الفصل السادس: ابن الله واخوته البشر

 

الفصل السادس
ابن الله واخوته البشر
2: 55 - 18
قابلنا في المقطع الأول بين الابن والملائكة. وها نحن بعد إرشاد حول سماع الكلمة، نربط ابن الله بالبشر الذي هم اخوته: تضامن معهم. تألّم وابتُلي فاستطاع أن يكون بجانب المتألّمين والمبتلين. وجّهنا الارشادُ السابق (آ 1- 4) نحو مهمّة المسيح الخلاصيّة وأشار إلى اتضاعه وموته. مثلُ هذه النظرة تبدو وكأنها تلغي طرحًا يتحدّث عن سموّ المسيح على الملائكة. ولكن الواقع هو غير ذلك. فالدور الذي يلعبه المسيح في التدبير الجديد يؤمّن له مكانة مجيدة لا توازيها مكانة. لهذا يجب أن نفهم طبيعة سموّه المسيحانيّ. فاتّضاع الابن الموقت في التجسّد والآلام، هو علّة ارتفاع، وشرطٌ وضعته العناية. فحبرُ العهد الجديد هو الابن المتجسّد والمذبوح الذي يحرّر البشر من إبليس، ومن الخوف من الموت، ويقدّمهم إلى الله. ولكن يسوع (هي المرّة الأولى يسمّى فيها الابن باسمه الأرضيّ) الذي اتضع ومات عن الجميع، سوف يكلّل بالمجد.
نحن هنا في نهاية الكلام عن الملائكة الذين سيخضعون بشكل نهائيّ للرب. إذا كانوا وسطاء العهد القديم، فيسوع هو رسول، وملكُ عالم فداه؟ هو ملك الآن وملك إلى الأبد. فما يُبرز مجدَ المسيح هو مهمّته الفدائية بما فيها من آلام وموت. طُرح سؤال: لماذا صار الله انسانًا؟ لم يخفّف الكاتب من الصعوبة، بل أبرز السمات المتعلّقة ببشريّة يسوع: خُفض (آ 9). ابتُلي وجرِّب (آ 18). تألّم وذاق الموت (آ 9- 10). شارك في الدم واللحم، أي في الضعف البشريّ (آ 14)، صار شبيهًا بإخوته في كل شيء (آ 17).
نقسم هذا المقطع قسمين: انتصار عبر الاتّضاع (2: 5- 9). تضامن مع البشر من أجل الفداء (آ 10- 18). في الأول، نجد ايرادًا كتابيًا سوف يتوسّع فيه صاحب الرسالة. وفي الثاني، تضامن الابن مع إخوته فنال لهم الخلاص بموته. هو ما جاء من أجل الملائكة، بل من أجل نسل ابراهيم (آ 16). وكانت النتيجة التي ستُنهي القسم الأول (1: 5-2: 18) وتنقلنا إلى القسم الثاني (3: 1-5: 10) أن لنا حبرًا رحيمًا وأمينًا رافقنا في الألم لكي نرافقه في المجد (2: 17- 18).

1 - انتصار عبر الاتّضاع (2: 5- 9)
أكّد الكاتب مرّة أخرى محبّة الله للمسيح وسلطانه على الكون (نلاحظ فعل أخضع في آ 5- 8). في نص بيبليّ يتبعه تفسير، تقابل عب حقارة الانسان وكرامته المنتظرة. المسيح وحده هو الذي يحقّق دعوة البشر. فهو مثلهم قد اتّضع، ولكنه تمجّد فصار موتُه مفيدًا لجميع البشر بنعمة الله.

أ - تفسير الآيات
أولاً: ما أخضع العالم للملائكة (آ 5)
((غار)) الفاء. يمكن أن تعود إلى ما سبق بشكل مباشر. إن تجلّيات الله التي رافقت الكرازة بالانجيل والعلامات التي تدلّ على طبيعة الابن الالهيّة وعظمة عمله، هي مقدّمة لسلطانه الآتي. ولكن هذه الأداة تعني في بداية الجملة: الآن. وهنا: أو غار: لا في الحقيقة. نحن في الواقع أمام إجمالة تستعيد بشكل سلبيّ عرض 1: 4- 14. وتجيب على أسئلة بلاغيّة طُرحت في 1: 5 ،13. والفكرة القائلة بأن السيادة على الكون لا تخصّ الملائكة، ارتبطت باهتمام أدبّي: نحن أمام انتقالة بين عظمة المسيح في علاقته بالله والعالم، ودوره بالنسبة إلى البشر. لهذا، جاء الفعل في صيغة الحاضر (لالومان، نتكلّم)، فبيّن تواصل الموضوع. ((اويكوماني))، المسكونة. العالم الذي فيه دخل الابن بتجسّده (1: 6) والذي فيه يتحقّق خلاص المؤمنين (2: 3). وهكذا ننتقل من النظريات والمبادئ، فنصل إلى التاريخ والواقع (2: 9ي).
كان اللاهوت اليهوديّ يمنح الملائكة سيادة على الأمم (تث 32: 8 حسب السبعينية؛ دا 4: 4؛ 10: 1ي؛ 12: 1؛ سي 17: 17)، ويُخضع عناصر الكون (الكواكب، الأمطار، الرياح) لقيادتهم (أخنوخ 60: 15-21: يوبيلات 2: 2). كما ميّز الزمن الحاضر، الخاضع للألم والموت، عن أيام المسيح التي فيها يقوم مُلك الله على الأرض (هو زمن خلاص). وهناك أخيرًا العالم الآتي بعد الدينونة والقيامة، حين تتجدّد السماء والأرض.
في عب، ((العالم الآتي)) (مالوسان) يدلّ على النظام الجديد الذي فيه يتمّ الخلاص (سوتيريا، 1: 14؛ 2: 2، 3؛ 9: 28). بدأ مع التجسّد. إذن، هو حاضر الآن. ولكن الكاتب الذي وعى تطوّر التدبير الالهي عبر التاريخ (1: 1-2؛ 20: 3)، وعى أن هذا النظام ما زال في بدايته، ولن يكتمل إلاّ في السماء (6: 5، أيون مالون، الدهر الآتي؛ 13: 14 ،مالوسا بوليس، المدينة الآتية) التي ننعم فيها بالخيرات الآتية (مالونتا اغاتا، 10: 1؛ رج 9: 11). بما أن المسيحيين يشاركون منذ الآن بالمعمودية، في هذا العالم السماويّ (هم مواطنو السماء، غل 3: 20 ،وقد ذاقوا مسبقًا، عب 6: 4)، صارت الحياة الحاضرة ((حياة آتية))، لأن لا معنى لها إلاّ إذا كملت.
غير أن الله لم يعط الملائكة السيادة على العالم (هيبوتاكسن) في حقبته المسيحانيّة التي تدشّنت في التجسّد وفي حقبته النهائية التي تتمّ في السماء، بل أعطاها للبشر في شخص المسيح الذي هو بكر البشريّة المفتداة.
ثانيًا: شهادة المزمور الثامن (آ 6- 8)
((بو تيس))، أحد. يدلّ الكاتب على نصّ مهم ولا يهتمّ بالكاتب البشري. الله يتكلّم، الله يشهد (ديامرتيروماي). نحن أمام إعلان خطير واحتفاليّ، أمام قرار يُعلن في المحكمة. يعود الاستشهاد إلى مز 8: 5- 7 حسب السبعينية: امتدح المرنّم الله، لأنه جعل خليقته العاقلة تسود على الأرض كلها. وإذ رأى حقارة الانسان (ا ن و ش) دُهش من كرم الله تجاهه. وطبّقت عب على المسيح ما قاله المزمور عن البشر (انتروبوس). كيّف الكاتب النصّ في خط فيلون، وساعده على ذلك وجود ((ابن الانسان)) (هيوس انتروبو) الذي يذكّرنا بلقب مسيحاني (دا 7: 13) دلّ على يسوع في فم يسوع (مر 13: 26 ،27؛ 14: 62). تركت عب المعنى البشري، وأضاءت على المزمور بضوء الوحي المسيحيّ ((هوتي)) (ك ي في العبرية، حتّى) ((إبسكوبيو)): زار، افتقد (ف ق د في العبريّة). وأيضًا نظر. جعل المعلّمون كلام هذا المزمور في فم الملائكة احتقارًا للانسان. فقالت عب: هذا الذي تحتقرونه تفوّق عليكم وصار سيّد الكون.
كيف خُفض يسوع عن الملائكة؟ الجواب: ولكنه سيّد الكون بما فيه عالم الملائكة. وحسب النصّ العبري، يقال أن الانسان هو أقلّ بقليل من كائن إلهي. هو قريب من الله. فترجمت السبعينية ((الوهيم)) (الله) ((انغالوس)) (ملاك). وهكذا رأى الكاتب وضاعة المسيح بالنسبة إلى الملائكة. لهذا، فهم الكاتب ((براخي تي)) (م ع ط)، قليلاً، لا على مستوى المسافة والصفة، بل على مستوى الزمن: بعض الوقت، فترة قصيرة. أجل لم تدُم هذه الحالة طويلاً. فبعد الوضاعة المجد. رج أش 57: 17؛ أع 5: 34. بما أن الانسان خُلق شبيهًا بالله (تك 1: 26)، أبرز المزمورُ كرامته، وبيّن سيادته على الخليقة كلّها ولا سيّما الحيوان. أما في عب، فهناك تعارض بين اتّضاع يسوع العابر وتمجيده في القيامة. ثم إن هذا الاتّضاع سبقه وضعٌ فريد عرفه الابن الأزلي لدى الآب. ((المجد والكرامة)) امتيازان ملكيّان (1تم 1: 17) وإلهيان (رؤ 4: 9).
في آ 8 ب، نقرأ ((غار)) (الفاء) التي تعلن التفسير البيبلي. يجب أن نبرهن أولاً، أن الله منح المسيح كل سلطان. وذلك رغم الظواهر: أخضع كل شيء. أضافت عب ((كل)) ( بنتا) التي لا نقرأها في المزمور. لا استثناء. فالملائكة أيضًا يخضعون للابن. أعطى الله الانسان السيادة على الكون (تك 1: 28). قرأت عب كمال هذا الوعد في من هو الانسان، في آدم الثاني، في يسوع المسيح. ولكن هذا الاخضاع لم يتمّ بعد. لهذا أحسّ المسيحيون المحتقرون والمضطهدون باليأس: متى يأتي ملكوت الله (2 بط 3: 4)؟ غير أن هذا الملكوت يأتي بشكل تدريجيّ، ونحن ننتظره في الرجاء.
ثالثًا: الذي خُفض كلّل بالمجد (آ 9)
إذا كانت الظواهر قد جعلت من المسيح ملكًا مغلوبًا، لا غالبًا، فنظرة الايمان التي ينيرها الوحي، تكتشف قدرته، وتفهم هذا التعارض الظاهر بين كرامته واتّضاعه. فهذا الاتّضاع كان الطريقَ الذي أوصله إلى يمين الآب. نقرأ ((بلابومان)) (نراه) الذي يقابل نظرة الله إلى ابنه (ابيسكابتي، آ 6)، ويعارض نظرة المسيحيين (سطحيّة وقصيرة النظر) الذين يساورهم الشك (هورومن، آ 8). رج 1صم 9: 9؛ مت 13: 13؛ 1 كور 13: 12. يبرز ((بلابو)) الانتباه والنظر الثابت (مت 5: 28؛ 7: 3؛ أع 1: 10؛ رج عب 12: 2؛ أفوراوو)، ويعني ميّز (10: 25؛ يو 1: 29؛ روم 7: 23) الواقع الدقيق عبر الظاهر الغشّاش.
يرفع المسيحيّون نظرهم إلى يسوع، الذي اتّضع بعض الوقت، خلال حياته على الأرض، ولا سيّما في آلامه. ولكنّهم يكتشفون أنه مجِّد وأُكرم. نجد صيغة الكامل (إستافانومانون) التي تدلّ على دوام ما نراه. يدلّ الاكليل على النصر (2تم 2: 5؛ 4: 8) الذي حازه المسيح في السماء (1: 13؛ 12: 2). وقد أعطيت ليسوع هذه الكرامة والمجد لقاء آلامه المظفَّرة التي احتملها (ديا، بسبب. رج روم 4: 25؛ غل 4: 13؛ رؤ 12: 11). هكذا تتوضّح طبيعة ملك المسيح الخاصّة: هو فاد مصلوب. وتاجُ مجده هو تحقيق عمله الخلاصيّ. إن هذا الرباط بين الآلام والمجد يجعلنا في مناخ يوحناويّ (يو 12: 23؛ 13: 31).
رأى بعضهم أن المسيح مجِّد وكرِّم قبل موته. أو: في عماده وتجلّيه. أو: خلال حياته على الأرض كابن الله. أو: في استعداده للموت (يو 13: 1). فالمجد تعبير عن كرامة عظيم الكهنة (5: 4ي؛ خر 28: 2). وقال الذهبي الفم: ((الصليب هو المجد والكرامة)). ولكن ما يريد النصّ أن يقوله: وُضع يسوع فترة قصيرة، ثم كلِّل بالمجد.
((هوبوس)) حتّى. بحيث (ل م ع ن): إن قيامة يسوع كانت الشرط الضروري لتصل ثمارُ آلامه إلى جميع البشر. لو احتفظ الموت بيسوع، لكان انتصر عليه، ولكان عملُ الخلاص انتهى إلى الفشل (1كور 15: 17- 18). ولكن قيامة يسوع (وتمجيده) دلّت على أن الفداء نال كلَّ ثماره. حين مجّد الله يسوع، دلّ على أنه قبل ذبيحته. ونقرأ فعل ((غاووماي)) الذي يعني أحسّ، قاسى، اختبر. اختبر الموت، قاسى الموت. نستطيع أن نتحدّث عن مرارة الموت (1صم 15: 32؛ سي 41: 1). ولكن هذا الموت لا معنى له إلاّ لأنه من أجل الجميع (هيبر بنتوس). هي صيغة المذكّر المفرد: كل واحد. وكل هذا بنعمة الله. مبادرة الله هي المسؤولة عن موت يسوع، هي التي تجعل البشر يفيدون منه (روم 8: 32؛ 2 كور 5: 18 ،19، 21). فهذا الموت يكون بلا قيمة ذبائحيّة ولا يشمل جميع البشر إن لم يأمر به الله ويرضى عنه. فالرب أراد خلاص الجميع بنعمة مجانيّة وبحبّ رحيم.
ب - قراءة إجماليّة
((فإنه ليس للملائكة أخضع العالم الآتي الذي كلامنا فيه)) (2: 5)
العالم الآتي هو زمن المسيح الذي فيه تتمّ المواعيدُ المسيحانيّة ونبوءات العهد القديم. هذا الدهر الذي هو آت في منظور الانبياء الذين تحدّثوا عن مجيئه، ما زال آتيًا لأن نهايته الأخيرة لم تتسجلّ. لهذا، يعلن الكاتب في نهاية رسالته: ((ليس لنا هنا مدينة باقية، بل نطلب الآتية)) (13: 14؛ رج رؤ 21: 1ي). ولكن هذا الدهر حاضر أيضًا الآن، لأن المسيح قد أتى في شخص الابن المتجسّد فدشّن بمجيئه هذا زمن التتمّة. فبحياته وموته وقيامته، كمّل عملَ الفداء من أجل الانسان الساقط ومن أجل الكون. وفيه نالت كل مواعيد الله نعمها (2 كور 1: 20). والآيات العجائبيّة والمواهب الروحيّة (رج آ 4) التي رافقت الكرازة بالانجيل وأسندت حقيقته، دلّت بوضوح على أن الزمن المسيحاني حاضر هنا. وهي تشير إلى سيادة المسيح (لا الملائكة). والوعد بملكوت يدوم، يخصّ ذاك الذي هو من نسل داود، وقد تمّ في تمجيد الاله الانسان. بدأ الابن فاتّضع وصار أدنى من الملائكة ليحمل إلينا الفداء.
لهذا، ما زلنا ننتظر كمال الخليقة الجديدة، وإن سبق واختبرنا ((قوّة الدهر الآتي)) (6: 5). فنظام العالم الجديد ما زال ناشطًا، والكرامة والسلطة تخصّان الابن الممجّد، لا الملائكة، كما قالت جماعة قمران. وسوف تبيّن عب، حين تطبّق مز 8 على المسيح، أن كل شيء (حتى الملائكة) يخضع له. فالعالم القديم خسر حقّه في الوجود حين جاء المسيح . إنه سيصبح سماء جديدة وأرضًا جديدة في مجيء المسيح الثاني (أش 65 :17؛ 66: 22؛ 2بط 3: 13؛ رؤ 21: 1). هذا العالم هو حاضر منذ الآن حسب المبدأ الخفيّ والروحيّ. وهو سيأتي حين يتجلّى في المجد. ويسوع الممجّد قد تكلّل منذ الآن بالمجد والكرامة كرأس الدهر الجديد. له أخضع الله كل شيء كما قالت 1بط 3: 22: ((هو عن يمين الله منذ انطلق إلى السماء، وأخضعت له الملائكة والسلاطين والقوّات)).
فلقد شهد واحد في موضع ما، قائلاً: ما الانسان حتى تذكره؟ أو ابن الانسان حتّى تنظر إليه؟ خفضته حينًا عن الملائكة، ثم كلّلته بالمجد والكرامة، وأخضعت كل شيء تحت قدميه)) (2: 6- 8أ)
لا يهتمّ الكاتب بذكر المرجع الذي يأخذ منه. يكفيه أنه يورد الكتاب المقدّس الذي ينعم بالالهام. بما أن الله هو المتكلّم، فمعرفة الكاتب البشريّ أقلّ أهميّة. في 4: 7، نقرأ أن الله قال في داود. رج 5: 5.
المزمور الثامن هو نشيد لعظمة الله، كما هو نشيد لضعف الانسان وكرامته معًا. لم ينظر إليه العالم اليهودي كمزمور مسيحاني. ولكن العهد الجديد طبّقه على المسيح (مت 21: 16؛ اف 1: 22). أما التطبيق على المسيح فعائد إلى أن الابن المتجسّد هو الانسان الكامل الذي يعيد الانسان الساقط إلى كرامته ويردّ له مكانته في الخليقة. في ابن الانسان كان الشفاء للبشريّة. وباتحادنا به نصبح ما يريدنا الله أن نكون.
المزمور الثامن هو استعادة شعريّة لنص تك 1: تأمّل المرنّمُ بإعجاب مجدَ الانسان الذي صار اكليل الخليقة، فسلّمه السلطان على الخلائق كلها. ولكن الجنس البشريّ خسر هذه الثقة، وأفسد هذه القدرة. غير أن قصد الله لا يمكن أن يسقط. لهذا، استعاده الانسان يسوع المسيح وأوصله إلى كماله. المسيح هو آدم الثاني، رأس الخليقة الجديدة وقائد العالم الآتي.
((فإذ أخضع له كل شيء، لم يترك شيئًا غير خاضع له. لا جرم أنّا الآن لا نرى بعدُ كلَّ شيء مخضعًا له)) (2: 8ب)
سيادة المسيح مطلقة. كل شيء يخضع له حتى الملائكة. ولكن في الواقع، لا يخضع الآن كل شيء للمسيح. هذا يعني أن القوى العدوّة ما زالت ناشطة. لهذا، يجب علينا أن ننظر إلى المسيح في حجّنا الحاضر. هو يتحمّل الصليب وينال العار (12: 2). هنا نقرأ: لا نرى بعد. هذا يعني أن هذا الإخضاع بدأ، ولكنه لم يتمّ. وهو سيتمّ ساعة يشاء الله. لهذا، لا نتوقّف عند الظواهر. فكل قوى الشرّ والتمرّد والضلال التي نشاهدها في عالمنا، لا يمكنها أن تناقض واقعًا حاضرًا هو سيادة المسيح الذي سيدينها جميعًا.
بيد أن الذي خُفض عن الملائكة حينًا، يسوع، نراه مكلّلاً بالمجد والكرامة، كونه قاسى ألم الموت حتى يكون الموت الذي قاساه مفيدًا لكل أحد بنعمة الله)) (2: 9)
رغم كل الظواهر، نرى يسوع مكلّلاً بالمجد والكرامة. وهو سيّد حياتنا إن نحن آمنّا به. وخضوع الانسان المؤمن (الذي هو عالم صغير) يكفل خضوع الكون (الذي هو عالم كبير). واسم يسوع هو اسم الابن البشري. وبشريّة المؤمن ترتبط ارتباطًا وثيقًا ببشريّة أخذها الابن من أجل فداء العالم. إن الظواهر تعارض الحقيقة: فالابن المتجسّد قاسى العار والموت على الصليب ووُضع في القبر. ولكن موته الذي بدا وكأنه يلغي قدرته، كان التعبيرَ السامي عن هذه القدرة التي أعلنت: ((حياتي لا ينتزعها أحد مني. فأنا أبذلها باختياري. فلي سلطان أن أبذلها ولي سلطان أن استرجعها أيضًا)) (يو 10: 18). فموته كان الطريقة والزمن المحدّد لخلاصنا (أع 4: 28). وما يثبت هذا الواقع من خلال الظواهر، هو قيامة يسوع وصعوده وتمجيده. فيسوع نفسه هو الذي مات على الأرض وتمجّد الآن فوق الجميع. هو يعرف شعبه وشعبه يعرفه (يو 10: 14). وهو سيعود في نهاية الأزمنة ليزيل الظواهر الكاذبة ويقيم سلطانه الحقيقيّ إلى الأبد (أع 1: 11؛ رؤ 22: 12 ،16 20-21).
أولاً الصليب. ثم اكليل المجد: تمجيد يسوع كان نتيجة اتّضاعه بالتجسّد والموت على الصليب. صُوّر تجسّد الابن على أنه حصل إلى حين، إلى فترة محدودة. هذا يعني أن حال المسيح في الاتّضاع لا تدوم. وكل ما فعله يسوع إنما فعله بنعمة الله. فمبادرة فدائنا تعود إلى الله، لا إلى الانسان. فلولا نعمة الله لكنّا بدون عون ولا رجاء. هذا ما قاله بولس الرسول: ساعة كنا خطأة وأعداء، صالحنا الله بموت ابنه (روم 5: 6-8 ،10؛ رج 2 كور 5: 18ي). وقال يوحنا في رسالته الأولى: ((ما نحن أحببنا الله، بل هو أحبّنا وأرسل ابنه كفّارة عن خطايانا)) (4: 10).
علَّمتنا الكتب المقدسة أن الانسان في سقوطه أفسد الخليقة، وأن نداءه أعاد الخلق إلى نظامه. غير أن عب شدّدت هنا على الانسان، على الانسان الكامل، الذي بموته منح المجد لإخوة عديدين، فخلّصهم من الموت والعبوديّة. فهل يستطيعون بعد الآن أن يهملوا مثل هذا الخلاص الذي يقدّم لهم.

2- تضامن مع البشر من أجل الفداء (2: 10- 18)
هنا يُطرح سؤال مضاعف: كيف تألّم المسيح ولماذا تألّم؟ ما هو الأساس اللاهوتي والكرستولوجي لهذا الاتّضاع ولهذا التمجيد؟ ما معنى مخطّط الله هذا؟ إذا كان الله واضع ابنه بالنسبة إلى الملائكة بالتجسّد والموت، فلأنه وجب عليه أن يكون الملك، والحبر الذي يحمل الخلاص فيكفّر عن خطايا البشرية. مثل هذه المهمّة فرضت أن يكون المقدِّس (يسوع) والمقدَّسين (البشر) من نسل واحد، فيشاركوا في ظروف الحياة والألم والموت الواحدة. لهذا كان التجسد والآلام التي أتاحت للابن أن يخلّص إخوته (آ 10- 13) ويعتقهم من إبليس (آ 14) ومن الخوف من الموت (آ 15)، وعلّمته الرحمة (آ 18).

أ - تفسير الآيات
أولاً: قائد خلاصنا (آ 10)
وتتواصل الاستشهادات الكتابية والبراهين العقليّة. فنحن لسنا قبل كل شيء أمام طرح لاهوتي موضوعه المسيح الذي هو حبر متألم. بل أمام برهان دفاعي. تريد عب أن تقوّي إيمان القرّاء الذي يهدّده الشكّ (آ 9). بدأت فأجابت على سؤال: لماذا مات يسوع. فموته شكّ لليهود وجهالة للأمم (1كور 1: 23) وقد يؤثّر على تفوّقه على الملائكة. في الواقع، كان يجب أن يحصل هذا الموت فينفّذ مشيئة الله. وهذه المشيئة هي الحكمة عينها، لأن يسوع ما كان يستطيع أن يُعتق البشر من عبودية الموت إلاّ إذا قاسى هو نفسه الموت. وهذا يفترض أنه صار انسانًا. واتّخذ وضع اخوته بما فيه من ألم وموت. وإذ صار الابن كاهنًا بالتجسّد، استطاع أن يُبتلى ويتألم. فقدّم بموته ذبيحة كاملة.
المفارقة الكبرى في آ 10 التي تعبّر نوعًا ما عن الفكرة الاساسيّة في عب ترتبط ارتباطًا وثيقًا (غار) بالجملة الأخيرة من آ 9. إنها تشرح عبارة ((نعمة الله)) (خاريتي تيو) فتسأل: لماذا الآلام؟ حينئذ يبرّرها الكاتب انطلاقًا من صلاح الله الذي أقرّها، ومن المسيح الذي صار المخلّص الذي لا مخلّص بعده. فمن جهة الله، لم يكن انحدار ابنه في طريق الذلّ معارضًا لحكمته وكرامته. فموتُ المسيح أرضاه كوسيلة لائقة بقصده أن يخلّص البشر. ((لائقًا)) أي يتوافق مع هدف وضعه أمام عينيه وأراد أن يحقّقه (تي 2: 1). ان فعل ((برابو)) الذي يطبقه فيلون ويوسيفوس على الله، يعني في العهد الجديد: يليق، يجدر (أف 5: 3؛ 1تم 2: 10). وهو يعارض السبب المفروض (مت 3: 5). يشير فعل ((داي)) (آ ،1 يجب) على ضرورة ترتبط بطبيعة الأشياء. أما ((أوفالاين)) (آ 17)، فعلى ضرورة أدبيّة. كان الله حرًا في أن يخلّص البشر. فإن هو فعل (1تم 2: 4) فبنعمة مجانيّة من لدنه (تي 3: 4- 5). لهذا اختار وسيلة من الوسائل التي كانت أمامه. هذا ما قاله أوغسطينس ((في الثالوث)) (13/10: 13).
لا يُذكر الله هنا (أخضع العالم)، ولكن يقال عنه أنه العلّة الاخيرة والفاعلة في كل شيء. هذا يعني أن الآلام لم تكن صدفة واتفاقًا، بل ارتبطت بقدرته، ورافقت مخططه بأن يقود البشريّة إلى مجد السماء. ((بولوس))، كثيرين. ولكن في آ 9: كل واحد. أترى لا يشمل الفداء جميع البشر؟ ولكنّنا هنا في خط مت 20: 28: لا حدود في عدد المخلَِّصين الذين يُعطى لهم اسم ((أبناء)) وُلدوا من جديد (يو 3: 5)، وشاركوا في الطبيعة الالهيّة (2بط 1: 4). ((هيوي)) هم أيضًا وارثو الخلاص (12: 5). تبنّاهم الله (روم 8: 23)، فكانوا ثمرة الفداء وعطيّة حبّ الله الابويّ. وما حصلنا عليه إنما حصلنا بفضل أخينا البكر (آ 11) الذي بدأ فدخل في المجد (آ 7 ،9) بانتظار أن يُدخل البشر. لهذا جاءت لفظتان من جذر واحد: أغو (أغاغونتا، قاد)، أرخي أغو (ارخيغوس) قائد، من سار في البدء، في الرأس.
((أرخيغوس)) لقب حُفظ للمسيح في العهد الجديد. يعني في اليوناني الدنيوي: البطل الذي أسّس مدينة وتسمّت باسمه. كما يعني العلّة والسبب. وأخيرًا، هو القائد العسكري أو السياسي. رج أع 3: 15(قائد الحياة)؛ 5: 31 (القائد والمخلّص). في عب 12: 2 هو بداية إيماننا وعلّة خلاصنا. وهكذا تتوضّح مهمّة المسيح بالنظر إلى خلاص البشر. هو الرئيس والقائد، وهو يجتذب على خطاه الاخوة الكثيرين، وفعل ما فعل بالآلام. هنا نقرأ فعل ((تالايوو))، أتمّ، كمّل، كما في يو 19: 28. أجل، كان الألم الوسيلة التي بها صار المسيح كاملاً، لأنه أتاح له أن يسير إلى النهاية في مهمّته كمخلّص. فكمال حبر العهد الجديد هو أن يكون أيضًا ضحيّة وذبيحة.
ثانيًا: المقدّس والمقدّسون (آ 11- 12)
هناك قائد واحد تجاه مخلّصين عديدين (آ 10). هم واحد (روم 8: 29). كلّهم أبناء الله. أرادت عب أن تحدّد علّة اتّضاع المسيح وكيف صار موته فاعلاً بالنسبة إلى البشر، إن أراد المسيح أن يكون قائد الخلاص، عليه أن يشارك في طبيعة الذين يخلّصهم. فالانسان وحده يستطيع أن يخلّص أناسًا آخرين (آ 1؛ روم 5: 15؛ 1كور 15: 21). ويعبَّر عن هذا الفداء بالنظر إلى عمل الكاهن الذي يقدّس، يكرّس، يدلّ على أن شيئًا يخصّ الله (عد 16: 5؛ يو 17: 17- 19؛ عب 13: 12)، وذلك في ذبيحة تكفّر عن الخطايا (1: 3؛ 9: 14). فإذا أراد البشر أن يقتربوا من الله، وجب عليهم أن يكون أنقياء من كل خطيئة.
المسيح هو المقدّس (هاغيازون) الذي يفعل ((كقائد)) في المسيحيين (هاغيازامانوي) الذين يصبحون ((قديسين)) (هاغيوي، روم 1: 7؛ 1كور 1: 2). في العهد القديم، كان الكاهن يقدّس المؤمنين بوسائل خارجيّة فرضتها الشريعة. أما المسيح الذي صار كاملاً بآلامه وموته، فهو يفعل في المؤمنين بطريقة شخصيّة. ولكن كي يتمّ هذا العمل الخلاصيّ، يجب أن يكون الكاهن من نسل الذين يخلّصهم (5: 1): كلهم من واحد (إكس هانوس بنتس). إذا كان على المسيح أن يموت كي يخلّص البشر (آ 10)، فمن الضروريّ أن يتجسّد لكي يلعب هذا الدور.
هناك من اعتبر ((هانوس)) (واحد) في صيغة الحياد (مثلاً، افرام) فزاد: أصل، زرع. إن فعلنا هكذا، صار كهنوت يسوع على مستوى كهنوت هارون. ولكي ((هانوس)) هي في صيغة المذكر (1 كور 1: 30؛ 8: 6). قبل هذا الواحد، نجد آدم (لو 3: 38) أو ابراهيم (يوحنا الدمشقي). ولكن بما أننا أمام عمل التقديس (خر 31: 13؛ لا 20: 8؛ 21: 15؛ حز 10: 12؛ 37: 28) فهذا الواحد هو الله الذي هو ينبوع جميع الكائنات (آ 10)، وأبو أبناء عديدين (آ 10)، أبو أولاد صغار (آ 13 وأبو المسيح (الذهبي الفم، تيودوريتس): أرسل المقدِّس إلى المقدَّسين لكي يخلّصهم. قالت آ 10: لا يمكن أن يكون المخلّص كاملاً بدون ألم. وقالت آ 11: لا يمكنه أن يخلّص دون أن يتجسّد.
إن اتّضاع المسيح هو من العمق (غل 2: 7)، بحيث وجب أن نبرهن عنه بالكتب المقدّسة. فإن كان المسيح لم يستح من قرابة بالبشر، فهذا يعني أنه أعظم منهم، لأنه ابن الله بشكل فريد. وبما أن عب تجعل المسيح يتكلّم، فقد كان بالامكان أن تذكر كلماته خلال حياته على الأرض حين دعا تلاميذه ((إخوته)) (أدلفوي، مت 28: 10؛ يو 10: 17). ولكن يسوع عاد إلى العهد القديم فأورد مز 22: 23 حسب السبعينية. هو مزمور مسيحاني في المعنى الحرفيّ (مت 27: 35، 46؛ مر 15: 24؛ يو 19: 24)، وهو يتحدّث عن آلام عبد الرب وانتصاره. فالبار المتألّم الذي نجّاه الله من شقاء مريع يهدّده، يعبّر عن شكره كمحرّره. هو ينشد ((اسم)) الرب، أي رحمته وقدرته وسط المؤمنين الذين جاؤوا إلى المعبد والذين يدعوهم ((إخوته)). حين كان يسوع على الصليب طبّق هذه الكلمات، فجعلتها عب في فمه (لاغون، قائلاً). في المزمور لسنا فقط أمام نسل يعقوب. بل جميع الأمم (آ 28) الذين لأجلهم تجسّد يسوع وعرف الآلام والموت.
ثالثًا: أنا والاولاد الذين أعطانيهم (آ 13)
بعد إيراد أول (مز 22: 23) حول الذين يدعوهم يسوع إخوته، ها نحن أمام ايراد ثان (أش 8: 17) حول الأولاد الصغار الذين أعطاهم الله لابنه. ((وأيضًا)) (كاي بالين). هكذا يرتبط إيراد بإيراد. ما هو سياق النصّ الكتابي؟ لاحظ النبيّ، أمام التهديد الاشوري، أن اسرائيل أعزل، وأن الرب تخلّى عنه. غير أن النبي، ما زال يثق كل الثقة بالله. وهكذا صار النبيّ صورة مسبقة (ونمطًا) عن المسيح الذي أعلن ثقته رغم ضعفه (مت 27: 43) فدلّ على قرابة من البشر: هم إخوته.
لاحظنا ونلاحظ أن عب تقرأ كلمات العهد القديم بالنظر إلى المسيح. والايراد الذي قرأناه في أش 8: 17 نستطيع أن نقرأه أيضًا في أش 12: 2؛ 2صم 22: 3. كان أشعيا قد قال إن الله جعله (مع أولاده) آية لاسرائيل الذي لا يؤمن. فقالت عب: نال المسيح من الله البشر كأولاد صغار (بايديا، ي ل ي د ي م). فالمسيح ارتبط بالبشر برباط الدم. نحن هنا أيضًا أمام نص مسيحانيّ. رج لو 2: 34؛ روم 9: 33؛ 1بط 2: 7.
رابعًا: اشتراك في الدم واللحم (آ 14- 15)
المسيح والبشر هم أبناء أب واحد. إذن، هم إخوة. هذا ما اكتشفناه في مبادئ عامّة (آ 11) وإيرادات من الكتاب المقدس (آ 12- 13). وهكذا وصلنا إلى التجسّد. يبقى أن نشرح عبارة ((صار بالآلام كاملاً، وهو القائد)) (آ 10)، وأن نبرّر موت المسيح. ما انطلق الكاتب من الله ولا من المسيح، بل من الجنس البشري (لحم ودم: ب ث ر. ودم، بما فيهما من ضعف). نحن هنا أمام الطبيعة البشريّة الضعيفة، القابلة للفساد، المائتة (سي 14: 18؛ مت 16: 17؟ يو 1: 13؛ غل 1: 16؛ 1كور 15: 50). عادة يقال: اللحم والدم (ما عدا أف 6: 12). أما عب فجعلت الدم أولاً لكي تدلّ على دم سفكه يسوع لكي يقدّس البشريّة (13: 12). كل انسان يتكوّن من لحم ودم، والمسيح أيضًا. وهكذا شابه ((الاولادَ)) مشابهة تامّة.
شدّد الذهبي الفم وتيودوريتس على واقع بشريّة المسيح مع لفظة ((بارابليسيوس)) (كذلك، لا ترد إلاّ هنا، رج فل 2: 27). هذا الظرف يدلّ على تشابه تام، من كل الوجوه. إذن، لا فرق بين يسوع وبين البشر. لقد كان انسانًا تامًا كاملاً (هومويوس، آ 17؛ 9: 21؛ روم 8: 3؛ في شبه جسد، فل 2: 7). نقرأ: كوينونيو: شارك. ((ماتاخو)) (7: 13) الذي يعني أيضًا شارك، قاسم. جاء الفعل الأول في صيغة الكامل الذي له معنى الحاضر: الطبيعة البشريّة هي حصّة كل انسان. والفعل الثاني في صيغة الاحتمال: أخذ المسيح هذه الطبيعة في وقت محدّد. ثم شدّد ((ماتاخو)) على العنصر الطبيعي (الفيزيولوجي) في المشاركة. أما ((كوينوينو)) فأشار إلى الرباط الاجتماعي في المشاركة. وشدّد المجرور (في الدم، فيهما) على أساس هذه الوحدة، على الرباط الذي يوحّد البشر وكأنه علّة فاعلة.
الهدف الأول لهذا التجسّد الذي كان حقيقيًا، هو الوصول إلى الموت للانتصار على سلطان الموت (إبليس) بسلاحه. هذه النظرة إلى العلاقة بين إبليس والموت، وإلى الطريقة التي بها انتصر يسوع عليهما، تعود إلى العالم اليهوديّ (لا تتوسّع فيها عب): خلق الله الانسان خالدًا، لا مائتًا (حك 1: 13-14؛ 2: 23). ولكن إبليس أضلّ البشر فصاروا إلى الموت (تك 3: 4؛ حك 2: 24-25؛ يو 8: 44) الذي هو أجرة الخطيئة (روم 6: 23). لهذا، كان التقارب بين إبليس والموت (1كور 5: 5). سوف يُسمّي المعلّمون إبليس ((ملاك الموت)) (م لا ك. م وت، من هنا قيل: ملاك الموت). رج ((كراتوس)): سلطة في مجال محدّد. إذ أراد المسيح أن ينتشل البشر من الموت (1كور 15: 26؛ 2تم 1: 10؛ رؤ 20: 14؛ 21: 4)،وجب عليه أولاً أن يزيل (كاتارغيو، ألغى، عقّم، جعله غير فاعل، 2تس 2: 8؛ 1كور 15: 24) قدرة إبليس. هذه النظرة الاسكاتولوجيّة إلى المسيح الذي يدمّر مملكة إبليس، نجدها في يو 16: 11؛ كو 2: 15؛ رؤ 12: 7-10؛ 20: 2.
((يبيد بالموت)). رج هو 13:14. كيف يخسر إبليس مُلكه بموت المسيح؟ بالتكفير عن الخطايا، لأن الخطيئة (التي ترتبط بإبليس) هي السبب المباشر للموت (روم 5: 12؛ 1يو 3: 12). لم يعد في يد إبليس سلاح. هذا يعني أن موت المسيح كان ذبيحة كاملة. في هذا يقول الذهبي الفم: ((هنا تقوم المعجزة. غلب إبليسُ بالموت. فغُلب به (بالموت). هذا السلاح المريع الذي استعمله ضد الأرض، الموت، صار في يد المسيح أداة هلاكه (= إبليس)، وهذا ما يدلّ على قوّة ظفره)) (رج لو 11: 21- 22 ومثل الرجل المسلّح).
انتصر يسوع على الموت بالقيامة، فدمّر الحاجز الذي يمنع البشر من الاقتراب إلى الله، إلى الحياة. لهذا جاءت آ 15 تدلّ على البعد الحقيقيّ لما في آ 14: إذا كان سلطان الموت قد قُهر، فالموت نفسه لم يُلغَ (1كور 15: 26)، بل تبدّل وجهه. قبل المسيح، ما كان باستطاعة الانسان أن يتحرّر من الخوف (فوبوس، خوف من عقاب أو تهديد، أع 5: 5؛ 1تم 5: 20؛ 1بط 3: 14) الذي يثقل كاهله طوال حياته. فجاء المسيح يحرّره من هذا الخوف. ((كما يخلّص سجينٌ ينتظر حكم الاعدام)) (الذهبيّ الفم). نقرأ ((أبالاسو))، أبعد، أعتق. لقد أزال المسيح الخوف من الموت بقيامته وبالرجاء الذي منحه للمؤمنين (روم 8: 10-11، 33- 39). فهو يمتلك مفاتيح الموت والجحيم (رؤ 1: 18). لهذا، فهو يُخرج الموتى من الشيول، من عالم الموت.
خامسًا: نسل ابراهيم (آ 16)
مسألة الموت مسألة هامّة بالنسبة إلى البشر. لهذا لا معنى للتجسّد (آ 15) والمشاركة في الدم واللحم (آ 14)، إن كان المسيح مخلّص الملائكة الذين هم أرواح (بنفماتا، 1: 14)، لا مخلّص البشر. هنا نقرأ: ديبو: كما يعلم كل انسان. أما تعلمون؟ بما أن يسوع أراد أن يفتدي البشر ويقدّسهم (آ 11)، فعليه أن يشاركهم في حالتهم. ونقرأ ((ابيلمبانو)) أخذ، أمسك... أخذ يسوع على عاتقه الطبيعة البشريّة، جعلها طبيعته. وصيغةُ الحاضر تدلّ على دوام هذا الاتحاد، تدلّ على حالة نهائيّة. غاب التعريف أمام ((انغالون)) (الملائكة)، وأمام ((سبارماتوس)) (نسل، زرع)، فدلّ هذا الغيابُ على أن الكاتب يتطلّع إلى طبيعة الملائكة والبشر، لا إلى هذا الملاك المحدّد، ولا إلى هذا الانسان المحدّد.
إن الكائنات الذين يقاسمهم المخلّص طبيعتهم هم ((أبناء الله)) (آ 10)، ((إخوة المسيح)) (آ 11) ((الأولاد))، الذين أعطوا (آ 13). ويسمّون هنا زرع ابراهيم. لسنا هنا أمام نسل بشري (غل 3: 16 ،على مستوى اللحم والدم)، بل أمام نسل روحي، أي كنيسة الله التي بدأت في العهد القديم، وتواصلت في الجديد، فضمّت شعب اسرائيل وسائر الشعوب.
سادسًا: حبر رحيم وأمين (آ 17- 18)
هنا نصل إلى خاتمة المقطع، بل خاتمة القسم الأول كله (1: 5-2: 18). أما آ 17، فتعبّر عن مضمون الرسالة: لاق التجسّد بالله من أجل الفداء (آ 10). ولكن وجب (اوفايلن) على المخلّص أن يشبه البشر شبهًا تامًا (كاتا بنتا، رج 4:15)، لا شبهًا سطحيًا (هومويوتيناي، رج آ 14؛ 7:15؛ أع 14:11). وذلك في الألم وفي الموت. وأخذُ الطبيعة هذا كان ضروريًا لكي يكون المسيحُ الكاهنَ. فكهنوته نتيجة تجسّده. وهدفُ هذا الكهنوت التكفير عن الخطايا.
فالوظيفة الأولى والرئيسيّة التي يمارسها الكاهن هي التكفير، لكي ينال لهم غفران الله ويصالحهم معه (5: 1). وهكذا، ليس المسيح فقط ((القائد)) (ارخيغوس، آ 10) ((المقدّس)) (هاغيازون، آ 11)، في علاقته بالبشر. إنه أيضًا ((ارخيارايس))، الحبر، عظيم الكهنة. هي المرّة الأولى في العهد الجديد، التي فيها يُعطى هذا اللقب للمسيح. ستتوسّع فيه عب (8: 1-10: 18). ولكن منذ الآن يقدّم لنا هذا الحبرُ مع صفتين مميّزتين: الرحمة والامانة اللذين ينسبهما مز 85 إلى المسيح. لا نجد ((إلايمون)) في العهد الجديد، إلاّ هنا وفي مت 5: 7. لا تعني هذه الصفة أولاً الرحمة التي تغفر للخطأة (ح ن و ن، 4 عز 3: 18)، بل الشفقة أمام ألم القريب وشقائه (ر ح و م). ربطت البسيطة والشعبية والذهبي الفم ((رحيم)) مع ((كان)) (غانيتاي): كان رحيمًا وحبرًا أمينًا. ولكن يبدو أنه يجب أن نعطف ((إلايمون)) على ((بستوس)) (أمين) فنقول: حبرًا رحيمًا وأمينًا.
هذا النشاط الكهنوتيّ الذي لا يتوقّف بالنسبة إلى البشر (هيلسكاستاي، مصدر في صيغة الحاضر، رج 10: 12- 14)، يلخّصه فعل واحد: تهدئة الله وجعله راضيًا عن الشعب (7: 25). هذا هو المعنى الأول لفعل ((هيلسكوماي)) (لو 18: 13، اغفر لي أنا الخاطئ). لقد جعل المسيح من موته ذبيحة تكفير عن الخطايا (لا 14:13-21؛ 26:7). تطهّر الشعب وتقدّس. فاستعاد رضى الله.
أجل، الرأفة (الشفقة) ضروريّة للكاهن. لهذا، تجسّد الابن لكي يحصل عليها، فقادته إلى الموت لخلاص إخوته. هذا ما يشدّد عليه الكاتب أيضًا (آ 18) فيقول: الرحمة هي علّة الغوث (العون) الذي يحمله المسيح إلى البشر. ((إن هو)) = إن توتو هو = في ما. جُرّب في ما تألّم. وبما أن المسيح تألم، فهو يستطيع أن يغيث البشر. ((بسخو)) في صيغة الكامل، لا يدلّ أولاً على واقع الآلام التاريخي، بل على طابعه الدائم في المسيح: قيمتها دائمة، ورحمة المخلّص حاضرة.
وما يحدّد طبيعة هذه الآلام هو التجربة: بايراستايس (اسم فاعل في صيغة الاحتمال): جرّب، ابتلي. نحن أمام محنة الصليب والتهرّب منه (5: 7- 10). اختبر يسوع الضعف البشريّ، ووعى عنف الخوف الأدبي (آ ،14 فوبوس تاناتو) والعذاب (قاسى الموت، آ 9)، فذهب يغيث الذين يصرخون (بوئيتيو) طالبين النجدة. تكرّر الكلام عن المحنة (بايرازو): إن عظيم الكهنة لم يتألّم فقط لأجلنا، بل مثلنا.
هكذا يتحدّد موقفنا تجاه المحن. نرفع نظرنا إلى يسوع الذي خُفض وتألم، الذي جُرّب وانتصر (آ ،9 3: 1؛ 4: 16؛ 12: 3). نحن نفهم أن الرب يفهم ضيقنا. أنه لا يصمّ أذنيه بحيث لا يسمع طلب الاستغاثة من إخوته. إنه يشركنا في انتصاره حين يجعلنا ننعم بثمار ذبيحته. عندئذ يأتينا العون في التكفير عن خطايانا، فنكتشف ذاك الحبر الذي هو رحيم وأمين، الذي تدوم رحمته إلى الأبد، وإلى أبد الأبد.

ب - قراءة إجماليّة
((أجل لقد كان لائقًا بالذي كل شيء لأجله، وكل شيء به، المورد إلى المجد أبناء كثيرين، أن يجعل من يقودهم إلى الخلاص، بالآلام كاملاً)) (2: 10)
بدأ الكاتب يبيّن هنا ما قاله عن هدف تجسّد الابن الذي ذاق الموت عنا، بنعمة الله (آ 9). فالانسان الذي لم يولد ثانية (يو 3: 3- 5)، يعتبر أن اتّضاع التجسّد وعود الصليب لا يليقان بالابن. ((كل شيء...)). إن الخليقة كلها تنطلق من الله وتعود إلى الله (روم 11: 36). والعالم المخلوق هو تعبير عن مشيئة الله، خالق كل شيء (رؤ 4: 1؛ نح 9: 6). إن كان الأمر هكذا، كان التجسّد لائقًا وكذلك الموت. لأنه صار حسب إرادة الله. قال بطرس: تألم يسوع ومات بأيدي الاثمة، فكان هذا ((بحسب مشيئة الله المحدودة وعلمه السابق)) (أع 2: 23). فتجسّدُ المسيح وموته هما الوسيلة التي بها تمّ الخلق، وأصلح كلُّ شيء.
إن مخلّصنا كان كاملاً بالآلام التي احتملها: فانتصاره التام على محن من كل نوع (4: 5) كان ضروريًا لكمال يجعله أهلاً لأن يقدّم ذاته على الصليب، كحمل لا عيب فيه من أجل الخطأة (1بط 1: 8- 9؛ 3: 19). ثم، لأن ألمه وموته على الصليب ألغيا سلطان إبليس،حرّر ((الابناء الكثيرين)) المعدّين للمجد (آ 14). ثالثًا: إن خبرته الخاصّة لألم بشري في جسد أخذه، أهّلته كحبر رحيم لكي يغيث المبتلين ويقوّيهم في التجربة (آ 17- 18).
فالابناء الكثيرون الذين جاؤوا إلى المجد، يشكرون المسيح كقائد خلاصهم. فهو كقائد سار أمامهم وفتح لهم الطريق الخلاصي وقادهم في هذا الطريق. بالنسبة إليه، قاد هذا الطريق إلى المجد والكرامة، عبر الألم. وبالنسبة إليهم، طريقهم طريقه. يقود إلى المجد بالألم. فكما تحمّل الصليب بدل السرور (12: 2)، هكذا يفعل إخوته عارفين أن ألم الزمن الحاضر لا يوازي المجد المهيّأ لنا (روم 8: 18).
((لأن المقدِّس والمقدَّسين كلهم من واحد. ولهذه العلّة لا يستحي أن يدعوهم إخوته)) (2: 11)
من هو الذي لا يقدّس؟ ليس الروح القدس ولا الآب، بل الابن. ولكن عمل التقديس يتمّ بواسطة الآب: ((قُدِّسنا بتقدمة جسد يسوع مرّة لا غير)) (10: 10). ويتابع النص: ((بتقدمة وحيدة جعل مقدَّسيه كاملين على الدوام)) (10: 29). وفي 13: 12: ((تألّم يسوع خارج المحلّة ليقدّس الشعب بدمه الخاص)). اذن، هذا التقديس يرتبط بتقدمة المسيح الكهنوتيّة على الصليب. وتقديسه ذاته هو ينبوع تقديسنا (يو 17: 19). وشعب الله الذي افتداه دم الابن المتجسّد، يتنقّى من كل نجاسة ويصبح مقدّسًا أمام خالقه. هناك القدوس الذي يقدّس، وهناك الذين يقدّسهم. ويتمّ تقديس المؤمنين في عمل المصالحة الذي قام به المسيح على جبل الجلجلة.
المقدِّس والمقدَّسين هم جميعًا من واحد. قد نكون على مستوى البشريّة مع آدم. أو على مستوى الايمان مع ابراهيم. بل نعود إلى الله كما في نهاية سلسلة لوقا (لو 3: 38). من أجل هذا، لا يستحي يسوع بأن يدعو البشر إخوته. فالذين افتداهم هم إخوته بشكل خاص، وإخوة بعضهم لبعض. يمكن أن يكون على حقّ حين يتركنا للدينونة، ولكنه يعاملنا بالرحمة لكي نقوم معه. فأخوّتنا للمسيح لا تقف عند التجسّد، بل الفداء الذي تمّ على الصليب.في مت 28: 10 ،سمّى يسوع التلاميذ إخوته. وقال عنه بولس في روم 8: 29: بكر بين إخوة كثيرين. لهذا، نستطيع أن ندعو الله أبانا، وهكذا نفرح ونبتهج أن لا يستحي الابن الحبيب من أن يدعونا إخوته.
((إذ يقول: سأبشّر باسمك إخوتي، وفي وسط الجماعة أسبّحك. وأيضًا: أما أنا فسأتوكّل عليك. وأيضًا: ها أنا والاولاد الذين أعطانيهم الله)) (2: 12- 13)
للوهلة الاولى تبدو هذه الاستشهادات ضعيفة من أجل البرهان الذي يقدّمه الكاتب. هذا يكون صحيحًا إن نحن اقتطعنا الاستشهاد من سياقه. يعود الاستشهاد الأول إلى مز 22 الذي تلاه يسوع على الصليب: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ يبدأ في ضيق الصليب ويذكر اقتسام ثياب المصلوب (يو 19: 23- 24؛ مت 27: 35). طبّق هذا المزمور على الابن المتجسّد وعلى الآلام التي تحمّلها. أما آ 22 فتبدأ قسمًا يتميّز بالفرح والنصر، وهذا ما يتوافق مع فرح الفادي في انتصاره.
ويعود الاستشهادان الثاني والثالث إلى أش 8: 13 ي الذي هو مقطع مسيحانيّ. طبق العهد الجديد آ 14 (صخرة سقوط وفخ وشرك) على المسيح (روم 9: 33؛ 1بط 2: 8). فصليب المسيح يمكن أن يكون سبب نعمة وسبب دينونة. أما الاستشهاد الثاني ((أما أنا فأتوكل عليه)) فيعود إلى أش 8: 17 ،ويصوّر موقف الثقة بالله الذي وقفه المسيح المتجسّد. ونجد الاستشهاد الثالث في أش 8: 18 (ها أنا والاولاد): مع أن الشعب تنكّر لله، إلاّ أن الله يعامله بالصلاة الرحمة. وما يرمز إلى هذا الموقف، الاسم الذي أعطاه أشعيا لولديه: بقيّة تعود (أش 7: 3).
هذا التطبيق المسيحاني للاستشهادات الثلاثة، يقودنا إلى القول بأن الابن المتجسّد هو واحد مع الذين افتداهم والذين سمّاهم إخوته. شدّد الأوّل كيف أوصل المخلّص الظافر، النداء إلى إخوته. وأبرز الثاني علاقة الله بذلك الذي شارك في بشريتنا. والثالث أعلن سيادة الله الذي جعلنا، بنعمته، أبناءه (يو 1: 12)، فصرنا بالتالي إخوة ابنه.
((إذن، فبما أن الأولاد مشتركون في الدم واللحم، اشترك هو كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت من كان له سلطان الموت، أعني إبليس)) (2: 14)
هذه الآية تُجمل ما سبق وتتوسّع فيه. لفظة ((أولاد)) تعود إلى أشعيا. كما أوضحت ضرورة التجسّد وهدفه. أعلن الهدف في آ 9: لكل واحد بنعمة الله. والنتيجة في آ 10: يقود الأبناء الكثيرين إلى المجد. هؤلاء الابناء صاروا إخوة للذين قدّسهم (آ 11). وأضافت آ 12- 13 سندًا كتابيًا للأخوّة البشريّة التي تجمع الفادي مع المقدّسين. وها نحن الآن أمام تحديد لبشريّة يسوع: دم ولحم. أي طبيعة بشريّة يشارك فيها الابناء. وهكذا أعلنت عقيدةُ التجسّد بوضوح. كم نحن بعيدون عن الظاهريين الذين رفضوا عقيدة التجسّد، واعتبروا أن الابن لبس ظاهر الانسان، ولم يكن بشرًا حقيقيًا.
إن الكلام عن البشريّة المشتركة التي بها ارتبط يسوع بنا ونحن به، يتبعه قول حول هدف التجسّد: تدمير سلطان الموت، أي إبليس، وذلك بالموت. هذا يعني أن الابن المتجسّد يجب أن يموت. وعلى الصليب، عبر موت يسوع، كانت مجابهة بين الله وإبليس. ولكن كيف يستطيع ألم الموت أن ينتصر على سلطان الموت؟ وكيف يمكن أن لا يكون موت الابن المتأنّس دمار إبليس وانتصار يسوع عليه؟
نبدأ فنقول إن سلطان الموت الذي بيد إبليس، يرد في معنى ثانوي لا في المعنى الأخير. فالموت هو واقع مظلم في استبداده. غير أن الله يبقى الاسمى في سيادته. كل شيء وُجد فيه ولأجله. والموت لا يُفلت من قبضة الله. والبرهان على ذلك انتصار الابن على الموت وعلى إبليس. فإبليس هو خليقة، وهو بذلك خاضع لدينونة الله وذاهب إلى الدمار. نحن أبعد ما يكون عن ثنائيّة كونيّة وكأن إبليس يقف إلى الأبد تجاه الله. فسلطان الموت الذي يمسكه الشيطان ليس سلطانًا مطلقًا. ولكن هذا السلطان سوف يدمّر (1يو 3: 8؛ رؤ 20: 10). والموت يرتبط بدينونة الله، لا بسلطة إبليس.
أجل، موت المسيح لأجلنا هو هزيمة إبليس. ولكنه ليس النهاية. فبعده تأتي القيامة والصعود وإكليل المجد والكرامة. تلك هي نتيجة عمل المسيح الخلاصي وكماله وقبوله لدى الله. تلك هي فائدته الأدبيّة بالنسبة إلى الانسان. في هذا، قال اثناسيوس الاسكندراني (التجسّد 10) : ((صنع اثنين بذبيحة جسده: وضع حدًا لشريعة الموت التي سدّت لنا الطريق، وصنع بداية حياة جديدة لنا حين أعطانا رجاء القيامة)). وقال في إحدى رسائله:((إن انتصار المسيح منحنا البركة بدل اللعنة، والفرح بدل الاتهام، والعيد بدل الحداد، في عيد الفصح هذا، عيد الفرح المقدس)) (2: 7).
((ويعتق أولئك الذين كانوا، الحياة كلها، خاضعين للعبودية، خوفًا من الموت)) (2: 15)
إن هزيمة المستبدّ تعني حرّية الذين يستعبدهم. هناك النجاة من الموت، والنجاة من الخوف من الموت. والكاتب يعبّر عن خبرة (يثبتها التعليم) يعرفها جميع الذين سلّموا نفوسهم إلى الله بالايمان بالمسيح. من أجل خبرة التحرير هذه، لا نرجو شيئًا ولا نعمل شيئًا، بل نتعرّف إلى ما ناله لنا المسيح فنفرح به الآن. هكذا نعرف أن لا شيء في الكون (حتّى الموت) يستطيع أن يفصل المؤمن عن محبّة الله التي في المسيح (روم 8: 38). في الواقع، ((ابتلع الموت في الغلبة)) (1كور 15: 54) بالنسبة إلى المؤمن. وهذا ما يستطيع أن يؤثّر في موقفنا من الموت، لا موتنا وحسب، بل موت أقاربنا وأحبّائنا. لهذا، يوبّخ الذهبي الفم المؤمنين الذين ينتحبون على موتاهم، وكأن لا رجاء لهم بالقيامة.
((فإنه لم يأت لإغاثة الملائكة، بل لإغاثة نسل ابراهيم)) (2: 16)
إن الفعل ((ابيلمباناتاي)) يعني أمسك، هيّأ. رج مت 14: 31؛ لو 9: 47؛ 14: 4؛ 23: 26. قال آباء الكنيسة: بالتجسّد أمسك الابن البشريّة. قال امبروسيوس: أخذ زرع ابراهيم أي وُلد في جسد. وقال توما الاكويني: أخذ الطبيعة البشريّة. إن البشريّة الذي أخذها الابن لنفسه، صُوّرت في عبارة زرع ابراهيم، نسل ابراهيم. حدّثنا مت 1: 1 ي عن تحدّر يسوع من ابراهيم، وهذا ما يدلّ على حقيقة بشريّته. كما يدلّ على أنه دخل في عهد أقامه الله في ابراهيم وأوصله المسيح إلى كماله. هذا ما يقوله بولس في غل 3: 16: ((نسل ابراهيم هو المسيح)). وفي آ 26- 29 نقرأ: ((لأنكم جميعًا أبناء الله بالايمان بالمسيح يسوع... فإذا كنتم للمسيح، فأنتم إذن نسل ابراهيم وورثة بحسب الموعد)).
حين قال الكاتب إن المسيح أخذ زرع ابراهيم، جعل التجسّد في إطار العهد الذي فيه يمثّل الابن المتجسّد مركز الصدارة. هو زرع عهد ابراهيم، وشعبه اتحد به اتحادًا روحيًا، دون توقّف عند عرق أو حضارة. هم فيه ((أبناء كثيرون)) معدّون للمجد (آ 10). فلا يستحي أن يدعوهم إخوته (آ 11). تقبّلوه وآمنوا باسمه فأعطاهم سلطانًا به صاروا أبناء الله (يو 1: 12).
((ومن ثم كان لا بدّ له أن يكون، في كل شيء، شبيهًا بإخوته، لكي يكون في ما هو من الله، حبرًا رحيمًا أمينًا بحيث يكفّر خطايا الشعب)) (2: 17)
كل هذا يعني ضرورة التشبّه بإخوته، والتماهي مع الجنس البشري الذي جاء يخلّصه. وذلك في تجسّد حقيقي يشمل اللحم والدم (الضعف) كما يشمل الشعور والعواطف. إخوته. رج آ 11. هي البشريّة التي سارت وراء يسوع. هذا التشبّه بإخوته أهّله لأن يكون حبرًا رحيمًا. وكهنوته هذا لم يكتمل بذات الفعل، بل في التجسّد.
عبر هذه الرسالة، نجد أكثر من تنبيه حول واقع دينونة الله. فذلك الذي لا يهتمّ بالخلاص العظيم الذي هيّأه الله، لا يستطيع أن يُفلت من العقاب (2: 3). لهذا نقرأ في 3: 12: ((إحذروا، أيها الاخوة، من أن يكون لأحد منكم قلب خبيث وغير مؤمن)). وفي 4:1: ((فلنخشَ اذن أن يوجد أحد منكم متخلّفًا عن موعد الدخول إلى راحة الرب)). وتحدّث 10: 27 عن نار سوف تلتهم المعتدين.
ولكن محبّة الله حاضرة مثل غضبه وعقابه. ونعمته ثابتة مثل عدالته. هو لا يضع غضبه جانبًا لكي يمارس رحمته. بغضه للاثم وحبّه لخلائقه يسيران معًا. لهذا، حين كنّا خطأة وأعداء له، أرسل ابنه كفّارة عن خطايانا (1يو 4: 8 ،10؛ روم 5: 6، 8- 10).
((وإذ إنه هو نفسه تألّم وابتلي، صار في طاقته أن يغيث المبتلين)) (2: 18)
وما يدلّ على حقيقة بشريّة من صار كاهنًا رحيمًا وأمينًا، وعلى أنه صار حقًا شبيهًا بنا، هو أنه تألّم وجرِّب (ابتلي). من يختبر يمكن أن يقع في التجربة. ولكن يسوع وحده لم يعرف الخطيئة (4: 15) وتعلّم أن يكون طائعًا للآب رغم الآلام التي احتملها (5: 7- 8). رفقةُ البشر المتألّمين، جعلت منه حبرًا رحيمًا. قال بعضهم: وحدها خبرة الخطيئة تجعل يسوع يحسّ مع البشريّة الساقطة. ولكن بالنسبة إلى الابن المتجسّد، السقوط في التجربة التي تعني رفقة الخطأة، تعني أيضًا سقوطًا وهزيمة، بحيث لا يستطيع أن يقوم بوظيفة الحبر في كمالها (5: 10)، كما لا يستطيع أن يأتي لعوننا ويقودنا في طريق الظفر. ونخطئ إن اعتبرنا أنه إن لم يسقط، لم يعرف التجربة كما يعرفها الخطأة. فهو حين تغلّب على التجربة وأكّد على أنه لم يخطأ، نما إحساسه معنا ولم ينقص. فهو يعرف قوّة التجربة بشكل لا نعرفه.
فالغوث الذي يقدّمه المسيح الذي يجاهد في وسط التجربة، ليس غوث انسان لانسان، بل غوث الفادي إلى الخاطئ. وهذا العون يرتبط بشعوره معنا نحن الذين نحتمل التجربة لنصل إلى النصر. كما يمنحنا قوّة صليبه وغلبة قيامته. وهكذا صار عونه عونين: غفر خطايانا وألغى سقطاتنا الماضية. ثم أعطانا القوّة لنتغلّب على التجربة. فسيطرة يسوع على التجربة تعني بالنسبة إلى المسيحي أنه حطّم سلطان الخطيئة فيه (روم 6: 14). هذان الواقعان (المغفرة، القوّة)، هما حاضران أمامنا: فكاهننا الرحيم والأمين كفّر عن خطايانا. وبما أنه انتصر، استطاع أن يساعد المجرّبين.

خاتمة
يسوع هو الحبر الرحيم. أما الملائكة فلا يستطيعون أن يمارسوا مثل هذه الرحمة تجاه البشر. لهذا، صار يسوع الكاهن الكامل الذي يستجيبه الله ويعين الخطأة. هذه الفكرة التي تضمّنها ذكر غفران الخطايا (1: 3)، تهيّئ صياغة الموضوع الرئيسي في الرسالة: كهنوت المسيح في كل اتساعه. وجاءت آ 9- 10 ،11 ، 17 ،فقدّمت مشروع الخلاص في إطار مثلّث: الله، المسيح، الانسان. الله أراد بحبّه أن يخلّص الخطأة. لهذا قرّر تجسّد الابن وآلامه. وابن الله الذي كشف الله، يتفوّق على جميع الخلائق. وبما أنه الفادي، فهو يشارك الذين يخلّصهم في حياتهم، في وضعهم بما فيه من ضعف وخطيئة. هذا الوسيط هو وحده كامل، وإن قرّر الله في حكمته وحبّه أن يرسله إلى الموت. يبقى على الانسان أن يسلّم نفسه إلى هذا الكاهن الذي كفّر عن الخطايا واستطاع أن يغيث المبتلين بعد أن جرِّب هو وتألم. أما همّه فتحرير الانسان الخائف من الموت، من سلطان الموت. ومشروعه أن يجمع نسل ابراهيم، سواء جاء من العالم اليهوديّ أو من العالم الوثنيّ. بل جعل نفسه ابنًا مع الابناء الكثيرين، وأخًا مع إخوة لم يستح أن يسمّي نفسه أخاهم. أعطاه الله أولادًا فلم يُفقد واحدٌ منهم، إلاّ ابن الهلاك (يو 17: 12)، أي صاحب القلب الخبيث الذي رفض الايمان فسقط، فكانت آخرته اللعنة وعاقبته الحريق (6: 8).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM