الفصل الرابع: ابن الله والملائكة

الفصل الرابع
ابن الله والملائكة
1: 5 - 14
بعد هذه النظرة الاجماليّة إلى القسم الأول (1: 5-2: 18)، نعود إلى المقطع الأول (1: 5-14) الذي يتحدّث عن ابن الله المتأنس: هو وسيط العهد الجديد وأعظم من الملائكة. فنقرأه في أربعة تعارضات. الأول، المسيح هو الابن. له تسجد الملائكة (1: 5-6). الثاني، الملائكة هم خدّام تجاه المسيح الملك (عرش أبدي) الذي مُسح فكان سيّدَ الكون في بدايته وفي نهايته (1: 7-12). والتعارض الثالث يُبرز المسيح الجالس عن يمين الله، ويتحدّث عن الملائكة الذين أرسلوا للخدمة (1: 13- 14). أمّا التعارض الرابع فنقرأه في المقطع الثاني (2: 1- 4) الذي سنعود إليه في فصل لاحق.
إن الطرح الذي أعلن في 1: 4 حول تفوّق المسيح على وسطاء العهد القديم، يُبرهَن عنه في سبعة استشهادات من العهد القديم (خمسة استشهادات من المزامير). فالتوراة هي كلام الله (آ ،5 ،6 ،7 13). واليهود اعتبروا أن الملائكة حملوا شريعة الله إليهم. فافتخروا. لهذا بيّن صاحب الرسالة تفوّق المسيح على هذه الكائنات السماويّة.
هذا ما تبيِّنه عب في ثلاثة تعارضات ذكرناها، وها نحن نقسم دراستنا ثلاثة أقسام.

1- المسيح هو الابن الذي تسجد له الملائكة (1: 5-6)

أ - تفسير الآيات
أولاً: أنت ابني (آ 5)
تبدأ الآية باستفهام بلاغيّ مع ((غار)) (إذن)، وتفترض جوابًا سلبيًا: لا، ما توجّه الله يومًا إلى ملاك بمثل هذا الكلام. ويأتي الاستشهاد الاول (مز 2: 7) حسب السبعينية، في مزمور نُسب إلى داود واعتُبر مسيحانيًا في معناه الحرفيّ (الله يقيم ملكه على الأرض). فالله جعل الملكَ المسيحَ، في يوم جلوسه على العرش، سيّدَ جميع الشعوب. نقرأ فعل ((آبيان)) (قال) وفاعله الله كما هو فاعل فعل ((ايساغوغي)) (أدخل، في آ 6): أنت ابني. أنا اليوم ولدتك. المسيح هو ابن يهوه وبالتالي وارث خيرات أبيه الذي هو ربّ الكون. ربط التقليد اليهودي هذا المزهور بداود أو بشعب اسرائيل، وبعض المرات بهارون. ولكنه ربطه بشكل خاص بالمسيح (مز سليمان 17: 23). أما التقليد المسيحي، فربطه بيسوع المسيح في علاقته الخاصة مع الله الآب (أع 4: 26 - 27؛ 13: 33؛ رؤ 2: 27؛ 12:5؛ 19: 15). رأى بعض الآباء (اوريجانس في تفسير يو 1:1 وأوغسطينس في مز 2: 7) في صيغة الكامل العبري تلميحًا إلى ولادة الابن الأزليّة. ولكن وجود ((اليوم)) (هـ.ي وم) يجعلنا في زمن تاريخيّ. أما بولس ففهم المزمور في خطّ قيامة المسيح (أع 13: 33؛ روم 1: 4). حسب التقليد الازائي، أعلن هذا الكلامُ في عماد يسوع (لو 3: 22) وفي تجلّيه على الجبل (لو 9: 35). حين تمجّد المسيحُ تفوّق على الملائكة. وإذ سمّى الله يسوع ابنه، ألبس بشريّتَه قدرتَه الخلاصيّة المجيدة.
ويبدأ الاستشهاد الثاني مع ((وأيضًا)) (كاي بالين. وع و د في العبرية. و ت و ب في الارامية، رج 2: 13؛ 4: 5؛ 10: 30؛ مت 4: 7؛ روم 15: 10- 12؛ 1 كور 3: 20). هو يؤكّد بنوّة المسيح الالهيّة، كما يُبرز تواصل علاقات المحبّة بين الآب والابن. رج 2 صم 7: 14 (1 أخ 17: 13؛ 28: 3). حسب المعنى الحرفي، تكلّم الله بفم ناتان إلى داود عن نسل بشريّ سيكون له أبًا (أب) وهو يكون لله ابنًا (ب ن). هناك سليمان في المعنى القريب. وفي المعنى البعيد، المسيح مع نسله الروحيّ. نشير إلى أن التقليد الرابيني لم يطبّق هذا القول على المسيح.
ثانيًا: يسوع البكر (آ 6)
تربط آ 6 ربطًا واضحًا المسيح بالملائكة. هناك كرامة الابن، ثم الملائكة في وضعهم الخاضع. نقرأ فعل ((أدخل)) الذي يدلّ على عودة المسيح في مجيئه (باروسيا). ولكن هذا لا ينفي أن يرتبط ((ايساغو)) بتجسّد الابن، بعد أن جاء فعل ((قال)) (لاغاي) في صيغة الحاضر. البكر (بروتوتوكوس) هو تسمية اللوغوس في فيلون. كما يعني الابن الحبيب. ولكن البكر هو في معنى أول ذاك المكرّس لله (خر 13: 2، 12-15؛ عد 3: 13؛ لو 2: 7)، والمخصّص لخدمته. إذن، ابن الله المتأنّس هو بحقّ رئيس المملكة المسيحانيّة. وبما أن ((بروتوتوكوس)) هو اسم المسيح القائم من الموت (روم 8: 29؛ كو 1: 18؛ رؤ1: 15)، استعمل بشكل مطلق. لا يقول الكاتب إن المسيح هو بكر الملائكة أو البشر، بل يعطيه لقبًا كريمًا، فيدلّ على علاقته الفريدة بالله، وعلى تفوّقه على جميع الخلائق.
بما أن يسوع يتمتّع بهذا السموّ، فلا يبقى للملائكة سوى السجود له كما يسجدون لله . رج مز 97: 7 الذي قيل في الاصل عن الله وتطبَّق هنا على المسيح. نشير أن النص العبريّ يقرأ: (( ب ن ي. إل و هـ ي م)) أبناء الله. فترجمت السبعينية: ((انغالوي))، أي الملائكة.

ب - قراءة إجمالية
((فلمن من الملائكة قال قط :أنت ابني. أنا اليوم والدتك)) (1: 5أ)
ثبّت الكاتب تفوّق المسيح على الملائكة في استشهادات سبعة تؤكّد بنوّته وسيادته. أجل، انطلق المسيحيون من نصوص العهد القديم، فدلّوا على ألوهيّة يسوع. وطبّقوا ما قيل عن الله، ولا سيّما في المزامير (45: 6-7، 102: 25ي)، على يسوع المسيح.
طُبّق هذا الاستشهاد (مز 2: 7) على يسوع الذي تجسّد من مريم العذراء، فقيل عنه في البشارة: ((يكون ابن العليّ)) (لو 1: 32). وناداه الصوت السماوي في بداية رسالته: ((أنت ابني، عنك رضيت)) (مر 1: 11 وز). كما طُبّق على يسوع في يوم قيامته. ((واليوم)) يعني القيامة كما يعني الصعود والتمجيد عن يمين الله.
نرى هنا أن شخصًا واحدًا قال له لله: أنت ابني. وهذا الابن هو يسوع المسيح. فكل بنوّة تجاه الله تتركّز على شخص المسيح. والمسيحيون هم أبناء باتّحادهم بالمسيح. لقد قبلهم الله، لأنهم اتحدوا بالمسيح الذي هو موضوع رضاه. فبنوّة يسوع هي بنوّتنا، وميراثه ميراثنا، وتمجيده تمجيدنا.
((وأيضًا: أنا أكون له أبًا، وهو يكون لي ابنًا)) (1: 5ب)
ويأتي الاستشهاد الثاني فيوضح تفوّق المسيح على الملائكة. قيل لداود اولاً. ولكن الذين قيل فيهم، لم يكونوا على قدر المهتّمة. فصار القول وعدًا، وتطلّع الناس بشوق إلى تكملة هذا الوعد في ملك داود المسيحانيّ. رج أش 7: 14 في كلامه عن عمانوئيل (الهنا معنا)، وعن عرش داود الذي يدوم (9: 6ي)،وعن فرع يسّى الذي يحلّ عليه روح الربّ (11: 1ي). ونظر إرميا وحزقيال إلى إقامة مُلك الله بشكل عهد جديد يقيمه الله (إر 31: 1ي؛ حز 11: 14ي). في هذا المعنى قال إر 23: 5: ((ستأتي أيام يقول الربّ، أقيم من نسل داود ملكًا صالحًا، يملك ويكون حكيمًا ويُجري الحقّ والعدل في الأرض)) (رج 33: 14- 15).
إن انتظار الشعب العبري الذي تأسّس على وعد 2 صم 7: 12 ،ظل حيًا في القرن الأول المسيحي. هذا ما نراه في كتابات قمران. وسيقول صاحب عب إن هذا الوعد قد تمّ في مجيء يسوع الذي هو ابن الله وابن داود (روم 1: 3)، الذي هو ابن حق في أزليّته، وانسان حقّ بتجسّده. ولكن ليس من وعد أعطي للملائكة. فبنوّته هي فريدة، لا على مستوى كيانه الالهي فحسب، بل على مستوى التجسّد، لأنه الوسيط الذي قدّم نفسه لأجلنا، فقبل الله تقدمته حين أقامه من بين الأموات.
((وعندما يدخل البكر، من جديد إلى العالم، يقول: لتسجد له جميع ملائكة الله)) (1: 6)
هو الاستشهاد الثالث للبرهان على تفوّق المسيح على الملائكة. كيف نفهم ((من جديد)). أو: ((نقول من جديد)) (مرّة أخرى أيضًا). أو ((يدخل أيضًا)). فإذا كان الخيار الأول، نكون أمام استشهاد جديد كما في 1: 5. وإذا أخذنا بالخيار الثاني، ارتبط الاستشهاد بمجيء المسيح الثاني إلى العالم، كما بتجسّده من البتول مريم.
فسّر الذهبي الفم هذا النصّ في إطار سرّ التجسد. أما ايرونيموس وغريغوريوس النيصي ففي إطار المجيء الثاني. أوردت عب هنا تث 32: 34 (نشيد موسى) كما في السبعينية. غير أننا نجد القول عينه في مز 97: 7. فالابن الوحيد هو البكر، وهو يأتي قبل الآخرين كلهم، سواء كانوا من الملائكة أو من البشر. هو يمتلك كل امتياز وكل كرامة. وهو مكرّس للربّ. هذا ما كان عليه يسوع المسيح الذي كرّس نفسه لخدمة أبيه فكان طعامه أن يعمل مشيئة الآب (يو 4: 34؛ 6: 38).

2 - الملائكة خدّام المسيح الملك (1: 7-12)
نصل هنا إلى التعارض الثاني في مقابلة ثانية بين المسيح وبين الملائكة الذين جُعلوا للخدمة تجاه الذي هو الرب.

أ - تفسير الآيات
أولاً: قول في الملائكة (آ 7)
في هذا الشقّ الثاني من البرهان، ننظر أولاً (بروس) إلى وظائف الملائكة من جهة، ووظيفة الابن من جهة أخرى. هو الملك وهم خدّامه الذين يرسلهم كالرياح (آ 7- 9). نقرأ الايراد الأول في مز 104: 4 الذي لا يحمل في الأصل العبري أيّ تلميح إلى الملائكة: التحف الربّ بالمجد والبهاء، فسار على أجنحة الريح، وجعل من العاصفة رسوله، ومن النار ولهيب البرق خدّامه. هذا يعني أن قوى الكون من ريح وعاصفة، تأتمر بأمر خالقها. هكذا فهم الرابينيون النصّ. ولكن الترجوم والسبعينية وعزرا الرابع (3/23: 3) اعتبروا أن الله خلق لنفسه مرسلين سريعين كالريح، وخدامًا حاريّن مثل لهيب النار، وذلك لما خلق الانسان من تراب الأرض. وهكذا نكون أمام وصف لطبيعة الملائكة الذين هم أدنى من الابن (الذي هو الله آ 8). نحن هنا أمام ظواهر كونيّة ترتبط بإعلان الشريعة على جبل سيناء مع الريح والنور. رج خر 3: 2؛ 2 مل 6: 17؛ عب 12: 18- 20. وسيقول المعلمون إن الملائكة خُلقوا من نهر نار (دا 7: 10؛ حجيجة، تلمود بابل 14أ): هم يُولدون كل صباح، ويعودون إلى نهر النار بعد أن يُسبِّحوا الله... هم يتبدّلون، أما الابن فأبديّ. خدمتهم (لايتورغوس) عابرة، ومُلك المسيح لا يزول.
ثانيًا: قول في الابن (آ 8-9)
نحن هنا أمام تعارض جذري. ((مان)) في آ 7. ((دي)) في آ 8. هم خدّام. أمّا المسيح فهو ملك وهو الله. جاءته الصفة الأولى من مز 45: 7- 8 الذي يُنشد زواج الملك، ويتّخذ معني مسيحانيًا حسب الترجوم وتقليد المعلّمين. نجد المنادى: تيوس، يا الله. سُمِّي الملوك آلهة في العالم القديم، لأن أصلهم سماويّ (مز 82: 1، 6). وكذلك سُمِّي الملك المسيح في أش 9: 5. ولكن عب فهمته بمعنى خاص (آ 3): فالمسيح ينعم بملك أزليّ. ((إلى أبد الأبد)). نجد هذه العبارة في السبعينية، لا في العهد الجديد. رج أف 3: 21.
ويتواصل إيراد مز 45: 7- 8 مع واو العطف (كاي)، فيؤكّد سموّ هذا الملك وصفات الملك المسيح: هذا المسيح يقيم البرّ والعدل (ربدوس، صولجان، هو علامة سلطة الله. رؤ 2: 27؛ 21: 5؛ 19: 15). فهو البار والمستقيم (اوتيتيتوس). لا نجد هذا اللفظ إلاّ هنا في العهد الجديد، وهو يدلّ على الصدق والعدل الاستقامة على المستوى الاخلاقي. كما يقابل ((ي ش ر)) العبري الذي يترافق مع ((ت م)) (التام، الكامل). بعد ذلك، تُذكر مسحة تبدو بشكل تكريس ملكيّ (1صم 10: 1؛ 16: 12- 13) أو تتويج (اش 61: 3)، لأنها تبدد جزاء لملك المسيح التام خلال حياته على الأرض (ديا توتو، لذلك. فل 2: 18؛ رؤ 3: 21). أما الزيت الذي تتمّ به هذه المسحة. فيسمّى ((زيت بهجة)) (أغالياسيوس): هو يرمز إلى السعادة والمجد اللذين ينعم بهما المسيح في السماء. نحن أمام تكريس مجيد، وتثبيت احتفالي في ملك يتجاوز كل ملك على مستوى السعادة والقدرة.
لا نستطيع أن نطبق هذه المسحة على الابن الأزلي، بل على طبيعة الكلمة البشرية. لا على مستوى الوحدة الجوهرية في التجسّد (كيرلس الاسكندراني)، ولا على مستوى حياة يسوع العامة (لو 4: 18؛ أع 10: 38)، بل على مستوى تمجيد المسيح في الصعود (1تم 3: 16). عندئذ تَعظَّم بين رفقائه، بل فوق (بارا مع النصب، رج آ 4؛ سي 15: 7) رفقائه (ماتوخوي، م. ح ب ر ك) الذين هم ملوك نالوا أيضًا المسحة الملكيّة. بل هم الخلائق الذين شاركهم في الطبيعة البشريّة (2: 9-11)، ثم أشركهم في مجده (3: 14).
نقرأ هنا مرتين ((تيوس)) مع التعريف. هل نترجم ((الله الذي هو إلهك)) (ال هـ ي م، ال هـ ي ك)؟ بل نجعل المنادى كما قال أكيلا: يا الله). هي المرة الوحيدة التي فيها يُسمّى الابن ((هو تيوس)) مع التعريف (في يو 1: 1 نجد ((تيوس)) بدون التعريف). لقد أرادت عب أن تُبرز ألوهيّة المسيح، فأعطته صفات إلهيّة (آ 2- 4)، وطبّقت على المسيح ما قيل عن الله (آ 6؛ تث 32: 43). والفكرة التي نستخلصها من المقابلة بين المسيح والملائكة، في هذا المقطع، هو أنه يتفوّق عليهم بالكرامة، بل هو ينتمي إلى نظام آخر هو نظام الالوهة. لهذا، سجد له الملائكة.
ثالثًا: الابن خالق الأرض والسماوات (آ 10-12)
إن آ 10- 12 هي إيراد مز 102: 26- 28 حسب السبعينيّة مع تعديلات بسيطة. قابل المرنّم بين الحياة البشريّة التي هي عابرة وسريعة العطب، وأزليّة الله. ثم أعلن أن الله وحده يبقى إلى الأبد. هو خالق السماء والأرض. إنه القدير الذي لا يتبدّل. وحين تُساوي عب الابن بالله (آ 3-5، 9)، فهي تطبّق على المسيح هذا الاعتراف بعظمة الله الأزلي. وهذا واضح من استعادة لفظ ((كيريي)) (أيها الربّ)، الذي نجده في السبعينيّة، لا في العبرية. فإن كيريوس، وهو اسم الهيّ، قد سهّل تطبيق هذا المزمور على المسيح، لأنه دلّ على المسيح في الكنيسة الأولى. إذن نفهم عن الابن، بحسب طبيعته الالهيّة، هذه الصفات التي تشير إلى قدرته وثباته وديمومته.
يُعلَن وجود يسوع منذ الأزل مع إشارة كرونولوجيّة (كات ارخاس، ل ف ن ي م، منذ زمان بعيد)، وديمومته مع ((ديامانايس)) (تبقى، في صيغة الحاضر) التي تقابل تطوّر الكون المستمرّ وتفكّكه: هذا الكون يشبه رداء يعتق فيحلّ محلّه آخر (8: 3؛ أش 51: 6؛ سي 14: 7). كانوا يعتبرون في الماضي أن النجوم في السماء ثابتة، والأرض سريعة العطب.كما كانوا يرون الملائكة يقيمون في السماء. فشدّدت عب على الطابع العابر للسماء، شأنها شأن الأرض. سيكون هناك سماوات جديدة وأرض جديدة (2 بط 3: 10- 13؛ رؤ 21: 1). ويتوقّف عمل الملائكة مع ظواهر الكون. ولكن عبر هذه التحوّلات والتقلّبات، يبقى المسيح هو هو (13: 8؛ رو 21: 13). وُجد قبل الخليقة، ويدوم بعدها. ((أنت هو)). رج تث 32: 39؛ أش 41: 4؛ 43: 10. أي أنت لا تتبدّل. هذا ما صار في اليونانية: إغو ايمي (يهوه).

ب - قراءة إجماليّة
((يقول عن الملائكة: صنع ملائكته رياحًا، وخّدامه لهيب نار)) (1: 7)
هذا الاستشهاد الرابع يعود إلى مز 104: 4 الذي يعني في الأصل أن الله يستعمل الرياح كمرسلين يرسلهم، ولهبَ النار كخدّام يخدمونه. هذا ما يتوافق مع سياق مباشر يتكلّم عن الله الذي ينشر السماء كخيمة ويبني قصره فوق المياه، ويستعمل السحاب مركبة له، وينطلق على أجنحة الرياح. إن مز 104 هو كلام حول معجزات الله في الخلق وسلطانه على كل شيء. قال المرنّم ((لهيب نار)) (اش. ل هـ ب) في المفرد. أما عب فجعلت صيغة الجمع لكي تتوافق مع ((خدّامه)). وهكذا توازت ((النيران)) مع ((الرياح)).
وذُكرت الرياح. فلفظ ((روح)) (هنا ((روح وت)) في الجمع) يعني الريح كما يعني الروح. لهذا، قال الشراح: جعل ملائكته أرواحًا، وهكذا كان كلام عن الملائكة الذين هم أرواح. نشير هنا إلى أن المعنيين ممكنان: رياح وأرواح. ولكن يبقى التعارض بين الملائكة والابن. من جهة، الملائكة هم خّدّام (موسى خادم تجاه المسيح، 3: 5- 6)، ووظيفتهم متقطّعة شأنها شأن الرياح والنار. ومن جهة ثانية، الابن يقيم في مجد لا يُدنى منه، ويتمتّع بسلطان لا يزول. نحن أمام تعارض بين ذاك الذي هو الابن والوارث وبين الذين هم خدّام يأتمرون بأمره في ملكوت الله.
((أما عن الابن فيقول: عرشك، يا الله، إلى أبد الأبد. وصولجان الاستقامة صولجان ملكك. أحببتَ البرّ وأبغضت الاثم، لذلك، يا الله، مسحك إلهك بزيت بهجة دون رفقائك)) (1: 8- 9)
جاء الاستشهاد السابق تجاه هذا الاستشهاد الخامس في تعارض قويّ على مستوى المضمون كما على مستوى الشكل (عن الملائكة... أما عن الابن). صوّر الرابعُ موقف الخضوع لدى الملائكة. والخامس سيادةَ الابن الدائمة، حسب مز 45: 6- 7 الذي هو نشيد زواجيّ. في أي ظرف قيل هذا المزمور؟ بمناسبة زواج ملك في فلسطين: سليمان وابنة حيرام. أو اخاب، ملك اسرائيل، مع ايزابيل ابنة ملك صور. ولكن المهمّ هو أن لغة المزمور تطبّقت على الملك المسيحاني الذي من نسل داود (رج 2صم 7: 6؛ مز 89: 3-4 ،20). إن مُلك داود يتميّز بالعدل والاستقامة. ويُقال المزمور عن المسيح ابن داود: ((يقضي للفقراء بالعدل، ويُنصف وضعاء الأرض)) (أش 9: 7؛ 11: 4). لسنا هنا أمام تقارب وحسب، بل أمام تماه بين ملكوت الله وملكوت المسيح، بعد أن أعلن المرنّم لله: ((الاستقامة والعدل أساس ملكك)) (مز 89: 14).
في هذا المنظور، يمكن أن يقال لملك من نسل داود: عرشك إلى أبد الأبد. فنحن أمام كلام مسبق حول ملك إلهي وأزليّ: هو الابن الذي تواضع وصار انسانًا، وقاسى الصلب، وقام من بين الأموات، ورُفع إلى السماء. وهكذا أتمّ كل رجاء مسيحانيّ كالابن المتأنّس. فيه التقى البشريّ والالهيّ، وصار ملكوتُ داود ملكوتَ الله.
يتميّز دور هذا الابن الذي هو ملك، بالاستقامة والعدل. والتأكيد بأنه يحبّ البر ويبغض الاثم، لا ينطبق فقط على قداسة الابن بما أنه الاله الأزليّ، بل على حياته على الأرض كالابن المتأنس. فهذا ما جعله يصل إلى الصلب والموت. وفي هذا قالت 1بط 3: 18: ((فالمسيح نفسه مات مرّة واحدة من أجل الخطايا. مات وهو البار، من أجل الاشرار)). فكمالُ طاعته التي تجد ذورتها في الصليب، كانت على قدر حبّه للبر وبغضه للاثم، وعبّرت عن رحمة الله من أجل البشر (5: 8-9).
هذا الملك مسحه الله. لهذا، فهو المسيح في المعنى المطلق. أما الذين اعتُبروا ((مسحاء)) قبله، بعد أن مُسحوا بالزيت، فهم صورة بعيدة عنه. هنا نتذكر كلام أشعيا (61: 1، روح الربّ عليّ، فالرب مسحني) الذي طبّقه يسوع على نفسه في مجمع الناصرة (لو 4: 18 ي: اليوم تمّ هذا الكلام). فالابن المتجسّد هو وحده مسيح الله. وهذه المسحة لا ترتبط فقط بعماد المسيح، ولا بكمال حياته وذبيحته، بل بدخوله الظافر إلى مجد السماء: تلك هي النتيجة المنطقيّة لرسالته التي تمّت على الأرض. وإتمامُ عمل الفداء من أجل الكون والجنس البشري، هو سبب البهجة والفرح في حضور الله. قال أش 61: 3: ((زيت البهجة بدل الحداد)). وقال بطرس في يوم العنصرة مستندًا إلى مز 16: 11: ((ملأتني بهجة بحضورك)). كل هذا يجد تتمته في قيامة يسوع وتمجيده.
((وأيضًا: أنت، أيها الرب، في البدء أسّست الأرض، والسماوات هي صُنع يديك. هي تزول وأمّا أنت فباق، وكلها تعتق كالثوب. تطويها كالرداء، وكالثوب تتبدّل. أما أنت فأنت وسنّوك لا تنقضي)) (1: 10- 12)
نحن هنا أمام أستشهاد من مز 102 ينطبق على الابن، الذي صنع السماوات كلها والأرض، والذي يبقى هو هو ولا يتبدّل تجاه خلائق تتحوّل، بل تسير إلى الانحلال. قد يرتبط هذا المزمور بدمار المدينة المقدسة التي اعتُبرت منيعة، وبحريق الهيكل الذي هو رمز لحضور الله وسط شعبه (هذا ما حصل سنة 587 ق م). وسيفهم الشعب أن الله ليس فقط الخالق والديّان، بل ذاك الذي يُصلح كل شيء. فإن كان الله لا يتبدّل، فكلمة وعده أيضًا ثابتة (عب 6: 18). وستقول عب 12: 26ي إن الأرض تتزعزع، فلا يبقى إلاّ ((ما لا يتزعزع)) أي ملكوت المسيح الذي يجدّد نظام الخليقة.
في مطلع الرسالة، أعلن الكاتب أن الابن خلق العالم بكلمته، وأنه يحفظ الكون بقدرته (1: 2- 3)، وان المزمور سمّاه ((الله)) (1: 8). وها هو يطبّق عليه الآن ما وجّهه صاحبُ المزامير إلى يهوه، الربّ. وهكذا يبَرز التعارضُ بين الابن والملائكة. هو الربّ الاله. وهم يقدمّون له السجود والاكرام. هو الخالق، وهم الخلائق. هو لا محدود في كيانه وفي قدرته. أمّا هم فمحدودون وخاضعون. ومع أن كل شيء يزول، فالابن يبقى هو هو، أمس واليوم وإلى الأبد (13: 8).

3 - الابن يجلس عن يمين الله (1: 13- 14)

أ - تفسير الآيات
أولاً: لمن من الملائكة قال (آ 13)
إن البرهان البيبليّ الأخير يُجمل، في شكل من الأشكال، تعليم الاستشهادات السابقة، فيقدّم المسيح في جلال ملوكي، لا في سجود خاضع كالملائكة، بفعل قرار إلهيّ فريد ومطلق. يعود هذا الاستشهاد إلى مز 110: 1 الذي يرد مرارًا في العهد الجديد (10: 3؛ مت 22: 44؛ أع 2: 34؛ 1 كور 15: 25). ينطبق هذا المزمور في معنى نمطي (تيبولوجي) على المسيح الذي ملكه شامل ومطلق، الذي منحه الله أعظم كرامة: أن يجلس عن يمينه (داكسيون، صيغة الجمع كما في المزمور. ولكن سيستعمل الكاتبُ المفردَ بعد ذلك). وضع ((إك)) بدل ((إن)) (آ 3)، ليدلّ على الحركة، ويشير إلى فعل الجلوس (في رؤ 5: 1 نجد ((إبي)) على)). نفهم هنا أن طبيعة المسيح البشريّة صارت قريبة من الله. دخلت في قلب الثالوث. فأي ملاك يمكنه أن يصل إلى هذه الرفعة! وساعة يكون الملائكة في خدمة المسيح (آ 5)، وفي خدمة المؤمنين (آ 14)، يعمل الله نفسه من أجل مسيحه، فيحطّم له اعداءه الذين هم الشرّ والخطيئة والموت، كما يقول بولس الرسول في 1 كور 15: 26.
نقرأ ((حتّى)). في العبرية: ع د. حتّى ذلك الوقت وبعده. رج تك 28: 15؛ تث 7: 14؛ مز 112: 8. وتشير هذه الأداة أيضًا إلى الهدف الذي ينبغي بلوغه. قالت السبعينية: ((هيوس أن تو)) فدلّت على أن تدخّل الله بدأ في التجسّد، وأعداء المسيح هم اعداء الله (مت 8: 19- 23).
ثانيًا: هم جميعهم أرواح (آ 14)
إن موقف الخضوع الذي يقفه جميع الملائكة بلا استشناء، مهما كانت رتبتهم (بنتس)، نقرأه في عبارة تدلّ على مستواهم الوضيع تجاه المسيح الممجّد. جاءت ((أوخي))، بدل ((أو)) (النافية). نحن أمام استفهام ونفي كما في آ 5: أو ليسوا؟ والجواب يكون نعم: هم أرواح خادمة. هم أرواح: بنفماتا. هكذا يُسمّى الملائكة. رج 12: 9؛ عد 16: 22؛ 27: 16؛ 2 مك 3: 24. وظيفتُهم وظيفة الخدّام (ليتورغوس، آ 7)، واسمُهم يرتبط بوظيفتهم (ليتورغيكا بنفماتا، أرواح خادمة). هذه العبارة التي لا ترد إلاّ هنا في العهد الجديد (قال فيلون في الفضائل 73: ملائكة خدّام). تعني حرفيا: أرواح ليتورجيّة. هم يمارسون وظائف عامة بإمرة رئيس. تحدّثت آ 7 عن خدمة الملائكة هذه. وأضيفَ هنا أنهم لا يقومون بعمل في الكون بواسطة عناصر الطبيعة، بل يتسلّمون مهمّة لدى البشر ومن أجلهم فينفّذون مقاصد الله من أجل عمل الخلاص.
لا نجد لفظة ((ليتورغيكوس)) (ليتورجي) في اليونانيّة الأدبية، بل في البرديات مع معنى دنيويّ: مشاركة في الجزية، ضريبة. استُعملت في معنى ديني لكي تدلّ على أيام تُفرض فيها الخدمة الدينيّة (هيمراي ليتورغيكاي). نحن هنا أمام خدمة مفروضة. وهي تقابل الخدمة الطوعيّة (دياكوناين). في العهد القديم، نجد اللفظ ست مرات في معنى دينيّ: خر 31: 10 (لباس هارون)؛ عد 4: 26؛ 7: 15 (احتفال في خيمة الاجتماع). لهذا نترجم ((ليتورغيكوس)): ما يتعلّق بالخدمة وشعائر العبادة. أما وظيفة الملائكة فخدمة مقدّسة (ش ر ت، عد 4: 12؛ 2 أخ 24: 14). تحدّث الرابينيّون عن ((ملائكة الخدمة)) (الالهية): م لا ك ي .هـ. ش ر ت. هؤلاء الخدّام لا يعملون بمبادرة منهم، بل يأتمرون بأمر الله الذي يرسلهم دومًا (اسم الفاعل، ابوستالومانا، يدلّ على عمل متواصل). رج أع 3: 20 ،26؛ يو 1: 51 (صاعدون ونازلون). ((دياكونيا)) هي الخدمة والعون (أع 11: 29 ،ل ع ز و ا). والله هو الذي يعين (مز 22: 20؛ 27: 9؛ 38: 32؛ 40: 14- 18). أراد الكاتب أن يبيّن جهوزيّة الملائكة ليخضعوا لله قبل أن يتحدّث عن خدمات يؤدّونها للبشر. أما الخدمة الرئيسيّة التي يقوم بها الملائكة فهي مديح الله، ومشاهدته وعبادته (مت 18: 10). ثم هم يعملون من أجل (ديا، ب ع د) الذين يخلصون. الذين ينتظرون الخلاص التام ويستعدّون له (9: 28). هم المؤمنون. أجل، الملاك هو عون إلهيّ يُعطى للمختارين. ولفظة ((خلاص)) (سوتيريا) ترتبط بالنهاية، وتدلّ على إقامة سعيدة مع المسيح الممّجَّد. هذا الخلاص هو عطيّة وميراث (كليرونوماين سوتيريا، لا ترد العبارة في العهد الجديد إلاّ هنا). هو خلاص آتٍ (رج ((مالو)) أزمع، لو 4: 44؛ 24: 21) يمنحه الله، فيهيئ الملائكة البشر لكي يتقبّلوه. وهكذا بدا الملائكة مثل اللاويّين الذين في الهيكل. قال الذهبي الفم: ((بم تقوم مهمّة الملائكة؟ خدمة الله من أجل خلاصنا. إذن، هو عمل ملائكي أن نصنع كل شيء لخدمة الاخوة، بل هو عمل المسيح)).
هذا البرهان الكتابيّ يمثّل مشهدًا سماويًَا فيه يُدخل الله الابنَ إلى موضع الكرامة. في فل 2: 11 المسيح هو ((كيريوس)) (الرب). وفي رؤ 4- 5 بدا الحمل المذبوح أمام الملائكة مساويًا لله، فأخذ يسوس الكون. إن موضوع وصول المسيح إلى العرش السماويّ ينطلق من عالم البشر وجلوس الملك الجديد على عرشه. وذلك في مراحل ثلاث، يُرفع فيعطى الألقاب. يقدّم إلى حلقة ((الآلهة)). وأخيرًا ُيجلسونه على العرش علامة السلطان. هذا ما كان بالنسبة إلى الابن: اعلان احتفاليّ من قبل الله حول كرامة المسيح: أنت ابني (آ 5). ثم فُرض على الملائكة بأن يخضعوا للملك الجديد. أخيرًا ارتفاع المسيح على العرش، عن يمين الله (آ 8-13).

ب - قراءة إجمالية
((بل لمن من الملائكة قال قط: إجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئًا لقدميك؟ أو ليسوا جميعهم أرواحًا خادمة، تُرسل للخدمة من أجل المزمعين أن يرثوا الخلاص)) (1: 13- 14)
هنا يرد الاستشهاد السابع (رقم الكمال) في هذه السلسلة التي انطلقت من التوراة لتبيّن سموّ الابن على الملائكة. المزمور 110 هو مزمور مسيحاني في الكنيسة الأولى. وهو يدلّ في عب على فرادة المسيح ورفعته، لا كالابن والرب وحسب، بل كالحبر والفادي. ستعود ف 7- 10 إلى طبيعة كهنوت الابن في خطّ هذا المزمور.
رأى معلّمو العهد القديم والتقليد الرسولي في هذا المزمور أساس التعليم حول جلوس المسيح عن يمين الله، ودورَه في عمل الخلق والخلاص. رج مر 12:35 ي وكلام يسوع خلال محاكمته. غير أن الرابينيين سيتنكّرون فيما بعد لطابعه المسيحاني في ردّة فعل على تعليم الكنيسة التي رأت فيه تحقيقًا لشخص يسوع وعمله.
التعارض جذريّ بين الابن الجالس على عرشه كما في مز 110 ،والملائكة الذين هم خدم خاضعون له. أجل جميع الملائكة بكل مراتبهم. هنا نتذكّّر مز 103: 20-21: ((باركوا الرب يا ملائكته، أيها المقتدرون المطيعون أمره عند سماع صوت كلامه. باركوا الربّ يا جميع جنده، يا خدّامه العاملين ما يرضيه)). أما ارتباط الملائكة بخدمة البشر، فنقرأه في مز 91: 11: ((يوصى ملائكته بك فيحفظونك في كل طرقك)). هؤلاء الملائكة فرحوا بولادة المخلّص (لو 2:13) كما خدموه بعد التجارب التي واجهها في البرّية (مت 4: 11). هؤلاء الملائكة كانوا حاضرين عند القبر الفارغ، فأعلنوا قيامة يسوع من بين الأموات (لو 24: 4ي). وهم الذين شجّعوا التلاميذ بعد صعود الربّ، وأفهموهم أنه سيعود كما صعد (أع 1: 10-11). وأخيرًا، هؤلاء الملائكة سيرافقون ابن الانسان حين يعود إلى مجد أبيه (مر 8: 28؛ مت 16: 27؛ 25: 21؛ لو 9: 26؛ 12: 8- 9). وستقول عب 12: 22: ((دنوتم إلى جبل صهيون، إلى ربوات ملائكة، إلى عيد حافل)).

خاتمة
خدمة الملائكة كريمة ومجيدة. ولكن كرامة خدمتهم وعظمتهم لا تقابل بكرامة الابن ومجده وهو الذي طهّرنا من خطايانا وجلس عن يمين الآب. الملائكة أداة في يد الملك العظيم وخدّام لسيادته. مثلُ هذا التعليم يتعارض مع تعليم يشدّد على دور الملائكة ويجعلهم مزاحمين لسيادة المسيح الذي سيأتي في مجد عظيم فلا يكون انتهاء لملكه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM