الفصل السابع والثلاثون :يسوع وجزية الهيكل

الفصل السابع والثلاثون
يسوع وجزية الهيكل
17: 24- 27

إن الحدث الذي نقرأ الآن لا يوجد إلاّ في انجيل متّى (17: 24-27). ولكن قد يكون الانجيلّي عاد إلى مرجع قديم. لا شكّ في أننا نستطيع أن نكتشف الطابع الذي به طبع متّى انجيله. ولكن قدم الخبر تجاه الاطار التاريخي للانجيل واضح جدًا، وهو يدفعنا للعودة إلى أقدَم الجماعات المسيحيّة. ولكن متّى هو الذي وضع هذه المقطوعة في هذا الموضع في سياق مرقسيّ. فما هو السبب؟ ما هي العلاقة مع المقطوعة السابقة؟ هناك من رأى في 17: 24-27 إضافة تشرح الانباء الثاني بالآلام: ينبغي على يسوع أن يسلم إلى أيدي الأمم (17: 22). والأمم هم الوثنيون. وهكذا يهيِّيء النصّ تعليمًا حول العلاقات بين الكنيسة والامبراطوريّة. ولكن حين أخذ مت مر 9: 31 قد لا يكون أشار بشكل خاص إلى الوثنيين.
هل نستطيع أن نبدأ "الخطبة الكنسية" (أي الخطبة الرابعة في متّى) مع 17: 24؟ كلا. لأن عبارة "في تلك الساعة" الخاصة بمتى (ترد 7 مرات عنده، مرة واحدة عند كل من مر ولو) تدلّ بوضوح على بداية جديدة. ولكن يبقى أننا مع 17: 24 نخرج من قسم أراده متّى هنا، وأعطاه وجهة كرستولوجيّة (16: 13-17، 23). وهكذا يستعدّ القارئ ليأخذ تعليمات حول الحياة الملموسة في الجماعة. إذن دور هذه المقطوعة التي ندرس، دور انتقالة. وبما أنها تتحدّث عن العلاقات المسيحية مع الخارج لا بين المسيحيّين أنفسهم، جُعلت خارج الخطبة الكنسيّة التي تبدأ ف 18.

1- إطار المقطع الانجيلي
قبل أن ندرس الهدف الانجيلي، نتذكّر الحالة التي أمامنا. على كل اسرائيلي ذكر (ما عدا الكهنة حفاظًا على السلام)، عمره 20 سنة وما فوق، أن يدفع نصف مثقال كضريبة معدّة لتأمين العبادة العلنيّة في الهيكل. يرى التفسير الرابيني أن هذه الضريبة ترجع إلى التوراة نفسها حيث يلّمح اليها خر 30: 11-16. ولكن يبدو أن هذه الفريضة تعود إلى السنوات الأولى للسلالة الحشمونيّة (نهاية القرن الثاني، بداية القرن الاول ق م)، بل إلى الحقبة الرومانيّة (بدأت سنة 63 ق م مع بومبيوس). لا نستطيع أن نعتبر خر 30: 11-16 إسقاطًا على الماضي لعادة معروفة. فهذه العادة لا نجدها في 2 أخ 24: 4-14 الذي يتحدّث عن "لمّة" سبّبتها ظروف خاصة. ولا في نح 10: 33-34 الذي يتكلّم عن نظام خاص تفرضه الضرورة، لأن الذبائح كانت تدفع في ذلك الوقت من الخزينة الملكية (عز 8:6، 10؛ 7: 20، 23؛ رج حز 45: 16- 17). ذاك كان الوضع في الزمن الفارسي. وسيكون كذلك في الزمن السلوقي (1 مك 10: 40-42؛ 2 مك 3: 3؛ العاديات اليهوديّة 12/ 3: 3، 140- 141)
في زمن يسوع تثبّتت هذه الضريبة وسرت حتى على اليهود في بابل. فرض الفريسيون رأيهم على الصادوقيين الذين تعلّقوا بالتقليد، فتركوا الاهتمام بالهيكل لعطايا الافراد. كانت تتمّ العمليّة في شهر أدار (شباط- اذار)، يجنّد لها أشخاص محليّون في جماعات فلسطين والشتات، ويأخذون هذه الضريبة ويرسلونها إلى أورشليم. وقد سمّيت في المشناة "شقاليم" (من هنا الشاقل) عودة إلى خر 13:30، 15 (نصف مثقال). في الواقع، ما يُطلب من كل مؤمن، كان درهمين من الفضة.
حسب المؤرخ يوسيفوس، لم يأت جامعو الضرائب من أورشليم، بل كانت كل جماعة مسؤولة عن المال المفروض عليها. ولكن بعد سنة 70، يرسل "شليحين" (السليحين أو المرسلين) ليتفقّدوا الجماعات ويأخذوا الضريبة للرئيس. "ش ق ل" في العبرية. في المشناة دلّ على ضريبة الهيكل، وفعل "ش ق ل" عنى: دفع ضريبة الهيكل.
بعد دمار أورشليم سنة 70 ب م، تحوّلت هذه الضريبة إلى فريضة عار، لأن رومة بدأت منذ ذلك الوقت تجمعها بواسطة إدارة خاصة سمّتها "الضريبة اليهوديّة". وجّهها وسباسيانس محتلّ أورشليم سنة 70 إلى هيكل جوبيتر في الكابيتول في رومة. نقرأ في يوسيفوس (الحرب اليهوديّة 7/ 6: 7، 218): "وفرض وسباسيانس جزية (الرأس) درهمين تؤخذ كل سنة إلى الكابيتول تشبه تلك التي كانت تُدفع للهيكل". وقال ديون كاسيوس في التاريخ الروماني (65/ 7: 2): "منذ ذلك الوقت، فُرض على اليهود الذين يواصلون المحافظة على عادات الجدود، أن يدفعوا ضريبة سنويّة (درهمين) لجوبيتر الكابيتول". واعتبر سواتانيوس أن الهدف كان إذلال اليهود (دوميسيانس 12: 2: يكشفون عن شيخ ابن 90 سنة إذا كان مختونًا).
وهكذا حين دُوّن الانجيل الأول، كانت هذه الضريبة تُدفع للسلطة الرومانيّة. فما يكون الأمر بالنسبة إلى المسيحيين في أيام متّى؟ سيكون الجواب صعبًا. ولكن نبدأ فنقرأ النصّ. في قسم أول (آ 24-26) جباة الدرهمين. وفي قسم ثان (آ 27) الاستار في السمكة.

2- جباة الدرهمين (17: 24- 26)
منذ البداية نرى لمسة الانجيليّ إذ جعل في المقدمة حاشية مر 9: 33 أ: وصل يسوع مع تلاميذه إلى كفرناحوم. وهذه المقدمة التي تتماسك كل التماسك في إطار البنية المتاويّة، توخّت أن تقدّم إطار مدينة، وهكذا يتمّ اللقاء مع جامعي الضريبة الذين لا نجدهم متجوّلين في الحقول. منذ 53:13-58 وحتى المواجهات الأخيرة في أورشليم، أوقف يسوع رسالته مع "أهل وطنه" كفرناحوم بعد أن رفضوه. لهذا ندهش عندما نجد هنا يسوع في كفرناحوم "مدينته" (9: 1) ومركز نشاطه في الجليل (4: 13؛ 8: 5؛ 11: 23).
أقبل (بروساختاي، فعل متاويّ يرد 52 مرة) الجباة ووجّهوا كلامهم إلى بطرس ساعة وصل يسوع "إلى البيت". هل خاف الجباة من مواجهة يسوع فتحدّثوا إلى بطرس؟ وقد يكون أن متّى ما أراد أن يجعل هذه الحادثة بين الجدالات، فاعتبر أن هذا التعليم يتوجّه إلى التلاميذ، فلم يضع الجباة وجهًا لوجه مع يسوع. وهكذا يجري الحدث في مشهدين مختلفين: سُئل بطرس في الخارج، وفي الداخل أعلن أن معلّمه يدفع الضريبة: "بلى". وقد يكون دفعها في السنة السابقة. والمشهد الثاني في البيت موضع الأحاديث الخاصة والحميمة بين يسوع وتلاميذه. وهكذا ينال هذا العمل تفسيرًا يحدّد بُعده. فقد أراد مت في ما قام به من ترتيب النصّ أن يدلّ على ما يفصل سلوكًا عمليًا (يدفع الجزية) عن المعنى الواقعيّ الذي يرتديه هذا السلوك في فكر المسيحيّين، وذلك حسب توجيهات يسوع.
قبل أن نصل الى المحطّة الثانية، نقرأ حوار بطرس مع الجباة. سألوا: "أما يؤدّي (تالاين) معلّمكم (ديدسكالوس، لقب في مت يعطى ليسوع في فم أناس ليسوا بتلاميذ. الضمير "كم" (هيمون) يشدّد على ذلك. ليس هو معلّمنا. معلمنا هو موسى. رج لفظة "مجامعهم") الدرهمين؟ ليس في هذا السؤال أي عداء ولا فكرة مسبقة. بل هو يفترض جوابًا بالايجاب (أو، أوخي في 7: 22؛ 13: 27- 55؛ لو 12: 6؛ 17: 17؛ مر 14: 60). إذن، لسنا في إطار جدال، بل في المرحلة الأولى من تأليف ذات نمط تعليميّ يشبه تآليف أخرى نجدها في الانجيل الأول (3: 14-15؛ 28:9-29؛ ق مر 10: 51- 52؛ مت 38:12؛ ق لو 11: 29؛ مت 48:12-50؛ ق مر 32:3-35؛ مت 13: 10؛ ق مر 4: 10؛ مت 17: 10-13؛ ق مر 9: 11-13).
إن لفظة "ديدرخما" (الدرهم) في الجمع تطرح سؤالاً: لماذا في الجمع؟ قالوا إن مت نسخ كلمة يونانيّة دخلت إلى اللغة الساميّة فتركها كما وصلت إليه. بل نحن أمام تقليد شفهيّ أخذه الانجيلي كما هو على مثال ما نجد في جمع "السبت".
طُرح السؤال على بطرس، فأجاب: "بلى" (ناي). إيجاز عُرف به مت. كانت مناقشات حول معنى "بلى": ولكن يبدو أن المعنى يشير إلى أن يسوع اعتاد أن يدفع هذه الجزية في الماضي. لا إلى أنه مستعّد أن يدفع الآن. هذا ما يهمّ المعلّم المسيحي، ولا شيء آخر. مثلاً كما قال أحد الشرّاح: أجاب بطرس بدون تردّد، لأن يسوع دفع دومًا هذه الجزية، وأنه إن تأخر فلأنه كان غائبًا. أو: "سوف أرى". إن معنى النصّ هو أن على المسيحيّين أن يدفعوا الضريبة، وأن يكون سلوكهم نظاميًا بالنسبة إلى السلطة التي تفرض هذه الضريبة، على مثال معلّمهم، وتلبية لدعوته لهم.
غير أن عليهم أن يفهموا هذا الواجب فهمًا تامًا. فالفعل شيء، والقانون شيء آخر. فهذا يجب أن يعرفه المسيحيون. وسيحدّده يسوع لتلاميذه في إطار حميم. هو الذي بادر (بروفتاناين، لا يرد هذا الفعل إلاّ هنا في العهد الجديد). هو الذي بدأ الكلام. ليس من الضروريّ أن نستنتج أن الراوي يتحدّث عن حدس فائق الطبيعة كما قالت بعض الشرّاح. قد يكون يسوع أدرك موضوع الحوار بين بطرس والجباة. وقد يكون متّى سار في خطّ العوائد الرابينيّة التي تمنع التلميذ أن يبدأ مناقشة دون أن يدعوه معلّمه إلى ذلك. مهما يكن من أمر، لم يهتّم متّى بكل هذه المسائل. فاهتماماته هي في موضع آخر.
إن عبارة المقدمة التي تميّز متّى (12:18؛ 28:21؛ 17:22؛ ق مر 14:12؛ مت 42:22، ق مر 35:12؛ مت 66:26؛ ق مر 64:14) "ماذا ترى" (تي سوي دوكاي)، تجعلنا في قلب حوار بين معلّم وتلاميذه: فعبر الرسول الرسميّ سمعان كما في 16: 17؛ رج مر 14: 37؛ لو 22: 31؛ يو 21: 15، 16، 17)، يتوجّه الكلام إلى القارئ الذي يطرح عليه السؤال. وهذا السؤال يأخذ شكل مثل قصير: "ممن يتقاضى ملوك الأرض المكوس أو الجزية (م ك ش في العبريّة، مكسا في الاراميّة)؟ أمن بنيهم أم من الغرباء"؟ "ملوك الأرض" عبارة تقليديّة تدل على الملوك الوثنيّين (مز 2: 2= أع 26:4؛ رؤ 1: 5؛ 6: 15؛ 17: 2؛ 3:18، 9؛ 19:19؛ 21: 24. لسنا هنا في موقف عدائي كما في رؤ). وأبناؤهم لا يتماهون مع عبيدهم، لأن الأمراء في العهد القديم كانوا يحصلون على المال الوفير من المواطنين. "بنيهم" تدلّ على أكثر من العائلة، تدلت على الحاشية الملكية مع الخدم والموظفين. وتصرّف بطرسُ كتلميذ نجيب، وقدّم الجواب الذي توقّعه المعلّم، يسوع، فاستنتج يسوع قائلاً: "إذن، البنون هو أحرار (الوتاروس، معفَون من الجزية، رج 1 صم 17: 25 حسب اليونانيّة). لم نكن بحاجة إلى هذا القول بعد أن لمّح بطرس إلى ذلك في جوابه. غير أن هذا الاستنتاج الملموس قد استخرجه المعلّم وأعطاه قوّة القانون. فالمسيحيون، والنصّ يتحدّث عنهم (الابن هو الشعب المختار، خر 4: 22؛ تث 14: 1؛ 32: 20، أش 6:43؛ 45: 11؛ حز 16: 20-21؛ هو 11: 1)، هم أبناء الله الحقيقيّون. فلا يتوجّب عليهم أن يدفعوا جزية لأبيهم، ربّ الهيكل. ذاك هو الوضع القانونيّ الذي يحدّد هذا السلوك (هلكه) الذي يعارض قوله الرابينيين في محيطهم الخاص.
ومع ذلك، فقد أشير إلى سلوك عمليّ يعارض هذا القول، والسبب: يجب أن نتجنّب "الشكوك". في إطار الكنيسة المسيحية المتهوّدة، موضوع هذا الشكّ رغم الغموض في الضمير (اوتوس. هل يدلّ على التلاميذ أو على الجباة)، نكتشفه بسهولة: هم اليهود الذين لم يرتّدوا إلى المسيحية، والذين يمثّلهم الجباة، الذين يخضعون لفرائض الرابينيّين. ولكن ماذا أراد متّى أن يقول لنا؟
ليس السؤال بسهل. فإن جزية الدرهمين التي كانت تُدفع للهيكل، قد تحوّلت بعد سنة 70 إلى جزية رومانيّة، فلم يعد من الممكن أن نرى في جباة هذه الضريبة ممثّلي اسرائيل. بعد ذلك، كيف نتكلّم عن "الشكوك"؟ فما دلّ المستوى الأول من الحدث، على رغبة في تجنّب الظروف التي تبُعد اليهود عن الايمان المسيحي (فعل "سكنداليزان" في معنى أدبي. ما هو سبب سقوط في الخطيئة. هذا ما حدث لاسرائيل حين سقط في شرك الكنعانيين فخان الربّ، خر 23: 33؛ 34: 12؛ تث 7: 16، 25؛ يش 23: 13؛ قض 3: 2؛ 8: 27؛ مز 69: 23؛ 106: 36) يبدو الآن غريبًا وبرهانًا ضعيفًا إذا كان الجباة موظفيّ الامبراطوريّة وهم يُكرهون الناس على دفع الجزية (هل نتحدّث عن شكّ الضعفاء، كما في 1 كور 9:8-13؟ ولكننا أمام أعضاء الجماعة المسيحية). ولكن هل نستطيع أن نتحدّث عن شكوك تجاه موظّفين وثنيّين يعملون من أجل الادارة الرومانيّة؟ هنا نتذكّر أولاً أن كنيسة متّى لم تجتذب كثيرَا من اليهود. فاليهود الذين فيها كانوا قلّة قليلة. لقد توجّهت بشكل واضح الى الوثنيين تدعوهم إلى الانجيل (9:22-10؛ 14:24؛ 13:26؛ 28: 19-20). والتعليم الذي نجد تعبيرًا عنه على مدّ الانجيل الأول هو صدى لنجاح التبشير لدى الجموع الوثنيّة (2: 1-12؛ 8: 1؛ 15: 21-28) وهو نجاح يلفت نظرنا إن قابلناه بفشل تام لدى اليهود (12:8؛ 13:13-15؛ 21: 43؛ 23: 33-39).
هذا من جهة. ومن جهة أخرى، هل يستطيع مسيحيّون من أصل يهوديّ أن يُعتبروا يهودًا في نظر الامبراطوريّة؟ فموظّفو دوميسيانس (81-96 حسب سواتونيوس، دوميسيانس 12: 2 كان هذا الامبراطور يفرض الجزية على الذين من أصل يهوديّ وعلى المرتدّين إلى اليهوديّة) لا يعتبرون أشخاصًا لا يمارسون الختان ولا سائر العادات التي تميّز العالم اليهودي، على أنهم يهود. من أجل هذا، استعمل متّى هذا التقليد القديم لكي يحرِّض أعضاء جماعته على دفع الضرائب الرومانيّة على ما قاد بولس في روم 6:13-7 (أدّوا للجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية). إن هذه الفرضيّة لا ترضي الشارح إذا أخذ بعين الاعتبار التحفّظ التي تعبّر عنه آ 26 (فالبنون أحرار): ففي كتاب لا يعلن أيّة معارضة تجاه سلطة الامبراطوريّة، بل يحضّ على "التأدية لقيصر ما يحقّ لقيصر" (22: 21)، لا نجد سببًا من أجل تخفيف (على مستوى الحقوق) سلوك صادق أخذ به المسيحيون في العصر الرسوليّ تجاه السلطة الرومانيّة (رج 1 بط 2: 13-14، إخضعوا للملك، للولاة). وحده سفر الرؤيا، الذي وُلد في جوّ الاضطهاد، يشذّ عن القاعدة، ويرى في الامبراطورية شرًا. بالاضافة إلى ذلك، كيف يستطيع المسيحيون أن يُسمَّوا "أبناء الامبراطورية الرومانية"؟
أمام هذه السلسلة من الصعوبات، لا يبقى إلاّ حلّ واحد معقول. لا تتحدّث هذه المقطوعة عن العلاقات بين الكنيسة ورومة. بل بين الكنيسة والمجمع. من جهة، فمسألة الضريبة التي تتحدّث عن قضية مضى عليها الزمن، صارت بشكل مثَل يرسم موقفًا من السلام تجاه اليهود. ما أراد متّى أن يقدّم تعليمًا (أو مثلاً) يمكن أن يُطبّق حرفيًا (بعد دمار الهيكل، تجاوز الجميع المسائل العباديّة)، بل استعمل هذا التقليد القديم ليحضّ قرّاءه على مراعاة بني اسرائيل، وعلى الامتناع عن إضافة أمور ثانويّة تبعدهم عن المجتمع المسيحيّ (وهكذا يبقى الباب مفتوحًا بين الكنيسة والمجمع). وهكذا نلتقي بمقاطع في الانجيل الأول نستشفّ فيها الاهتمام عينه. ننظر مثلاً كيف يعالج الانجيليّ الجدال حوله الطهارة (15: 1- 20؛ ق مر 7: 1-23). رج أيضًا مت 9: 10، 13 (ق مر 2: 15-17)؛ 12: 1-8 (ق مر 23:2-28)... تحرّر فكر متّى من الاهتمام بالممارسات الرابينيّة، هذا ما لا شكّ فيه، ولكنه سعى إلى ربط الجديد المسيحي بالشريعة التي ما جاء يسوع ليلغيها بل ليكمّلها (17:5).
ما أراد متّى أن يعود بالكنيسة إلى العالم اليهوديّ، ولكنه أخذ بعض الاحتياطات ليدلّ على أنه لا يغلق أمام الآتين من العالم اليهود، جميع المداخل التي تقود إلى المسيح. وفي هذا تبع خطّ بولس في رسالته، فكان يتوجّه أولاً إلى اليهود ثم إلى الوثنيين. وهذا ما نراه واضحًا في أنطاكية بسيدية. كلّم أولاً اليهود في المجمع ولما رفضوا قال لهم: "لكم أولاً كان ينبغي أن تُقال كلمة الله. ولكن بما أنكم ترفضونها... فها نحن نتوجّه إلى الأمم الوثنيّة" (أع 44:13-46).

3- الاستار في السمكة (27:17)
في آ 24-26 كنّا أمام دفع الضريبة. مشهد أول في الخارج: بطرس مع الجباة. ومشهد ثان جُمع فيه يسوع مع تلاميذه. وفي آ 27، نجد ما صنعه يسوع لكي يدفع هذه الضريبة. بدأ يسوع فحدّث بطرس قائلاً: "إمض إلى البحر (هذا لا يعني أن بطرس نزل في الماء. ق مت 2: 20؛ مر 12:16 حيث فعل "بورويستاي" يعني مضى، لا دخل أو سار في). وألق الصنّارة (انكسترون). وأول سمكة تؤخذ (أو: خذ أول سمكة تصعد)، أمسكها وافتح فاها فتجد فيها استاراً (أي: أربعة دراهم). فخذه وأدّه لهم عني وعنك". نصّ فيه إيقاع تعرفه الكتابات الساميّة، فنرى أننا أمام أصل أراميّ.
ولكن لماذا وُضعت هذه الخاتمة (آ 27)؟ في الواقع، هي لا تزيد شيئًا جوهريًا على التعليم الذي وجدناه في المثَل. كل ما نستطيع أن نفترضه هو أن الراوي أراد في مسيرة صياغة النصّ أن يجمّله بحاشية عجيبة تحمل التشويق إلى القارئ. ففنّ "المعجزة" ينتمي إلى أساس صروف، يرقى إلى مستوى الجماعة المسيحية. وكل المحاولات التي قام بها الشرّاح ليحيطوا بالحدث التاريخيّ تبقى بلا فائدة اطلاقًا.
هذا الموضوع معروف وإن اختلفت التعابير عنه، لهذا ليس من المفيد أن نُبرز خصائص الحدث الانجيلي لنفصله عن حالات مماثلة. فهي معروفة. ونحن نكتفي بأن نذكر خبرًا نقله هيرودوتوس (3: 40-42) عن خاتم بوليكرتيس: رُمي في البحر فوُجد في بطن سمكة عجيبة. وقد طبّق الاخبار (هاغاده) اليهوديّ هذا الخبر على سليمان (الذي كان في البدء شحاذًا قبل أن يصبح طباخًا لدى ملك العمونيين). وهناك عدد كبير من الاخبار تتحدّث عن دُرر وُجدت في الاسماك. والمثل الذي أورده مت 17: 22 هو مثل بين أمثلة عديدة تكيّف والظروف: فالسياق يحتاج إلى استار، أي أربعة دراهم، لا أكثر ولا أقلّ. وهكذا حصل بطرس، وهو صيّاد، على المال الضروري ليدفع عن نفسه وعن يسوع.
هذا ما يمنعنا من طرح أسئلة مصطنعة وأجوبة أكثر اصطناعًا. الاول: "أول سمكة" هي التي تكون كبيرة فتُباع باستار. فقد يمكن أن يكون بطرس اصطاد أكثر من سمكة. ويتابع الشارح: ما إن تفتح فمها. أي ما أن تُخرج الصنارة من فمها، ستحصل على الاستار حين تحوّل السمك إلى فضّة (إلى مال). الثاني: اكتفى يسوع بأن يرسل بطرس إلى الكليشاهات الاخباريّة التي تحدّثنا عنها أعلاه: "اذهب واصطد سمكة. فتكون إفادتها كإفادة أولئك الذين تُدخل القصّة فضّة في أفواههم" وهكذا اختفت المعجزة. ألقى الشارح الفعل في الخبر. ولكن بالنسبة الى راو مسيحي، هل يفشل أمر من أوامر يسوع؟ وهناك من يدافع عن تاريخيّة الخبر محاولاً أن يدلّ على أنه معقول. هنا نطرح سؤالاً: "كيف تستطيع سمكة في فمها قطعة فضّة أن تعض الصنّارة"؟. أن هذا الإخبار الشعبيّ في مت 17: 27، يجب أن يعفينا من كل المحاولات البهلوانيّة.
قد يكون الخبر في الاصل، قد انتهى من دون هذه الحاشية الغريبة. ولكن لا شيء يتيح لنا بأن نؤكّد أي شيء (فهذا ليس بمهمّ)، لأن التعليم الذي نستنتجه من النصّ لا يرتبط بـ "تأكيداتنا". ومقابل هذا، لا نستطيع أن ننسى واقعاً يقول إن يسوع وبطرس دفعا وحدهما ضريبة الدرهمين. فالمشهد كله يجري بينهما. ولولا البداية (آ 24)، لظننا أن الرسل لم يحضروا المشهد. لهذا يجب أن نجعل هذا التقليد مع سير يسوع على المياه (مت 14: 28-32) ووعد قيصريّة فيلبس (مت 18:16-19): فقبل أن يُدخل متّى هذه المعطيات إلى إنجيله، كان المسيحيون المرتبطون ببطرس قد جعلوا من زعيم الرسل مستودع التعاليم التي أراد يسوع أن يوصلها إلى المؤمنين. ووسط هذه التوصيات، كانت هذه التوصية التي استندت الى مثل فسعت إلى حلّ مسألة تميّزت بها الكنائس الخارجة من العالم اليهوديّ.
ولكن من خلال هذا الوسط الكنسيّ الذي تعّرفنا إليه بسهولة، أما يجب أن نرى عند يسوع نفسه الموقف الذي نجده في الحدث؟ إذا جعلنا جانبًا الخدعة الادبية والعودة إلى الاخبار العجيبة، أما نستطيع أن نقول إن يسوع قدّم هذه التوصية كما نقرأها؟ هناك من أراد تصحيح موقف يعلن أن استعدادات يسوع تجاه الهيكل وشعائر العبادة فيه، لا تتيح لنا أن ننسب إلى يسوع ما يعبّر عنه النصّ هنا. فالاناجيل ترينا في يسوع ذاك الذي يقف في الوسط بين الفريسيين والصادوقيين. فمع أنه لم يشجب التقادم الطوعيّة (5: 23)، إلاّ أنه عارض الصادوقيين الذين رفضوا أن يلجأوا إلى الضريبة، فأتاحوا للاغنياء أن يدلّوا على عظمتهم حين يدفعون المال في صندوق الهيكل (مر 12: 41-44 وز). أمّا الموقف الذي اتّخذه يسوع حسب مت 24:17-27، فهو يتوافق مع نقده لفرائض الرابينيين والفريسيين (مر 7: 7 ي) الذين بهم ترتبط ضريبة الدرهمين. إذن، سلوكه الشخصي يطلب أن تساند التقادُم الطوعيّة شعائرَ العبادة. ولكن خاف أن يرى الناس يفسّرون فعلته كرفض للنظام العباديّ اليهوديّ، فقدّم هنا تنازلات على المستوى العمليّ.
لا نستطيع هنا أن نتفحّص مسألة موقف يسوع تجاه معبد اسرائيل الوطنيّ، ولكنّنا نستطيع القول إن هذه الفرضيّة قدّمت لنقطة خاصة هي لضريبة الدرهمين، بُعدًا محدودًا. وهكذا نتجنّب اعتبار يسوع كمعارض متخف يحاول أن يقلب الديانة اليهودية. وهذا ليس بمعقول. فلا المشهد العنيف في تطهير الهيكل (مر 11: 15- 19 وز؛ يو 2: 13- 22)، ولا إعلان دماره (مر 13: 2 وز؛ رج لو 19: 44) يعنيان معارضة العبادة الشرعيّة التي تتمّ فيه الآن. كان يسوع الشاهد الأسمى لديانة باطنيّة تسجَّلت ولا شكّ في برنامج دُشّنت فيه عبادة متجدّدة وداخلية (مر 14: 58 وز؛ يو 2: 19)، فما أراد أن يعلن، شأنه شأن اسطفانس (أع 7: 48)، أن "العلي لا يقيم في مساكن صنعتها أيدي البشر".

خاتمة
في هذا الخبر الذي يبقى سرًا بالنسبة إلينا، نرى مقابلتين اثنتين. الأولى بين الابناء والغرباء، والثانية بين المسيحيين الآتين من العالم اليهودي، وسائر اليهود. ولكننا لا نتوقّف عند أمور خارجيّة، كما لا نعتبر نفوسنا في إطار الضرائب التي يدفعها أو يدفعها المؤمن في إطار الامبراطوريّة الرومانيّة. نحن بالأحرى في "حوار" بين المسيحيّين واليهود. هل يقطع المسيحيّون كل علاقة لهم باليهوديّة؟ الجواب هو كلا. فيجب أن يبقى الباب مفتوحًا من أجل حوار قد يبدأ في يوم من الأيام رغم العداء الذي أخذ يزداد بشكل كبير في أيام متّى وبعد ذلك، أي في زمن يوحنا والقطيعة التامّة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM