الفصل الثامن عشر: إلغاء الكهنوت القديم والناموس القديم

الفصل الثامن عشر

إلغاء الكهنوت القديم والناموس القديم
7: 11 - 19

هذا هو المقطع الثاني في الاتجاه الأول وهو يتكلّم عن كهنوتين في خط مزمور 110. أما الموضوع الأساسي فهو أن الكهنوت القديم لا يكفي. لهذا، يجب أن يحلّ محلّه كهنوت آخر. مقطوعة في شقين، وكل شقّ ينطلق من مبدأ ومن واقع. في الشق الأول (آ 11 - 14)، المبدأ يقول: اللافاعليّة تجرّ واءها التحوّل. أما الواقع، فهو أن ربنا ليس من قبيلة لاوي، بل من قبيلة يهوذا التي ليست قبيلة كهنوتيّة. وفي الشق الثاني (آ 15 - 17)، الشبه يثبت الواقع. والواقع هو شبه المسيح مع ملكيصادق. لهذا، يدوم كهنوته. أما الخاتمة (آ 18 - 19) فتعلن إلغاء النظام القديم الذي لا نفع فيه.

1 - تفسير الآيات
نتحدّث أولاً عن الكهنوت القديم (7: 11 - 14)، ثم عن الناموس القديم (7: 15 - 19).

أ - الكهنوت القديم (7: 11 - 14)
القول الأول: الكهنوت حسب رتبة ملكيصادق يُلغي الكهنوت الخارج من لاوي. سبق الكاتبُ وبيّن عظمة ملكيصادق، ولكن برز اعتراضٌ: نحن أمام نظام سابق للناموس. أما حلّ محلّه الكهنوت الهاروني؟ أما ورث امتيازاته؟ هذا البرهان يستند إلى فرضيّة تعتبر أن الشريعة هي التعبير النهائيّ لإرادة الله. وها هو الكاتب يدفع قرّاءه لكي ينطلقوا من خبرة حياتهم الخاصة، ليفهموا أن الكهنوت القديم كان بحاجة إلى إصلاح جذريّ.
أولاً: لو كان الكمال بالكهنوت اللاوي (آ 11 - 12)
هناك شرط غير موجود (لو كان)، وعملٌ يرتبط بهذا الشرط ولا يتمّ: لو كان الكهنوت اللاوي (صفة غير معروفة في اليونانيّة البيبليّة، لاويتيكيس) كاملاً لكان أبديًا. كان عليه أن يلعب دور الوساطة: تكفير الخطايا (5: 1)، تقديس الشعب وتقريبه من الله (7: 19). هو لم يدرك هذا الكمال، لأن مز 110 أعلن كاهنًا جديدًا. فالله أحلّ الكامل محلّ الناقص، لا العكس (1كور 13: 10). فظهوره (أنيستيمي) يقدّم (أع 3: 22؛ 7: 37) المسيح الذي يعرف بالايمان، يتجاوب وحاجة (خرايا) نستطيع أن نعرفها.
هذا الكاهن لا ينتمي إلى السلالة الهارونيّة، بل هو من رتبة (تاكسيس) أخرى، من طبيعة مختلفة كل الاختلاف: ((هاتاروس)) لا ((ألوس)) (روم 7: ،3 ناموس آخر... هناك تعارض). استعمل العهد القديم هذه الأداة ساعة كلامه عن آلهة غير يهوه (تث 4: 28؛ 5: 7؛ 11: 16). في العهد الجديد، ((هاتاروس)) ترتبط بتاريخ تتمّة مواعيد الله. فالجديد الذي ظهر في يسوع المسيح، هو ((آخر)) بالنسبة إلى الماضي، ويستبعد كل وسيلة أخرى للخلاص. لا إله إلا الاله الواحد (1كور 8: 4)، ولا اسم سوى اسم يسوع به نخلص (أع 4: 42). والكهنوتان، كهنوت لاوي وكهنوت ملكيصادق، يختلفان (غريبان) الواحد عن الآخر، بحيث إن الأول ألغي حين تنظّم الثاني. كان الأول عابرًا لأنه لم يكن كاملاً.
((تالايوسيس))، الكمال. لا تستعمل إلاّ هنا في عب. فالنظام كامل إن هو أدرك هدفه. اذن، الكهنوت القديم لم يكن كافيًا، فما جعل الناس يقتربون من الله. نحن هنا في إطار عباديّ: فذبائح وشعائر العهد القديم لم تستطع أن تكفّر الخطايا (10: 1، 4) ولا أن تنقّي الضمائر (9: 9)، ولا أن تبرّر. وعلى المستوى الاخلاقيّ، حبست الحياةُ الناموسيّة البشر في وضع من الطفولة والجمود. وما استطاع هذا الكهنوت أن ينقلهم إلى النضج الروحي و((الكمال)) الذي سيمنحه التدبير الجديد (يع 1: 25، نوموس تالايوس). فلا موسى ولا هارون امتلكا الكمال (تالايوسيس)، المحفوظ للمسيح (12: 2). لهذا نستطيع أن نعطي ((تالايوسيس)) هنا المعنى الاسكاتولوجي: ما استطاع الكهنوت اللاوي أن يقود المؤمنين إلى الهدف (تالوس)، إلى الراحة السماويّة (11: 1ي؛ 12: 23)، فوجب أن يكون نظام آخر. بما أن الكهنوت الأول لم يحقّق مخطّط الله الخلاصيّ من أجل العالم، فحلّ محلّه تدبير جديد: كمال (تالايوس) في المسيح (إن خرستو).
نقرأ معترضة (عليه يقوم الناموس الذي أعطي للشعب) مع فعل ((نوموتاتيو))، من نوموس، ناموس. مراحدة في العهد الجديد، رج خر 24: 12؛ تث 17: 10، رج ((ي ر ى)) في صيغة المزيد. جعلها الكاتب هنا (لا بعد آ 12)، لأنه اعتاد أن يقدّم قبل الوقت موضوعًا سوف يتوسّع فيه فيما بعد (آ 15 - 19)، ولأنه أراد أن يبرز أهميّة الكهنوت الاساسيّة في تنظيم اسرائيل التيوقراطي الذي هو نموذج التدبير المسيحيّ. أما المعنى الحرفيّ فهو: تستند الشريعة إلى الكهنوت اللاوي، ومنه تأخذ شرعيّتها وفاعليّتها. هذا يعني أن هذا النظام الموسويّ يخضع للكهنوت، فإن سقط هذا الأساس سقطت الشريعة معه.
تلك هي النتيجة التي تستخلصها آ 12: أعطيت الشريعة لشعب واحد، ولزمن محدّد. في هذه الحدود، كانت تعبيرًا عن إرادة الله وتوجيهًا لاسرائيل نحو المسيح (روم 10: 4؛ غل 3: 24 - 28). ولكن حين جاء المسيح الكاهن، تحوّل النظام الكهنوتي وانتقل (ماتاتيستيمي، انتقال من وضع إلى وضع). وهكذا نكون أمام تطوّر في العهد (ماتاتاسيس، 12: 27، مراحدة في العهد الجديد). هي ضرورة (أنانكيس، 2كور 9: 7) طبيعيّة، لأن لا وجود للشريعة ولا معنى إلاّ بالنظر إلى الكهنوت. فالتحوّل في الواحد يفترض التحوّل في الآخر.
ثانيًا: أشرق ربّنا من يهوذا (آ 13 - 14)
في آ 12 قرأنا ((غار)) (لأن، الفاء) فتبرّرت علاقة جوهريّة بين الكهنوت والناموس: أكّدت في آ 11. وفي آ 13، دلّت ((غار)) على تطوّر في البرهان، وأعلنت أن شروط الكهنوت تبدّلت. أن يكون هناك تحوّل جذري في النظام الكهنوتي، فهذا ما يبيّنه التاريخ الذي صادق على شهادة الأنبياء. فالناموس القديم لم يمنح الكهنوت إلاّ لنسل لاوي. أما المسيح الكاهن الذي أشار اليه المزمور، فلم يُولد في قبيلة كهنوتيّة. فالفعل ((ماتاخو)) الذي يُبرز بشريّة المسيح (2: 14) يدلّ على أن الكاهن الجديد لا يشارك في امتيازات السلاّلة اللاويّة. لا علاقة له بهذا السبط (القبيلة)، بل هو غريب (هاتاروس، رج آ 11) عنه كل الغربة. صيغة الكامل تدلّ على واقع حاليّ يرتبط بالتاريخ، كما تُبرز عدم التوافق النهائيّ (الذي هو نتيجة هذه الدلالة) بين المسيح والكهنوت، حسب شروط الشرعيّة التي يحدّدها التشريع القديم. هذا ما تبرزه النهاية التي تكون نافلة لو لم تشدّد على المبدأ التنظيمي: لم يخدم المذبح أحد ليس من سبط لاوي.
نقرأ هنا ((بروساخو))، اهتمّ (2: 1؛ 1تم 1: 4)، تجنّد (1تم 3: 8؛ 4: 13)، تكرّس لخدمة الله. وصيغة الكامل تتضمّن تكريسًا دائمًا ونهائيًا، بحيث لا يُحسب حساب لخدم مؤقتة. هنا نذكر وصيّة لاوي (8: 14): ((يقوم ملك من يهوذا، ويُنشئ كهنوتًا جديدًا)). ونقرأ في يوسيفوس (العاديات 20/10: 226): ((يفرض ناموس آبائنا أن لا يقبل أحد رئاسة الكهنوت إن لم يكن من دم هارون، ولا يُسمح لأحد من عائلة أخرى بأن يقرب هذه الكرامة، ولو كان ملكًا)).
وعاد الكاتب (آ 14) إلى معرفة قرّائه لحياة يسوع التاريخيّة، ولايمانهم. فالمواعيد (تك 49: 10) والوقائع الانجيلية (مت 2: 6؛ روم 1: 3) واضحة (بروديلوس، 1تم 5: 24؛ 2 مك 3: 17؛ 14: 39). اذن، هم يعرفون أن ((ربنا)) موضوع اعترافنا (هومولوغيا، 3: 1) والعبادة المسيحية (كيريوس، الربّ، مز 110: 1) أشرق من يهوذا، من سبط (فيلي) يهوذا. ((أناتولي)) (لو 1: 78؛ إر 23: 5؛ زك 3: 8؛ 6: 12؛ ص م ح) و((اناتالو)) (عد 24: 7؛ أش 54: 8؛ ملا 4: 2) هما لفظان مسيحيان. يدلّ الفاعل على نموّ نبتة تنطلق من حبّة خفيّة، أو على ظهور كوكب، وهو يطبّق على ولادة انسان من الناس.

ب - الناموس القديم (7: 15 - 19)
ارتبط الكهنوت القديم بالناموس القديم. إن ألغي الواحد ألغي الآخر. جاءت آ 11 - 14 فبرّرت إلغاء الكهنوت اللاويّ، لأن الكاهن الجديد الذي أقامه الله أشرق من قبيلة أخرى، لم تكن على رتبة هارون (آ 11). وهنا، في آ 15 - 19، نفهم أن التشريع الموسويّ الذي جعل الكهنوت فقط لنسل لاوي، قد ألغي، لأن الكاهن الجديد هو على رتبة ملكيصادق (آ 17)، على شبه ملكيصادق (آ 15).
أولاً: كاهن آخر (آ 15 - 16)
((وممّا يزيد الأمر بيانًا)) (مراحدة بيبلية) لا ترتبط بما في آ 14، بل بالفكرة التي عبّر عنها الكاتب منذ آ 11: حلول التدبير الجديد محلّ القديم هو نتيجة تحوّل الكهنوت. هناك لفظتان: بروديلون (آ 14) ترتبط بواقع تاريخي واضح، هو نسل الرب من يهوذا. ((كاتاديلون)) تدل على حقيقة نستنتجها، وهو توجّه الفكر في اتجاه آخر: كل ما قلته لكم حول ضرورة التحوّل، في خط إعلان المزمور، يبدو أكثر وضوحًا إذا فكّرنا في طبيعة العمل الذي أتمّه يسوع. فإن واصلنا تأويل مز 110: 4، نكتشف تعليمًا جديدًا حول طبيعة الكاهن الجديد.
ما معنى ((تكسيس))؟ تماثل دقيق. مشابهة تامة (هومويوتيس، رج 4: 15، في السريانيّة: بدموتا، بشبه). فنحن هنا أمام كائنات من جنس واحد (تك 1: 11 ،12)، أمام صورة ومثالها (حك 14: 19).
هذا يعني أن الكاهن الذي يختلف كل الاختلاف عن نمط هارون (هاتاروس، آخر) له سمات ملكيصادق عينها، كما الصورة تشبه الاصل، والرمز الواقع (آ 3 ،أفومويومانوس، مشبّه). فملك شليم الذي سبق هارون وكان أعظم من ابراهيم، لم يأخذ طابعه الكهنوتي من سلطة التشفّع، ولا من نسل بشري، ولا من فريضة بحسب الشريعة. فأصالة كهنوته تقوم بأنه لم ينتقل (كما في وراثة)، بل ارتبط بشخصه. إذن، المسيح هو أيضًا لم يُقَم كاهنًا (انيستيمي، آ 11) حسب قوام الوراثة التي حدّدها موسى. فهذه وُصفت بأنها بشريّة (إنتولي ساركيني، آ 16) فدلّت على موضوع هذه الشريعة التي ربطت حقّ الكهنوت باللحم والدم، وبامتيازات نسل، وبصحّة الجسد... تجاه هذا الناموس، هذه الشريعة (نوموس) الخارحيّة، تقف ((القوة)) (ديناميس) الباطنيّة التي لا يمكن أن تكون إلاّ إلهيّة (1كور 1: 18، 24؛ 2: 4، 5). كما وتجاه الوصيّة البشرية تقف ((الحياة التي لا تزول)) (زوئي أكاتيليتو، مراحدة بيبليّة). كيف نفهم هذا؟
اختلف المسيح عن الكهنة اللاويين الذين ورثوا كهنوت أبيهم، وكانوا مائتين (آ 8)، فامتلك الكهنوت منذ ولادته (غاغونن) بالنظر إلى غياب ((جدود))، مثل ملكيصادق (رج آ 3) أو بالأحرى بالنظر إلى كماله الشخصيّ: هي قدرة وإمكانيّة وكفاءة لممارسة الوظائف الكهنوتية (ديناميس، 11: 11؛ أع 3: 12؛ رؤ 18: 3. هذا ما يعارض مورفوسيس، 2تم 3: 5): فالطبيعة البشريّة اتّحدت بالطبيعة الالهيّة التي رافقته في تجسّده وفي تقدمة ذبيحته على الصليب (9: 14). هذه الحياة التي لا تزول (لا تتلف، لا تدمّر)، التي لا يؤثّر فيها الموت، يحتفظ بها يسوع في السماء. بعد الصعود (يو 10: 18؛ 11: 25). إذن، ما كان له أن ينقل سلطاته إلى خلفائه. فالكهنوت الروحيّ لا يرتبط بظرف بشريّ ولا بحدود في الزمان والمكان.
ثانيًا: رجاء أفضل (آ17 - 19)
ذلك هو معنى المزمور الذي ذُكر مرّة أخرى. هو يدلّ على ((تاكسيس)) الكهنوتي السماوي بالنظر إلى روحانيّته وديمومته. لهذا، كان ملكيصادق صورته، وهو الذي لا أب له ولا أم. أجل، الكاهن الآخر هو ابن الله (آ 3؛ 1: 2، 3؛ 3: 3 ،6).
وأبرزت آ 18 - 19 خاتمتَي العرض (آ 11ي). ((اتاتيسيس)) (إبطال) من جهة، ثم ((إدخال)) (ابيساغوغي). رج ((ماتاتاسيس)) (آ 12)، التحوّل من إبطال إلى إدخال.
إن التدبير السابق للنظام الجديد الذي أقامه كهنوت المسيح، جاء قبله كعلامة وصورة، فأعلنت حقيقته (بروأغو: سبق. ولكنه ظلّ مرتبطًا به، مت 2: 9؛ 21: 9، 31؛ 26: 32؛ 1تم 5: 24). هذا التدبير ألغي (غل 3: 15). فالاسم ((اتاتيسيس)) (رفض، رذل، رج 9: 26)، لا يرد بعد ذلك في العهد الجديد. هو لفظ قانونيّ يرتبط مع ((أكيروسيس)). ما ألغي هو الوصية (إنتولي) التي تفرض كهنوتًا وراثيًا. ولكن إلغاء هذا الكهنوت يعني إلغاء الشريعة كلها، لأن الكهنوت هو أساس النظام الموسويّ كله. وعلّة الإلغاء هي عجز الشريعة عن تطهير الضمائر، عن حفظ الانسان من الخطيئة، عن المساعدة على الخير. هي لم تستطع أن تكمّل (آ 11؛ 9: 9؛ 10: 11)، وبالتالي فهي غير نافعة. إن الصفة ((استانس)) (ضعيف) (1كور 1: 5؛ غل 4: 9)، والصفة ((أنوفالس)) (حرفيًا: يرفضون العون) اللتين استُعملتا كموصوف تدلاّن على واقع الوصيّة كما على طبيعتها.
غير أن هذا الإلغاء، على أهميّته، هو فقط نتيجة سلبيّة لتحوّل النظام الكهنوتي. فهذا النظام حمل إلى العالم خيرًا إيجابيًا (ابايساغوغي، مراحدة بيبليّة، إدخال). حلّ الرجاء محلّ الوصيّة. كما تحدّد التدبيرُ القديم بوصيّة، يتميّز التدبير الجديد على أنه رجاء (3: 1، 6؛ 6: 11 - 12؛ 9: 39؛ 10: 23؛ 11: 1ي). هذا يعني أنه اسكاتولوجي، لأننا نفهم ((إلبيس)) في معنى خلاص ننتظره، فتعطينا المسيحيّة سبيل الوصول إليه: فالمسيح يقود كل شيء إلى الكمال (2: 10)، ويمنح المؤمنين إمكانيّة الاقتراب من الله (6: 20؛ 10: 19 - 20؛ روم 5: 2؛ أف 2: 31؛ 3: 12). والتفضيل ((كرايتون)) لا يصف الرجاء المسيحيّ بالنسبة إلى التدبير القديم (وكأنه يقدّم خيرات أفضل)، بل يشدّد على تفوّق المسيحيّة على اليهوديّة. فهذه لم توصل شيئًا إلى الكمال (تالايوسيس). أما المسيحيّة فأوصلت المؤمن إلى الله بفضل عظيم كهنتها. كان الاقتراب من الله (انغيزاين تو تيو) محرّمًا على العوام (خر 3: 5؛ 19: 21) ومحصورًا في الكهنة (خر 19: 22؛ لا 21: 23، ن ج ش: لا 10: 3؛ حز 42: 31؛ 43: 19، ق ر و ب). ولكن كل مسيحيّ هو كاهن (1بط 2: 5 ،9؛ رؤ 1: 6؛ 5: 10؛ 200: 6). إذن، هو يستطيع أن يقترب من الله (4: 6؛ 6: 19؛ يع 4: 8). ذاك هو نفع (اوفالايا) العهد الجديد مع سموّ كهنوته حسب ملكيصادق (آ 25). فيه يتّحد الانسان مع الله، كما يقول يوحنا الدمشقيّ.

2 - قراءة اجماليّة
((ومن ثم، لو كان الكمال بالكهنوت اللاوي، وعليه يقوم الناموس الذي أعطي للشعب، إذن أية حاجة بعدُ إلى أن يقوم كاهن آخر على رتبة ملكيصادق، ولا يقال على رتبة هارون؟ إن تحوّل الكهنوت يجرُّ حتمًا تحوّل الناموس)) (7: 11 - 12)
يُقدّم البرهان الآن مع اعتبار ينطلق من تاريخ الوحي. فظهور ملكيصادق في تاريخ آباء الشعب قصير ولكنه دراماتيكي. تماهى مع ملك شليم وكاهن الله العليّ، ولكن لم يُقل شيء في تك 14 عن ((رتبة)) ملكيصادق. وحده مز 110: 4 يقول: ((كاهن على رتبة ملكيصادق)). فالمزمور الذي يعبِّر عن انتظار قيام كهنوت مسيحاني وملوكي، دُوّن سنوات عديدة بعد إقامة الكهنوت اللاويّ. إنه يدلّ أفضل دلالة على عدم كمال وعدم ديمومة النظام اللاوي. فلو وصل هذا النظام إلى الكمال، لانتفت الحاجة إلى كلام عن كهنوت آخر. وهكذا يترك النظام القديم المكان للنظام الجديد: فالجديد يسمو على القديم الذي كان موقتًا ولم يكن كافيًا، كما يتميّز عنه بالكمال والفاعليّة.
إن العلاقة بين الكهنوت والناموس، كانت نتيجتها أن التحوّل في الكهنوت يعني التحوّل في الناموس. فنظام الكهنوت الجديد يفترض تدبير شريعة جديدة. وإدخال نظام كهنوت جديد ومختلف، يفترض إلغاء الشريعة وفرائضها المتعلّقة بالكهنوت القديم وخدمته، ويقدّم الناموس الجديد الذي يُشرف على النظام الجديد. هذا ما سمّاه بولس ناموس الحياة، وهو المبدأ الذي يقول بأن المسيحيّ يتبرّر ((لا بأعمال الشريعة)) (روم 3: 27 - 28). فمسألة نظام الناموس مسألتان. الأولى، الجميع (كهنة وعوام) تجاوزوا الشريعة. وبما أن الكهنة خطأة، فهم لا يقدرون أن يقدّموا الذبيحة التامّة الكاملة. لهذا، عليهم أن يقدّموا ذبيحة عن خطاياهم الخاصة قبل أن أن يقدّموها عن خطايا الشعب (7: 27؛ رج 5: 3). الثانية، لا يستطيع حيوان بدون إرادة ولا فهم، كذاك الذي يقدَّم في النظام القديم، أن يحلّ محلّ الانسان الخاطئ. لهذا، كان الكهنة الهارونيون يقدّمون الذبائح العديدة التي لم تكن تنفع. وهذا ما دلّ على نقص في النظام الذي هو في حدّ ذاته شاهد بليغ على الحاجة إلى نظام كهنوت جديد، يحمل التبرير إلى الانسان.
التحوّل في الكهنوت يعني الابتعاد عن الكهنوت اللاوي الذي يحفظ الشريعة ويعلن أنه لا يحتاج إلى فداء. فذبيحة الحيوانات كافية. أما التدبير ((على رتبة ملكيصادق))، فهو أن الذبيحة هي ذبيحة الابن المتجسّد الذي قدّم نفسه على الصليب، انسانًا عن البشر، بارًا عن الخطأة (1بط 3: 18)، وحده يستطيع أن يحلّ حلولاً كاملآً محلّ الخطأة. لهذا، تمّت ذبيحة المسيح مرّة واحدة، وما تكرّرت، بسبب كمال كهنوته. في إطار هذه ((الشريعة)) الايمانية، لن يحتاج المسيحيّ بعد إلى الشريعة، بل إلى النعمة (روم 6: 14). مع الشريعة، صار الناموس أداة الشجب لا أداة التبرير. أما الايمان بذاك الذي حفظ وحده الشريعة وكفّر في جسده عن تجاوز الخطأة، فهو الذي يمنحنا التبرير أمام الله (روم 5: 1ي).
والتحوّل في الشريعة داخل ((رتبة ملكيصادق))؟ إن فرائض الشريعة العديدة التي ارتبطت بالكهنوت اللاوي قد ألغيت وعفاها الزمن، فحل محلّها مبدأ جديد، هو مبدأ ((شريعة)) الايمان. هذا ما عاشه اسطفانس الذي أعلن أن مجيء يسوع الناصري، يعني تحوّلاً في شرائع وصلت إليه في موسى. وبولس الذي اعتبره اليهود معارضًا للشريعة والهيكل (أع 21: 28)، وهو الذي كان متحمِّسًا للشريعة ومعارضًا لانجيل النعمة (أع 8: 3؛ 9: 1 - 2؛ فل 3: 5 - 6). وتشبّهت عب بالرسول بولس، فبيّنت أن كمال الشريعة لا يتمّ إلاّ في المسيح. فمع أن قواعد الكهنوت اللاوي قد تعدّاها الزمن مع زوال هذا الكهنوت، إلاّ أن جوهر الشريعة الذي هو الطاعة والمحبّة، فهو ما زال حاضرًا وإن احتاج إلى أن يجد كماله في المسيح.
ارتبط الكهنوت بالناموس. في رتبة هارون ألغيا معًا. وفي رتبة ملكيصادق كمُلا معًا. في الكهنوت اللاوي كان نظام ناقص يتطلّع إلى واقع مجيد. هذا ما حصل بنعمة الله التي تجلّت في شخص المسيح وعمله، وهكذا تمّ تحوّلٌ جذري في الوضع البشري.
((لأن الذي تُقال فيه هذه الأقوال هو من سبط آخر لم يلازم أحد منه المذبح، وإنه لواضح أن ربنا أشرق من يهوذا، من السبط الذي لم يصفه موسى قطّ بشيء من الكهنوت)) (7: 13 - 14)
اعترف اليهود أنفسهم بأن مز 110 هو مزمور مسيحاني (مر 12: 35 - 37). وصورة الكاهن العظيم المذكورة في هذا المزمور تنتمي إلى رتبة غير رتبة لاوي. تنتمي إلى رتبة ملكيصادق. هذا يعني أن ذاك الذي انتظروا مجيئه ليس من قبيلة لاوي. ثم إن الطابع الملكي لهذا الشخص، كما يقول المزمور، يرتبط بقبيلة يهوذا مع داود الذي جاء ملكه ليستمرّ على الدوام (2صم 7: 12ي؛ أش 9: 6ي).
يعتبر الكاتب أن هذا المزمور تمّ في تجسّد يسوع المسيح وموته وتمجيده. ولكن في العهد القديم، كانت قبيلة لاوي القبيلة الكهنوتيّة الوحيدة. أما الذي يتحدّث عنه مز 110 فلم يخرج من قبيلة لاوي، بل من قبيلة يهوذا. يقول عنه النصّ: أشرق، فدلّ على وجهه المسيحانيّ.
((وممّا يزيد الأمر بيانًا أن هذا الكاهن الآخر الذي يقوم على مشابهة ملكيصادق، لم يُنصّب بحسب ناموس وصيّة بشريّة، بل بقوة حياة لا تزول، إذ قد شُهد له: أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق)) (7: 15 - 17)
ويأتي البرهان كما يلي: غاب الكمال عن النظام اللاوي، مع أنه كان يمارَس بشكل طبيعيّ. عندئذ أشار المرنّم إلى نظام كهنوتي يكون فيه الكاهن كاهنًا إلى الأبد (في آ 11 قال: يقوم كاهن آخر). وهذا الكاهن ليس لاويًا (آ 12 - 14)، وبالتالي يختلف كل الاختلاف عن هذا النظام. وهذا الكاهن قد ظهر على ((مسرح)) التاريخ. ففي طبيعة الأشياء، يكون التحقيق أوضح من النبوءة. وظهوره ذو مدلول كبير، لأنه على شبه ملكيصادق. فما وُعد به وبدا ظلاً، يجب أن يزول في المسيح. وطبيعة هذا الشبه قد أشير إليها في 7: 1 - 3 حيث قيل عن ملكيصادق إنه يشبه ابن الله، ويقوم كاهنًا إلى الأبد. وهنا يقال أن الابن المتجسّد هو في شبه ملكيصادق. فالشبه يشرح بشكل سلبيّ وبشكل إيجابي: بشكل سلبي بالنظر إلى كهنوت هارون. فالمسيح الذي ليس من سبط لاوي، لم يكن كاهنًا بحسب لاوي، بل في تعارض مع لاوي. فالشريعة تفرض عليه أن يتحدّر بحسب الجسد، وهكذا يكون في حلقة النظام الهاروني. وفي شكل إيجابي بالنظر إلى أن كهنوته تحدّده ((قوّة حياة لا تزول)). هذه الصفة المهمّة ترتبط بقول مز 110 بأن الكاهن حسب ملكيصادق يكون كاهنًا إلى الأبد. وحيث يوجد كاهن إلى الأبد، لا حاجة إلى شريعة تتعلّق بالتسلسل الكهنوتي. ففكرة التسلسل تتنافى مع كهنوت أبديّ.
ومع ذلك، فليس هناك سوى شبه بين المسيح وملكيصادق، وهو شبه يشير إليه صمت سرّي في خبر سفر التكوين حول ولادة ملكيصادق وموته وقرابته ونسله. في هذا الاطار، صارت صورة ملكيصادق ظلاً يشير إلى ما هو أعظم منه. هو كالسابق يوحنا المعمدان الذي شهد قائلآً: ((يأتي بعدي انسان تقدّم عليّ، لأنه كان قبلي)) (يو 1: 30). فالحقيقة التي كان ملكيصادق ظلاً لها، هي المسيح الذي هو إلى الأبد، لأنه الابن الأزلي (أولاً)، ولأنه بتجسّده وذبيحته صار حبر الجنس البشري الذي بقدرة قيامته من بين الأموات ومجد صعوده عن يمين الجلالة في العلاء، قد افتدى الطبيعة الساقطة ورفعها معه. فهذا الذي مات لأجلنا مرّة واحدة، لن يموت بعد (روم 1: 4؛ 6: 9؛ 1كور 15: 20). فإكليل المجد تبع الصليب، وقوّة الحياة التي تزول كانت الكفيل بأن حبرنا يدوم إلى الأبد.
((وهكذا، قد أبطلت الوصيّة السابقة لضعفها وعدم نفعها، لأن الناموس لم يبلغ بشيء إلى الكمال، وإنما كانت (= الوصيّة) مدخلاً لرجاء أفضل، به نقترب إلى الله)) (7: 18 - 19)
عادت الوصيّة القديمة بشكل خاص إلى تشريع تنظّم فيه الكهنوتُ اللاوي وتسلسُله (آ 11ي). وهذا التشريع جُعل جانبًا، بل ألغي بسبب ضعفه وعدم نفعه: ليس بقادر على تحقيق التبرير للخطأة أمام الله. فالشريعة هي مبدأ حياة فقط للانسان الذي يُتم ما يفرضه البرّ (روم 10: 5). أما الذي تعدّى الشريعة، فالشريعة تصبح له أداة موت (روم 7: 10 - 12؛ 2كور 3: 7ي). لهذا قيل أيضًا أن الشريعة لم تصنع شيئًا كاملاً. نفهم هذا أن الشريعة غير فاعلة في علاقتها بالانسان الخاطئ، وهكذا يكون العجز في الانسان الخاطئ، لا في الشريعة. فالشريعة في حدّ ذاتها مقدسة وروحيّة كما قال بولس في روم 7: 12، 14. فهي في النهاية، شريعة الله.
غير أن الكاتب اهتمّ قبل كل شيء بهذا الجزء من الشريعة (وصيّة سابقة) الذي يفرض وينظّم عالم الذبائح. ولكنه في الوقت عينه، يجعل الانسان واعيًا لخطيئته وتغرّبه وحاجته إلى الغفران، دون أن يستطيع أن يحفظه من الخطيئة، أو يساعده على إكمال المصالحة مع الله. ربّما بلغ بعضهم إلى الكمال في إطار الشريعة، ولكنهم نالوا هذا الكمال بالنعمة لا بالشريعة. فعلّة كمالهم لم تختلف عن علّة كمالنا: تقدمة ذاك الذي هو حبر إلى الأبد على رتبة ملكيصادق (11: 40).
ويحاول الكاتب أن يُقنع قرّاءه بأن لا يعودوا إلى نظام قديم قد تجاوزه الزمن. فمع مجيء ذاك الذي هو حبر عظيم، جاء الرجاء الأفضل: فأي نفع في تبديل الأفضل إلى الاسوأ؟ لماذا نخسر ملء المسيح لكي نأخذ نقص نهج قد ألغي؟ سبق صاحب عب وألحّ عليهم بأن يتمسّكوا بالرجاء الذي امامهم، لأن هذا الرجاء في المسيح يُدخلنا إلى المعبد السماوي (6: 18 - 19). وها هو يؤكّد لهم الآن أنهم يقتربون من الله عبر هذا ((الرجاء الأفضل)). فهم في خطر تجاهل أو إهمال الامتياز العجيب الذي لهم في المسيح: أن يدخلوا بثقة إلى عرش النعمة. لهذا جاء هذا التحريض الملحّ والمتكرّر لممارسة هذا الامتياز بثقة وبدالّة (4: 15 - 16؛ 10: 19 ي). نستطيع أن نوجز برهان الكاتب هنا بكلمات كتبها بولس إلى مسيحيّي رومة حين قال لهم: ((أرسل الله ابنه في شبه جسد الخطيئة من أجل الخطيئة، ففعل ما لم يستطعه الناموس لعجزه بسبب الجسد)) (روم 8: 3 ،اللحم والدم، الضعف البشري). فالرجاء المسيحيّ الذي تركّز على ابن الله، ليس شيئًا متبدّلاً وغير أكيد، بل أمين وجوهريّ. فكلمة الله وعمله في المسيح اللذان نستند إليهما، لا يمكن أن يخيّبا.
هذه الاعتبارات تبرّر ملء التبرير وصف الرجاء الذي صار واقعًا في إطار العهد الجديد كـ ((رجاء أفضل)). وفي الوقت عينه، تضمّن هذا الوصفُ أن الرجاء لم يكن غائبًا في العهد القديم. لا شكّ في أن الرجاء في القديم هو أدنى من الرجاء في الجديد. ويبقى التعارض بين الوعد والتتمة، بين الظلّ والجوهر، بين الضعيف والقويّ، بين العابر والدائم، بين الناقص والكامل. وسيبيّن ف11 أن قدّيسي العهد القديم كانوا أناس رجاء لأنهم كانوا أناس ايمان: ((فالايمان هو قوام ما نرجو)) (11: 1). غير أن رجاءهم تركّز على انتظار مجيء وسيط العهد الجديد والكاهن الابديّ الذي يرفع خطايا العالم. فنحن مثلهم حجّاج نشارك في كمال ملكوت المسيح المجيد والأبديّ. ولكن عبر ذاك الذي جاء الآن، ننعم بالدخول إلى حضرة الله، وهذا ما لم يكن متاحًا لهم خلال حجّهم على الأرض.

خاتمة
كان النظام الموسوي ناقصًا. وإن كانت الشريعة ألغيت، فلأن الكهنوت اللاوي لم يكن على قدر المهمة. فحكم عليه هذا العجز بأن يزول ويترك مكانه لكهنوت أسمى، للمسيح الذي هو كاهن يتحدّر من يهوذا، لا من لاوي. فكهنوته، حسب ملكيصادق، فريد وأبديّ. هذا يعني أنه يعارض فرائض الشريعة المتعلّقة بالخدمة الكهنوتيّة. كل هذا كان الظلّ، أما الحقيقة فهي المسيح. ونحن نقترب به إلى الله دون الحاجة إلى شريعة زالت ساعة زال الكهنوت اللاوي الذي ارتبط بالنسل والكمال والطهارة بحسب الشريعة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM