الفصل العشرون: الكمــال

 

الفصل العشرون
الكمــال
8: 1 - 9: 28

بعد المطلع (5: 11 - 6: 20) والاتجاه الأول (7: 1 - 28)، نعالج الآن الاتجاه الثاني الذي هو الاتجاه المركزي والأطول، وفيه ينبّهنا الكاتب أننا وصلنا إلى النقطة الرئيسية في عرضنا: رأس الكلام في هذا الموضوع (8: 1). وإذ أرادت عب أن تبيّن أنها نظرت إلى هذا التوسّع منذ اللحظة الأولى، استعادت هنا القول الأول في المقدّمة (1: 3). الابن ((جلس عن يمين الجلالة في الاعالي)). وها نحن نقرأ هنا (8: 1) عن عظيم الكهنة ((الذي جلس عن يمين الجلال في السماوات)). لم تُستعمل عبارة ((جلس عن يمين)) منذ 1: 3 (ستعود في 10: 12؛ 12: 2). أما ((الجلال)) (داكسيا) فلا نجده إلاّ في 1: 3 و8: 1. ولا نجده في سائر العهد الجديد إلا في يهو ،25 في المجدلة الاخيرة.
ننطلق من خاتمة ف 7 لكي نكتشف بنية هذين الفصلين. في 7: 7 ،كان تعارض بين قرّب ذبائح (كما يفعل عظماء الكهنة)، و((قرّب نفسه)) (كما فعل يسوع مرّة واحدة). ونحن نجد التعارض عينه في هذا الاتجاه المركزي. الفعل المستعمل يختلف بعض الشيء، ولكننا لا نزال في الجذر عينه مع ((فاراين)): أنا فاراين (رفع، ع ل ه في العبرية). بروسفاراين، حمل، قرّب (ق ر ب في العبرية). سوف نجد تكرار العبارتين عينه في ف 8 - 9. في 8: 3 و9: 9 ،نقرأ: قرّب تقادم وذبائح. في 9: 14 و9: 25 نقرأ: قرّب نفسه، رج 9: 28. وهكذا نكون أمام دبتيكا في درفتين: الدرفة الأولى تشير إلى الذبائح الطقسيّة القديمة. والدرفة الثانية، إلى ذبيحة المسيح الشخصيّة.
لا نتوهّم أن الكاتب يحصر نفسه في وصف النظم القديمة. يتكلّم فيما بعد فقط عن نظام للاشياء جديد، أقامه المسيح. في الواقع، هو لايني على مدّ ف 8 - 9 يواجه العهد الجديد مع العهد القديم، فينتقل دومًا من الواحد إلى الآخر. غير أن التمييز بين المرحلتين يفرض نفسه: في مرحلة أولى نجد نظرة ناقدة: يُبرز الكاتب ضعف النظام القديم. وإن هو تكلّم عن الجديد منذ الآن، فليدلّ على نقص القديم الذي عفّاه الزمن. وفي مرحلة ثانية، يتّخذ الكلام منحى ايجابيًا: يتحدّث النصّ بقوة عن إقامة العبادة الجديدة وعن تفوّقها. وإن هو أشار إلى العبادة القديمة، فلكي يشهد للجديدة التي حلّت محل القديمة وكمّلتها.
أين نضع الحدّ الفاصل بين المقطعين؟ بين ((قرّب تقادم وذبائح)) (9: 9) و((قرّب نفسه)) (9: 14). ونلاحظ الموضع الذي فيه يُسمّى المسيح للمرة الأولى. ما يلفت النظر، هو أن الكاتب تحاشى في القسم الأول من توسّعه أن يسمّي يسوع تسمية واضحة. فالفعل في 8: 3 ب - 4 وفي 8: 16 احتاج إلى موصوف يكون فاعلاً. ولكن الكاتب لم يعطه. بل اكتفى في المرّة الأولى بـ((توتون)) (هذا): ((لا بدّ لهذا أن يكون له، هو أيضًا، شيء يقرّبه)). وفي المرة الثانية، ترك الكاتب يضيف ((الفاعل))، فقال: ((حصل على خدمة أسمى)). لهذا، أضافت الترجمات: يسوع المسيح، من أجل الوضوح. ولكن ليس هذا ما أراده الكاتب. بل هو انتظر 9: 11 ليسمّي المسيح فقال: ((أما المسيح فقد جاء حبرًا)). وسوف يبرز اللقب بعد ذلك ثلاث مرات (9: 14، 24، 28). هكذا أشار الكاتب إلى الدرفة الثانية في الدبتيكا (9: 11 - 28)، بحيث صارت الدرفة الأولى، 8: 1 - 9: 10. ونحن نميّز في كل درفة قسمات ثلاثًا، وكل قسمة تقابل الأخرى في تواز متداور.

1 - المقطع الأول (8: 1 - 9: 10): عدم كفاية العبادة القديمة والاستغناء عنها

أ - القسمة الأولى (8: 1 - 6)
8: 1 ورأس الكلام في هذا الموضوع،
أن لنا حبرًا كهذا،
قد جلس عن يمين عرش الجلال في السماوات.
8: 2 خادمًا للمقدس والمسكن الحقيقيّ
الذي نصبه الربّ لا الانسان.
8: 3 فإن كل حبر يقام يقرّب تقادم وذبائح
ومن ثمّ لا بد لهذا أن يكون له هو أيضًا، شيء يقرّبه.
8: 4 فلو كان على الأرض،
لما كان كاهنًا،
لأنه يوجد هؤلاء الذي يقرّبون التقادم على حساب الناموس
8: 5 فهؤلاء يقيمون خدمة هي صورة وظلّ لما في السماوات
كما أوعز إلى موسى لمّا همّ أن يُنشئ الخباء (المسكن)،
فقيل له: أنظر واصنع كل شيء على المثال الذي رأيته على الجبل.
8: 6 أما هو فحصل الآن على خدمة أسمى
بمقدار ما هو وسيط لعهد أفضل،
مؤسَّس على موعد أفضل.
هناك تضمين بين ((خادم)) (لايتورغوس) في 8: 2؛ وبين ((خدمة)) (لايتورغيا) في 8: 6. وهذا ما يُبرز وحدة القسمة. كيف تبدو بنيتها؟ إن آ 1 تؤمّن الانتقالة بين الاتجاه الأول (7: 1 - 8) والاتجاه المركزي (8: 1ي)، فتعود بنا إلى بداية الرسالة (1: 3). ولا تظهر لفظة ((خادم)) سوى مرة واحدة بعد أن ثبتت هذه الرباطات. ولكن آ 1 - 2 تلعبان دور مقدّمة للاتجاه كله، وتعلنان بشكل خاص جزءها الايجابي:
فعبارة ((ولنا حبر كهذا)) (8: 1)، تهيّئ عبارة ((المسيح صار حبر الخيرات الآتية)) (9: 11). وعبارة ((جلس في السماوات)) (8: 1)، تشرحها عبارة ((المسيح دخل السماء بعينها)) (9: 24). و((المسكن الحقيقيّ الذي نصبه الرب لا الانسان)) (8: 2)، سيجد من جديد وصفًا له في 9: 11: ((المسكن الأعظم والأكمل الذي لم تصنعه يد، أي ليس هو من هذا العالم)). وأخيرًا، ستُعطى تفاصيل مشابهة بالنسبة إلى المقدس (8: 2): ((صنعته الأيدي، صورة للحقيقي)) (9: 24). لن نجد بعد ذلك تقاربًا مماثلاً بين 8: 1 - 2 وبين 8: 3 - 9: 10. لا شك في أن آ 1 - 2 تنفصلان عمّا تبقّى انفصالاً واضحًا: هما تقدّمان له، ولكنهما في الوقت عينه تعارضانه: تعطيان لمحة عن اللوحة النهائية، وذلك لتبرز ما في الرسمة الأولى من نقص يُبعدها عن الكمال. ويلفت النظر أن الكاتب انتظر آ 3 ليقحم عبارة تميّز الدرفة الأولى في الدبتيكا: قرّب التقادم والذبائح. ففي آ 3 يبدأ النقد حول الذبائح القديمة التي ليست بكافية. والعبارة المستعملة في 8: 3 و9: 9 تشكّل التضمين الذي يدلّ على الجملة الأولى والجملة الأخيرة.
بعد هذه الاعتبارات على آ 1 - 2 ،نتطلّع إلى آ 3 - 5 ونتساءل عن النقطة المحدّدة التي أراد الكاتب أن يتوسّع فيها، فيأتي الجواب: بما أن وظيفة الكهنوت تأمين العبادة (خدمة المذبح، الليتورجيا)، استبعدت عب، في ما يخصّ المسيح، مشاركة في شعائر العبادة حسب الشريعة. ((فلو كان على الأرض، لما كان كاهنًا، لأنه يوجد الذين يقرّبون التقادم على حسب الناموس)) (8: 4). وبعد ذلك، يأتي مباشرة قولٌ حول الطابع الناقص لهذه العبادة: هي تنحصر في إطار مصطنع. لا شيء صريحًا فيها. وكل ما فيها تكرار. أما الأمور الحقيقيّة فسماويّة (8: 5). أريت لموسى على الجبل (8: 5 ،أراه الله إياها). أقام الكهنوت القديم ((على الارض)) (8: 4) فما تجاوز مستوى ((الصورة والظلّ)) (8: 5). نلاحظ هنا وجهة نظر الكاتب التي هي حقًا سلبيّة.
وتنتهي القسمة الأولى في آ 6 التي تنطبع بطابع إيجابي، شأنها شأن آ 1 - 2، فتتميّز عن الباقي. توخّت آ 6 أن ترفع نظر القارئ فوق اعتبارات مخيّبة للآمال حول نظام الأشياء القديمة وتوجّهه نحو الواقع الجديد الذي سيوصف في المقطع الثاني (9: 11 - 28). ويتركّز مضمون هذه الآية على فكرة العهد، فيتقارب مع القسمة التالية (8: 7 - 13) تقاربًا وثيقًا، غير أنه لا يرتبط بها. لماذا؟ بسبب وجود لفظة ((خدمة)) التي تشكّل تضمينًا مع ((خادم)) (8: 2). والبنية الغراماطيقية تربط 8: 6 مع 8: 4. وعبارة ((نين دي)) (أما) المستعملة هنا تلعب دورًا في إدخال ملاحظة تعارض فرضيّة سابقة. أما هنا، فالفرضيّة يُعبَّر عنها في شكل غير واقعيّ، في 8: 4: ((فلو كان على الأرض، لما كان كاهنًا)) (ولكنه لم يكن على الأرض، بل هو في السماء). بما أن حبرنا نال خدمة مختلفة، فهذا يستبعد مثل هذه الفرضيّة. وهكذا شدّ الكاتب الرباط بين الجملتين، فاستعمل في 8: 4 الاداة ((مان)) (من جهة) التي تعلن ((دي)) (من جهة أخرى) في 8: 6.
وهكذا ترتبط آ 6 بالقسمة الأولى (8: 1 - 6) مع العلم أنها تلعب وظيفتين: هي خاتمة لأنها تستبعد ما قيل في البداية، في آ 1 - 2. وهي انتقالة لأنه تبدأ النقطة التالية عابرة من فكرة الخدمة الليتورجيّة إلى فكرة العهد.

ب - القسمة الثانية (8: 7 - 13)
بعد آية الانتقالة (آ 6)، تبدأ القسمة الثانية التي تتحدّث عن العهد الأول وتتحدّث عنه بلغة لا ترفعه:
8: 7 فلو كان الأول بلا لوم،
لما كان من داعٍ إلى ثانٍ.
8: 8 فهو يلومهم ويقول لهم:
إنها تأتي أيام، يقول الرب،
أقطع فيها مع بيت اسرائيل وبيت يهوذا عهدًا جديدًا
8: 9 لا كالعهد الذي قطعتُ مع آبائهم،
يوم أخذتُ بيدهم لأخرجهم من أرض مصر.
وبما أنهم هم أنفسهم لم يستمرّوا على عهدي،
أنا أيضًا أهملتهم، يقول الرب.
8: 10 وهذا هو العهد الذي أعاهد به بيت اسرائيل
بعد هذه الأيام، يقول الرب
أحلّ شريعتي في بصيرتهم،
وأكتبها على قلبهم.
وأكون لهم إلهًا،
وهم يكونون لي شعبًا.
8: 11 ولا يعلّم بعد أحدٌ مواطنه، ولا أحد أخاه،
قائلاً: إعرف الرب.
فالجميع سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم.
8: 12 لأنه سأغفر آثامهم،
ولن أذكر من بعد خطاياهم.
8: 13 فبقوله ((جديدًا)) أعلن الأول عتيقًا.
وما عتُق وشاخ هو على شفى الزوال.
نكتشف التضمين هنا مع لفظ ((الأول)) (آ 7 ،13). والايراد الطويل من سفر ارميا يشكّل وصفًا للعهد الجديد. وعى الكاتب هذا الأمر، فأشار في 8: 6 إلى ((مواعد أفضل)). غير أنه لم يبُرز العناصرَ الايجابيّة في هذا العهد، حين بدأ الايراد وحين ختمه. بل هو استغلّ نص ارميا ليبرز الطابع الناقص والمؤقت في العهد القديم: قبل أن يورد كلام النبيّ، لفت الانتباه إلى اللوم الذي يتضمنه القول النبوي (آ 7 - 8: الله يلومهم فيقول لهم). وبعد أن أورد النص الكتابي، انحصر تفسيره في ملاحظة تقول: حُكم على العهد القديم بالزوال.
إن توقّفنا اذن عند ما قاله الكاتب بشكل واضح، نفهم أن الهدف الرئيسيّ لهذه القسمة الثانية هو محاربة اعتداد العهد الموسوي بنفسه، ورذل هذا العهد من المنظار الجديد الذي هو منظار عب.

ج - القسمة الثالثة (9: 1 - 10)
وتعود لفظة ((الأول)) في بداية القسمة الثالثة فتكوّن كلمة مخالفة تربطها بالأولى. ويعلن الكاتب نقطتين: شعائر العبادة والهيكل (9: 1). ويتوسّع فيهما بشكل معاكس: يبدأ بالهيكل (تو أغيون، المكان المقدَّس. أما تا أغيا: الاقداس، فترجمتها: المعبد). رج 9: 2 - 5. ثم يصل إلى الطقوس مع آ 6 - 10.
9: 1 فالعهد الأول كان له هو أيضًا رسوم (شعائر) عبادة
وهيكله (الذي كان) من هذا العالم.
9: 2 ونُصب الخباء الأول
كانت فيه المنارة والمائدة وخبز التقدمة
سُمِّي القدس.
9: 3 ووراء الحجاب الثاني، الخباء الذي يُقال له قدس الاقداس
9: 4 وفيه مستوقد البخور من ذهب،
وتابوت العهد المغشّى بالذهب من كل جهة،
وفيه إناء من الذهب فيه المن، وعصا هارون التي أورقت، ولوحا العهد،
9: 5 ومن فوقه كروبا المجد يظلّلان على الغشاء.
وليس الآن مقام تفصيل الكلام في ذلك.
9: 6 وإذا كانت الأشياء على هذا الترتيب،
كان الكهنة يدخلون الخباء الأول، في كل وقت، للقيام بالخدمة (بالعبادة، بالليتورجيا)
9: 7 وأما الثاني فإنما يدخله رئيسُ الكهنة وحده، مرّة في السنة،
وليس بلا دمّ يقرّبه عن جهالاته وجهالات الشعب (أو: عنه وعن جهالات الشعب).
9: 8 وبذلك يشير الروح القدس إلى أن طريق المعبد لا يبرح غير مفتوح،
ما دام المسكن (الخيمة) الأول قائمًا.
9: 9 وهذا رمز إلى الزمن الحاضر
الذي فيه تقرّب تقادم وذبائح
لا قبَل لها بأن تصيّر خادمها كاملاً، حتّى في ضميره.
9: 10 إذ ليس هناك سوى أطعمة وأشربة وشتى أنواع الغسل،
وكلها رسوم (شعائر، فرائض) بشريّة (من لحم ودم، ضعيفة) موضوعة حتّى زمن الاصلاح فقط.
نجد هنا أكثر من تضمين. ولكننا نشير فقط إلى ((ديكايوماتا))، طقوس، رسوم (9: 1 ،10، لا تستعمل اللفظة إلاّ هنا في عب)، التي تبدأ القسمة وتنهيها. تكرّر فعل ((كاتاسكواسني)) (نصب، أقام) في 9: 2 و9: 6 فدلّ على حدود وصف الهيكل (9: 2 - 5). ولعبت لفظة ((لاترايا)) و((لاترواين)) دورًا هامًا. في 9: 1 جُعلت ((لاترايا)) (عبادة) مع ((ديكايوماتا)) (رسوم، شعائر)، فأوضحتها وأعلنت النقطة التالية التي سوف تُعالج. وتكرّرت في آ 6 ،فدلّت على بداية النقطة الثانية. وجاء فعل ((لاترواين)) (خدم) في آ 9 مع ((ديكايوماتا)) في آ 10، فدلّ على نهاية هذه النقطة.
واستعادت آ 19 عبارة ((قرّب تقادم وذبائح)) التي قرأناها في 8: 3 ،فكوّنت تضمينًا، وحدّدت الدرفة الأولى من الدبتيكا، أو المقطع الأول (8: 1 - 9: 10). وجاءت الألفاظ الأخيرة في 9: 10، فدلّت أننا وصلنا إلى النهاية: أشارت إلى زمن الاصلاح، فوجّهت أنظارنا منذ الآن، إلى القسم الذي يتمّ فيه بناء العهد الجديد (9: 11 - 28)، بعد هدم القديم.
ونلاحظ الاتّجاه في هذه القسمة الثالثة: عالج الكاتب نظام الأشياء القديم. إن آ 2 - 5 هي ملخّص لما صوّره سفر الخروج. وآ 6 - 10 تتحدّث عن شعائر العبادة في شعب اسرائيل. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، قُدّمت النظم القديمة على أنها غير كافية، وعلى شفا الزوال. فلا قيمة لها إلا كصورة وظلّ. ((فالتقادم والذبائح لا تقدر أن تصيّر خادمها كاملاً، حتّى في ضميره)). فهي رسوم بشريّة، وترتيب الدخول إلى الهيكل رمز، وهو يدلّ على أننا ما زلنا في وضع مؤقت ((ما دام المسكن والخيمة، الخباء الأول قائمًا)). ثالثًا، إن الطقوس تعبّر بلغة رمزيّة عن شعائر العبادة الموسويّة التي هي ناقصة وعابرة، فتدلّ على أن طريق المعبد ليس بعدُ مفتوحًا. ما ظهر بعدُ للعيان.
يبقى أن نرى العلاقات بين هذه القسمة الأخيرة والقسمتين الاولين، ولاسيّما القسمة الأولى:
8: 3 يقرب تقادم وذبائح. رج 9: 9 (المجهول)
8: 5 يقيمون خدمة (عبادة، ليتورجيا). رج 9: 9: الخادم. 9: 1: رسوم عبادة؛ 9: 6: الخدمة.
8: 4 على الأرض. رج 9: 1: هذا العالم.
8: 5 موسى يُنشئ الخباء (المسكن). رج 9: 2 ،نُصب الخباء. ق 9: 3 ،6 ،8.
8: 5 صورة وظل السماويات. رج 9: 9 رمز.
غير أن القسمتين لا تتكرّران، بل تكمّل الواحدة الأخرى. الأولى تشير إلى الموضوع باختصار. والاخيرة، تصوّره بتفصيل. لفظت الأولى حكمها على أغراض العبادة: هي صورة وظلّ. وعدّدت الأخيرة هذه الأغراض ولم تحكم عليها، بل حكمت على رسوم العبادة: هي فرائض بشريّة. والعلاقات الوثيقة بين القسمة الأولى والقسمة الثانية، لا تنسينا التوسّع حول العهد الذي يسبق القسمة الثالثة. فالطقوس والهيكل تبدو مرتبطة بالعهد الاول (9: 1)، والنقص الذي كُشف في هذه الطقوس يقابل ذاك الذي أشير إليه في العهد: فالطقوس مؤقتة (9: 8)، شأنها شأن العهد الذاهب إلى الزوال (8: 13). هي عاجزة (9: 9) كالعهد الذي لا يبدو بلا لوم (8: 7). فالعلاقة بين نقص في الطقوس ونقص في العهد، هي العلاقة بين العلّة والسبب (8: 6).
وحين نقابل هذه القسمات الثلاث، نكتشف علاقات وثيقة بينها. (1) تتعلّق كلها بشعائر (برسوم) العبادة في العهد القديم. الأولى تحدّد مستوى الواقع الذي تقف عنده هذه العبادة (هذه الخدمة، هذه الليتورجيا). الثانية تتحدّث عن العهد الذي يقابلها. الثالثة تصف تنظيم العهد وشعائر العبادة. (2) تبدو كلها في وجه سلبيّ. بيّنت الأولى أن الكهنوت العبراني هو من الأرض ولا يُدرك أبدًا سوى صورة الحقيقة. وبيّنت الثانية أن العهد الأول لم يكن كاملاً ولا نهائيًا. وقالت الثالثة إن فرائض العهد هي مؤقتة وعاجزة. (3) وقرأت القسمات الثلاث من العهد القديم إقراره بحدوده. قرأت الأولى خر في 8: 5. والثانية إر في 8: 8 - 12. والثالثة، حلّلت فرائض الطقوس في 9: 6 - 8. وهكذا يمكننا القول إن هذه القسمات الثلاث تشكّل مقطعًا واحدًا يصوّر العهد القديم كحقبة تحمل صورًا سابقة ومؤقتة، بانتظار العهد الجديد.
2 - المقطع الثاني (9: 11 - 28): ذبيحة المسيح فاعلة ونهائيّة
في 9: 12 يبدأ المقطع الثاني. فالصور السابقة والمؤقتة تركت مكانها للواقع النهائي. أشير إلى هذا الواقع في 8: 1 - 2 وفي 8: 6 ،وها هو يُسمّى بكل وضوح ويُعلن باحتفال. هو المسيح الذي أصبح حبر الخيرات الآتية (9: 11؛ رج 8: 1). والليتورجيا (أو الخدمة) التي سلّمت إليه (رج 8: 6 ،خدمة اسمى) هي ليتورجية دمه. هذه اللفظة (د م)، لم تُستعمل حتّى الآن سوى مرة واحدة في عبارة ملبّقة: ليس بلا دم (9: 7). ولكنها ستفرض نفسها الآن على الانتباه، فتتكرّر تقريبًا في كل آية (9: 12، 13، 14، 18، 19، 20،21، 22 ،25). سبق وقلنا إن العبادة الجديدة تعارض القديمة، لأن المسيح قدّم نفسه (9: 14، 15، 28، ولم يقرّب تقادم وذبائح). وها هو الكاتب يعبّر عن الحقيقة عينها حين يقول إن العبادة الجديدة تتميّز بدم المسيح: إن أراد المسيح أن يقدّم نفسه، وجب عليه أن يسفك دمه (9: 12). وهكذا نفهم التشديد على لفظة الدم في ف 9.
وهناك سمات أخرى تميّز هذا المقطع (9: 11 - 28) عن سابقه (8: 1 - 9: 10)، فتعطيه وجهًا إيجابيًا. أولاً، صيغة الحاضر تدلّ على التكرار (تكرار لا يتوقّف وعاجز): يقرّبون، يدخلون، رج 8: 3 ،4 ،5؛ 9: 6 ،7، 9. وتحل محلّها صيغة الاحتمال التي تصوّر عملاً تحقّق مرّة واحدة (9: 21)، عملاً وحيدًا وفاعلاً: قرّب، دخل. رج 9: 12، 14، 24، 28. ثانيًا، تستعمل لفظة ((أبدي)) ثلاث مرات (9: 12 ، 14 ،15) فتدلّ على القيمة النهائيّة لهذا التدخّل. في 8: 4 و8: 7 (رج 7: 11)، كنا قد قرأنا جملتين غير واقعيتين تحملان وضعًا لا مخرج له في الناموس القديم. والآن، نقرأ في 9: 14 و9: 2 (رج 7: 22) جملتين تنطلقان من الأقلّ إلى الأكثر، فتبيّنان تفوّق العبادة الجديدة.
في هذا المجال، نلاحظ أن المقطع الثاني يحتفظ بوجهة إيجابيّة حتّى ساعة يتكلّم عن نظم وفرائض ألغيت. اختلف عن المقطع الأول، فما أبرز ضعف هذه النظم بل أشار إلى ما فيها من قيم، وجعل من هذه العناصر نقطة انطلاق لكي يصوّر الواقع النهائيّ. في 9: 9 - 10، تكلّم الكاتب عن طقوس قديمة لا نفع منها. في 9: 13، أكّد نفعها النسبيّ من أجل تطهير الجسد، وانطلق من هناك ليقدّم برهانه من الأقلّ إلى الاكثر في 9: 14 (فكم بالاحرى دم المسيح). في 8: 7 ،9 ،13، أطلق الكاتب الحكم القاسي على العهد الأول. في 9: 18 - 23، صار هذا العهد المثال الذي يتبعه لكي يقدّم الطقس الدمويّ الذي به تدشّن. وهكذا نكون أمام تواز كامل بين مقطع ومقطع.
بعد هذا، كيف يبدو المقطع الثاني (9: 11 - 28). هناك إشارة واضحة تساعدنا على قسمته ثلاث قسمات. فاسم المسيح الذي استعمل أربع مرات، يلعب هنا دورًا خاصًا في البنية. استعمل أولاً في 9: 11 و9: 14. ثانيًا، في 9: 24 و9: 14. ثانيًا، في 9: 24 و9: 28. في 9: 11 و9: 24، جاء الاسم بدون التعريف مع فعل دخل: المسيح دخل. في 9: 14 و9: 28، جاء اسم المسيح مع أل التعريف (هوخرستوس) وفعل قرّب: المسيح الذي قرّب (9: 14). المسيح قرِّب (صيغة المجهول. الآب قرّبه). أما الظرف ((ابفاباكس)) (مرة واحدة، مرة لا غير) فيرتبط تارة بفعل ((دخل)) وطورًا بفعل ((قرّب)). وهكذا نكون أمام قسمتين متقاربتين، شبيهتين بالقسمتين الأولى والثالثة في المقطع الأول. حدوده في 9: 11 - 14 من جهة، وفي 9: 24، 28 من جهة ثانية، مع تضمين اسم المسيح. وتشكّل آ 15 - 24 القسمة المركزيّة.

أ - القسمة الأولى (9: 11 - 14)
9: 11 أما المسيح فإذ قد جاء حبرًا للخيرات الآتية،
بالخباء الاعظم والأكمل
الذي لم تصنعه يد، أي ليس من هذا العالم.
9: 12 لا بدم تيوس وعجول،
بل بدمه الخاص،
دخل مرّة واحدة إلى المعبد،
بعد أن أحرز فداء أبديًا.
9: 13 لأنه، إن كان دم تيوس وثيران ورماد عجلة
يُرشّ على المنجّسين
فيقدّسهم لتطهير الجسد (ساركس، اللحم والدم، الضعف البشري)
9: 14 فكم بالاحرى دم المسيح
الذي بروح أبديّ قرّب لله نفسه بلا عيب،
يطهّر ضميرنا من الأعمال الميتة
لنعبد الله الحي.
نلاحظ التوازي في ترتيب هذه القسمة.
9: 11 9: 12
- الخيرات الآتية - فداء أبدي
- خباء أعظم - بدمه الخاص
- لم تصنعه - لا بدم التيوس
9: 13 9: 14
- دم التيوس - دم المسيح
- يرش على المنجّسين - قرّب بلا عيب - طهارة الجسد - يطهّر ضميرنا
ما هي علاقة هذه القسمة مع نهاية المقطع الأول (9: 1 - 10)؟ نلاحظ أولاً الرباط الغراماطيقي بين 9: 11 وما سبق. في 9: 1 قرأنا ((مان اون)) (إذن): في الحقيقة، بالأحرى. إن الأداة التي تقابل ((مان)) (من جهة)؟ نجدها في آ 6 ((دي)) (من جهة أخرى). ويُشرح التعارض كما يلي: في شعائر العبادة المقابلة للعهد الاول وُجدت عناصر إلهيّة لها معناها. ولكنها خضعت لحدود حين استُعملت. هذا يعني أن آ 1 أعلنت فقط آ 2 - 5 التي جاءت بعدها، وأن آ 6 قدّمت وجهة مختلفة. في الواقع، لاحظنا أن آ 1 أعلنت القسمة كلها حتى آ 10 مع لفظة ((فرائض)). لهذا، لا نقدر أن نجعل آ 1 وآ 6 على مستوى واحد. فإن آ 6 تقع في درجة أدنى وتقابل آ 2. هذا ما يدلّ عليه استعادة فعل ((نُصب)) في 9: 2 و9: 6. لهذا، نستطيع أن نرى المجموعة بحسب الرسمة التالية:
9: 1 إعلان الرسوم (أو الفرائض) والهيكل
9: 2 - 5 وصف الهيكل
9: 6 - 10 وصف رسوم العبادة.
فاذا كانت الاداة ((مان)) تحتاج إلى جواب، يجب أن نذهب إلى أبعد من آ 10. وها نحن نجده في آ 11 مع الاداة ((دي)) التي تعارض التوسّع الآتي (9: 11 - 14) بما سبق (9: 1 - 10). فما هي التوازيات بين 9: 1 - 10 و9: 11 - 14؟
إن 9: 2 - 5 تحدّث عن الخباء ووصف بالتفصيل كيف نُصب؛ و9: 11 تحدّث عن خباء أعظم وأكمل، وحدّد أنه لم يُصنع، أي لم يكن من هذه الخليقة، من هذا العالم. إن 9: 6 - 7 بيّن أن الكهنة يدخلون في الخباء الاول في كل وقت. أما الخباء الثاني فيدخله رئيس الكهنة وحده؛ و9: 11 - 12 بيّن أن المسيح حبر الخيرات الآتية، دخل مرّة واحدة إلى المعبد. 9: 7 حدّد أن الحبر لا يدخل بلا دم؛ 9: 12 حدّد أن حبرنا لم يدخل بدم التيوس والعجول، بل بدمه الخاص. 9: 9 صوّر ليتورجيا قديمة فقال: قرِّبت تقادم وذبائح؛ 9: 14 صوّر ذبيحة المسيح النهائيّة، فقال إن المسيح قرّب لله نفسه بلا عيب. 9: 10 أكّد أن الطقوس القديمة كانت طقوسًا بشريّة؛ 9: 14 قابل هذه الطقوس مع تقدمة المسيح التي أنعشها ((روح أبدي)). 9: 9 لاحظ عجز الطقوس القديمة التي لا تستطيع أن تصيّر الخادم كاملاً، حتّى في ضميره؛ 9: 13 اعتبر أن قيمتها نسبيّة، ومحدودة في تطهير الجسد. تجاه هذا، أكّد 9: 14 فاعليّة تامّة لدم المسيح الذي يطهّر ضميرنا من الاعمال الميتة لنعبد الله الحي. وهكذا نكون أمام تواز بين 9: 1 - 10 و9: 11 - 14، ولكنه تواز متعارض.

ب - القسمة الثانية (9: 15 - 23)
ونكتشف في القسمة الثانية أمورًا مشابهة:
9: 15 ولذلك هو وسيط عهد (دياتيكي) جديد،
بحيث إنه بموته لفداء المعاصي
(المقترفة) في العهد الأول،
ينال المدعوّون وعد الميراث الابدي.
9: 16 لأنه حيث تكون وصيّة (دياتيكي)
لا بدّ من موت الموصّي.
9: 17 إذ إن الوصيّة بالموت
تثبت
ولا قوّة لها البتّة
ما دام الموصيّ (دياتامانوس) حيًا
9: 18 فمن ثمّ، حتّى (العهد) الأول لم يكرَّس بلا دم
9: 19 وفي الواقع، إن موسى لما تلا، على مسامع الشعب، كل وصيّة بحسب الناموس،
أخذ دم العجول والتيوس مع ماء وصوف قرمزيّ وزوفى،
ثم رشّ على السفر عينه، وعلى جميع الشعب.
9: 20 قائلاً:
هذا دم العهد الذي أمركم به الرب.
9: 21 وعلى الخباء أيضًا، وعلى جميع أدوات الخدمة
رشّ الدم كذلك
9: 22 فإن الناموس يقضي بأن يطهّر كل شيء تقريبًا بالدم،
ولا مغفرة بدون سفك دم.
9: 23 واذن، فإذ كان لا بدّ
لرموز ما في السماوات أن تطهَّر على هذا الوجه،
كان لا بد للسماويات أيضًا مثل ذلك، ولكن بذبائح أفضل من تلك.
ما نلاحظه في البنية الداخلية لهذه القسمة، هو تبديل في الألفاظ. في آ 15 - 17، نجد أربع مرات الاسم ((دياتيكي)) (عهد، وصيّة)، ومرتين الفعل الذي يقابله. ثم كان كلام عن الموت (آ 16)، عن ((جثث)) أي موت (آ 17) وعن حياة (آ 17). في آ 18 - 22 ،ليس من كلام بعد عن الموت، بل مرّة واحدة عن العهد. ولكننا نقرأ لفظة ((دم)) في كل آية تقريبًا. بدأت آ 15 مع ((دياتيكي)) وانتهت آ 17 مع ((دياتامانوس)). في آ 18: بلا دم. في آ 22: سفك دم. في 9: 18 - 22، يُبرز التوازي عبارة ((دم العهد)) (في آ 20) التي تشكّل قلب القطعة:
- بلا دم (9: 18) - بدون سفك دم (9: 22)
- حسب الناموس (9: 19) - حسب الناموس (9: 22)
- رش (9: 19) - رش (9: 1)
- هذا دم العهد (9: 20).
إن الخاتمة التي نقرأها في آ 23، تعود إلى المرحلة الأولى وإلى المرحلة الثانية: إلى الأولى مع الاشارة إلى الضرورة (آ 16: لا بدّ). إلى الثانية مع استعادة فعل ((طهّر)) (آ 22). فالقسمة، إجمالاً، تدلّ بوضوح على العهد، وهي تقابَل مع القسمة المركزيّة في المقطع الأول (8: 7 - 13). فالبداية (ولذلك هو وسيط عهد جديد) تُكرّر بشكل شبه حرفيّ عبارة 8: 6 التي قدّمت موضوع القسمة الثانية في نهاية القسمة الأولى: ((وسيط عهد جديد)). وأخذت الصفةُ ((جديد)) من نص إرميا الذي ورد في 8: 8 وذُكر في 8: 13 . في 9: 15 كما في 8: 6 ،ارتبط العهد بالموعد. ولفظة ((دياتيكي)) (عهد، ترتيب، وصيّة) عادت في 8: 8 ،9 ،10. أما في هذه القسمة (9: 11 - 23)، فاستُعملت خمس مرات: 9: 15، 16، 17، 20. والفعل الذي يعود إلى الجذر عينه (دياتيتاماي، رتّب) قد استعمل في 8: 10. وهو يعود في 9: 16 و9: 17 . ويُذكر قاطعا العهد (الله والشعب) في 8: 10، ثم في 9: 19 - 20. وبين خيرات العهد الجديد، ذكر إرميا غفران الخطايا (8: 12). وأعلن 9: 15 أن الموت حصل لفداء المعاصي. وأكّد 9: 22 الرباط بين سفك الدم والمغفرة. الألفاظ المنتقاة ليست الألفاظ التي استعملها النبيّ، ولكنها ترتبط بها، وهذا ما نلاحظه حين نقرأ 10: 17 - 18 حيث تنطبق بشكل مباشر على نص إرميا بعينه.
حين توسّعنا في المقطع الأول، لاحظنا الوجهة السلبيّة في نظرة الكاتب الذي استبعد العهد القديم. أما هنا، فنظرته إيجابيّة. هو يؤكّد إقامة العهد الجديد، ويهتمّ بأن يبيّن الحاجة إلى موت، إلى ذبيحة دمويّة، للوصول إلى هذه النتيجة. من أجل هذا، استعمل أولاً معنى ((ترتيب وصيّة)) الذي ينتمي إلى ((دياتيكي)). ثم ثبّت طرحه مستعينًا بمثَل موسى الذي نظّم بذبيحة العهدَ الأول. ونلاحظ أيضًا الدقّة في التأليف. في المقطع الاول، إذ اراد الكاتب أن يعلن إلغاء العهد القديم، تكلّم بشكل خاص عن العهد الجديد الذي أنبأ به ارميا. ولكن حين أراد في هذا المقطع الثاني أن يؤكّد إقامة العهد الجديد، تكلّم بشكل خاص عن القديم الذي هو صورة سريعة عنه. وهكذا نكون أمام تواز متكامل.
وهناك سمة أخرى تساعد على توحيد القسمات. فالمنظور الذي يُشرف على هذه القسمة (9: 15 - 23) هو ذاك الذي أشارت إليه الانتقالتان (8: 6؛ 9: 1) اللتان قرأناهما قبل وبعد التوسيع الأول عن العهد (8: 7 - 13). في 8: 6 ،أشير إلى العلاقة بين الليتورجيا (الخدمة) والعهد: عهد أفضل، خدمة سامية. وتحدّث 9: 1 في الخط عينه فقال إن الهيكل ورسوم العبادة تنتمي إلى العهد. وهكذا نجد التطبيق العمليّ لهذا التعليم: يُبنى العهد على الليتورجيا. وهدف الليتورجيا هو خدمة العهد. وتأتي لوحة تقدّم احتفال التدشين بالعهد الموسويّ والطقوس اليوميّة في شعائر العبادة اليهودية. فالخباء وأدوات الخدمة، ضُمَّت في تأسيس العهد، والتطهيرات من كل نوع تماهت مع العهد.
في هذا المنظور حدِّدت آ 23 موقع الليتورجيا (أو الخدمة) التي أسّست العهد الجديد، وبالتالي أدخلتنا بشكل طبيعيّ إلى القسمة الثالثة التي تتوازى مع 8: 3 - 5 فثبت مستوى هذه الليتورجيا. لا شكّ في أن آ 23 ترتبط بما سبق، فتستند إلى ما قيل عن تطهيرات العهد القديم، وتذكر ما قيل في 9: 15 - 16 حول ضرورة (أنانكي، آ 23 وآ 16) الموت. ولكن الالفاظ المستعملة تعود إلى القسمة الثالثة (8: 3 - 6) لا إلى القسمة الثانية (8: 7 - 13). ومن آية انتقالية (8: 6)، استعيدت (في إطار عبارة ((ذبائح أفضل))، آ 23) فكرةُ ((ليتورجيا أخرى)). ومن 8: 5 جاءت لفظة ((صورة)) ولفظة ((سماويات))، كما برز التعارض بين مستويَيْ الواقع. وهكذا تهيّأنا للقسمة الثالثة (9: 24 - 28).

ج - القسمة الثالثة (9: 24 - 28)
قبل أن نقدّم النصّ، نشير إلى أن قسمات المقطع الأول جاءت عكس قسمات المقطع الثاني. في الأول، بدأنا بالقسمة الثالثة (8: 3 - 6) وانتقلنا إلى القسمة الثانية (8: 7 - 13). وانتهينا بالقسمة الأولى (10: 1 - 10). أما في المقطع الثاني (9: 11 - 28)، فبدأنا بالقسمة الأولى (9: 11 - 14)، ثم القسمة الثانية (9: 15 - 23). وأخيرًا، القسمة الثالثة (9: 24 - 28). وهكذا توازى المقطعان.
9: 24 لأن المسيح لم يدخل معبدًا صنعته الأيدي، صورة للحقيقي،
بل السماء بعينها
ليظهر الآن أمام وجه الله، لأجلنا.
9: 25 ولا ليقرّب نفسه مرارًا،
كما يدخل الحبر كل سنة، المعبد بدم غيره
9: 26 وإلاّ لاقتُضي أن يتألّم مرارًا منذ إنشاء العالم،
غير أنه الآن، في الأزمنة الأخيرة، ظهر مرّة واحدة، ليُبطل الخطيئة بذبيحة نفسه.
9: 27 وكما حُتِّم على الناس أن يموتوا مرة واحدة،
وبعد ذلك تكون الدينونة،
9: 28 كذلك المسيح، هو أيضًا، بعد أن قرّب نفسه مرّة واحدة ليرفع خطايا الكثيرين،
سيظهر مرّة ثانية، لا (ليكفّر) الخطيئة، بل لخلاص الذين ينتظرونه.
ما يربط هذه القسمة بسابقتها، لفظة ((سماء)) (السماء، 9: 24، السماوية، السماوات، 9: 23). إليها تستند الاداة ((لكن)) (او غار). أما التوسّع فيتألّف من ثلاثة شقف بُنيت في تواز بسيط وارتبطت بعضها ببعض. إن آ 24 تقابل عددًا من الألفاظ: من جهة، معبد صُنع وصورة الحقيقي، ومن جهة ثانية، السماء بعينها ووجه الله. نقرأ أولاً فعل ((دخل))، ثم فعل ظهر. أما 9: 25 - 26 فيبدو كما يلي:
9: 25 9: 26
- ليقرب مرارًا - يتألم مرارًا
- كل سنة - مرة واحدة
- بدم آخر - ذبيحة نفسه.
في آ 25، مرارًا وكل سنة. قرّب نفسه ودخل مع دم آخر. في آ 26، تألّم وذبيحة نفسه، مرارًا ومرّة واحدة، منذ إنشاء العالم يقابل الأزمنة الأخيرة (أو: نهاية الأزمنة).
وتظهر آ 27 - 28 كما يلي:
- كما مصير الناس - كذلك المسيح
- أن يموتوا مرّة واحدة - قرّب مرة واحدة
- بعد ذلك - مرة ثانية
- الدينونة - للخلاص.
بين آ 24، وآ 25 - 26 وآ 27 - 28، نرى رباطات واضحة بواسطة الافعال. في الشق الأول (آ 24) والشق الثاني (آ 25 - 26) نجد فعل ((دخل)): دخل المسيح معبدًا (آ 24). دخل الحبر معبدًا (آ 25). وفي الشق الثاني والشق الثالث (آ 27 - 28) نقرأ فعل ((قرّب)): قرّب نفسه مرارًا (آ 25). قرّب مرّة واحدة (آ 28). نقرأ في الشق الثاني: تألّم مرارًا (آ 26). وفي الشق الثالث: مات مرّة واحدة (آ 27). وتضمّن كل شق فعل ظهور: في الاول، ليظهر الآن (آ 24). في الثاني، ظهر (أو أُظهر، آ 26). في الثالث، سيظهر (سيُرى، آ 28). ونضيف أن كل شق يتضمّن عبارة تتعلق بالقيمة التكفيريّة لعمل المسيح: لأجلنا في آ 24، ليبطل الخطيئة بذبيحة نفسه في آ 26، ليرفع خطايا الكثيرين في آ 28.
أما العلاقات بين هذه القسمة وما يقابلها في المقطع الأول (8: 3 - 6) فواضحة. تحدّث 8: 3 عن تقريب تقادم وذبائح وأعلن: لا بدّ لحبرنا أن يكون له شيء يقدّمه. وحدّد 9: 25 أن المسيح يقرّب نفسه، مرة واحدة لا مرارًا. وأعلن 9: 26 أن ذبيحته تمّت مرّة واحدة، مرّة لا غير. وكرّر 9: 28 أن المسيح قرِّب مرة واحدة. في 8: 5 ،أشار الكاتب إلى موسى الذي أنشأ المسكن حسب المثال الذي رآه على الجبل. ورذل 9: 24 فكرة تقول بأن المسيح دخل معبدًا صنعته الأيدي، هو صورة عن الحقيقيّ. استبعد 8: 4 من أجل حبرنا خدمة (ليتورجيا) أرضيّة: فلو كان على الأرض، لما كان كاهنًا. وأعلن 9: 24 أن المسيح دخل السماء بعينها. وهكذا نفهم مستوى الواقع الذي أدركه المسيح. هو ما لبث في عالم الرموز والصور، بل عمل في جوهر الواقع، فوصل بشكل نهائيّ إلى ما ابتغاه الله من أجل خلاصنا والتكفير عن خطايانا.

3 - مقابلة بين المقطع الأول (8: 1 - 9: 10) والمقطع الثاني (9: 11 - 28)
هكذا بدا التشابه كاملاً بين المقطع الأول الذي يشدّد على شعائر العبادة القديمة التي لم تكن كافية، فوجب أن يحلّ محلّها شيء آخر، وبين المقطع الثاني الذي يتحدّث عن ذبيحة المسيح: هي نهائية، فوصلت إلى مبتغاها. ففي كل من المقطعين، وجدنا ثلاث قسمات رُتّبت في تواز متداور مع ستة عناوين. من جهة، الأرض، العهد، الطقوس وشعائر العبادة. ومن جهة ثانية، الطقوس والعهد والسماء.
نبدأ فنعود إلى القسمة الثالثة في المقطع الثاني (9: 24 - 28)، فنقابلها مع القسمة الأولى (9: 11 - 14) في المقطع عينه. إن 9: 11 استبعد صفة ((مصنوع بالايدي))، وكذلك فعل 9: 24. قال 9: 12: المسيح دخل المعبد مرّة واحدة بدمه. وقال 9: 24: لم يدخل المسيح في معبد مصنوع. وقابل 9: 25 المسيح مع الحبر الذي يدخل بدم غيره. وتعود آ 26، 27، 28 إلى ((مرّة واحدة)). تكلّم 9: 14 عن المسيح الذي قرّب نفسه لله. وأشار 9: 24 إلى المسيح الذي دخل السماء ليظهر الآن أمام وجه الله. وأكّد 9: 14 أن دم المسيح يطهّر ضميرنا من الأعمال الميتة. وقال 9: 28 إن المسيح قرِّب ليرفع خطايا الكثيرين. أخيرًا، أكّد 9: 12 أن المسيح أحرز فداء أبديًا. وقال 9: 26: ظهر ليبطل الخطيئة بذبيحة نفسه.
ولكن هذا التقابل التام بين القسمة الأولى والقسمة الثالثة في المقطع الثاني، لا يمنعنا أن نرى وجهات مختلفة. تتطلّع القسمة الأولى إلى الوسائل المستعملة، إلى طقوس العبادة الحقّة، فتشدّد بالتالي على دور الدم، ثم تقابل مرتين دم المسيح مع دم الذبائح التي تقدّم باسم الشريعة. أما القسمة الثالثة، فاهتمت بالنتيجة الحاصلة وتحدّثت مرتين عن دخول المعبد. حدّدت مستوى فاعليّة الذبيحة، وأكّدت أن هذه الفاعليّة قد تمّت في السماء بعينها. لهذا، لم تعد حاجة لتكرار الذبيحة. ولا يعود يُذكر دور الدم هنا إلاّ في شكل غير مباشر (9: 25، بدم غيره).
والتحوّل عينه في المنظور، يظهر في استعمال الصفة ((مصنوع)) (خايروبوئيتوس). في القسمة الأولى طبِّقت على ((خباء أفضل)) يتيح للمسيح أن يدخل المعبد (في هذا الخباء الذي يحلّ محلّ الخباء الاول، 9: 8 ،أي هيكل أورشليم، نرى الهيكل الذي أقيم في ثلاثة أيام، كعمل الخلق الجديد، مر 14: 58). أما القسمة الثالثة فاستعادت ((مصنوع)) للكلام عن المعبد بعينه، أي عن السماء الالهيّة وحضور الله.
ارتبطت هذه القسمة (9: 14 - 18) بالقسمة الاولى (9: 11 - 14)، فارتبطت في الوقت عينه بما في 9: 1 - 10. استعاد الكاتب في 9: 26 فعل ظهر الذي استُعمل في 9: 8. وإذ تكلّم عن منع من دخول قدس الأقداس، فسّره كعلامة تدلّ على أن طريق المعبد لا يبرح غير مفتوح (9: 8). هكذا ترجم الفعل ((بافاناروستاي)). ولكن يبدو أن المعنى هو: ظهر. فالكاتب لا يقول إن الطريق الحقيقيّ عُرف منذ العهد القديم ومُنع الآن بشكل مؤقت، بل يقول إن الطريق الحقيقي لم يُعرف.بما أن عمل عظيم الكهنة الذي يتمّ على مستوى غير واقعيّ (8: 3 - 5)، لا شيء يتيح لنا أن نعتقد أنه يلغي المواصلة على ذات المستوى لكي نصل. يجب أن نبدّل الطريق. إذن، اين هو الطريق الحقيقيّ؟ قدّم لنا الكاتب الجواب في 9: 26، فطبّق على المسيح فعل ظهر. الطريق الحقيقيّ هو المسيح عبر ذبيحته. في 10: 19 - 20 سيوضح الكاتب فكره ويدعو إلى اتباع هذا الطريق الجديد.
قبل هذا التلميح الخفر الذي كان يهيّئ هذه القسمة الثالثة (9: 24 - 28)، تضمّنت هذه القسمة تذكيرًا واضحًا بقلب القسمة الأولى في المقطع الاول (9: 7). وها نحن نجعل النصفين الواحد بازاء الآخر:
9: 7 في المقطع الثاني يدخل رئيس الكهنة وحده، مرّة في السنة، وليس بلا دم يقرّبه عن نفسه وجهالات
9: 8 الشعب، وبذلك يشير الروح القدس أن الطريق لم يظهر بعد.
9: 25 ولا ليقرّب نفسه مرارًا، كما يدخل الحبر، كل سنة، المعبد بدم غيره
9: 26 في الواقع مرة واحدة ليبطل الخطيئة بذبيحة نفسه، ظهر
إن 9: 12 الذي يوازي 9: 7، كان قد شبّه دخول المسيح بدخول عظيم الكهنة. أما الفرق فهو التشديد على أن المسيح قدّم نفسه، قدّم دمه الخاص. أما 9: 25 فأشار إلى هذا الفرق، ولفت انتباهنا إلى وجهة أخرى: ذبيحة واحدة.
قال الكاتب: مرّة واحدة (مرّة لا غير) في السنة (9: 7). نستطيع أن نقرأ هذه الآية بطريقتين، شأن كل ما هو صوري. قد نُبرز القيمة الايجابيّة للصورة أو نشدّد على نقصها. نحن هنا أمام شيء وحيد (مرة واحدة، سمة ايجابيّة)، ولكنه يبقى نسبيًا في الصورة (مرة في السنة، نقص). إن دخول الحبر مرّة واحدة إلى قدس الاقداس، يتطلّع إلى ذبيحة المسيح الوحيدة. هذه الوجهة الايجابيّة هي التي يقدّمها الكاتب في 9: 12 حين يستعيد العبارة ويطبّقها على المسيح الذي ((دخل المعبد مرة واحدة)). ولكنه في هذا الموضع أيضًا يشير إلى اختلاف بين الصورة والحقيقة، فيحلّ محل ((هاباكس)) (9: 7)، لفظة ((إفاباكس)) (7: 27). في القسمة الاخيرة اهتمّ بأن يدلّ بوضوح على سموّ النتيجة التي حصل عليها المسيح. إذن، حوّل عبارة 9: 7 ، وما عاد يقول ((مرة واحدة في السنة)) عن دخول الحبر، بل ((كل سنة))، ونلاحظ أن هذا يعني ((مرارًا)). إن هذا التبدّل أتاح له الآن أن يحتفظ بـ ((مرة واحدة)) لذبيحة المسيح، ويشدّد بقوة على هذه الذبيحة الواحدة بشكل لم يفعله من قبل (آ 26، 27، 28). وهكذا أعلنت النهاية الكاملة لذبيحة المسيح. نحن هنا أمام خاتمة المقطع الثاني (9: 11 - 28)، بل خاتمة الاتجاه كله (8: 1 - 9: 28).
ونضيف مقابلة تقدّم لنا برهانًا آخر. حين نقرأ الآية التي أعلنت في نهاية ف 7 هذا الاتجاه، وجدت رسمة لخاتمة المقطعين (8: 1ي؛ 9: 11ي)، وبشكل خاص 9: 25 - 26. وإليك هذا النص (7: 27) الذي سنستعيده عنصرًا عنصرًا لكي نقابله مع نهاية 9: 6 - 10 ونهاية 9: 27 - 28.
كل يوم (أ) لا حاجة له، مثل الأحبار (ب) أولاً عن خطاياه الخاصة (ج) أن يقرّب ذبائح (و)، ثم عن خطايا الشعب (ج) لأنه فعل ذلك مرّة واحدة (هـ) حين رفع (قرّب) نفسه (ز).
عبارة كل يوم (أ) يقابلها في 9: 25 لا مرارًا كل سنة، وهذا ما يعارض 9: 7: مرة كل سنة.
عبارة مثل الاحبار (ب) تقابل 9: 25: مثل الحبر، وهذا ما يعود إلى 9: 7 (الحبر).
عبارة أولاً عن خطاياه الخاصة... ثم عن خطايا الشعب (ج) تقابل في 9: 7: عن نفسه وعن جهالات الشعب. رج 9: 26 مع ((إبطال الخطيئة)) مع ذكر ((مرة واحدة)). ينتج عن هذا في 9: 28: استبعاد الخطيئة (حرفيًا: لا الخطيئة. قلنا: ليكفّر).
عبارة قرّب ذبائح (د) لا تقابل في 9: 7 دمًا يقرّبه، وفي 9: 9 قرابين وذبائح تقدَّم. وهذا ما يعارض 9: 26 مع صيغة المفرد: بذبيحة نفسه.
عبارة فعل ذلك مرة لا غير (هـ) تقابل في 9: 26، 27، 28 مرّة واحدة. هو الواحد المطلق الذي يقابل الواحد النسبيّ مع مرّة في السنة (9: 7).
عبارة رفع نفسه (و) يقابل في 9: 25: قرب نفسه. وفي 9: 28: قرِّب.
كل هذا يدلّ على أن الكاتب هيّأ مشروعه منذ 7: 27، وأنه وصل إلى الهدف في 9: 24 - 28، وجملته هي جملة ختاميّة. غير أنه لم يكتف بأن يختم، بل اهتم في الوقت عينه، هنا كما في 7: 27 - 28، بأن يتطلّع إلى التوسيع التالي الذي (حسب الاعلان في 5: 9 - 10) يعالج تطبيق الذبيحة على المسيح: صار المسيح لجميع الذين يطيعونه علّة خلاص أبدي (5: 9). لقد تمّ الانتقال من موضوع إلى موضوع بدون صعوبة. بعد أن ثبّت الكاتب أن المسيح قد وصل حقًا، (أنه دخل السماء بعينها) انتقل إلى فكرة تقول إن التلاميذ اطمأنّوا إلى الخلاص. هذا ما يشير إليه الكاتب منذ 9: 24: من أجلنا ظهر المسيح أمام الله. وجاء 9: 26 أكثر وضوحًا: ظهر ليلغي الخطيئة. عندئذ تشير النهاية (9: 27 - 28) إلى الواقع الاسكاتولوجيّ الذي يوجّهنا إليه بشكل نهائي، دخولُ المسيح إلى السماء، لكي يدشّن نهاية الأزمنة (أو: الأزمنة الأخيرة). فنسمع كلامًا عن الموت، عن الدينونة، عن عودة المسيح. في هذا السياق يظهر من جديد لفظ مهمّ (5: 9): الخلاص. جُعل في نهاية الجملة (وكذا نقول عن 7: 28، كاملاً)، ففرض نفسه على انتباهنا على أنه عنوان الاتجاه الثالث: علّة خلاص أبديّ.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM