الفصل الخامس: نتمسّك بتعليم سمعناه

الفصل الخامس
نتمسّك بتعليم سمعناه
2: 1- 4
ما زلنا في القسم الأول من عب (1: 5-2: 18). بعد تعليم عن ابن الله المتأنّس، نصل إلى الارشاد الذي فيه يحثّنا الكاتب على أن لا نهمل التعليم الذي سمعناه، أن لا نهمل الخلاص الذي يقدّم لنا. فالارتباط بالتعليم هو ارتباط بالخلاص. وهكذا بعد تعارضات ثلاثة تقابل المسيح بالملائكة، نصل إلى تعارض رابع يدعونا إلى التنبّه تجاه كلمة نثبتُ فيها فننال الخلاص.
إن هذه الآيات الاربع (4: 1- 4) تقابل أيضًا العهد القديم مع العهد الجديد: كلمة قالها (نطق بها) الملائكة (آ 2)، كلمة قالها الربّ (آ ،3 فعل لالاين في الحالين). هناك نداء للسماع. وعقاب للذين لا يسمعون. وينطلق البرهان من الأقلّ إلى الأكثر: بما أن المسيح يتفوّق على الملائكة، فالوحي الذي يحمله يتفوّق على تعليم حمله الملائكة حين أوصلوا الشريعة إلى موسى. فسلطة التعليم ترتبط بسلطة الوسيط. عوقب الشعب لأنه لم يسمع للشريعة (تث 13: 7- 12؛ عب 10: 28). فكم يكون كبيرًا عقاب الذين يهملون (لا يقدّرون) الخلاص الذي يقدّمه الرب والذي رافقته الآيات والعجائب. لهذا يجب علينا أن نتمسَّك بالوحي المسيحي.
هذا يعني أن قرّاء الرسالة لم يقدّروا سلطة المسيح الوسيط، أو أخذ إيمانُهم يضعف ويتراخى. فأين ثباتهم، وأين نقاوة معتقدهم. لهذا أراد الكاتب أن يقوّيهم، فحرّك فيهم مخافة خلاصيّة: كل عصيان يتضمّن عقابًا. وسيكون العقاب قاسيًا بقدر ما تكون المؤسّسة رفيعة. غير أن التنبيه يخفّف حين يجعل الكاتب نفسه مع القرّاء بواسطة ضمير المتكلم الجمع ((نحن)) (هيماس): نتمسّك (نحن) بما سمعنا. أجل، الرب يسوع هو الذي حمل الوحي الذي يترافق مع آيات ومواهب روحيّة هي أسمى من ظواهر رافقت عطيّة الشريعة على جبل سيناء (19:16). ونستطيع أن نلخّص هذا المقطع في ثلاث عبارات: المسيح تكلّم (نطق به الرب). الله شهد (بالآيات). الروح فعل بواسطة المواهب.

1- تفسير الآيات

أ - نداء إلى التنبّه (2: 1)
((لذلك)) (ديا توتو). هي انتقالة من التعليم إلى الارشاد: بما أن الملائكة يخضعون للمسيح ويخدمون المؤمنين (1: 14)، فعلى المسيحيين أن يعوا مسؤوليّتهم. فكيف لا يفيدون من تدبير يكرمهم إلى هذا الحدّ. فإن كان الله كلّمهم. وإن كان الابن طهّرهم من خطاياهم. وإن كانت الأرواح السماويّة تحمل إليهم العون، فكل إهمال يُعتبر خطأ جسيمًا. ((لذلك)) نربط هذا المقطع بما سبق (ف 1) والمسيحيون مدعوّون (داي، 11: 6) لكي يتمسّكوا بالانجيل بالأشياء التي سمعوها (اكوستايسين، المسموعات، اسم المفعول، في صيغة الاحتمال، صيغة المجهول). أي تلك التي قالها الله بابنه (1: 2)، أي التعليم الشفهي الذي نقله المسيح إلى تلاميذه (2: 3)، فنقلوه بدورهم إلى المؤمنين (13: 7؛ رج 2تم 1: 13؛ 2: 2). هذا هو تعليم الايمان (روم 10: 17) الذي نتمسّك به على مستوى العقيدة وعلى مستوى العمل. ((بروساخو)) يعني تمسّك، توجّه، تنبّه (أي 7: 17؛ أع 8: 6؛ 1تم 1: 4). نتمسّك بشخص أو بتعليم فنخضع له ونطيعه (أع 8: 10؛ 1تم 3: 8؛ 4: 13). هذا التمسّك بالايمان لا حدود له وهو يتطلّب منا حذرًا وانتباهًا، كما في تث 4: 9: ((انتبهوا (احذروا) وانتبهوا جدًا لئلا تنسوا الأمور التي رأتها عيونكم، ولا تدعوها تزول من قلوبكم كل أيام حياتكم)).
ويُستعمل الظرفُ ((باريسوتاروس)) الذي يدلّ على شدّة التمسّك والانتباه. أي أكثر من العادة (13: 19؛ مت 5: 47). كأننا أمام توبيخ. حتّى الآن، لم تتمسّكوا بما فيه الكفاية. هل نسيتم أن المسيح حمل إليكم الوحي. فالسقوط ينتظركم (رج 6: 6ي). هنا يأتي فعل ((باراريو)): غرق، سقط، ضلّ (شخص تجرّه المياه). لا يرد هذا الفعل في العهد الجديد إلاّ هنا. رج أع 3: 21؛ 4: 21. إذا كان الخلاص ارتباطًا إيمانيًا بكلام الانجيل (4: 2)، فالضلال أو السقوط هو ابتعاد عن الله الحيّ بخيانتنا (3: 12). وهكذا نستبعد نفوسنا من تدبير الخلاص فنعود إلى العهد القديم. ((ميبوتي)) (على جانب الطريق). الخطر يتهدّدنا. وقد نقع.

ب - كلمة ثابتة (2: 2)
((غار)) لأن، ترتبط بـ ((نتمسّك أشدّ التمسّك)). يشرح الكاتب هنا لماذا يجب أن تتفوّق أمانة المسيحي للكلمة على أمانة اليهوديّ للشريعة. فالوحي كله كلام الله. واللوغوس الذي تلفظ به الملائكة هو أولاً شريعة موسى (10: 28؛ غل 3: 19)، ثم كلام العهد القديم. كل هذا ثابت ((بابايوس)): طريق نستطيع أن نمشي عليه آمنين. إذن، متين، أكيد. رج حك 7: 23. تكون الكلمة ثابتة، متينة، نستطيع أن نستند إليها ونثق بها (بستوس). هذه الشريعة هي ثابتة. إذن، نخضع لها. ولا تكون متكاملة إن لم يرافقها عقاب. في العهد القديم، كل خطيئة، على المستوى الايجابي (باراباسيس، التعدّي، روم 2: 23؛ 5: 14؛ غل 2: 18)، أو على المستوى السلبيّ (لا نسمع، باروكوي، نرفض السماع، نتظاهر بأننا لم نسمع، لا نجد اللفظة في السبعينية. رج مت 18: 17؛ روم 5: 19؛ 2 كور 10: 6)، تحمل عقابها في ذاتها كمجازاة فُرضت علينا. اللفظة اليونانيّة ((ميستابودوسيا)) التي لا تعرفها اليونانيّة الدنيويّة ولا سائر الكتب البيبليّة (10: 35؛ 11: 26) استعملت لتدلّ على خطورة العمل وبالتالي على قساوة العقاب. نقرأ ((انديكوس)): يوافق القاعدة والعدل. نجد اللفظ في اليونانيّة الكلاسيكيّة ولا نجدها في الكتاب المقدس إلاّ هنا وفي روم 3: 8 (دينونة عادلة). نشير إلى أن ((ديكايوس)) تقال في الاشخاص، عكس ((انديكوس)) التي تقال في الأشياء.

ج - خلاص ثابت (1: 3)
إذا كانت الكلمة ثابتة بحيث نستطيع أن نستند إليها، فالخلاص ثابت هو أيضًا: نطق به الرب. ثبّته الذين سمعوه. رافقته الآيات والعجائب، كما رافقته مواهب الروح القدس. وإذا كانت الشريعة التي حملها الملائكة تعاقب المذنبين، فكيف يأمل المسيحيون أن يُفلتوا من العقاب (إكفوغو، أع 16: 27؛1 تس 5: 7) إن هم خطئوا فأهملوا خلاصًا يقدَّم إليهم. نقرأ فعل ((أماليو)): لم يهتمّ، لم يأخذ بعين الاعتبار (مت 22: 5؛ 1تم 4: 14). هو يتعارض مع ((بروساخو)) (آ 1). يرد الفعل في صيغة الاحتمال واسم الفاعل: هذا يعني أن إهمال الخلاص قد حصل في السابق. هذا ((الخلاص)) (سوتيريا) هو موضوع ((الكلمة)) (لوغوس). هكذا شدّد الكاتب على طابع الانجيل تجاه الشريعة: ليست في ذاتها مبدأ خلاص. فالعهد الجديد يحمل الخلاص حين يحقّق غفران الخطايا (1:3). نقرأ ((تيليكاوتوس)) يدل ((توسوتوس))، مثل هذا، من هذا المعيار (2 كور 1: 10؛ يع 3: 4؛ رؤ 16: 18). أجل، لا مثيل للتعليم الذي قدّمته عب، بل قدّمه العهد الجديد كله (أع 13: 26؛ كلمة الخلاص). فهو يسمو بلا حدود على ما في العهد القديم. الشريعة القديمة عرّفتنا بالخطيئة. أما الشريعة الجديدة فمنحتنا النعمة. وهذا الخلاص أعطي لنا منذ الآن.
وتفوّقُ انجيل الخلاص يكمن في أن الرب نفسه أعلنه. نطق به. حين تكلّمت عب عن الملائكة، جعلت ((نطق)) في صيغة المعلوم (الكلمة التي نُطق بها). فالله هو الذي تكلّم بالملائكة. أما هنا،فنجد صيغة المعلوم: الربّ هو الذي نطق. فالابن الذي هو قرب الله، هو الرب، هو السيّد المطلق لدى المؤمنين. هو يكرز بكلمة الخلاص. بل إن هذا الخلاص صار شخصًا حيًا (شأنه شأن الكلمة). هو حياة يسوع وتعليمه وآلامه وموته وقيامته التي تقدّم لنا. هو قصد الله الخلاصّي كما بدأ يتحقّق في تجسّد الابن.
ميّز الكاتب مرحلتين في إعلان الخلاص: أصل الخلاص (كلّمنا، 1: 2)، ثم الكلام عن المخلّص في الكرازة المسيحيّة. وفي الحالين، الله هو الذي يتكلّم. وفعل ((بابايو)) يعني أتمّ، حقّق، ثبّت. أجل، الخلاص الذي دشّنه المسيح قد وصل إلى المسيحيين الذين اختبروا حقيقة الانجيل. يرى بولس أن الوعّاظ يثبّتون شهادة المسيح (1 كور 1: 6؛ غل 1: 7)، بجرأتهم في إعلان الحقيقة وفي اجتراحهم معجزات تدلّ على حقيقة تعليمهم. وهكذا صار إعلانهم للانجيل أهلاً بالثقة. أجل شهادة الانجيل تبقى حاضرة بسبب شهود لهم صفة الشهادة وجرأة الشاهد. في هذا، قال الذهبيّ الفم: ((لنا عربون الحقيقة: فالانجيل لم يتبخَّر، ولا كانت له نهاية، بل هو يسيطر وينتصر بفضل القوّة الالهيّة التي تفعل فيه)).

د - الآيات والعجائب (2: 4)
هناك أهميّة الشهود المباشرين الذين التقطوا عن شفتي المسيح تعاليم نقلوها. وهناك أيضًا شهادة الله ذاته الذي أجرى معجزات تدلّ على صدق حاملي البشارة.نقرأ ((سينابيمارتيريو)) (لا يرد إلاّ هنا في الكتاب المقدس): شهد من أجل، وافق، نجد ((ابيمارتيريو)) في 1 بط 5: 12. و((سيمارتيريو)) في روم 8: 16. هي صيغة اسم الفاعل وهي تدلّ على مشاركة (سين، مع) متواصلة بين الله والانسان. الانسان يشهد بحياته وتعليمه، والله بالآيات والعجائب. رج مر 16: 17، 20؛ 2كور 12: 12: إن الرسول الحقيقيّ يقدّم نفسه ببراهين يراها الجميع.
هنا نجد ثلاث ألفاظ تتحدّث عن العجائب، فتشير إلى ظهورها وطبيعتها وأصلها. الأولى: ((سيمايا)): أمور كاشفة، علامة مدهشة ولافتة للنظر نرى فيها تدخّل الله. ((تاراتا)) أحداث تفوق الوصف، تفوق عالم الطبيعة. مثلاً، تحوّلٌ في السماء (أع 2: 19). ((دينامايس)): أعمال ترتبط بقدرة فائقة الطبيعة (مت 11: 20؛ مر 6: 14، 1كور 12: 10). نجد قيمة العجائب كبرهان في العهد القديم (خر4: 1- 6؛ 1مل 18) الذي يسمّيها: اوت. ن ف ل و ت. م و ف ت، كما نجدها عند فيلون الاسكندراني (حياة موسى 1: 95). أخذت بها الكنيسة الأولى في دفاعها المسيحي (روم 15: 19؛ غل 3: 5؛ يو 5: 36؛ 10: 25؛ 1 يو 5: 10). وانطلق بطرس منها لكي يدلّ على رسالة يسوع الالهيّة: ((كان يسوع الناصري رجلاً أيّده الله بينكم بما أجرى على يده من العجائب والمعجزات والآيات)) (أع 2: 22). وهذا البرهان مهمّ جدًا بحيث استعمله الانبياء الكذبة: قاموا بمعجزات ليدلّوا على صدق تعليمهم (مت 24: 24؛ 2 تس 2: 9). أما في عب، فهذه الآيات تُفهم المؤمنين أن الانجيل يتفوّق على شريعة موسى.
وما يُسند أيضًا حجّة الشهود هو عمل عجائبي رابع: مواهب الروح القدس التي تتوزّع في الكنيسة. ((ماريسموس)) (لا ترد إلا في عب): مشاركة، مقاسمة، توزيع. نحن أمام خبرات روحيّة تسعى إلى بناء الكنيسة، ومواهب منظورة يمنحها الله بحسب مشيئته (تاليسيس لا ترد إلاّ هنا في العهد الجديد. رج خر 18:28. أما ((تاليما)) فتدلّ على فعل إرادة محدّد، 10: 36؛ 13: 21). هذه المواهب تدلّ على واقع النعمة وعلى الخلاص الذي يكرز به المرسلون. في هذا المجال، قال تيودوريتس شارحًا 1كور 12: 4- 11: ((إن موهبة التعليم هي في المقام الأول، وهي علّة سائر المواهب المعطاة كلها حتّى يصدّق الناسُ الكرازة. فتعليم العقيدة يمنح الخلاص. ولكن بما أنه لا يُقبل من دون الآيات، وجب أن تُمنح المعجزات كعربون للناس حتى يتوبوا)).
2 - قراءة إجمالية
((فلذلك يجب علينا أن نتمسّك بما سمعناه أشدّ التمسّك، لئلاّ نزيغ عنه)) (2: 1)
هنا نصل إلى أول أرشاد تتضمّنه عب (رج 3: 12-4: 3؛ 4: 14-16؛ 5: 11-6: 8؛ 10: 32- 39؛ 12: 3- 13؛ 12: 14-17؛ 12: 25- 29). هذه المقاطع تبيّن أن تعليم الرسالة ليس فقط نظريًا، وأنه لا يرتبط بواقع الحياة اليومّية، بل هو عمليّ وجدّي جدًا بحيث لا نستطيع أن نهمل وضعه موضع العمل. وهذا الأمر يصحّ بالنسبة إلى كل تعليم العهد الجديد الذي فيه يقود اللاهوت إلى الممارسة. فالاهوت والحياة يسيران معًا. والتعليم المسيحي يتوجّه إلى الفعل وإلى الإرادة. نتقبّله بالايمان ونبرهن عنه في الخبرة. كان التعليم في ف 1 حول سموّ المسيح المطلق في شخصه وفي عمله الفدائي. فمن استهان بكرامة تخصّ الابن وحده، ونسبها إلى الملائكة، أو إلى خليقة أخرى، دمّر الانجيل ودمَّر معه موقفنا من الله.
بما أن المسيح يتفوّق على الجميع، سواء كانوا أنبياء أو ملائكة أو أحبارًا، يكون أن ما سمعناه حول كلمة الله الأخيرة للبشر (1: 2)، وحول ما أعلنه الرسل عن ذاك الذي هو المخلّص والرب، مهمًا جدًا. فانجيل يسوع المسيح فريد (يو 14: 6 ؛ أع 4: 12). وكل ((انجيل)) آخر ليس بانجيل. هو لا يحمل البركة، بل اللعنة (غل 1: 7- 9). فمن تهاون في سماع الانجيل، لم يرفض فقط الواعظ، بل الله الذي هو ينبوع التعليم الخلاصيّ. وحين كلّمنا الله بابنه، صار الكلمة بشرًا (يو 1: 14)، فاتّحدت الكلمة بالعمل اتحادًا كاملاً. والمؤمن الذي يتجاوب مع الكلمة بالايمان والشكر، لم تعد له بلاغًا يسمعه من الخارج في أذنه، بل قوّة يختبرها في عمق كيانه فتحوّل حياتَه وتُرى في سلوكه اليوميّ. وفي منظار لنعمة الله اللامحدودة التي تجلّت في إرسال الابن إلى العالم ليفتدي الجنس البشريّ، نحسّ أنه يجب علينا أن نهتمّ كل الاهتمام باعلان الانجيل.
اعتبر معظم الشّراح منذ الذهبي الفم، أن الكاتب حثّ قرّاءه على التمسّك بالانجيل، لا بالشريعة التي سلّمها الملائكة. فتاريخ اسرائيل يدلّ على العقاب الذي ناله الشعب حين أهمل الشريعة. فكم يكون قاسيًا عقاب من يهمل الانجيل الذي حمله الابن. هذا يعني أنه يجب على القرّاء أن لا يتهاونوا بالنسبة إلى الانجيل. فالضلال يتربّص بهم إن لم يتمسّكوا بالحقيقة ويحفظون نفوسهم من الابتعاد عن الانجيل. رج 6: 19 والكلام عن المرساة الامينة والراسخة. فالذين تتوجّه إليهم الرسالة سيخسرون حقّهم في أن يسمّوا مسيحيين حقيقييّن، لأنهم يهملون ممارسة الايمان الذي يعلنونه. في هذا المجال نقرأ 3: 12: ((إحذروا أيّها الاخوة من أن يكون لأحد منكم قلب خبيث وغير مؤمن فيرتدّ عن الله الحي)). وفي 4: 11: ((لنجتهد اذن أن ندخل في تلك الراحة...)). وفي 5: 12: ((كان عليكم أن تكونوا معلّمين، فاذا بكم تحتاجون إلى تعليم)) (رج 6: 1؛ 10: 35- 36؛ 12: 1- 12-25؛ 13: 9). أجل، الخطر يهدّد المؤمنين بحيث يبتعدون عن الانجيل.
((لأنه، إن كانت الكلمة التي نُطق بها على ألسنة الملائكة قد ثبتت، وكل تعدّ ومعصية قد نال جزاء عدلاً، فكيف نفلت نحن ان أهملنا خلاصًا (عظيمًا) مثل هذا)) (2:2-3أ)
الله هو الذي ينطق بالملائكة. هو المتكلّم الأول. وما قاله الله على جبل سيناء حمله الملائكة إلى موسى فكانوا وسطاء بين الله وموسى. هذا ما يشير إليه كتّاب العهد القديم والعهد الجديد. غير أن خر 19- 20 لا يشير إلى حضور الملائكة، بل يورد حوارًا بين الله وموسى. ولكن تث 33: 2 يتحدّث عن ربوات القديسين، فيجعلنا نفهم أننا بحضرة الملائكة. رج مز 68: 17 الذي يتكلّم عن آلاف مؤلّفة ترافق الربّ في سيناء. في العهد الجديد، قال اسطفانس إن الشريعة أعطيت بيد الملائكة (أع 7: 53). وصوّر بولس الشريعة وقد جاءت على يد وسيط بعد أن أعلنتها الملائكة (غل 3: 19). هذا ما نجده أيضًا في كتاب اليوبيلات (11: 27)، عند فيلون (الاحلام 1: 143) وعند يوسيفوس (العاديات 15/5: 3).
إذا كانت الشريعة ثابتة متينة، فهذا لا يعود إلى الملائكة الذين حملوها، بل إلى الله الذي نطق بها. لقد كانوا وسطاء في إيصالها. ولكن هناك وساطة من نوع آخر هي وساطة الابن الذي هو وسيط العهد الجديد (8: 6؛ 9: 15؛ 12: 24). فالابن المتأنّس ختم النداء الأبدي بدمه. وجاء البرهان من القليل إلى الكثير. من الأصغر إلى الأكبر. من أهمل شريعة موسى نال العقاب، فما يكون مصير من يهمل الخلاص الذي يقدّمه الابن.
قال بولس إن الشريعة مقدّسة، صالحة، كريمة (روم 7: 12 ،14؛ 2كور 3: 7ي). ولا يمكن أن تكون غير هذا، لأن الله هو الذي أعطاها. ولكن المشكلة ليست مع الشريعة، بل مع الانسان الذي يتجاوز الشريعة فتصبح ضدّه وتحكم عليه بالموت. غير أن كرامة الانجيل فوق كرامة الشريعة بشكل لا محدود. هو يحمل الحياة، وهي تحمل الموت. لهذا لا يمكن أن يتبرّر الانسان بأعمال الشريعة، بل بنعمة الله في الربّ يسوع (غل 2: 15ي). ولكن لا تعارض بين الشريعة والانجيل. فالانجيل هو كمال الشريعة.

((قد نطق الربّ به أولاً ثم ثبّته لنا الذين سمعوه. والله يؤيّد شهادتهم بالآيات والعجائب وشتّى المعجزات، وبتوزيع مواهب الروح القدس على حسب مشيئته)) (2: 3ب-4)
في معرفة القرّاء وفي خبرتهم، نجد شهادة عن صدق الخلاص في المسيح، في أصل هذا الخلاص وتجلّيه في وسط المؤمنين. الرب هو الذي نطق، أخبر بهذا الخلاص. ((الذين سمعوا)) هم أولاً الرسل، ثم صاحب الرسالة والقرّاء. وسوف نقرأ في 13: 7: ((أذكروا مدبّريكم الذين كلّموكم بكلمة الله)).
وصل التعليم إلى ((العبرانيين)) بواسطة بشر. ولكن في الواقع، الربّ هو الذي نطق بهم. وبما أنه إله وانسان (ليس الملاك إلهًا ولا انسانًا) فهو يستطيع أن يكون الوسيط بين الله والبشر. فهو كإله يمتلك القدرة التي تساعد الناس الساقطين. وهو كانسان تماهى مع البشر، تضامن معهم، احتمل ما احتملوه، فكان لهم الحبر الأمين والرحيم.

خاتمة
انطلقنا من مقابلة بين الابن والملائكة، ففهمنا تفوّق الابن الذي هو وحده الوسيط بين الله والبشر. لهذا، يجب أن نسمع الكلمة التي يحملها إلينا، ولا نهمل الخلاص الذي يقدّمه لنا. ولكن الخلاص هو عمل الثالوث الأقدس. لهذا نكتشف أيضًا عمل الله الآب الذي يشهد لحقيقة الانجيل بما يجريه من آيات وعجائب ومعجزات. وهو يشهد في اتحاد مع المؤمنين. بل هو يشهد فيهم، في حياتهم، في أعمالهم. كما نكتشف عمل الروح القدس الذي يوزّع مواهبه حسب مشيئة الله. فالمواهب والخدم والأعمال يجب أن تكون كلها من أجل بناء الكنيسة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM