الفصل الحادي والعشرون: الـخدمة القديمة والعهد القديم

 

الفصل الحادي والعشرون

الـخدمة القديمة والعهد القديم
8: 1 - 13

نحن هنا في القسم الثالث (5: 11 - 10: 39) من عب. في الاتجاه المركزي (8: 1 - 9: 28) الذي عنوانه: بلغ إلى الكمال. يُقسم هذا الاتجاه إلى مقطعين. في الأول (8: 1 - 9: 10) نكتشف أن الخدمة (الليتورجيا، شعائر العبادة) غير كافية، ويجب أن يحلّ محلها شيء آخر. في الثاني (9: 11 - 28) نفهم أن ذبيحة المسيح فعلت فعلها بشكل نهائي، بحيث انتفت بعدها الحاجة إلى ذبيحة أخرى. وقسمنا المقطع الأول إلى اثنين: الخدمة القديمة والعهد القديم (8: 1 - 13)، وتركنا إلى فصل آخر المقطوعة الثانية (9: 1 - 10): النظم العباديّة القديمة.

1 - تفسير الآيات
نكتشف تفوّق الحبر على رتبة ملكيصادق بالمعبد الذي يرتبط به هذا الكهنوت. فالشريعة الموسوية أنشأت موضع عبادة تمارس فيها الطقوس المقدسة. غير أن الناموس نفسه أعلن أن المعبد الارضي هو صورة عن المعبد السماوي. في هذا المعبد يخدم المسيح، يمارس الليتورجيا، في حضرة الله يقدّم ذبيحة نفسه.

أ - الخدمة القديمة صورة عن الأرض (8: 1 - 6)
بعد مقدّمة عامة، نفهم أن المسيح لا يرتبط بعبادة أرضيّة، بعبادة هي صورة وظلّ لما في السماوات.
أولاً: حبرنا في السماوات (آ 1)
إن تمجيد يسوع هو موضوع الكاتب المفضّل، وهو يربطه دومًا بالطابع الكهنوتي. فحبرُنا دخل السماوات (4: 14)، صار أعظم من السماء (7: 26). دخل كالسابق داخل الحجاب (6: 19). وبعد تطهير الخطايا، جلس عن يمين الله في الأعالي (1: 3) حيث يمارس إلى الأبد وساطته الكهنوتيّة الناجعة (7: 25). تلك هي النقطة الرئيسية التي سيعرضها الآن.
((كافالايون)). الكلمة الأولى. أرادها الكاتب بارزة، ليدلّنا على أن هذا صلب الموضوع الذي يريد الوصول إليه. حرفيًا: ما يشكّل الرأس، ما يشير إلى الرأس. قيل: الموجز أو الجوهر. ونقول: القسم الأهم، الرئيسيّ، النقطة الأساسيّة في جدال أو في عرض، وإليها تؤول الأفكار الرئيسية لتأخذ مدلولها. هي الرأس والباقي الاعضاء.
في 5: 11 أرادت عب أن تلفت نظر القارئ إلى أهميّة الموضوع، فألغت الاعتبارات الجانبيّة ووسائل البرهنة (لاغامانويس). وانتهت إلى القول بأننا أمام ملك وكاهن أزليّ في عهد جديد: يخدم في السماوات. إن الجلوس عن يمين الله (مز 110؛ رج عب 1: 3 مع إضافة ((ترونوس)) عرش، وإحلال ((في السماوات)) محل ((في الاعالي))) علامة السموّ، وهو يدلّ على فاعليّة هذه الوساطة الكهنوتيّة (10: 12؛ 12: 2). اختلف كهنوت الابن عن كل كهنوت في الأرض، فمورس في مجد سماويّ بكرامة ملوكيّة وقدرة إلهيّة. ذاك هو الحبر الذي تقدّمه عب لايمان المسيحيين (رج 7: 26 - 27). هو كذلك (عظيم) بحيث جلس عن يمين الله.
ثانيًا: خادم المعبد (آ 2)
إن صورة الجلوس البيبليّة التي تشير إلى الراحة، لا تنسينا أن هذا الحبر القريب من الله، هو في الوقت عينه ناشط يعمل لأجلنا. ((لايتورغوس)) هو العامل، هو الخادم (يش 1: 1؛ 2صم 13: 18؛ 1مل 10: 5؛ 2 مل 4: 34؛ 6: 15، ش ر ه؛ فل 2: 25). قال الذهبي الفم وكيرلس الاسكندراني: يسوع يجلس عن اليمين كالله، وهو خادم كإنسان، هو يقوم بخدمة عامة (ليتورغيا). رج ((لائيتوس إرغون))، 1: 7؛ روم 13: 6. هي وظيفة مقدسة وعبادة تُرفع إلى الله (روم 15: 16). في السبعينية، ((لايتورغوس)) هو الكاهن اليهودي (واللاوي) الذي يخدم الهيكل. وهكذا ترادف اللفظ مع ((هياروس)) في أش 61: 6؛ إر 32: 21؛ نح 10: 40؛ سي 7: 30.
((تون أغيون)): الاشياء المقدّسة، القديسون. بل المعبد (9: 8 ،12؛ 10: 19؛ 13: 1). ويقابل ((هيارون)) في السبعينيّة (لا 5: 15؛ 1مك 4: 36؛ 14: 15). يوازي هنا ((سكيني)) المسكن. إذن، المسيح خادم المعبد. لا المعبد الأرضي، لا معبد أورشليم قلب العبادة في أمّة تيوقراطيّة، منذ سليمان، بل الخباء، مسكن الله. هناك تجلّى الله في زمن البريّة (نلاحظ التخلّي عن الهيكل والعودة إلى البرية، كما فعل اسطفانس في أع 7: 44ي).
هذا الخباء (أو المسكن) هو حقيقيّ (9: 24؛ 10: 22) أي كامل، من أصل إلهي (يو 1: 9؛ 6: 32؛ 15: 1؛ 1يو 1: 8). وهو يعارض ما هو ثانوي، مادي، غير كامل، عابر. فمعبد السماء هو الهيكل والصورة الأولى لهياكل ((صُنعت)) بالايدي (9: 1 ،من هذا العالم، كوسميكون). هو وحده الحقيقي بالنسبة إلى ((النسخة))، إلى الرمز. كان فيلون قد تحدّث عن معبدين (سماوي، أرضي) يخدمهما كهنوتان. واعتبر الرابينيون أن هيكل أورشليم هو صورة المعبد السماوي وليتورجيته. إذن، هيكل الأرض (وخدمته) هو صورة عن المعبد السماوي (وليتورجيته) الذي شاهده الأنبياء (أش 6: 1؛ مي 1: 2؛ رؤ 11: 19؛ 21: 2 - 3 ،10).
وتأتي نهاية الآية فتميّز بين موضعَي العبادة، وتصحّح تفسيرًا ماديًا للهيكل السماوي. هذا بناه الله، فلا يمكن أن يكون ماديًا (9: 11؛ مر 14: 58، لم تصنعه بالأيدي). وهو يقابل الخباء (الخيمة) التي نصبها موسى (خر 33: 7؛ عد 24: 6). فعل ((بيغنيمي)) (مراحدة في العهد الجديد) يعني نصب خيمة، تك 26: 25؛ 31: 25. استعمله أش 42: 5 (ن ط ه) ليتحدّث عن الله الذي كوّن القبّة السماويّة. إذن، الخيمة الحقيقيّة هي السماء. كما قال الذهبي الفم وكيرلس وتيودوريتس. ولكن في الواقع، هذا المعبد هو الله نفسه (إر 17: 12) حيث يقيم الحبر ويخدم. لهذا سُميّ يسوع خادم المعبد، وخدمته هي تقديم نفسه (آ 3) قبل الجلوس عن يمين الله. ندهش للوهلة الأولى أن يكون جلس كخادم المعبد، والخادم يكون واقفًا (أع 7: 55). لقد أراد الكاتب أن يدلّ على استمرارية دور يسوع الكهنوتي: هو كاهن أزليّ، ولا يحتاج أن يجدّد ذبيحته. إنه الحبر الذي يمارس مهمّته لدى البشر (7: 25) بقدرة تشفّعه لدى الآب الذي يقاسمه عرشه.
ثالثًا: تقادم وذبائح (آ 3 - 4)
اعتُبرت ليتورجية السماء شبيهة بليتورجية الأرض، فتضمّنت التقادم والذبائح (5: 1). وعظيم الكهنة وحده يقوم بعمل التكفير هذا في قدس الأقداس. ولكن بما أن يسوع كاهن، فبأي معبد ارتبط، وأية ذبيحة يقرّب؟ هو لا يستطيع أن يقدّم حيوانات. ومع ذلك، لا بدّ له (اناكايون) أن يقدّم شيئًا. إن يسوع هو الضحيّة (7: 27؛ أف 5: 2)، التي تتحدّث عنها عب 9: 14، 25. أما الآن فيقدّم المبدأ الذي يؤكّد أن المسيح يمارس في السماء خدمة كهنوتيّة حقيقية.
تبدأ الآية مع ((غار)) (لأن، الفاء) فتشرح الليتورجيا السماوية الحقيقية لهذا الخادم (ليتورغوس، آ 2) وتسند فكرة آ 1: يسوع هو كاهن في السماء، يخدم في المعبد الحقيقي، يقدّم دمه. نلاحظ صيغة الاحتمال (بروسانانخي): ذبيحة قُدّمت مرة لا غير (في 9: 5) نجد صيغة الحاضر (بروسفاري: ذبائح تتكرّر).
وتقدّم آ 4 البرهان عن خدمة المسيح الكهنوتيّة في السماء. المسيح كاهن. غير أنه لا يستطيع أن يخدم على الأرض: لا مكان له مع ناموس نظّم التقادم والذبائح، وحصر الكهنوت في قبيلة لاوي (ويسوع هو من قبيلة يهوذا، 7: 14). يسوع لا يمكن أن يكون حبرًا ولا كاهنًا (عد 16: 40). إذن، لا يستطيع أن يمارس كهنوته إلاّ في السماء. وهكذا جاء كهنوته يستبعد استبعادًا جذريًا كهنوت الأرض، كهنوت لاوي.
رابعًا: الصورة والظل (آ 5)
من الوجهة الليتورجيّة والعباديّة، تفوّق المسيحُ الذي يخدم في المسكن الحقيقي، على كهنوت لاوي. فالكهنة هنا هم خدّام عبادة لا قيمة لها في نفسها. وهيكلهم هو بالنسبة إلى المعبد السماوي، ما الصورة بالنسبة إلى الاصل، والظلّ بالنسبة إلى الحقيقة. ((هيبودايغما)) يعني المثال، النموذج (4: 11). هو نسخة طبق الأصل. رج ((دايكنيمي)) الذي يربط النسخة بالأصل. في الواقع، نسخة الهيكل السماوي غير كاملة. هي ظل (((سكيا))، رج 10: 1؛ كو 2: 17)، تمثّل مستور (مثل السحاب، يُظهر ويخفي). نقرأ فعل ((لاتروو))، خدم. هم يخدمون أشياء، لا الله الحيّ. وشتّان ما بين خدمة وخدمة. يبدو أن ((هيبودايغما)) تشير إلى الأغراض العباديّة (9: 23)، و ((سكيا)) إلى الأعمال العباديّة (10: 1). مهما يكن من أمر، فالذبائح رمز إلى الحمل المذبوح من أجل خطايا العالم. والحبر الداخل إلى قدس الاقداس مع دم الذبائح، هو صورة عن المسيح الذي يفتح السماء بسفك دمه.
إن التقابل بين المعبدين قد أعلنه الربّ (خر 25: 40) في وحي: خريماتيزو، نبّهه الله. رج 11: 7؛ 12: 25؛ مت 2: 12؛ أع 10: 22 (هنا صيغة المجهول الذي هو نادر). دُعي موسى لكي يتفحّص النموذج الالهي (تيبوس، ت ب ن ي ت، ماكيت في العربية الدارجة) لكي ينفّذه بالدقة الممكنة. فالليتورجيا السماوية كلها (بنتا، كما في السبعينية) هي نموذج لليتورجية الأرض. لهذا، أحاطت القداسة بالخباء الموسويّ.
خامسًا: خدمة أسمى وعهد أفضل (آ 6)
((نين دي)) (أمّا). نحن على المستوى المنطقيّ (9: 26؛ 11: 16؛ 1 كور 15: 20)، لا على المستوى الزمني (2: 8؛ 12: 26): مقابلة بين فرضيّة كهنوت المسيح على الأرض (آ 4 - 5) وخدمته الكهنوتيّة في السماء. بعد آ 5 ،نستطيع أن نقرأ: في هذا الهيكل السماويّ الذي شاهده موسى، نجد المسيح الذي يقوم بعمل الكاهن. إذن، خدمته تفوق الخدمة اللاويّة. وربط الكاتب بين ((لايتورغيا)) (خدمة، ليتورجيا) و((دياتيكي)) (عهد)، فاضاف فقرة جديدة: بما أن الليتورجيا الكهنوتيّة تناسب العهد، فعظمة الكهنوت تتناسب مع رفعة العهد. ((ديافوروس))، المختلف. ثم: المميَّز والسامي، وقد يعني المفيد. نجد التفضيل (مع كرايتون، رج 1: 4) الذي يتكرّر (أسمى، أفضل) فيدلّ على أننا أمام خدمة (وعهد) استثنائية، لا تصل إليها خدمة بشريّة.
كان موسى الوسيط بين الله وشعب اسرائيل فنظّم الليتورجيا الأرضية. ونال المسيح من الله وظيفة عباديّة يمارسها شخصيًا. نقرأ فعل ((تينخانو)) (م ص ا): أدرك، حصل، نال. يقال عن عون الله (أع 26: 22)، عن القيامة (11: 35؛ لو 20: 35)، عن الخلاص (2تم 2: 10). هذا الخلاص يقوم (رج 9: 15ي) بسفك دمه ليختم العهد الجديد ويجعله يحمل كل ثماره. فذبيحة الصليب والتشفّع في السماء، هما الليتورجيا التي عُيّن لها الكاهن الجديد، فيلعب دور الوسيط. كان موسى أيضًا الوسيط، ولكنه لم يمتلك الكهنوت، والعهدُ الذي كان وسيطَه (ماسيتيس) كان أدنى من العهد مع المسيح. ((نوموتاتيو)) يعني: جعل بشكل شريعة. فالعهد الجديد هو بطريقته الخاصة تشريع (يع 1: 25، ناموس الايمان؛ روم 3: 27، ناموس المسيح، غل 6: 2)، كما أن العهد القديم كان خبرًا طيّبًا (رج 4: 2 ،إونيغاليسمانوي).
يتميّز العهد الجديد، شأنه شأن العهد القديم، بالمواعد التي منحها الله للمؤمنين. قابل الذهبيّ الفم بين خيرات زمنيّة (تث 29 - 30) وبين خيرات روحيّة (آ 10 - 11؛ رج 7: 19؛ 11: 5). غير أن عب لا تشدّد على هذا التعارض. لهذا، نتحدّث فقط عن ثبات عطايا العهد الجديد: هي تتمّ في المسيح، فلا يقدر شيء أن يمنع تحقيقها، حتّى الخطيئة (آ 12).

ب - العهد القديم ناقص ومؤقت (8: 7 - 13)
بعد أن أعلن الكاتب أن هذا العهد ناقص، أورد نبوءة إرميا التي تتحدّث عن إحلال عهد محلّ عهد، ليقول في النهاية: إن هذا العهد شاخ وعتق وهو ذاهب إلى الزوال.
أولاً: بين أول وثان (آ 7)
مبدأ إحلال تدبير جديد (دوتاراس، ثان، رج 9: 6؛ 10: 9) محلّ آخر (بروتي، أول)، قرأناه في 7: 11 (الكهنوت اللاوي، كاهن آخر، هاتاروس). ففي منطق العناية الالهيّة، يعتبر النظامُ عتيقًا وعلى شفا الزوال، حين لا يقدر أن يلعب دوره وينال النتيجة المنتظرة (7: 18). إذا كان غير كاف، فقد حُكم عليه، وسيأتي آخر محلّه. ((توبوس))، حاجة، مناسبة (12: 17؛ عد 25: 16). وقد يعني: موضع المعبد (يُقطع فيه العهد بذبيحة). بما أن هذا المعبد لا يمكن أن يكون على الأرض (8: 4)، يجب أن يكون في السماء، في أورشليم السماويّة (8: 1 - 12: 22ي). ((توبوس)) هو موضع عبادة يختاره الله (تك 22: 3؛ تث 12: 5؛ 16: 2). وهنا، كما منع الكهنوتُ اللاوي المسيح من ممارسة كهنوته على الأرض (8: 14)، فالعالم اليهوديّ يمنع قطع عهد جديد. وهكذا انطلق الكاتب من دمار أورشليم وزوال الكهنوت اليهوديّ، للكلام عن كهنوت آخر وهيكل جديد وذبيحة واحدة هي ذبيحة المسيح على الصليب. ما دام العهد الأول حاضرًا، لا مكان للثاني. ولو كان الأول كاملاً، لما كنا نحتاج إلى الثاني. غير أن وجود العهد الثاني، أفهمنا أن الأول كان ناقصًا ويجب أن يزول.
ثانيًا: عهدًا جديدًا (آ 8)
هذا لا يعني أن العهد الأول الذي قطعه الرب مع شعبه كان ناقصًا. ولكن ممارسته كانت ضعيفة، فبدا غير كامل بالنسبة إلى الذين يربّيهم ويقودهم إلى الله. ويشدّد النصّ على مسؤوليّة الناس في الحكم على العهد القديم. قرأنا في آ 7: أماميتوس، لا لوم فيه، وفي آ 8 ((ممفومانوس)) (الجذر عينه، موموس، لوم): الله لام شعبه: بسلوكهم أتلفوا الخير الذي حملته الشريعة. ولكن هذا لا يعني أن العهد لم يكن فيه ما يؤمّن فاعليّته. كان بإمكان الله أن يجعل شعبًا بدل شعب. بل هو جعل عهدًا بدل عهد، عهدًا جديدًا يختلف كلَّ الاختلاف عن الأول.
إن إعلان إحلال العهد الجديد محلّ القديم نقرأه في نبوآت خلاص، في إر 31: 31 - 34 (حسب السبعينية). ماذا يقول النصّ النبوي؟ أعلن الرب بنفسه لجميع المنفيّين من اسرائيل ويهوذا الذين اتّحدوا وتابوا: انتهى الانقسام، وجاءت العودة إلى أورشليم. سيعودون إلى الأرض بفرح، ويكوّنون الشعب الجديد الذي يُشرف عليه عهدٌ جديد ونهائي. والحال أن التحرير من سبي بابل هو نموذج التحرير المسيحانيّ. هذا ما أعلنه الأنبياء مرارًا لاسرائيل الذي سيُعطى في زمن المسيح عهدًا لا يتبدّل (أش 54: 10؛ 55: 3؛ 59: 21؛ 61: 8؛ حز 16: 60؛ 37: 29). أما إرميا فشرح مضمون هذا العهد وبيّن أنه يحلّ محلّ القديم.
((ها إنها تأتي أيام، يقول الرب)). عبارة اسكاتولوجيّة نجدها عند إرميا (7: 32؛ 9: 24؛ 16: 14...) وعاموس (8: 11؛ 9: 13؛ رج أش 39: 6). بدّلت عب بعض ألفاظ النبي، فشدّدت على مبادرة الله والطابع النهائيّ لنظام الأشياء الجديد. وهكذا أبرزت فكرة الكمال: جاء العهد الجديد مختلفًا عن القديم، فكان ناجعًا ووصل إلى هدفه (تالايوسيس، 7: 11؛ رج 7: 28) بفضل دم المسيح ودخول الحبر إلى المعبد السماويّ.
لن تعود في العهد القديم عبارة ((عهد جديد)) (ب ر ي ت. ح د ش ه) لتدلّ على العهد المسيحاني، بل في قمران وفي بعض المدارش. استعادها يسوع (لو 22: 20؛ 1 كور 11: 25) وبولس (2كور 3: 6). وقالت عب ((دياتيكي كايني))(9: 51)، أو ((نيا)) (12: 24، رج مت 9: 17). ولكن مبدأيًا، تدلّ ((نيوس)) على الجديد والشباب والاصالة. أما ((كاينوس)) فتشير إلى صفة سامية. رج مت 26: 29؛ أف 4: 24؛ كو 3: 10. وهكذا وُصف تدبير الخلاص الذي رسمه المسيح، أنه السامي (2 كور 5: 17؛ رؤ 21: 5).
ثالثًا: لا كالعهد (آ 9 - 10)
((أخذت بيدهم، ب ي و م. هـ ح ز ي ق ي. ب ي د م)). أمسك باليد مع فكرة أعان، ساند (2: 8). يشبَّه الله بالانسان حين يتدخّل من أجل شعبه، كما تتدخّل الأم مع صغارها. تتقابل ((اوتوي)) (هم)، مع ((كاغو)) (أنا)، سلوك البشر وسلوك الله (في آ 10، إسوماي، أكون، اسونتاي، يكونون). والتقابل على مستوى الديمومة. فالقديم (دياتيكي) نُقض، وألغي بفعل بني اسرائيل، في نتائجه. رج تك 17: 14؛ عد 15: 31؛ تث 31: 16، 20؛ حز 17: 16، 19. هو شرّ القلب وقساوته (3: 7 - 11؛ أع 7: 51 - 53). ((هوتي)) (لهذا)، تخلّى الله عنهم. رذلهم (حز 16: 45). لن نجد مثل هذه العواطف في العهد الجديد الذي يكون نهائيًا ولا يُلغى إطلاقًا.
ويظهر الاختلاف بين العهدين في لغة إيجابيّة. ((ابيغرابسو)) (بدل غرابسو): كتب. عارض العهد الجديد العهدُ القديم الذي حُفر في ألواح من حجر. أما الجديد فتميّز بروحانيته: يدوّن في البصيرة، وفي القلب. وهكذا يكون الاتحاد تامًا مع الله، والعبادة عبادة بالروح والحقّ (يو 14: 23). كان توق العهد القديم (خر 6: 7؛ لا 26: 12؛ تث 26: 17 - 19...) أن يرى اسرائيل مكرّسًا للرب (أكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا). ولكن العهد الجديد حقّق وحده هذه الرغبة، فأعطى البشر مبدأ جديدًا، وحوّلهم تحويلاً بما فعله كاهنهم من أجلهم.
رابعًا: الجميع يعرفونني (آ 11 - 12)
بما أن هذا العلم يلج القلوب والبصائر، لا يحتاج الناس أن يعلّم بعضهم بعضًا. فالروح يعطينا المعرفة الدقيقة والضروريّة عن الله. كان الأنبياء قد تحدّثوا عن الأزمنة المسيحانيّة التي تتميّز بإلغاء الأصنام، بفيض نور الله، بشموليّة معرفة الله (أش 11: 9؛ 55: 5، حز 11: 19؛ 26: 26؛ يوء 2: 27). عاد المسيح إلى أش 54: 13 فأعلن أن تلاميذه يكونون تلاميذ الآب (يو 6: 45؛ رج 15: 15). رج 1تس 4: 9؛ 1يو 2: 27. نشير هنا إلى أن هذه المعرفة الحميمة والباطنيّة، لا تتنافى مع ضرورة الكرازة الرسوليّة (روم 10: 17).
قابل الشرّاح بين الوحي القديم وما فيه من نقص، والوحي الجديد الذي يحمل النور الكامل. فمنذ موسى، تعاقب الأنبياء وأضافوا تعليمًا على تعليم، وهكذا علّم الأخ أخاه. أما مع المسيح فلا تعليم جديدًا يُعطى لنا. كلهم، من صغيرهم إلى كبيرهم، نال الوحي في المسيح.
في آ 12، نقرأ ((هيلايوس)) (مت 16: 22). يهدأ غضب الله، وبالتالي يغفر الخطايا. رج ((س ل ح))، سامح (عد 14: 20؛ 1مل 8: 30، 34، 36، 39، 50). إن غفران الخطايا أمر جوهريّ في العهد الجديد، وهو يرتبط بمعرفة الله. فالقلب الذي تحوّل بالنعمة (آ 10)، قد تطهّر. هو غفران تام بحيث لا يعود الله يذكر الخطايا السابقة (10: 17؛ رج أش 38: 17). فبفضل الوسيط الجديد (آ 6)، لن تعود الخطيئة، كما في الماضي (أش 59: 2)، عائقًا في علاقاتنا مع الله، وتهديدًا بأن ننقض عهدنا معه. بهذا يتميّز العهد (دياتيكي) الجديد عن العهد القديم (2كور 5: 19).
خامسًا: الجديد والعتيق (آ 13)
استخلص الكاتب بإيجاز، كما فعل في 1: 14 (رج 10: 39) معنى الايراد البيبلي، بواسطة ألفاظ مترادفة، حين قال (إن تو لاغاين). رج 2: 8؛ 3: 15. توخّى هذا الاستشهاد أن يبيّن سموّ وساطة المسيح في العهد الجديد (آ 6). هناك لفظة ((كايني)) (جديد). لم يحوّل الله عهدًا كان موجودًا، لم يحسّنه (يرقعه)، ويعيد إليه شبابه، بل يعتبره عتق وشاخ (صيغة الكامل). نحن هنا أمام تجديد جذريّ يحلّ بكل بساطة محلّ نظام الأشياء العتيق. فعل ((بالايو)) يقابل ((ب ل ه)) (بلي في العربية). رج تث 8: 4؛ 29: 4؛ يش 9: 13؛ نح 9: 21؛ أش 50: 9...). ويُستعمل الفعل في صيغة المجهول (1: 11). والفعل ((شاخ)) (غيراسكو، أي 21: 18). سوف يزول بعد أن خانته قواه ((أفانيسموس)) (الزوال، ملحدة في العهد الجديد): زوال الكواكب في اليونانية. يقابل في السبعينية: ش م ه أو ش م م ه (مي 1: 7؛ 6: 16؛ 7: 13؛ يوء 1: 7؛ 2: 3). رج فعل ((أفانيزو)) عن تشريع عتُق فما عاد يُعمل به. في الواقع، لم يزل بعدُ العهد القديم، بل صار قريبًا من الزوال. متى يزول؟ في ملء الأزمنة. ((مثل شيخ رقد في القبر بعد أن لعب دوره خلال حياته))، كما قال تيودوريتس.

2 - قراءة إجماليّة
((ورأس الكلام في هذا الموضوع، أن لنا حبرًا كهذا، قد جلس عن يمين عرش الجلال في السماوات، خادمًا للمعبد والخباء (المسكن) الحقيقيّ، الذي نصبه الربّ، لا الإنسان)) (8: 1 - 2)
ويتواصل الموضوع ليصل إلى كهنوت المسيح الفريد. وسيبيّن البرهان أنه ليس هناك فقط وجهات انقطاع (عدم اتصال)، بل تقارب نمطي (تيبولوجي) بين نظام المعبد القديم مع موسى، ونظام ملكيصادق الأبدي الذي أقامه المسيح. فالنظام القديم، وإن كان ناقصًا ومؤقتًا، يتطلّع إلى نظام فاعل: طريق التكفير هي طريق الذبيحة البدليّة، مع الرجاء بأن يرسل الله الضحيّة الكاملة التي تزيل جميع الخطايا.
حين توسّع الكاتب في موضوع ملكيصادق، لم يقف على مستوى النظريات، بل انطلق من الواقع: الحبر الذي لنا. هو حقيقيّ ونحن نعرفه. وهو لنا، لأنه يختلف عن الكهنة اللاويين الذين يموتون، أما هو فيدوم إلى الأبد. رُفع إلى السماء فكان خادمًا في المعبد الذي هو الخباء الحقيقيّ، عكس خباء البرية. فمعبد البريّة هو الظلّ، أما المعبد الذي خادمه المسيح فهو الحقيقة. خيمة البرية صنعتها أيدي البشر، لهذا فهي تختلف عن المسكن السماويّ.
هناك معبد، ولكنه ليس على هذه الأرض. وهناك كهنوت يتمّ في المسيح حبرنا المجيد على رتبة ملكيصادق. فنحن لا ننتظر صورة من هذا العالم، بل حقيقة السماء. فيسوع سابقنا قد فتح لنا الطريق التي كانت مقفلة منذ خطيئة آدم (تك 3: 24). صرنا قادرين على الدخول إلى معبد الله والتنعّم بحضوره ورضاه. والراحة الأبدية التي فشل بنو اسرائيل في الحصول عليها، صارت لنا نحن المؤمنين به (4: 1ي). فمع أنه على عرشه في العلاء، فما زال معنا. وصعوده كان في الواقع عودة إلى مجد انحدر منه (يو 7: 33؛ 8: 14؛ 13: 3؛ 17: 5). ولكنها كانت عودة مختلفة. انحدر كابن الله، وعاد كابن الله وابن الانسان بعد أن تجسّد. انحدر كالرب، وعاد كالرب والخادم من اجلنا، في حضرة الله. انحدر كملك، وعاد كملك وحبر ومتشفّع من أجل هؤلاء الذين لم يستحِ أن يسمّيهم أخوته (عب 2: 11). انحدر كالسيّد، وعاد كالمخلص. ذاك الذي كان يسند الخليقة كلها هو قائد فدائنا وكافله (1: 1 - 3؛ 2: 10؛ 12: 2).
((فإن كل حبر يقام ليقرّب تقادم وذبائح. ومن ثم لا بدّ لهذا (الكاهن) أن يكون له، هو أيضًا، شيء يقرّبه. فلو أن (يسوع) كان على الأرض، لما كان كاهنًا، لأنه يوجد (كهنة) آخرون يقرّبون التقادم على حسب الناموس)) (8: 3 - 4)
بداية آ 3 هي استعادة لما قيل في 5: 1: أول واجبات الحبر، تقديم الذبائح. فعلى يسوع أيضًا أن يقرّب، وإلاّ لا يكون كاهنًا. هم يقرّبون تقادم وذبائح، هو يقدّم شيئًا واحدًا. فذبيحته واحدة وحيدة، قدّمها على الصليب.
وتقابل آ 4 (لو كان المسيح على الأرض، ولكن كهنوته أبدي) المسيح مع الكهنة. لو كان من الأرض، لما كان له موضع، لأنه ليس من قبيلة لاوي، بل من قبيلة يهوذا. إذن، كهنوته لا ينتمي إلى عالم الأرض. فهذا الذي مضى إلى السماء، هو ذاك الذي جاء من السماء. والمعبد الحقيقيّ الذي يظهر فيه الآن، في حضرة الآب، هو السماء بعينها (9: 24). فعالم كهنوته سماوي وأبدي، لا أرضي وزمني. وهكذا لا يتعلّق المؤمنون بالظلّ الذي على الأرض، بل بالحقيقة التي في السماء. فالحياة هي وقت الحجّ، لا وقت الراحة. وهذا العالم الحاضر هو موضع كل ما هو عابر، قبل تجديد كل شيء. ولهذا، ليس جديرًا بمن هو حبرنا إلى الأبد (4: 1؛ 11: 10، 13 - 16؛ 12: 2).
((فهؤلاء يقيمون خدمة هي صورة وظل لما في السماوات (أو: صورة وظل المعبد السماوي)، كما أوعز لموسى لما همّ أن يُنشئ المسكن (الخباء، الخيمة)، فقيل له: انظر، واصنع كل شيء على المثال الذي أُريته (= أراك الله إياه) في الجبل)) (8: 5)
ارتبطت خدمة كهنة لاوي بظل المعبد السماوي، بل بالواقع الحقيقيّ والأبدي. ولكن حين سُمّي الخباء ((الصورة والظلّ))، فهذا يعني أن خباء البرية قابل الواقع السماوي، وإن بدرجة محدودة. هو نسخة عن البناء، لا البناء بعينه. هو النموذج لا الواقع. هو ظلّ بقدر ما الظلّ يفترض جسدًا، ولكن الظلّ لا جسد له ولا جوهر.
ولكن المهم هو امتلاك الحقيقة، لا الظلّ. الجوهر، لا النسخة. وهكذا يظهر الاختلاف الاساسيّ بين نظام لاوي (الظل) ونظام ملكيصادق (الحقيقة). فالجديد لا يحلّ فقط محلّ القديم، بل يكمّله.
((أما هو (حبرنا، المسيح) فقد حصل الآن على خدمة أسمى بمقدار ما هو وسيط لعهد أفضل، مؤسّس على مواعد أفضل. لأنه لو كان (العهد) الأول بلا لوم، لما كان من داع إلى عهد آخر)) (8: 6 - 7)
بدأ الكاتب فأبرز التعارض الأساسيّ بين خدمة المسيح وخدمة النظام القديم. دُعي المسيح ((الخادم)) كما في آ 2 ،مع إشارة إلى حضوره الكهنوتي في المعبد السماوي. وهكذا كانت خدمته خدمة كهنوت فريد. خدمتُه أسمى من النظام القديم، ليس فقط لأن السماوي يرتفع فوق الأرضي، والواقع الأبدي فوق النسخة الزمنيّة، بل لأن العهد الذي وسيطه المسيح هو أفضل لأنه يشمل مواعد أفضل. وهكذا أكّد الكاتب مرّة ثانية تفوّق النظام الجديد على القديم. في 7: 22، صوّر المسيح ((كفالة عهد أفضل))، وهو قول يتأسّس على القسَم الالهي الذي شدّد على طبيعة كهنوته الدائمة (7: 21؛ مز 110: 4)، وعلى فاعليّة الذبيحة الأبديّة التي قدّمها. والآن يقال أنه وسيط عهد أفضل، تجاه عهد موسى الذي سمّاه بولس وسيط الشريعة (غل 3: 19). هذا العهد هو عهد القلب الذي يقول: ((إفعل هذا فتحيا)) (لو 10: 28؛ لا 18: 5؛ حز 20: 11 ،13، 21). في الإطار عينه، نقرأ ما يقول الانجيل الرابع: أعطيت الشريعة بموسى. وجاءت النعمة والحقّ (جوهر العهد الجديد) بواسطة يسوع المسيح (يو 1: 17).
تتفوّق وساطة المسيح على وساطة موسى، لأن العهد الذي تحمله ((مؤسَّس على مواعد أفضل)). فالعهد القديم ارتبط بالشريعة عبر وساطة موسى، بحيث إن التحوّل في الكهنوت يعني بالضرورة التحوّل في الشريعة (7: 11 - 12). وهذا التحوّل يتضمن إلغاء كل قواعد الشريعة حول الكهنوت اللاوي وخدمته، والاحتفاظ بشريعة أدبيّة بواسطة الابن المتجسّد الذي يستطيع أن يتحمّل عنا عقوبة تجاوزنا للشريعة ويُدخلنا في كمال برّه. فعمله الكهنوتي في التكفير، حرّك مواعد العهد الجديد وأتمّها حين طهّر ضمائرنا من موت الخطيئة. وغرس في قلوبنا محبّة الله والتعلّق بمشيئته، وجعل بيننا وبين خالقنا المصالحة التي دمّرتها اللعنة التي جلبناها بأنفسنا.
((فإن الله يلومهم إذ يقول لهم: ها إنها تأتي أيام، يقول الربّ، أقطع فيها مع بيت اسرائيل وبيت يهوذا، عهدًا جديدًا، لا كالعهد الذي قطعتُ مع آبائهم، يوم أخذتُ بيدهم لأخرجهم من أرض مصر. وبما أنهم هم أنفسهم لم يستمرّوا على عهدي، أنا أيضًا أهملتهم، يقول الرب. وهذا هو العهد الذي أعاهد به بيت اسرائيل، بعد هذه الأيام، يقول الرب: أحلّ شريعتي في بصيرتهم، وأكتبها على قلبهم، وأكون لهم إلهًا، وهم يكونون لي شعبًا. ولا يعلّم بعد أحدٌ مواطنه، ولا أحد أخاه، قائلاً: أعرف الرب، بما أن الجميع سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم، لأني سأغفر آثامهم، ولن أذكر من بعد خطاياهم)) (8: 8 - 12)
في هذه الآية التي تبدأ باستشهاد طويل من نبوءة ارميا، مع كلام عن العهد الجديد، لا يُذكر اسم فاعل الفعل. حرفيًا: يلومهم. فقد يكون الله أو النبي. أو يمكن أن نقرأ: يقول الكتاب. لا يمكن أن يكون الفاعل ارميا، لأن اسمه لم يُذكر، مع أنه هو الذي يتكلّم بفم الله حين يورد النبوءة قائلاً: قال الرب. لقد اعتاد كاتب عب أن يقدّم استشهادًا كتابيًا دون أن يحدّد المتكلّم. في الواقع، الله هو الذي يتكلّم. رج 1: 5؛ 6: 7، 8...
إن الميزة الرئيسية للعهد الجديد التي تظهر في هذا الاستشهاد، يمكن أن تلخَّص بما يلي. (1) إن النبوءة التي تلفّظ بها إرميا تشير إلى عصر آت، عصر النعمة والبركة. من هنا عطيّة الوعد الالهي: ستأتي أيام. في الواقع، كانت أيام إرميا أيام دمار وشقاء، لأن الله حكم على شعب عصى وصاياه واستخفّ بعهده. رفضوا البركة التي يعد بها العهد، فنالوا اللعنة المهدّدة (إر 11). لهذا، كانت نبوءة إرميا شعاع نور في ظلمة الارتداد عن الله، وتركيزًا على أيام مقبلة يحبّون الله فيها بالحقّ ويطيعونه. (2) تعود مبادرة العهد الجديد كلها إلى عمل الله المجانيّ. فالله هو الفاعلُ المنفّذ. وهذا العهد الجديد الذي يختلف عن العهد الموسويّ، يكون عهد نعمة، لا عهد أعمال بحسب الشريعة. يكون عهدًا جذريًا (لا خارجيًا)، دائمًا (لا زمنيًا)، يصل إلى عمق حاجات الانسان ويحوّل كيانه، لأن العمل، من البداية إلى النهاية، يكون عمل الله بذاته. (3) هذا العهد الجديد يجمع الذين انفصلوا بفعل العداوة والعنف، يجمع يهوذا واسرائيل. وهذا الجمع يرمز إلى شفاء البشريّة من جراحها، ومصالحة الشعوب والأفراد في المسيح، زرع ابراهيم، الذي فيه تتبارك جميع أمم الأرض وتتوحّد (غل 3: 8 ي). فالمسيح حطّم جدار العداوة (أف 2: 14)، وصالح العالم مع نفسه في المسيح (2كور 5: 19ي). (4) يتميّز هذا العهد الجديد كل التميّز عن القديم. لن تكون الشريعة مبدأ تبرير للخطأة، بل مبدأ شجب، لأنهم لم يستطيعوا أن يحفظوا فرائضها. لهذا قال بولس: ((لا يبرّر انسان بالنظر إلى أعمال الشريعة)) (روم 3: 20). هذا يفسّر سقوط الذين حافظوا على العهد مع الله في إطار النظام القديم. أهملهم. أما الجديد فيتميّز عن القديم بالوعد القائل بأن الشريعة تُكتب في القلوب بعد أن حوّلها المسيح بذبيحته التكفيريّة. في هذه الخليقة الجديدة، يفرح شعب الله ببركة متواصلة هي ثمرة حضور الله، وهذا يعني أنهم يعرفونه كلهم، من صغيرهم إلى كبيرهم.
وفي الوقت عينه، هناك نقاط اتصال بين العهد القديم والعهد الجديد. فالله الذي أقام الجديد هو الذي أقام القديم. فبما أن الله هو صاحب هذا وذاك، فكل منهما صالح ومجيد، وإن كان صلاح الجديد ومجده يتفوّقان على ما للقديم. وارتبطت الشريعة الواحدة بالعهد القديم والعهد الجديد. فمع أن المسيحيّ لا يتبرّر بأعمال الشريعة، فحين يحفظ الشريعة وينال نعمة من الذي قدّم نفسه عنه، تصبح الشريعة نموذج قداسة مطلوبة منه. وهكذا يصبح قادرًا على محبّة الله والطاعة لوصاياه، بعد بغض وعصيان عرفهما.
وعدَ الله فقال: أكون إلههم ويكونون شعبي. ولكن هذا يرتبط بممارسة العهد الموسوي. ولكن تكرّرت ارتدادات بني اسرائيل، فانقطعوا عن بركات هذا الوعد. لهذا جاء الله بعد عمل ابنه الفدائي، وحلول روحه القدوس، فأقام في شعبه الذي صار هيكل الله الحيّ (1بط 2: 5؛ 1كور 3: 16 - 17). ولكن هذا يتمّ في النهاية، مع دخول الأرض الجديدة والسماوات الجديدة، التي تقيم فيها جماعةُ المفديّين. عندئذ يسكن الله معهم، ويكونون شعبه، ويكون الله نفسه معهم (رؤ 21: 3). في تلك العلاقة الحميمة والمستمرّة، لن نحتاج أن ((نتعلّم)) الرب. فجميعنا سنعرفه. ومعرفة الله هي الحياة الأبديّة (يو 17: 3). بما أن جوهر الخطيئة هو رفض معرفة الله وتمجيده (روم 1: 18ي)، فبدون مغفرة الخطايا، لا تكون لنا معرفة الله ولن ننعم ببركة حضوره. لهذا، كان كلام عن الرحمة والمغفرة والمصالحة. في آخر الاستشهاد: أغفر آثامهم. لن أذكر خطاياهم. وهذا ما يتمّ لنا بواسطة مخلّصنا يسوع المسيح ووسيطنا الكاهن الذي قرّب نفسه من أجلنا فأحرز لنا فداء أبديًا.
((فبقوله عهدًا جديدًا، أعلن الأول عتيقًا، والحال أن ما عتق وشاخ هو على شفا الزوال)) (8: 13)
في نبوءة إرميا التي وردت هنا، تضمّنت تسميةُ عهد آخر، أن العهد الأول صار باليًا. عتق وشاخ. ففي النظرة النبويّة التي ركّزت على وعد أفضل وعهد أفضل (16)، بدا العهد القديم على شفا الزوال. فالقول النبويّ برهان واضح أن العهد القديم لا بدّ أن يزول فيحلّ محله العهد الجديد الابديّ، عهد النعمة. هذا يعني أن عب دوِّنت بعد أن زال العهد الاول والكهنوت الأول، وحلّ محله بشكل عمليّ العهد الثاني والكهنوت المسيحي. ولكن إن أخذنا بالاعتبار أن عب دوّنت قبل سنة 70 (كما يقول بعض الشرّاح)، هذا يعني أن الكاتب انطلق من نبوءة يسوع حول دمار الهيكل (مر 13: 2) فقال ما قال.

خاتمة
إن تفوّق الحبر الذي على رتبة ملكيصادق، يُقاس بسموّ المعبد الذي يخدمه. فالشريعة الموسويّة أسّست موضعَ عبادة تتمّ فيه الطقوس المقدسة: الخباء الذي نصبه موسى وخدم فيه بنو لاوي. اذن، لا مكان هنا لكهنوت آخر. غير أن الشريعة نفسها أعلنت أن المعبد الأرضي هو نسخة عن المعبد السماوي. في هذا المعبد السماوي خدم يسوع في حضرة الله، قدّم نفسه، فتفوّق على عظيم الكهنة في أرض اسرائيل. وارتبط بهذا الكهنوت الجديد عهدٌ جديد، عهد لا يستعيد الماضي، بل يعيد تكوينه. هذا العهد يتجسّد في القلوب فيوحّدها بالله، ويعطيها معرفته، ويؤمّن غفران الخطايا. عندذاك، تصبح الطريق إلى المعبد السماوي مفتوحة أمامنا فننعم بحضور الله. يزول العائق، ويسقط السيف الملتهب الذي يقفل باب الفردوس، فيعود الانسان ليتمشّى مع الله في الجنّة عند برودة المساء، لأن الرب هو الإله القريب لا البعيد. هو إلهنا، ونحن شعبه وغنم مرعاه.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM