهم الكاتب أن يثبتوا لخلاص نفوسهم، فالويل لهم إن نكصوا وارتدّوا عن الايمان.
أولاً: ثبات من أجل الموعد (آ 36 - 37)
ارتبطت آ 36 بالآية السابقة (آ 35)، فاستعادت لفظة ((هيبوموني)) من آ 32 (فعل ثبت) وفكرة آ 23 (الله أمين، نتمسّك) بعد أن أغنتها بإشارة إلى الثبات في الاضطهادات. هو نداء إلى مجهود أخير: كنتم أمناء في الماضي، ولكن النضال لم ينته. يجب أن نتحمّل ونطيل بالنا. بل إن الضيق الذي سنتحمله بعد هو انتظار الاكليل. هنا نتذكر كلام الذهبي الفم: هو يتكلم إلى متسابق غلب جميع مزاحميه وقلبهم، فما عاد يرى خصمًا يقبل الحرب معه. فلم يعد له سوى أن ينال الاكليل. ولكنه يغضب حين يرى حكم السباق يتأخّر ليضع الغار على جبينه. فقد صبرَه، فخرج من الحلبة وهرب من المسرح لأنه تعب من الحرّ والعطش: أعطني ما استحق وإلاّ خرجتُ. قيل له: احتمل هذا التأخّر بصبر، فالامبراطور الذي سيعطيك الجزاء آت قريبا. في هذا المعنى نبّهت عب المؤمنين: لا تفقدوا صبركم. بعد قليل، يأتي الربّ ولا يبطئ.
تدل ((هيبوموني)) (6: 12؛ 12: 1) على الصبر والقوّة والاحتمال والثقة والثبات. والجزاء العادل (آ 35) لا نحصل عليه إلاّ بفضل الثبات (غار، لا بدّ) الذي يتجسّد في تحمّل الالام (آ 32) ويُعبَّر عنه في الطاعة لإرادة الله وعنايته. فالله هو الذي يفرض المحن للمختارين، ولكن التجربة لا تتعدّى قدرتهم (مت 10: 30؛ 1كور 10: 13). هذا من جهة. ومن جهة ثانية تُفرض هذه الفسحة بين الجهاد والجزاء (اسم الفاعل في صيغة الاحتمال، بوييسانتس، صانعين مشيئة الله). بعد أن يرضي المسيحي الله في ما يطلبه منه، يثق كل الثقة بأنه يحصل على ما وعده به (6: 15، الفرح السماوي). ((كوميزو)) (11: 13، 19، 39): حمل إلى مكان أمين، قطف ثمرة، حصل على شيء من شخص. هذا المعنى نجده في العهد الجديد (لو 7: 37؛ 1بط 1: 9؛ 6: 4). رج مت 25: 27؛ 2كور 5: 10؛ أف 6: 8؛ كو 3: 25: فمن عمل بمشيئة الله وثبت في هذا العمل، نال الحياة الأبدية.
طلبت عب الثبات، ولكن الانتظار لن يدوم طويلاً (آ 37). فإن عب 2: 3 ،4 قد أنبأت بأن المسيح لن يبطئ. فهم الكاتبُ هذه النبوءة بالنسبة إلى المجيء الثاني. وقال الذهبي الفم: هذا المجيء أقرب إلى الرسول منه إلى النبي. سبق هذا الاستشهاد عبارة أش 26: 20: على بني اسرائيل أن يقيموا في الطمأنينة والثقة إلى أن ينفّذ الله دينونته في الاشرار. وجاء نصّ حبقوق مع ذكر ((هيبوموني)) (آ 36؛ رج حب 2: 3) فأبرز قوّة الايمان لمساندة الثبات في انتظار الجزاء الموعود به. رج روم 1: 17؛ غل 3: 11 اللذين يذكران نصّ حبقوق. وقف النبي كالحارس الذي يهمّه السلام من أجل شعبه (آ 1)، فأمره الرب أن يدوّن على اللوح الرؤية (ح ز و ن) التي سيمنحه إياها لكي تُحفظ فيتحقّق الناس أنها نُفِّذت (آ 2). هذا التدوين هو كفالة اليقين. أما الرؤية فتشير إلى عقاب الكلدانيّ المتكبّر وحياة البار (آ 4). قال العبري: ستأتي ولا تخطئ. أما السبعينية فقالت: سيأتي الآتي ولا يُبطئ. فالآتي هو المسيح (مز 118: 26؛ لو 7: 19؛ 19: 38؛ يو 1: 15، 27) الذي تعلن عودتُه (لا مجيئه) قريبة. طبّق المعلّمون اليهود هذا النص على المسيح وأعلنوا انتظار مجيئه في وقت لا يعرفونه. ولكن لا تيأس (بابل، سنهدرين 97 ب). نتذكّر هنا أن اقتراب يوم الرب، عبارة تقليديّة في الكرازة الرسولية (استعادتها عب، رج صف 1: 14؛ حز 30: 3؛ أش 13: 6؛ يوء 1: 15؛ 2: 1)، تتوخّى تنبيه المؤمنين إلى علامات الأزمنة، سواء كانت كونية (زلازل، 12: 26) أو وطنيّة (اجتياح، اضطهاد). فكل ظهور للشرّ هو علامة تدلّ مسبقًا على الكارثة الآتية في نهاية الأزمنة.
ثانيًا: ايمان لا يتزعزع (آ 38 - 39)
فعلى المؤمن أن يعيش في الأمانة، بانتظار عودة الربّ، وهو يعيش على ضوء الايمان. عادت عب إلى حب 2: 4 وبدّلت مضمون القول النبويّ كما ورد في العبرية، وذلك في ضوء السبعينية. ((من كانت نفسه شريرة، لا ينجو. أما البار فبإيمانه (بأمانته) يحيا)). تركت عب الشق الأول في النص العبري، ثم قلبت عبارة وعبارة لكي تقابل بين البار (يعطيه إيمانه الصبر والثبات) والشرير (يخسر الجزاء فينال العقاب). حسب حبقوق، يُفلت الاسرائيلي الذي وثق بالله، من سبي بابل وتكون له حياته مغنمًا. أما عب فتطلّعت إلى الأمانة لإرادة الله في الاضطهاد، وهي تمنح الحياة الابدية. شدّد بولس (روم 1: 17؛ غل 3: 12) على البرّ، أما عب فعلى الأعمال، وعلى الصبر والشجاعة والثبات. احتفظ بمعنى ((أمانة)) (ا م و ن ه) كما في العبرية، ولم يتحدّث عن الايمان (بستيس) كما في السبعينيّة. أما حياة بني اسرائيل التي يهدّدها الكلدانيون، فهي صورة عن الحياة الأبدية التي قد يخسرها المسيحيون إن لم يثبتوا في أمانتهم. هذه الحياة هي موضوع الموعد (آ 36)، حتى تفوزوا بالموعد) ومضمون المجازاة (ميستابودوسيا، آ 35). إذن، جاء الكلام النبوي خاتمة رائعة لامتداح الثبات (هيبوموني) في 10: 32 - 39، وتأكّد برهان الكاتب بسلطة كلمة الله.
إن الشق الثاني في آ 38 (آ38 ب) يوافق السبعينية التي تختلف عن النصّ العبري. ((هيبوستالو)) رج ((ع ل ف))، تراجع إلى الوراء، اعتزل (أع 20: 20). نكص، ارتدّ (حك 6: 7)، أو تراجع عن كلامه خوفًا (غل 2: 12؛ رج خر 23: 21؛ 1: 17). وبالتالي: أخفى فكره. ذاك هو موقف المرتدّ (الجاحد) في زمن الضيق. أمس تبرّر (آ 29، قدِّس)، واليوم يتراخى وينكر إيمانه. عدم رضى الله يدلّ على الدينونة والشجب (1كور 10: 5) ((اودوكاي)). بمختصر الكلام، إن رجع المسيحي إلى الوراء، خسر كل ما كان له. أراد أن يحفظ حياته من موت الجسد، فإذا هو يخسر حياة النفس، ويكون عقاب الله أقسى من عذاب يصيبه من المضطهدين (آ 27).
وتستخرج آ 39 بايجاز، بُعد الاستشهاد الكتابي، وذلك بالنظر إلى شعب الله في حجّه إلى المدينة الثابتة (3: 7 - 4: 13). فالمسيحي المسيحيّ لا يترك إخوته في البرية. ميّز حبقوق بين الأمين واللاأمين. والكاتب وقرّاء عب (هامايس، نحن) هم أمناء، ولن يتراجعوا بعد أن التزموا بمسيرة الايمان (هيبوستولي، نكوص، ارتداد، مراحدة بيبليّة). فالبعد عن الله هو جحود الايمان الذي هو خضوع لله واستسلام. مثل هذه العودة إلى الوراء تقود إلى الدمار التام، إلى الهلاك الأبدي، إلى عقاب غضب الله (أبولايا، يعارض، سوتيريا، الخلاص، مت 7: 13؛ فل 1: 28).
تجاه هذا النكوص (ارتداد، تراجع) المرتبط بالجحود، نجد الأمانة والثبات في الايمان والثقة بالله. هكذا نمتلك نفوسنا، نحافظ على نفوسنا. قال الرب: ((بصبركم تقتنون (كتيساستي) نفوسكم)) (لو 21: 19). في عب نجد ((باريبوياسيس)) الذي هو لفظ من اللاهوت البيبلي يقابل لفظ ((سوتيريا)) (1تس 5: 9) و((أبوليتروسيس)) (افتداء، أف 1: 14). لهذا يقال أن الله هو أصل هذا ((الامتلاك)) (2تس 2: 14) الذي يتحقّق بموت (بدم) المسيح (1تس 5: 9؛ أع 20: 28؛ تي 2: 14). لهذا، يتمجّد المخلّص (2تس 2: 14)، ويتمجّد الله نفسه (1بط 2: 9). يبقى الخيار: خلاص أم هلاك. وسيأتي البرهان على ذلك مع ف11 من عب.

2 - قراءة إجمالية
((ولكن، تذكّروا الأيام السالفة التي، بعد ما أنرتم فيها، صبرتم على نضال طويل مؤلم، فكنتم مرّة مشهدًا بالتعييرات والمضايق، وأخرى شركاء للذين يعاملون بمثلها)) (10: 23 - 33)
بدا الكاتب طبيبًا: يجرح ثم يقدّم الدواء. وقد قابل بين حالة وحالة، بين حالة من حرارة المحبّة وحالة انحدار على المستوى الروحي. لهذا، حثّهم على التذكّر أول أيام حياتهم المسيحيّة، يوم أنيروا (انتقلوا من الظلمة إلى النور): اهتدوا إلى المسيح الذي يمنح النور للجالسين في الظلمة وظلال الموت (لو 1: 79)، فآمنوا واقتبلوا العماد (رج 6: 4)، صاروا أعضاء في جماعة الله. أجل، رجعوا من الظلام إلى النور، ومن سلطان الشيطان إلى الله، فنالوا بايمانهم غفران الخطايا وميراثًا مع القديسين (أع 26: 18).
هؤلاء الذين انيروا، الذين آمنوا، لم يحفظوا ((استنارتهم)) سرًا، بل اعترفوا بإيمانهم فكانت نتيجة هذا الاعتراف النضال الطويل والألم. فهذه الشهادة العلنيّة كانت أكثر خطرًا للآتين من العالم اليهودي. فالمجتمع الوثني كان أكثر تسامحًا من العالم اليهودي. فاليهودي الذي يهتدي إلى المسيح المصلوب، يبغضه اخوته (ربّما يقتلونه)، ويخسر تجارته، ويطرد من جوّ العائلة. هذا ما يفسّر فقر الجماعة المسيحيّة الأولى التي سيرسل إليها بولس المساعدة من مسيحيين آتين من الأمم الوثنيّة. هذا يعني الألم على مستوى الجسد، وخسارة الممتلكات (آ 34) بالنسبة إلى أناس يعيشون في فلسطين، أو في موضع يسيطر عليه تأثير يهودي، كما كان الوضع في حدياب (في العراق اليوم) مثلاً. وقد شارك هؤلاء المسيحيون اخوتهم، فدلّوا على وحدة جسد المسيح، وبذلك صاروا مشهدًا للعالم (1كور 4: 9). فحبّ المسيح الحقيقيّ يجعل المؤمن يتحمّل التعيير. وحبّ حقيقيّ للاخوة في المسيح، يجعل المؤمنين يقفون بجانب المتألّمين ويشجّعونهم في ساعة المحنة.
مهما قست هذه المضايق، من الواضح أن العبرانيين المسيحيين لم يُدعوا لكي يختموا شهادتهم بدم الاستشهاد. فنقرأ في 12: 4 أنهم لم يقاوموا بعد حتى الدم ضد الخطيئة. هذا يعني أننا لسنا أمام اضطهاد منظّم، كما في أيام نيرون مثلاً. لا ننسى أن اسطفانس مات (أع 7: 54ي) رجمًا، ويعقوب قُطع رأسه (أع 12: 1 - 2)، وبطرس سُجن (أع 12: 3ي). كما لا ننسى ما حدث لليهود في رومة في زمن الامبراطور كلوديوس سنة 49 ب.م. أترى كُتبت عب في ذلك الوقت؟ سؤال بلا جواب.
((أجل، إنّكم قد تألّمتم مع الذين في القيود، ورضيتم بانتهاب أموالكم فرحين، لعلمكم ان لكم ثروة أفضل وأبقى. فلا تفقدوا اذن ثقتكم، فإن لها جزاء عظيمًا. فلا بدّ لكم من الثبات حتى، إذا ما عملتم بمشيئة الله، تفوزون بالموعد)) (10: 34 - 36)
إن آ 34 تشرح ما قيل سابقًا. صبرَ المؤمنون على التعيير والضيق، فاستعدوا للتعاطف مع الذين في السجن (بسبب المسيح) وما يرافق سجنهم من سوء معاملة. فقد سبق واختبروا ذلك، وقد حدّثنا بولس عمّا قاساه حين دخل السجن، وما تحمّله من ضرب وتهديد بالموت (2كور 11: 23 - 25). هذا الاستعداد الارادي لمشاركة الاخوة المسجونين، في القيود، يدلّ على أن روح المسيح الذي تماهى مع بشريتنا في الألم والموت وتمجّد كالحبر السماوي، ما زال حاضرًا في كنيسته. فالوحدة في الجسد، هي وحدة في المسيح (3: 28). هنا نتذكر كلام المسيح: ((كنت سجينًا فزرتموني)) (مت 25: 36).
عمل المسيحيون ما عملوا، فخسروا أموالهم إما بفعل السلطات المدنية، وإما بفعل الأهل والأقارب. قبلوا هذا الوضع بفرح فدلّوا على متانة اعترافهم المسيحيّ. ما حزنوا على هذه الخسارة، بل فرحوا، لأن ما حصل لهم كان من أجل المسيح، ودلّوا على أن كنزهم الحقيقيّ ليس من هذا العالم (مت 6: 19 - 21؛ 1بط 1: 4؛ 1يو 2: 15 - 17؛ كو 2: 3). نحن بعيدون كل البعد عن موقف الرواقيين الذين لا يتحرّكون مهما أصابهم. فالمؤمن يتألّم، ولكنه يسمع قول الرب: ((طوبى لكم إذا عيّروكم واضطهدوكم وقالوا فيكم كل كلمة شريرة كاذبة من أجلي. إفرحوا وابتهجوا، لأن أجركم في السماوات عظيم)) (مت 5: 11 - 12؛ لو 6: 22 - 23). ويشهد في العالم أن حياة الانسان لا تقوم بكثرة الأموال بل بالغنى الآتي من عند الله (لو 12: 16ي). هذا الايمان جعل التلاميذ يفرحون لأنهم اعتُبروا أهلاً لأن يتألّموا من أجل المسيح (أع 5: 41)، ودفع بولس إلى أن يشجّع المسيحيين في رومة لكي يفرحوا في الشدائد (روم 5: 3).
بعد كل هذه ((الخسارة)) والضيق، لا معنى للعودة إلى الوراء وفقدان الثقة (آ 35). فالارتداد هو الجهالة كل الجهالة، لأنه يعني عودة عن ذاك الذي اعترفنا به كالينبوع الوحيد وأساس ثقتنا، الذي نلنا بدمه حريّة الدخول إلى المعبد السماوي وكمال الايمان. فالآباء في العهد القديم، يئسوا من مخاطر البريّة وقساوتها، فحرّكهم روح جحود وتساءلوا: ((أما يكون من الافضل أن نعود إلى مصر)) (خر 14: 3)؟ تلك هي تجربة قرّاء عب: أن يتبعوا هذا المثل الرديء (3: 12) فيتركوا الله الذي صنعهم وينبذوا خالقهم ومخلّصهم (تث 32: 15). إن فعلوا هذا فقدوا ثقتهم (رموها وراءهم) وعادوا إلى العالم بما فيه من نقص وخيبة أمل. تكون المأساة كبيرة إن لم يحفظ المؤمن، حتّى المنتهى، كمال رجائه (6: 11).
((أجل، في أقرب آن يأتي الآتي ولا يبطئ. إن باريّ بالايمان يحيا، وإن نكص فلا ترتضي به نفس. أما نحن فلسنا من أبناء النكوص، بل من أبناء الايمان لخلاص (لاقتناء) النفس)) (10: 37 - 39)
إن الحاجة إلى ثقة ثابتة لا تتزعزع، تستند إلى قول من النبيّ حبقوق (نهاية القرن السابع) الذي جابه وضعًا حرجًا في حياة شعبه. في الداخل، سيطر العنف والجور. ومن الخارج، كان الهجوم الكلداني والاحتلال. فكان هذا المقطع جواب الرب على هذا السؤال الذي يحمل الضيق: ((إلى متى أصرخ، يا رب، ولا تسمع)) (1: 2)؟ الخلاص آت. ولهذا، كانت كلمة التشجيع. سيمرّ الغضب والرب يأتي ليعاقب سكّان الأرض على شرّهم (أش 26: 20 - 21). أجل يأتي الله، فما علينا سوى الانتظار بفرح وثقة، ثابتين في النضال، متحمّلين الاضطهاد.
في آ 38، يرد قولان من حبقوق حول الأمانة المطلوبة. فالانسان الذي يدعوه الله ((بارّي)) (أنا الرب)، الرجل الذي يعتبره الرب بارًا، هو الذي يمارس الأمانة ولا يرتدّ عن الله، فلا يستسلم إلى الاكتفاء الذاتي، بل يربط حياته بالربّ. فمن نكص، ترك حياة الايمان، ما عاد الله راضيًا عنه على ما يقول 11: 6 (بدون إيمان يستحيل إرضاء الله).
إن ثقة الكاتب بأن عمل النعمة الحقيقيّ قد حلّ في قلب الذين يتوجّه إليهم، نجدها في آ 39 مع صيغة المتكلّم الجمع (نحن لسنا). هم معه في المسيح، وإن احتاج أن يحذّرهم من خطر الجحود. نحن لا نرتدّ لئلاّ ندمَّر. فالدمار هو نهاية الذين تركوا الايمان (فل 3: 18 - 19؛ 2بط 3: 7؛ 1يو 2: 19). فالذين تراجعوا عن الايمان بيّنوا أنهم ليسوا ((وارثي البرّ الذي ننال بالايمان)) (11: 7). ولكن صاحب الرسالة يثق (كما في 6: 5) أن الأمور هي أفضل. فالقرّاء هم أبناء الايمان الذي يقود إلى اقتناء النفس، إلى الخلاص. فالله الذي بدأ يعمل فيهم سوف يتابع عمله حتى مجيء الربّ. وكلمة الله تنمو، مهما كانت صغيرة، حتّى تصبح شجرة كبيرة تعشّش طيور السماء في ظلها (مر 4: 26 - 32).

خاتمة
واصل الكاتب تحريضه، فذكّر القرّاء بخبرتهم السابقة: كيف عاشوا إيمانهم رغم الصعوبات، كيف تحمّلوا التعيير والاضطهادات، كيف شاركوا اخوتهم فدلّوا على أن محبتهم ليست عاطفة سريعة تكتفي بكلمات معسولة ولا تفعل شيئًا. بما أنهم تصرّفوا على هذا النحو، فينتظرهم جزاء عظيم شرط أن يظلّوا أمناء حتى يوم الربّ. أجل، الحياة المسيحيّة نضال نجابهه بجرأة، رغم قساوته، بفضل نور الايمان ونعمة المعمودية. ونواصله حتى النصر متيقّنين أن يسوع المسيح، رأس ايماننا، يتابع معنا هذا الجهاد كي يوصله إلى الكمال.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM