الفصل التاسع عشر: تفوّق الكهنوت الجديد

 

الفصل التاسع عشر

تفوّق الكهنوت الجديد
7: 20 - 28

نحن هنا في المقطع الثاني (7: 11 - 28) من الاتجاه الأول (7: 1 - 28)، في حديث عن كهنوتين. تحدّثت الآيات 11 - 19 عن الكهنوت القديم الذي حلّ محلّه كهنوت آخر. وها نحن في آ 20 - 28 ،نتأمّل في تفوّق الكهنوت الجديد. هو يتفوّق لأنه يرتبط بقسَم (آ 20 - 22). هو يتفوّق لأنه يدوم (آ 22 - 25 ). وتأتي الخاتمة (آ 26 - 28) فتصف ذاك الحبر الجديد: قدوس، زكي، بلا عيب. وهكذا بدا المسيح في ما تفوّق به كهنوته على كهنوت لاوي، أنه كفيل العهد النهائيّ، وأنه يتشفّع من أجلنا.

1 - تفسير الآيات
تقسم هذه المقطوعة ثلاثًا: نظام ثابت، نظام أبديّ. والنتيجة: حبر قدوس.

أ - نظام ثابت (7: 20 - 22)
إن ((كاي)) (واو العطف) تبدأ مرحلة جديدة في التأويل كما في آ 15 وآ 23. يتابع الكاتب تفسير مز 110: 4 ،فيكتشف برهانًا جديدًا لتفوّق الكهنوت الجديد: في أصله قسَم من الله يرفعه. ينتج عن هذا أن يسوع (يتكرّر اسم يسوع باحتفال في آ 22؛ رج 2: 9؛ 6: 20) الذي كرِّس كاهنًا، هو كفيل عهد كامل. فما يوصف به هذا العهد يوصف الوسيط. أما سموّ الوسيط فيظهر في طقوس تسلّمه وظيفته: ((كات هوسون)) (بقدر، رج 3: 3؛ 9: 27)... ((كاتو توسوتو)) (آ 22 ، بقدر ذلك): بقدر ما هو عظيم لأنه لم يكن كاهنًا بغير قسم... بقدر... هذا ما يدعونا إلى القول: الكهنوت مع قسم هو بالنسبة إلى الكهنوت بدون قسم ما هو العهد الجديد بالنسبة إلى القديم.
نجد في هذه الجملة الطويلة (آ 20 - 22) معترضة (تبدأ مع ((أولئك)) وتنتهي مع ((الابد)) ونهاية آ 21) تجعل معارضة جذريّة بين واقع القسم الالهيّ في وضع يسوع، وغيابه في كتاب الطقوس اللاوي. بغير (خوريس) قسم (هوركوموسيا)، مع (ماتا) قسم. رج فعل ((أقسم)) (هوموسن). نلاحظ الاهميّة الدفاعيّة التي يوليها الكاتب للقسم (6: 31). لا شكّ في أن الله لا يحتاج إلى ما يُسند أقواله. ولكن عب تحدّثت عن الله بطريقة بشريّة، فقالت إنه أقسم، وهذا يعني أنه لن يتراجع: ((السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول)) (مر 13: 31). فإن هو أقسم، فتنازلاً نحو البشر، الذين يريد أن يقنعهم بأهميّة قراره الذي لا يتبدّل (تك 22: 16). إن لفظة ((هوركوموسيا)) (قسم) لا ترد في العهد الجديد إلا في عب (آ 20، 21، 28)، وفي العهد القديم، في حز 17: 18 - 19 في علاقته مع ((دياتيكي)) (عهد). هي عمل به يُقسم الانسان. رج ((اوركوس)) (6: 17). توجّه الله إلى المسيح فأقسم له أنه سيكون كاهنًا، وسيدوم كهنوته. وما يدلّ على لاتبدّل هذا الكهنوت، ما قاله الله لداود: هو لا يعود عن قراره ولا يندم (رج روم 11: 29، لا ندامة في هبات الله ودعوته).
لا شكّ في أن ترتيبًا فخمًا أحاط بتكريس هارون وأبنائه، فأبرز كرامتهم (خر 28 - 29؛ لا 8 - 9). غير أن هذه الاغتسالات والمسحات واللباس والعطور والذبائح، لا تقابَل بتكريس المسيح بيد الله ذاته. ما ألزم الله نفسه تجاه الكهنة اللاويين. أما يسوع الانسان فهو عطيّة الله وعربون عهده بالنظر إلى القسم الذي يصف كهنوته. ((انغووس)) (مراحدة في العهد الجديد، رج 2مك 10: 28) هي لفظة قانونية تعني الكفيل، الضمانة. هو الذي يأخذ على عاتقه الواجبات القانونيّة في عقد من العقود. حسب سي 29: 15، قد يُجبر على التضحية بحياته.
إذا كانت عب تعتبر المسيحية رجاء (آ 19)، وأن الخلاص لا يجد تتمته وكماله إلاّ في المستقبل، فمن الطبيعيّ أن ترى ضرورة الكفالة (والطمأنينة) تجاه تحقيق المواعيد الالهيّة. لهذا، فهي تقدّم المسيح ككفالة حيّة، كذاك الذي يمثّلنا أمام الله، والله وضع خلاصنا في يده (إنغيس). ولقد تجاوز يسوع كل الصعوبات التي تعترض كمال الخلاص، منذ ولادته حتّى دخوله إلى السماء (6: 20). ولكن كهنوته المؤسَّس على قسم الله، يدعونا إلى ثقة مطلقة. فهو يكفل واقع العهد الجديد وفاعليّته (رج 6: 17، ماسيتاواين). فالذي يرتّب خيرات الارادة الالهية، لا يغيب عن البشر في حاجاتهم. ونقرأ ((كرايتون)) (أفضل) التي تصف ((دياتيكي)) (عهد، تُذكر هنا للمرّة الأولى). تحدّثت آ 19 عن رجاء أفضل، وآ 22 عن عهد أفضل. أما الكفالة العظيمة التي يعطيها الكاهن الأعظم فذبيحة الصليب التي لا تنفصل عن القيامة التي هي عربون قيامتنا، كما قال تيودورس المصيصي.

ب - نظام أبدي (7: 23 - 25)
وتفوّقٌ جديد للمسيح الكاهن على الكهنوت اللاوي هو دوامه بحيث يلغي كل كهنوت آخر. هو فريد لأنه أبديّ. مات نسل هارون (فنحاس، اليعازر)، الواحد بعد الآخر، فحلّت الأجيال اللاحقة محلّ الأجيال السابقة، وتكاثرت. وهذا العدد الكبير من الكهنة، شكّل نقصًا. ولكنه كان ضرورة فرضها الموت. رج المصدر في صيغة الحاضر (تكرار): كولواستاي (يحول، يمنع). ونقرأ في آ 23: بارامانو (لا نجده إلاّ في فل 1: 25؛ تك 44: 33؛ أم 12: 7): بقي، لبث على قيد الحياة، ظلّ ثابتًا.
أما المسيح (آ 24) الذي كرّسه القسَم الالهي كاهنًا إلى الأبد، فهو يدوم دومًا، ويزاول وظيفته الكهنوتيّة بلا انقطاع. نقرأ هنا الفعل المجرد ((ماناين)) الذي هو أقوى من المزيد ((باراماناين)) (آ 23)، رج آ 3؛ يو 12: 34 (المسيح يبقى إلى الأبد). معناه معنى لاهوتيّ نجده في السبعينية: يدلّ على دوام الله وصفاته تجاه حياة الانسان العابرة. ((فالله هو الحي والباقي إلى الدهور)) (دا 6: 27؛ رج مز 9: 8؛ 33: 11؛ 102: 13؛ أش 7: 7؛ 14: 24). فهذه النظرة إلى الديمومة التي تميّز الله وأعماله، نجدها في روم 9: 11؛ 1كور 13: 13؛ 1بط 1: 23، 25، بحيث نرى في عب إعلانًا عن أبديّة المسيح وكهنوته وبالتالي لاهوته. فلا سلطان للموت على الذي هو كاهن ((بقوة حياة لا تزول)) (آ 16). ونقرأ ((أباراباتوس)) (مراحدة بيبليّة): لا ينتقل من شخص إلى آخر.
وتشكّل آ 25 انتقالة تختتم برهان آ 20ي (هوتن كاي، ومن ثمّ) وتبدأ مديح يسوع الكاهن القدوس (آ 26 - 28). نجد في هذه الآية تحديدًا عن الوظيفة الكهنوتيّة التي قام بها يسوع وحده بشكل كامل. فالكاهن هو وسيط (دي اوتو، به، كو 2: 20) يخلّص البشر، يخلّصهم (سوزاين) الآن (صيغة الحاضر) من الخطيئة ويوحّدهم بالله: هذا هو الخلاص التام الناجز (بنتالس، لو 13: 11). يسوع يقدر أن يخلّص إلى الأبد، ويخلّص دومًا، فيقود الخلاص المدشّن (بموته وقيامته) إلى النهاية (2: 3). رج ((بروسارخوماي)) (تقرّب) وقابل مع ((إنغيزو)) الذي نقرأه في آ 19 (نقترب إلى الله). هناك أولاً المعنى العباديّ (4: 16): لا نقترب إلى الله بدم الحيوانات المنحورة، بل بذبيحة المسيح. ثانيًا، بالنظر إلى الرجاء: نتابع المسيرة بقيادة ((ارخيغوس)) (2: 10)، مسيرة الحياة المسيحيّة (يو 14: 6)، وهي تقدر (ديناتاي، رج ديناميس في آ 16) أن تصل إلى هدفها بفضل المسيح.
وتتكرّر أيضًا هذه القدرة وهذا التفوّق: أزليّة المسيح الكاهن. إذا كان سبقنا (6: 20)، فهو ما زال حيًا في السماء (بنتوتي، في كل وقت، وهذا ما يقابل أيام الأبد مع أيام الأرض، رج مت 26: 11؛ فل 1: 20) لكي يمارس فيها مهمته الكهنوتيّة كمخلّص (ايس تو، لكي: هذا ما يدلّ على الهدف الذي تصبو إليه) ومتشفِّع. لقد صعد يسوع إلى السماء، وكان حاضرًا لدى الله، لكي يمارس وساطته من أجل البشر. وهكذا نفهم أنه، إن تمّت ذبيحة المسيح مرّة واحدة، فشفاعته متواصلة وقدرته لا تزول.

ج - حبر قدوس (7: 26 - 28)
هذه الآيات الثلاث حول قداسة المسيح الشخصيّة ونشاطه الكهنوتيّ، توجز ف7 (إن ((غار))، الفاء، توضح امكانيّة التخليص في آ 25)، وتهيّئ موضوع الذبائح الذي سيُعالج في ف 8 - 9. فهذا الحبر الذي على رتبة ملكيصادق، كما صوّر منذ آ 1 وفي دوره كمتشفّع (آ 25)، يتجاوب تجاوبًا كليًا مع حاجات البشريّة الخاطئة (ولا سيّما المسيحيين، يلائمنا نحن، هامين. رج آ 25: فيهم؛ 3: 6: بيت الله) التي تتوق إلى الطهارة من كل دنس للاقتراب من الله. هو حبر يلائمنا (برابو، رج 2: 10). هذا ما أقرّته حكمة الله. لسنا أمام قرار اعتباطيّ. هي ملاءمة بالنظر إلى البشر وإلى حاجاتهم.
إن تشفّع كاهن خاطئ لا يفيد شيئًا. فإن أراد أن يسمعه الله، وجب عليه أن يتوجّه إليه بشفتين نقيّتين (1تم 2: 8). أما حبرنا فهو قدوس. القداسة المطلقة. ((هوسيوس)) (نادرة في العهد الجديد، ترد 55 مرة في السبعينية، منها 25 مرة في المزامير. تترجم لفظة ((ح س ي د)): تقي، ورع).
المسيح مكرَّس لله ككاهن (آ 17 - 21)، وهو حبر (في مز 132: ،9 16 نجد ((كاهن)) مع ((قديس))) ثم نقرأ: منزّه (كاخوريسمانوس) عن الخطايا. هذا ما يُقال عن قداسة الله (تث 32: 4؛ مز 145: 13، 17؛ رؤ 15: 4؛ 16: 5). وقداسة المسيح ترتبط بشعائر العبادة. في العهد القديم، ((هوسيوي)) هم أعضاء الشعب المختار (حك 4: 15) والنفوس التقيّة التي تخاف الله (أم 10: 29)، تخضع لوصاياه (حك 6: 10؛ 18: 9)، ترجوه (مز 86: 2)، تحبّه (مز 31: 24)، تنتظر عونه (مز 37: 28؛ 43: 1؛ 97: 10؛ 116: 15؛ حك 4: 15؛ 10: 15). ويتميّز هؤلاء الاتقياء بنشاطهم العبادي: يصلّون إلى الله ويسبّحونه (مز 30: 5؛ 32: 6؛ 145: 10؛ 149: 1)، مثل الكهنة الذين يخدمون الله في هيكله ويقتربون منه (148: 14). هكذا المسيح الحبر هو ((هوسيوس))، لأنه أتمّ إرادة أبيه (10: 5 - 10)، وأظهر ورعه (أولابايا، 5: 7) فتكرّس لخدمة مجد الله.
وأخيرًا، المسيح قدوس على المستوى الاخلاقيّ. فهو يمتلك الكمال الذي لا ينقصه شيء. من هذا القبيل ((هوسيوس)) ترادف ((تالايوس)) (كامل)، ((أغنوس)) (نقيّ، رج 2كور 7: 11؛ 11: 2) ((ديكايوس)) (بار، صدّيق، تث 32: 4؛ مز 145: 17)، ((أتوأوس)) (مز 18: 26)، ((اممبتوس)) (لا عيب فيه، حك 10: 15؛ أف 2: 10)، ((أموموس)) (بريء، 9: 14؛ 1بط 1: 19). هو الحبر الأمين (3: 1ي) الذي ينفّذ تنفيذًا كاملاً مهمّته كوسيط، حسب بنود العهد الجديد. هو بعيد عن كل لوم، وطاهر بحيث يقدر أن يطهّر جميع الخطأة.
هذا الكمال الخلقيّ وهذه الاستقامة التي لا غبار عليها، نقرأهما أيضًا في صفتين: ((أكاكوس)) لا شرّ فيه. هو الشخص الصالح والنقيّ القلب الذي يرضى الله عنه (أي 7: 20؛ 36: 5؛ مز 25: 21، ت م، أي التامّ الذي لا نقص فيه). المسيح هو كاهن وضحيّة بلا خطيئة. رضي الله عنه لأنه نقي بريء. هذا ما يشير إليه ((أميانتوس)): بدون نجاسة ماديّة وأدبيّة. تستعمل هذه اللفظة للكلام عن العفّة (13: 4؛ رج حك 4: 2؛ 8: 20)، وعن تكريس الهيكل (2مك 14: 36؛ 15: 34)، وعن الديانة المثاليّة (يع 1: 27). فنقاوة يسوع الكاملة هي سماويّة (1بط 1: 4). هي طاهرة وتعمل عمل النور فتطهّر كل نجاسة فينا. إلى مثل هذا الكاهن نحتاج، وهو يؤدّي خدمته لأجلنا أمام عرش الله.
هذه الألفاظ الثلاث (قدوس، زكي، بلا عيب) تشير إلى صفات عباديّة تجعل الكاهن جديرًا بأن يقوم بوظائفه. هي تتعارض مع قداسة كهنوت هارون حسب الشريعة، وهي تفرض كمال الجسد (لا 21: 17) والنقاوة الطقسيّة (لا 21: 11). أما حبر المسيحيين فيمتلك كمالاً داخليًا، ودينيًا، وخلقيًا، وكاملاً، يرتبط بشخصه الالهي (آ 28). لهذا، لا نجسَ يستطيع أن يلامسه، وهو لا يقيم بعد مع الخطأة، مع أنه عاشرهم في حياته (مت 9: 10؛ 11: 19) فحُسب منهم، وسلّم إلى أيديهم (مر 14: 41). بعد الصعود، ما عاد يتّصل بهم، فارتبط تكريسه لله بحالة من الانفصال والابتعاد (خوريزو، صيغة الكامل، المجهول، منزَّه). ابتعد عن الخطيئة بُعد السماء عن الأرض (1: 10؛ 4: 14). ذاك هو وضع الله المميَّز (مز 57: 6؛ أي 22: 13؛ أم 30: 4)، وابنه (رؤ 12: 5؛ أف 4: 10). هذا يعني أن هذا الحبر ليس على رتبة البشر.
هذه التأكيدات العقائديّة تكمّل الأقوال حول ضعف المسيح (4: 15؛ 5: 2 - 8). إذا كان المخلّص قد تعاطى مع شقاء البشر، إلاّ أنّ عليه أن يكون بريئًا ولا عيب فيه لتكون شفاعته ناجعة لدى الله. والصفات الضروريّة لحبر العهد الجديد هي في النهاية انتصاره على الخطيئة. هو القدوس القدوس، وقداسته علّة سموّه في ممارسة كهنوته بالنسبة إلى عظيم الكهنة في العهد القديم.
ولمّحت آ 27 (رج آ 3) إلى لا 16: 6 - 11 الذي يفرض على الحبر، في يوم التكفير، أن يقدّم ثورًا عنه وعن بيته قبل أن يذبح تيس الخطيئة لتطهير خطايا الشعب. كان هذان الطقسان يتمّان مرّة في السنة (9: 7 ،25). أما المسيح فلا حاجة أن يُقدّم ذبيحة عن خطاياه اليوميّة مثل رؤساء الكهنة. فهو بلا خطيئة (آ 26). ثم لا يحتاج إلاّ أن يكرّر الذبائح عن الشعب، فقد فعل ذلك مرة واحدة (إفاباكس، 10: 10؛ روم 6: 10؛ 1كور 15: 6). نقرأ فعل ((أنافارين)) ، قرّب (ع ل ه في العبريّة). بدأ ف 7 فجمع الكهنوت إلى الملك. وها هو يجمع الكاهن إلى الضحيّة (تيسيا).
وجاءت آ 28 تستعيد ما قيل بشكل تعارض. فالناموس وكلمة القسم (مز 110) يتعارضان كينبوعَي تأسيس الكهنوت (كاتيستيمي، جعل في وظيفة، 5: 1؛ تي 1: 5). من جهة، هناك أناس (انتروبوي) ضعاف وخطأة. ومن جهة ثانية، ابن (هيوس) الله الأزليّ. وهناك الكامل تجاه ((ضعفاء))، يمتلكون الضعف، خاضعون للضعف. المسيح هو الحبر الوحيد الذي جُعل كاملاً ويظلّ كاملاً إلى الأبد. كمال على المستوى الخلقي (بدون خطيئة، كما قال الذهبي الفم). كمال على مستوى الدعوة الكهنوتية. كمال الذبيحة التي انتهت بالدخول في المجد.

2 - قراءة إجماليّة
((وهذا لم يكن بغير قسم، وأولئك صاروا كهنة بغير قسم. أما هو فبقسم ممّن قال له: أقسم الرب ولن يندم: أنت كاهن إلى الأبد. ومن ثمّ فيسوع صار ضمانة لعهد أفضل)) (7: 20 - 22)
قدّم لنا مز 110 حلقة أخرى في سلسلة البراهين، التي تدلّ على تفوّق نظام ملكيصادق على نظام لاوي. فالكاهن إلى الأبد الذي وجد فيه كهنوت ملكيصادق كماله، هو ضمانة عهد أفضل، لأن هذا الكهنوت قد أقامه الله بقسَم، عكس السلسلة اللاويّة. فحين عقد الله عهدًا مع ابراهيم (6: 13ي) من أجل وعد، ثبّته بقسَم، فدلّ على أن هدفه لا يتبدّل (6: 17). وما يصحّ في العهد مع ابراهيم، يصحّ أيضًا في تأسيس نظام ملكيصادق. فهنا أيضًا حلف الله، فدلّ على أن وعده ثابت.
بالاضافة إلى ذلك، لا تُدعى كل أحكام الله لكي تتواصل على الداوم. وهذا ظاهر، في هذا الاطار، في وضع العهد القديم والكهنوت المرتبط به. لقد برهن الكاتب (آ 11) أن الاشارة إلى نظام كهنوت آخر في مز 110، تدلّ على الطبيعة العابرة للكهنوت اللاوي الناقص. وها هو يرى أن كهنوت ملكيصادق لم يقم بدون قسم. أما كهنوت هارون، فلا يرتبط بقسم إلهي.
في زمن موسى، ارتبط العهد القديم (الذي هو أدنى) بالكهنوت القديم. ومع المسيح، ارتبط العهد الجديد بالكهنوت الجديد: هذا جاء بقسم على أساس كمال التقدمة الكهنوتيّة. أما الضمانة فيسوع المخلّص المتجسّد من أجل بشريّتنا. هو الكفيل، وهو إلى الأبد. لهذا، لن يُلغى العهد الذي قطعه، فسمّته عب 13: 20: ((العهد الأبدي)).
((كان أولئك كهنة كثيرين، لأن الموت كان يحول دون بقائهم. أما هو، فلكونه يبقى إلى الأبد، له كهنوت لا ينتقل. ومن ثمّ، فهو قادر أن يخلّص تمامًا الذين به يتقرّبون إلى الله، إذ إنه على الدوام حيّ ليشفع فيهم)) (7: 23 - 25)
ما نلاحظ لدى الكاتب حين يتوسّع في برهانه، هو اعتبار يقول إن نسل هارون كانوا كهنة كثيرين. فتكاثرهم في سلسلة طويلة امتدّت على مئات السنين، فرضتها ضرورة: هم مائتون. يموت كاهن فيحلّ محلّه كاهن آخر. وهكذا يكون الانتقال من كاهن إلى كاهن، ومن جيل إلى جيل. لهذا نظّم التشريع السلالة الكهنوتيّة. أما المسيح فلا مكان له في هذه السلسلة التي تتحدّر من هارون، من قبيلة لاوي. لهذا، كان كهنوته مختلفًا. غير أن السبب الأهم لأن لا يكون يسوع عرضة لتنظيم القرابة والتسلسل، هو أن كهنوت المسيح يتميّز بقوة حياة لا تزول (آ 16). فهو ككاهن يدوم إلى الأبد، كما يقول المزمور، فلا يحتاج إلى من يحلّ محله. فبما أنه لا يموت، فكهنوته لا يموت وبالتالي لا يعبر إلى آخرين. هنا نتذكر روم 6: 9: ((نعرف أن المسيح قام من بين الاموات ولا يموت بعد، ولا سلطة للموت عليه))، ورؤ 1: 17 - 18: ((أنا الأول والآخر. أنا الحي. متُ وها أنا حيّ إلى الأبد)).
وهناك حقيقة ثانية: وسيطنا وحبرنا يدوم إلى الأبد. فهو يعمل في كل زمان. وعمله كامل من أجلنا، وبه نقترب من الله. فكيف نرجو أن نقترب من الاله الأزلي مع كاهن مائت أو عرضة للموت؟ وككاهن ليس فقط الحيّ إلى الأبد، بل هو يشفع فينا إلى الأبد في المعبد السماوي. فمع هذا الشفيع الذي يُسندنا بقوّته ويحيط بنا بمحبّته، لا قوّة تنتصر علينا (فل 4: 13؛ روم 8: 37).
نسب المعلّمون شفاعة إلى الملائكة، فحلّ تشفّعهم محلّ تشفّع المسيح. لهذا أعلن الكاتب أن المسيح هو الوسيط الوحيد في العهد الجديد والشفيع الوحيد، لأن شفاعته هي نشاط وساطته (1تم 5: 5؛ روم 8: 34؛ 1يو 2: 1 - 2). فمن طلب شفاعة الملائكة قام بعمل نافل، بل خطئ ضدّ الثقة بالمسيح وكأنه لا يكفي كشفيع فيحتاج إلى من يعينه (مثلاً، ظنّ اليهود في السنين الاولى أن المسيح لا يكفي من أجل الخلاص، فأضافوا الختان). في الواقع، نحن نكرم الخليقة مع (أو محلّ) الخالق الذي وحده افتدانا (روم 1: 25). وهذا التشفّع لا يعني أن الابن يرافع من أجل البشريّة ليحصل لها على شيء من الآب. فعمل الخلاص من أجل البشرية هو ثالوثيّ، عمل الآب والابن والروح القدس. والابن هو التعبير البشري عن موقف الآب تجاهنا. في هذا قالت روم 8: 32: ((لم يشفق على ابنه الخاص، بل أسلمه عنا جميعًا، فكيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء)).
((فذلك هو الحبر الذي كان يلائمنا، حبر قدوس، زكيّ، بلا عيب، قد تنزّه عن الخطأة، وصار أعلى من السماوات، لا حاجة له أن يقرّب كل يوم، مثل الأحبار، ذبائح عن خطاياه الخاصة أولاً، ثم عن خطايا الشعب، لأنه فعل ذلك دفعة واحدة حين قرّب نفسه. فالناموس إذن يقيم أحبارًا أناسًا ضعفاء. أما كلمة القسم، التي عقبت الناموس، فتقيم الابن كاملاً إلى الابد)) (7: 26 - 28)
تحدّث الكاتب من قبل (2: 10) عن قائد خلاصنا الذي صار خلاصه كاملاً بالآلام. وها هو الآن يتحدّث عن صفات هذا الحبر، بالنسبة إلى حاجاتنا. اذن، وساطة كاملة لا وساطة بعدها. خلاص ناجع لا وجود لخلاص بعده. حبر قدوس. تحدّث تيودوريتس عن قداسة المسيح في ارتباط بالله، في ارتباط بالبشر، في ارتباط مع نفسه. أما تسمية قدوس فلها وجهة مسيحاويّة في نظر الرسل. هكذا استعمل بطرس في عظة العنصرة مز 16: 10 (لا تترك قدوسك يرى فسادًا) فطبّقه على قيامة يسوع وكمال النبوءة (أع 2: 27؛ رج 13: 35). ويتواصل سرد الصفات. زكي. فجذور الشرّ التي فينا ليست فيه. بما أنّه بلا عيب، انفصل عن الخطأة. هكذا، لا يحتاج إلى أن يقدّم ذبيحة عن خطيئته قبل أن يقدّم عن الشعب. وأخيرًا، حبرنا حسب ملكيصادق صار أعلى من السماوات (4: 14)، تسامى فوق كل شيء بانتصاره في القيامة والصعود والجلوس المجيد عن يمين الآب، بشكل يفوق الوصف.
وهذه القداسة والتنزّه عن الخطيئة والرفعة، جعلت المسيح يختلف كل الاختلاف عن كهنة ما زالوا على مستوى البشر. لهذا، ظلّ عملهم بشريًا. هم ضعفاء مثل البشر فكيف تكون فيهم قوّة حياة لا تزول (آ 16). هم خطأة، فكيف يتشفّعون في الخطأة. هم مائتون فكيف يدومون. وتتكرّر ذبائحهم. أما ذبيحة يسوع فواحدة. قدّم نفسه مرة واحدة، قرّب نفسه لأنه بلا عيب.
وفي النهاية، يعود الكاتب إلى العلاقة بين الناموس والكهنوت اللاوي (آ 11 - 12). فضعفُ الأحبار يرتبط بنظام قديم في وجهتين: هم مائتون. لهذا، يمنعهم الموت من متابعة وظيفتهم (آ 23). هم خطأة. لهذا يحتاجون إلى أن يقرّبوا أولاً عن نفسهم (آ 27). كان هؤلاء الكهنة ضعفاء، فما استطاعوا أن يقدّموا تكفيرًا لامحدودًا في قيمته وأبديًا في فعله. لا شكّ في أن عب ضمّت الضعف إلى وظيفة المسيح الكهنوتيّة، حين أخذ بشريتنا في فعل التجسّد، وهذا الضعف ظهر في التعب، في التجارب التي جابهها (2: 14ي؛ مت 4: 2؛ مر 4: 38؛ يو 4: 6)، في الألم الذي قاساه (عب 5: 7 - 8)، وأخيرًا في الموت (7: 27؛ 12: 2). وكل هذا لكي يتعاطف مع ضعفنا (4: 15). أما الآن، فنراه يختلف كل الاختلاف عن الكهنوت اللاوي، لأن كهنوته لم تلطّخه الخطيئة ولا ينتهي بالموت. فانتصر على ضعفنا في ما انتابه: في التجربة، لم يعرف الهزيمة. في الألم، ثبت حتى النهاية. في الموت، كان السيّد بمجد القيامة (يو 10: 18). وانتصر حين تعلّم الطاعة فصار كاملاً عبر آلامه (2: 10؛ 5: 8 - 9). هكذا نفهم ما يعني وصف المسيح الذي صار كاملاً إلى الأبد تجاه كلام عن بشر ضعفاء جعلتهم الشريعة أحبارًا.

خاتمة
جاءت المقطوعة السابقة (آ 11 - 19) تحدّثنا عن حياة لا تزول (آ 16)، وعن رجاء أفضل (آ 19). هكذا يتفوّق كهنوت على كهنوت. وهنا نكتشف ميزتين جديدتين: كهنوت لا يتحوّل ولا يتبدّل. كهنوت يدوم إلى الأبد. فكاهننا لا يموت. هو كفيل العهد النهائي. وهو يتشفّع عنا. أجل، يسوع هو المخلّص الذي يعرف ضعفنا ويأتي إلى عوننا. هو بعيد عنا وهو قريب منا. هو لا يحتاج إلى كفّارة بل هو يكفّر عن خطايانا. اختلف كل الاختلاف عن الكهنة اللاويين، فكانت مهمّته في خدمته الكهنوتيّة كاملة بعد أن حمل إلى المجد إخوة كثيرين.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM