الفصل السادس والثلاثون :شفاء ولد مصروع

الفصل السادس والثلاثون
شفاء ولد مصروع
17: 14- 23

بعد أن تجلّى يسوع على الجبل أمام تلاميذ ثلاثة (17: 1-8)، أفهم بطرس ويعقوب ويوحنا أهميّة الآلام بالنسبة إليه، هو ابن الانسان. كما أفهمهم معنى مجيء إيليا في شخص يوحنا المعمدان. بعد أن أفهمهم، "فهموا" أخيرًا (13:17) كما يقول الانجيل، وإن فهمًا ناقصًا. عند ذلك عاد معهم إلى الجموع التي تركها بعد أن أشبعها خبزًا وهي التي كادت تخور في الطريق من الجوع. وهكذا، وقبل أن يعود يسوع إلى الجليل وبالتحديد إلى كفرناحوم، سيكون له لقاء مع والد يقع ابنه في داء الصرع. حاول التلاميذ التسعة الذين لم يرافقوا يسوع إلى الجبل أن يشفوه فلم يقدروا. وهكذا يطرح يسوع من جديد مسألة الايمان: "أيها الجيل الغير المؤمن".
بعد أن ندرس السياق الازائي ونتوّقف عند النقد الادبي، نقوم بتحليل النصوص قبل استخلاص الفكرة اللاهوتيّة كما نكتشفها عند متّى.

1- السياق الازائي
أ- جعلت الأناجيل الازائية الثلاثة هذا الخبر حالاً بعد نزول يسوع وبطرس ويعقوب ويوحنا من جبل التجلّي. غير أن متّى ومرقس قد أقحما هنا الحوار حول إيليا ويوحنا المعمدان (مت 17: 9-13؛ رج مر 9: 11-13). أما لوقا فلم يهتمّ بهذا الخبر، لأن مثل هذا الجدال مع الكتبة حول إيليا لا يهمّ قرّاءه. ثم لا ننسى إنه إن قابل لوقا إيليا مع يوحنا المعمدان في حدث بشارة زكريا (1: 5-25)، فهو سيقابل إيليا مع يسوع خصوصًا في "مشهد" صعود يسوع إلى السماء (أع 1: 6- 11).
حين ننطلق من بنية متّى، نلاحظ أن الرباط بين التجلّي وهذا الشفاء (ولد يقع في داء الصرع)، نجده في جيل يرفض أن يؤمن، أو لا يستطيع أن يؤمن. في جيل غير مؤمن (أعوج) يحيط بذاك الذي حلّ عليه مجدُ الله بشكل ساطع. إن يسوع سيذمّر مرارًا من غياب الإيمان هذا عند الناس (آ 17؛ رج مر 9: 19). عند والد الولد المريض الذي أحسَ بايمانه المترجرج فهتف: "أؤمن يا رب، فأعن قلّة إيماني" (مر 9: 23-24). وسيتذمّر يسوع من قلّة الايمان حتى عند تلاميذه إذ قال لهم: "لو كان لكم من الإيمان مثل حبة الخردل... لما استحال عليكم شيء" (مت 17: 20).
عندما نقابل بين النصوص الثلاثة المتوازية، نكتشف الوقائع الرئيسية التالية:
- جاء خبر متّى أقصر من خبر مرقس. لا نرى مثل هذه الظاهرة، إلا في 23:8-34 (تسكين العاصفة، ومجنونا الجدريين، رج مر 4: 31- 41)؛ 9: 26018 (شفاء النازفة وإقامة ابنة يائيرس، رج مر 5: 21-43).
- ألغى متّى كل التفاصيل التي تحرّك العاطفة عند القارئ، والتي جعلها مرقس في آ 14-16 (رج مت آ 20-24)، وتوخّى من ذلك أن يثبِّت الانتباه على الجوهر.
- هذا الجوهر، يراه متّى، شأنه شأن مرقس، في كلمات يسوع حول الايمان، أو بالاحرى حول عدم الإيمان. قال متّى: "أيها الجيل الغير المؤمن" (آ 17). قال مرقس الكلام عينه عن هذا "الجيل" وعن التلاميذ الذين لم يقدروا أن يُخرجوا الروح النجس.
- وفعل متّى كما اعتاد أن يفعل مرارًا، فجعل في الخاتمة (آ 20) قولاً من أقوال يسوع يُجمل معنى الخبر. وهذا القول نجده عند مرقس (11: 22-23) وعند لوقا (6:17) ولكن في سياق مختلف وفي ألفاظ سنجدها في مت 21: 21: "إن كان لكم إيمان ولا تتردّدون، لا تفعلون ما فعلت بالتينة فقط، بل إن قلتم لهذا الجبل، قم من ههنا واهبط في البحر، فإنه يكون ذلك".
- هل الايجاز الكبير الذي نجده عند متّى بالنسبة إلى مرقس، يعود إلى أن متّى أوجز عمدًا مرقس؟ أو أن متّى لم يعرف مرقس فبدا النصّان مستقليّن؟ أو أن مرقس عرف متّى فزاد عليه بعض الشيء ليكمِّله؟ أو قد تكون الأناجيل الازائية الثلاثة مرتبطة كلها بمرجع مشترك دوّن في اليونانيّة (وربّما في العبريّة أو الاراميّة)، فأخذ كل انجيلي جوهر الخبر ثم حوّله بحسب الجماعة التي يكتب إليها، وبحسب اللاهوت الذي نجده في خلفيّة كتابه؟ أما نحن فنأخذ بالرأي الأوّل، لأن مرقس هو أول انجيل وصل إلينا في اليونانيّة.
ب- ونلاحظ أن السياق اللاحق لهذه المقطوعة هو هو في الاناجيل الازائية الثلاثة. فالانباء الثاني بالآلام يتبع حالاً طرد الشياطين من الولد المصروع. وهكذا نبدأ المجموعة الثانية التي بناها الإزائيون منطلقين من بنية مشتركة تصوّر صعود يسوع إلى أورشليم. اكتفى متى (17: 22) ومرقس (9: 30) بأن يشيرا إلى تبدّل في المكان (كانوا يطوفون في الجليل)؛ كانوا في منطقة قيصريّة فيلبس، المنطقة الوثنيّة (بانياس) القريبة من الحدود الجنوبية للبنان، حيث أعلن بطرس إيمانه باسم جماعة التلاميذ الصغيرة، فمضوا إلى الجليل. تفرّد لوقا فحاول أن يقدّم انتقالة بطريقته: "وإذ كانوا جميعًا متعجّبين من كل ما صنع" (43:9). وهكذا تختتم هذه المقطوعةُ التي ندرس مجموعةً أولى تبدأ مع إعلان بطرس المسيحانيّ.
جاء الرباط مباشراً بين حدث الولد المصروع وبين مشهد التجلّي عند لوقا الذي لا يجعل شيئًا بين الحدثين. وضع متّى ومرقس الحوار حول عودة إيليا. أما لوقا فقدّم ما يقابل هذا النصّ المقحم ونقله من مكانه: حوار يسوع والشخصين السماويين (لو 9: 30- 31: يتحدّثان عن موته الذي سيقاسيه في أورشليم). وهكذا يربط الانجيل الثالث التجلي وشفاء المصروع بلحمة كرونولوجيّة لا توضح الأمور كثيرًا: "وفي الغد" (هذا يعني أنهم قضوا الليل على الجبل في الصلاة).
ولكن لم يكن الرباط مباشرًا بين التجلّي وشفاء المصروع عند مرقس بعد أن أقحم الحوار بين يسوع والتلامذة الثلاثة المميّزين. أما ترتيب متّى فجاء متقنًا وبدا طبيعيًا. فخلال نزول يسوع من الجبل، سأله "التلاميذ" (الذين شاهدوا التجلي) (9:17-10) عن رجوع إيليا. حينئذ التقوا بالجمع الذي خرج منه انسان يطلب الشفاء لابنه المصاب بداء الصرع. فالتلاميذ (17: 16، أي التسعة الآخرون) لم يستطيعوا أن يشفوه. حزنَ يسوع، بل "غضب" عليهم، وطرد الشيطان. حينئذ سأل التلاميذ (التسعة) يسوع عن سبب فشلهم.
أما التأليف عند مرقس فجاء منسّقًا، راعى استعمال لفظة "التلاميذ" منعًا للالتباس الذي حاولنا أن نتحاشاه في قراءتنا لمتّى حين أضفنا: الثلاثة، التسعة. لم يستعمل هذه اللفظة ليدلّ على الثلاثة الذين نزلوا من الجبل، بل على التسعة الذي "عالجوا" المصروع وما استطاعوا أن يشفوه.
إن الطابع المصطنع لهذا الترتيب، يدلّ على أن الحوار بين يسوع والتلاميذ الثلاثة المميّزين، قد رُبط بمشهد التجلّي في وقت متأخّر. أما الرباط المباشر الذي وجدناه عند لوقا، فجعلَنا قريبين من التقليد القبل إزائي. وفي أي حال، إذا كان التعارض مع التجلّي قد أبرز بعض التفاصيل في الخبر الذي ندرس، إلاّ أن السياق ظلّ غامضًا. فالانجيليّون الثلاثة تسلّموا من التقليد القبل إزائي متتالية جمعت، على ما يبدو، اعتراف بطرس، إعلان مصير ابن الانسان، ردّة فعل بطرس، التجلي الذي سبقه التعليم حول وضع التلميذ. وجاء حدث الولد المصروع يُنهي هذه المجموعة. ذاك بناء أدبي قدّمه لنا التقليد الانجيليّ. وقد كان من الممكن وضع شفاء الولد المصروع في سياق تاريخيّ آخر. فإذا أردنا أن نفهم معناه، نعود إلى الخبر ونبدأ بدراسته دراسة أدبيّة.

2- النقد الادبي
إن نصّ مت الحالي ينقسم قسمين: خبر المعجزة (17: 14- 18)، وحوار يسوع وتلاميذه (آ 19- 21). وقد اهتّم متّى اهتمامًا خاصًا بالرباط بين القسمين. هناك "بروسلتونتس" (آ 19؛ رج آ 14) التي تسبق عند متّى فعل "قال" (رج 3:4؛ 19:8؛ 9: 14؛ 13: 10؛ 15: 1؛ 18: 1؛ 16:19، 21: 23؛ 24: 3؛ 17:26؛ 69، 73. لا نجد إلاّ أربعة استعمالات لهذه العبارة في مر ولو). ونجد تعارضًا على مستوى الألفاظ المفاتيح: لماذا لم نقدر (آ 19)؟ لا شيء مستحيل (آ 20). هاتان العبارتان هما صدى لما يشاهده التلاميذ من فشل: "لم يقدروا" (آ 16) إن الاشارة مرّتين إلى الضعف الذي يدلّ في الحوار على الموضوع (بسبب قلّة إيمانكم، آ 20) يقابل تأوّه يسوع في الخبر (أيّها الجيل غير المؤمن، أبستوس، آ 17).
تُبيّن هذه البنية الأدبية أن الحوار يقدّم مفتاح الخبر كله. غير أننا نكتشف في تحليلنا للنصّ ثنائية بين الخبر والحوار. في الخبر ما استطاع التلاميذ أن يشفوا (تارابوساي آ 16). في الحوار، ما استطاعوا أن يطردوا (اكبالاين، آ 19) الشيطان. فمن الخبر إلى الحوار، صار شفاء الولد المصروع طردًا للشيطان من ولد ممسوس (امتلكه الشيطان). ويحصل انتقاله معاكس في نهاية الخبر: "خرج الشيطان منه... وشُفي الولد من تلك الساعة" (آ 18).
نلاحظ المسيرة عينها في شفاء أخرس فيه شيطان (12: 2)، وفي شفاء ابنة الكنعانيّة (28:15)، وفي إجمالة تضمّ بدون تمييز الممسوسين والمرضى (4: 24). هل مزج متّى بين الواقعين، فما عرف أن يميّز بين امتلاك الشيطان وأمراض نفسية؟ كلا، على ما نظنّ. ففي إجمالة أخرى (8: 16) وفي خطبة الرسالة (10: 1، 8) ميّز متّى تميّيزًا واضحًا بين الاثنين. إذن ما هو هدفه؟
إن والد الولد والتلاميذ قد رأوا في المصروع (داء الصرع) مريضًا عاديًا. وحين شفاه يسوع، دلّ النصّ على أن الولد ممسوس (مسّه الشيطان، امتلكه). فسؤال التلاميذ يشير لا إلى شفاء لم يستطيعوا أن ينجزوه، بل إلى تقسيم (إخراج شيطان) مستحيل. اختلفوا عن ذلك المقسّم الذي لم يكن يتبع يسوع، ولكنّ هذا المقسّم (أو: المعزّم) نجح "باسم يسوع" (مر 9: 38-40) على طرد الشيطان. لقد نقصهم الايمان فلم يمارسوا ملء السلطان الذي مُنحوه في شفاء المرضى وطرد الشياطين.
إن كان الخبر والحوار يتقابلان في نظر متّى، إلاّ أن الوحدة بينهما لم توجد دومًا. لهذا سنحاول أن نقرأ الحدث بدون الحوار النهائي ثم مع الحوار النهائي. ونبدأ بدرس مضمون الحوار الذي لم يكن كذلك منذ البداية. إن النصوص البيبليّة تعتبر أن آ 21 لم توجد في الاصل، وأنها أقحمت فيما بعد: "أما هذا الجنس من الشياطين فلا يخرج إلاّ بالصلاة والصوم". لماذا تُرفض هذه الآية؟ لأنها تُعتبر مأخوذة عن مر 9: 29. ولكنها موجودة في عدد من المخطوطات. هنا يُطرح سؤال: هل أضيفت الآية أو حُذفت بسبب الحديث عن الصوم؟ فهنا كما في مر 9:29، إلغاء الآية معقول أكثر من إضافتها: فالكنيسة مارست الصوم، وقد أراد النصّ الانجيليّ أن يسند هذه الممارسة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، منع يسوع الصوم خلال حياته على الأرض (مت 9: 15).
يعتبر عدد كبير من الشرّاح أنّ آ 21 غير مفيدة بعد آ 20. فقد قيل كل شيء مع الكلمة حول الايمان الذي لا يستحيل عليه شيء. بل إن ذكر الصلاة والصوم يكون في غير محلّه في سياق خبر معجزة. ولكن هذا المخطط يفترض أن آ 20 سبقت دومًا آ 21. ولكن تبدو فرضيّة أخرى تقول إن آ 20 قد أقحمت وكان النصّ في الأصل: فقال لهم "أما هذا الجنس من الشياطين...".
هنا نتساءل لماذا هذا "الجنس" (من الشياطين) يتطلّب شيئًا خاصًا؟ قدّم مرقس شرحًا. أما خبر متّى فما هيّأ الطريق لكلمة يسوع حول ضرورة الصلاة في هذا التقسيم. وهذه الصعوبة هي التي دفعت متّى لكي يحدّد سبب عجز التلاميذ عن طرد الشيطان: فالصلاة والصوم يفترضان بشكل عميق جدًا موقف إيمان كامل. وإذ أراد متّى أن يقدّم شرحه اللاهوتيّ، استعمل وسيلتين. الأولى، أدخل أحد مواضيعه المحببّة على قلبه: "قلّة الايمان" (اوليغوبستيا) في خطّ تسكين العاصفة. إذا كان التلاميذ لم يستطيعوا أن يطردوا الشيطان، فذلك يعود إلى قلّة إيمانهم. والوسيلة الثانية: ادرج قولاً متنقلاً من التقليد الازائي حول ايمان يستطيع كل شيء لكي يجعل موضوع قلّة الايمان يعارض "الايمان العظيم" (ميغالي بستيا). وهكذا يكون خبر متّى قد تكوّن في ثلاث مراحل. الاولى: خبر بدون حوار (آ 14-18). الثانية: خبر مع حوار من النمط المرقسيّ (أي مع آ 21 حول الصوم والصلاة). والثالثة: الخبر الحالي مع الحوار المتّاويّ.

3- تحليل النصوص
أ- الخبر (آ 14-18)
أولاً: ولما انتهوا إلى الجمع (آ 14)
ترك متّى تنظيم المسرح "المعقّد" الذي وصله من مرقس، وجعلنا حالاً أمام الوجهين الرئيسيين في الخبر: يسوع وانسان (هو والد الولد). إن لفظة "انسان" خاصة بمتّى الذي يستعملها مراراً فيتميّز عن مرقس ولوقا (16:5؛ 6: 1، 14؛ 9:8؛ 8:9...). في مت، الانسان هو إما رجل محدّد التقى به يسوع (9:8؛ 17: 14)، أو (في صيغة الجمع) عالم الناس الذي يقابل عالم الله (6: 1؛ 10: 17؛ 16: 23...). هذه الطريقة في الحديث عن الناس تميّز العالم التوراتيّ والعالم اليهوديّ. ففي يو حيث تظهر هذه اللفظة مرارًا في المفرد والجمع، نجد ثنائية بارزة: فالناس يكوّنون مجموعة تعارض الله. "لقد فضلّوا الظلمة على النور" (يو 19:3). غير أن يو لا يعرف الانسان الخاص الذي يلتقي به يسوع شخصيًا كما في مت. وبالنسبة إلى مر، ترافق هذه اللفظةُ عمليّة تعميم تختلف بين نصّ وآخر: أراد متّى أن يجد سامعوه أنفسهم في أناس جعلهم على المسرح بجانب يسوع. أما يوحنا فاهتمّ بالوضع البشريّ بشكل عام.
وفعل "غونيباتاين" يعني توسّل وهو راكع على الركبتين (مر 10: 17؛ رج 1: 40؛ مت 27: 29). هل تدلّ هذه الحركة على إيمان ذاك الانسان بيسوع؟ إن ولي النصّ يدلّ بالاحرى على أننا أمام توسّل بشريّ من انسان وثنيّ (قد يكون هناك قراءة في الكنيسة على ضوء القيامة، فتصبح حركة ذاك الانسان سجودًا وتوسّلاً). فالخبر في مت لا يبرز ايمانَ هذا الانسان الذي تحدّث عنه مر 9: 22-24 بشكل عميق وأصيل.
ثانيًا: قال: يا سيدي (آ 15)
اقترب هذا الانسان من يسوع، وقالت ذات الكلمات التي قالتها السوريّة الفينيقيّة من أجل ابنتها (22:15). تطلّعت إلى شفقة يسوع أو رحمته (إليسن)، فاعترفت بضعفها، وطلبت العون والمساعدة. في العهد القديم، عبّرت الرحمة الالهيّة دومًا عن نفسها في تدخّلات تاريخيّة وخلاصيّة في حياة البشر. فالانسان يطلب من يسوع أن يعامله بالرحمة، أن يعمل عملاً يدلّ على الرحمة (7:5؛ 27:9؛ 18: 33؛ 20: 30، 31). ولا شيء يدلّ على الطابع الملموس لرحمة الله مثل الصدقة.
في العبادة المسيحيّة نقول: كيرياإليسن: يا رب ارحم. حين نتلو هذه الصلاة، قد ننسى الطابع البيبلي الأساسيّ ونتوقّف عند حنين دينيّ يبقينا على مستوى العاطفة، ولا يبدّل شيئًا في اندفاعنا. واختلف مرقس عن متّى حين صوّر الوالد وهو يصف مرض ولده. ترك مت الصور والالوان، وأخذ بكلمة من عالم الطبّ (سالينيازاناي). كانوا يربطون داء الصرع بتبدّل في القمر (الهلّة كما يقال: رج "ساليني" 4: 24). وبعضهم تحدّث عن شخص ينومش أي يمشي وهو نائم. أما مرقس فكان واضحًا حين نسب المرض إلى روح أبكم. وقد تكون تلك ضمنيًا نظرة متّى.
ثالثًا: جئت به إلى تلاميذك (آ 16)
حسب التقليد الإزائي، منح يسوع تلاميذه سلطان الشفاء وطرد الأرواح النجسة (10: 1 وز). كما فعل بعضُ الرابينيين مع تلاميذهم. وهذه الحالة التي تتحدّث عن عجز التلاميذ هي أيضًا صدى لما كان يحدث في كنيسة متّى. فتلاميذ متّى هم صورة عن أعضاء هذه الكنيسة. كانوا يقدّمون للمسيحيّين الاولين المرضى العديدين. فيفسّر الانجيليّ عجزهم بقلّة إيمانهم، بلا إيمانهم.
رابعًا: أيها الجيل الغير المؤمن (آ 17)
تشكّل هذه الآية النقطة الأساسيّة في المقطوعة. ونحن نقرأها في الأناجيل الازائية الثلاثة في الالفاظ عينها. عبّر يسوع عن فكره بعنف ووجدانيّة قلّما وجدناهما في موضع آخر. بدا في مت وكأنه يواصل حواره مع والد الولد المريض. أما وجود "اوتويس" في مر (مع السياق)، فيدلّ على أنه يوجّه كلامه إلى الجميع: إلى والد الولد، إلى التلاميذ، والى الجموع التي تحيط به. لن نرى مع بعض الشرّاح في ملاحظة يسوع هذه شجبًا (كما في يو) للحاجة إلى المعجزات ليؤمن الناس، بل إن يسوع اكتشف في عجز الانسان شقاء أعمق وأخطر، هو عجزه عن أن يؤمن، وهذا العجز يشبَّه بفساد عام يصيب هذا "الجيل" كله.
إن لفظة "جيل" (رج 16:11؛ 39:12 ي)، تمتّد إلى أبعد من مجموعة الذين يحيطون بيسوع هنا، فتصل لا إلى البشرية كلها بشكل عام (تلك ليست طريقة متّى)، بل إلى الناس ولا سيّما اليهود في زمن يسوع الذين نستطيع أن نعتبرهم في خطوة ثانية صورة نموذجية عن البشريّة كلِّها. فالصفة "أبستوس" (لا تؤمن) لا نجدها إلاّ هنا في مت. والموصوف الموافق في 58:13 (ولم يصنع عجائب كثير لعدم إيمانهم) (رج لو 46:12؛ يو 27:20؛ 1 كور 6: 6)، يجب أن يُفسّر هنا في علاقة مع "اوليغوبستيا" (قلّة الايمان) التي نجدها في آ 20 (رج الصفة في 6: 30؛ 26:8؛ 14: 31؛ 8:16). هو لا يدلّ على ضعف في الايمان، بل على غياب الايمان. وأكثر من ذلك، هو عكس الايمان. فالانسان في العهد الجديد إما يؤمن وإما يرتاب. فلا نجد بين الايمان والارتياب نوعًا من الحياد (اللامبالاة هي أقسى أشكال الارتياب والشكّ).
وزاد النصّ عمل رفض الايمان هذا: الاعوجاج، الفساد (دياستراميني) التي تعود الى تث 32: 5 في نشيد موسى: "إنه إله عادل وأمين... إن كانوا فسدوا، فليس الذنب ذنبه. فالعار على أبنائه النسل الكاذب الأعوج"، الجيل الفاسد الاعوج. ترد اللفظة مرارًا في التوراة اليونانيّة، وهي تميّز ما يقال عن الخطيئة. وهذه الخطيئة ليست عاهة أو نقصًا، بل ميلاً عن طرق الله وانحراف قلب الانسان عن جادّة الصواب (خر 4:5؛ أم 14:6؛ 9:10؛ خر 18:13). جاءت الصيغة في المجهول: هذا الجيل قد أُفسد. لم تكن خطيئته عرضًا. بل كانت عن سابق تصميم.
"غير مؤمن وأعوج". ما قيمة حرف العطف (كاي) الوارد بين غير مؤمن وأعوج؟ إذا كان يضيف شيئًا على آخر، فهذا الاعوجاج يُزاد على رفض الايمان. وإذا كان يشرح هذا الشيء، فهذا الاعوجاج يعني أننا لا نؤمن. وقد يكون هذا الاعوجاج نتيجة رفض الايمان. أما رأينا: حين لا نؤمن نعيش الاعوجاج والفساد. فأخطر اعوجاج بشريّ هو ذاك الذي يكمن في رفض الايمان (في التاريخ) بمن يخلّصنا في المسيح.
أما عبارة "إلى متى أكون معكم" فهي تنتمي إلى الشعر التوراتي. مثلاً، نقرأ مز 2:13-3: "إلى متى يا رب تستمر على نسياني؟ إلى متى تواري وجهك عني؟ إلى متى أقلق وتملأ الحسرة قلبي؟ إلى متى يتغلّب عدوّي علي"؟ يهتف الانسان المضطهد، أو الذي يشاهد خطيئة شعبه: لماذا؟ إلى متى؟ لا يُطرح موضوع الشر بشكل مبدأي. بل لأنه يمزّق الانسان الآن. في العهد القديم، وفي العهد الجديد أيضًا، وبعد مجيء المسيح (رج 6: 13).
إن كلمات يسوع هذه في مت، لا تعبّر فقط عن قرف من الجنس البشريّ واحتقار له، كما في الفلسفة الرواقيّة، بل عن حزن النبيّ وألم رجل الله أمام عمى الذين يُنكرون الله وخلاصه. نجد في يو 14: 9 فكرة مشابهة بعض الشيء تقول: "أنا معكم كل هذا الزمان ولا تعرفني يا فيلبا! من رآني فقد رأى الآب. فكيف تقول أنت: أرنا الآب"!
خامسًا: "أمر يسوع فخرج الروح النجس" (آ 18)
روى متّى هذا التقسيم (طرد الروح النجس) بإيجاز اعتاد عليه. لأن ما يهمّه بالدرجة الاولى هو الوصول إلى التعليم عن الايمان (آ 19-20). إن كان مت قد عرف مر في شكله الحاليّ أو في شكل تضمّن مر آ 23-24 (إن استطعت... كل شيء مستطاع)، يمكننا أن نتساءل لماذا لم يورد هاتين الايتين؟ متّى هو أبسط وأوضح من مرقس، لأنه يقدّم إنجيله بطريقة تربويّة تعليميّة. ومفارقة المؤمن الذي يعترف بارتيابه (مر آ 24 ب: أعن قلّة ايماني) هي أمر دقيق يفهمه المربّي دون أن يعلنه. هذا من جهة. ومن جهة ثانية شدّد متّى على سلطان المسيح الملوكيّ رغم عجز البشر، فالمسيح يعمل "ضدّ" الجيل الكافر. أما في مرقس، فالمشهد يعجّ بالعاطفة البشريّة. فوالد الولد الذي يختفي عن المسرح منذ مت آ 17 يبقى حاضرًا في مر حتى النهاية، وهو "يتدخّل"، يعلن إيمانه.
إن الألفاظ حول الشفاء (خرج الشيطان، شُفي) تدلّ على أن نظرة متّى إلى المرض هي نظرة مرقس. هناك لفظة انتهر، أمر بشدّة. وهي لا تسمح بأي تأخير. ترد مرارًا في مت في أخبار طرد الشياطين وفي مقاطع أخرى (8: 26؛ 16:12؛ 16: 22 وز). هنا نلاحظ مرة أخرى أن الألفاظ المستعملة عن الشفاء تختلف بين انجيل وآخر. أما أقوال يسوع فتأتي متوافقة في جوهرها. هذا يعني أنها بدت في عين المعلمين المسيحيين الأولين أثمن وأهمّ من واقع المعجزة في حدّ ذاتها.
ب- الحوار (آ 19- 20)
وظهر التلاميذ من جديد. هذا ما يبرهن على أن كلمات يسوع لم تكن تتوجّه اليهم، أو بالأحرى لم تتوجّه إليهم وحدهم. فكنيسة متّى في السنوات الثمانين، كانت تطرح على نفسها عددًا من الاسئلة (لماذا، دياتي) حول عجزها أمام المرضى. فالضمير "نحن" (هامايس، يوجد أيضًا في مر) يحدّد السؤال: نحن نفهم أن يعجز الناس أمام المرض. أمّا "نحن"، أما أرسلتنا لنشفي المرضى (10: 1 ي)؟ فالرسل، ممثّلو المسيح وشهود ملكوت الله الذي تدشّن بمجيء يسوع (آ 12)، يجب أن يقدروا دومًا على الشفاء. غير أن الواقع هو غير ذلك. هنا ينسب المسيح (في مت) هذا العجزَ إلى عدم إيمانهم. هذه اللفظة لا ترد إلاّ هنا في العهد الجديد. أما الصفة المقابلة فنجدها في مت 6: 30؛ 26:8؛ 14: 31؛ 8:16. هي لا تدلّ على درجة قليلة من الايمان، بل على غياب الايمان.
هنا كما في سائر النصوص (14: 31: يا قليلي الايمان)، التلاميذ هم الذين لا يؤمنون. الذين يرتابون. ونلاحظ وجهتين في نظرة متّى: لا يمنعهم ارتيابهم من أن يكونوا تلاميذ. فالشكّ لا يستبعدهم من حلقة الرسل. والوجهة الثانية: أن يكونوا تلاميذ أو رسلاً، لا يحميهم من الشكّ والارتياب. هذا الارتياب هو الميزة العامة لهذا الجيل (آ 17) ويبقى حاضرًا في حياتنا اليوم. إنه موقف لا تجاه "وجود الله" (أو نكران هذا الوجود)، بل تجاه شخص المسيح التاريخيّ والملكوت الذي جاء يدشّنه.
وتأتي عبارة (آ 20 ب: لو كان لكم من الايمان مثل حبّة خردل) نجدها أربع مرات في التقليد الازائي (هنا، مت 21: 21؛ لو 17: 6؛ مر 11: 22-23). يبدو مت 21: 21 أقدم هذه النصوص بسبب التوازي الأدبي الواضح. فقد عبّر، شأنه شأن مر 23:11، عن فكرة الارتياب. وهكذا تثبّت شرحنا للفظة "اوليغوبستيا" (لا قلّة الايمان، بل غياب الايمان): ليس عند التلاميذ ذرّة من ايمان، ولو قدر حبّة الخردل.
إن حبة الخردل لا تدلّ هنا كما في 13: 31 على أن هذا الايمان الصغير ينتظره نموّ وتفتّح في النهاية. بل هي تصوّر "ذرّة" الايمان هذه التي لا يمتلكها التلاميذ. فماذا يقدرون أن يفعلوا إن غاب عن حياتهم كل إيمان؟
ونقل الجبال موضوع معروف في الكتاب المقدّس. نقرأ في أش 49: 11: "أجعل جميع جبالي طريقًا (لا يمكن أن يمرّ الانسان على الجبل)، وسُبلي ترتفع (عن الارض فلا يسير الانسان في الماء خلال المطر)". رج 40: 4: "كل واد يمتلئ، وكل جبل وتلّ ينخفض". في نهاية الأزمنة تزول كل العوائق التي تقف حاجزاً أمام شعب الله. هل نحن على هذا المستوى؟ كلاّ، على ما يبدو، إنمّا أمام استعارة تدلّ على قوّة الايمان في حدّ ذاته أولاً، كما تدلّ على قدرة الله التي تعمل في ضعف التلاميذ الواثقين بالربّ. نلاحظ الموضع الهام للكلمة في هذا العمل. كما نلاحظ أن الاستعارة تتحرّك على مستوى الطبيعة الجامدة (الجبل)، لا على مستوى المرضى كما في الآيات السابقة.
وأنهى متّى هذه المقطوعة كعادته بملاحظة تربويّة تعمّم ما قيل في حالة خاصة: "لما استحال شيء عليكم" (كان كل شيء لكم ممكنًا). فكرة قد عبّر عنها جسم الخبر الموازي في مرقس (9: 23). هل نميّز إيمان المعجزات (1 كور 2:13) عن الايمان بالمسيح؟ لا شيء في النصوص يسمح لنا بهذا التمييز. فمتّى يقول، على ما يبدو: ليس الايمان بالمسيح أمرًا عامًا، مجرّدًا، بل نحن نعيشه دومًا بمناسبة عائق يقطع الطريق، أو ضيق يجب أن نتجاوزه، أو مساعدة نحتاج إليها.
ج- الانباء الثاني بالاسم (آ 22-23)
أولاً: نظرة عامة
إن هذا الانباء الثاني بالآلام والقيامة (رج 16: 20؛ 20: 17-19) لا يبدو مرتبطاً بما سبقه مباشرة. غير أننا في تصميم متّى، ما زلنا دومًا بعد مشهد التجلّي والحوار القلق حول آلام ابن الانسان القريبة بعد آلام إيليا (= يوحنا المعمدان) (رج 17: 12 ب). ففي كلا الحالين، الفعل الذي يصوّر هذا القرب هو هو ("ملاي"، لا "داي" كما في 16: 21). ففي الانباءين الثاني والثالث، نحن أمام ابن الانسان (لم يكن الوضع كذلك في 16: 21). هنا يُسلم يسوع إلى أيدي البشر (كلمة تميّز متّى). أما في 16: 21 فسيتألم من قبل الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة. وفي 17: 12، من قبل الكتبة. في الانباءات الثلاثة بحصر المعنى (لو في 17: 12)، نجد ذكرين للآلام، مع كلمات أوضح في الانباء الثالث، وذكر للقيامة يكاد يكون مشابهًا في الانباءات الثلاثة.
الفعل الرئيسي هو "أسلم" (باراديدُستاي)، نجده في الانباءين الاخيرين (هنا وفي 18:20). ومن جهة البنية الادبية لهذه الانباءات الثلاثة، يشدّد النصّ على اقتراب آلام يسوع. وذُكرت القيامة في الحالات الثلاث، ولكن التلاميذ ما استطاعوا أن يفهموا. والبرهان على ذلك في هاتين الايتين، هو حزنهم العميق (آ 23 ب) مع أنه حدّثهم عن القيامة.
اعتبر عالم يهوديّ هذه الانباءات بأنّها معقولة على المستوى التاريخيّ وعلى المستوى السيكولوجيّ. أمّا بعض النقّاد الالمان فنسبوها إلى المسيحيّة الأولى بعقائدها التي شوّهت النصّ الأساسيّ للانجيل. أن يكون يسوع قد رأى باكراً النهاية التي تنتظره، أمر معقول جدًا، والأعداء يحيطون به من كل جانب. أن يكون قد كلّم تلاميذه في هذا الموضوع، أمر لا يُدهش أحدًا. يكفي لذلك أن نذكر معلّم البرّ عند الاسيانيّين. ولكن أن يكون شكلُ هذه الانباءات ومضمونُها اللاهوتيّ قد أعيدت كتابتهما على ضوء الأحداث، فهذا ما نقتنع منه حين نقابل نصوص مر مع نصوص مت ولو. فالتفاصيل التي وُضعت خصوصًا في الانباء الثالث، هي رواية عمّا حدث ليسوع حقًا في ذاك اليوم، يوم الجمعة العظيمة. ولكن الانجيلي جعل كل هذا في فم يسوع. فالرب قبلَ الآلامَ كلها. أما التفاصيل فستعرفها الكنيسة حين ترافق الرب في آلامه وموته.
ثانيًا: الآلام (آ 22)
لمَّح مرقس إلى تبديل في المكان، وتحدّث عن مسيرة "عبر الجليل" أرادها يسوع سريّة (مر 30:9؛ يو 7: 1). أما متّى فبسّط النصّ واستعمل فعلاً غامضًا (سسترافومانون) ليحدّد موقع المجموعة والموضع الذي فيه قيل هذا الانباء الثاني. إن هذا الفعل يدلّ على أن التلاميذ أسرعوا، ومن قلقهم أحاطوا بيسوع. أو أنهم وجدوا نفوسهم كلهم حول يسوع بعد انفصال التجلّي (17: 1؛ رج من أجل الفعل أع 3:28؛ حز 1: 13؛ إر 23: 19).
بعد الآن صارت آلام يسوع قريبة (مالاي، رج 17: 12؛ ق 7:3؛ 11: 14؛ 27:16). لا يعطي هذا الفعل أيّة إشارة إلى أسباب الآلام. هي لفظة حياديّة مفتوحة أمام جميع الفرضيات (عكس "داي" في 16: 21، يجب). أما صيغة المجهول لفعل "سلّم" (لا يُذكر الفاعل)، فتدلّ على أن الله لن يكون غائبًا عن هذه الآلام (هذا ما يسمّى المجهول اللاهوتي). كأني بالكاتب يقول إن الله أسلم ابن الانسان. إن فعل "أسلم" (باراديدوناي) الذي طبّق على يسوع يرد مرارًا في متّى (10: 4؛ 23:16؛ 26: 15؛ 27: 2)، واستعمله بولس الرسول في هذا المعنى (روم 4: 25؛ 8: 32؛ 1 كور 11: 23؛ غل 2: 20؛ أف 5: 2). إذن، هو ينتمي إلى أقدم لغة لاهوتيّة حول الحاش والآلام (أع 3: 13). ونجده مرارًا في السبعينيّة في عبارات تقول إن الله يسلّم شخصًا إلى يد شخص آخر (خر 21: 13)، أو إن الله أسلم اسرائيل إلى أيدي اعدائه (لا 26: 5، في العبرية "ن ت ن").
وفي العهد الجديد سيستعمل هذا الفعل عينه للحديث عن التقليد الرسوليّ الذي نتسلّمه، عن الوديعة. عندئذ يرتدي إمالتين رئيسيّتين: الله يُشرف على "تسليم" (واستسلام) يسوع إلى أيدي البشر. ومن جهة ثانية، يبقى يسوع سيّد ما سيحصل له. هذا لا يعني أن يسوع لن ينعم بحماية الله (كما فسّر بعضهم عبارة: إلهي إلهي تركتني)، بل أن الله يكون حاضرًا وفاعلاً في مصير ابنه بشكل جديد. سبق وتحدثنا عن الناس فيما قبل (17: 14). إن رؤساء الشعب في الانباءين الاول والثالث، هم هنا الناس بشكل عام. هم رمز تاريخيّ إلى جميع الناس في دراما الحاش والآلام.
ثالثًا: القيامة (آ 23)
جهل لوقا ذكر القيامة (9: 44 قال فقط: سيسلم ابن الانسان إلى أيدي البشر). أمّا متّى فتبع مر وحوّله بالنظر إلى لغة كنيسته التي لا تقول إن يسوع قام بعد ثلاثة أيام (كما في مر 9: 30) بل في اليوم الثالث (16: 21= لو 9: 22؛ 1 كور 15: 4. ويبدو أن مت عرف عبارة مر في 27: 63). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، أحلّ متّى محلّ فعل "انستاساناي" فعلاً يتحدّث عن القيامة يتوافق مع النظرة المسيطرة في عصره: القيامة هي عمل الله القدير الذي ينتزع (اغارتيساتاي) يسوع من سلطة الموت (رج 26: 32). أما ذكر الحزن العميق لدى التلاميذ، فيدلّ على أنهم لم يفهموا شيئاً من إعلان القيامة أو أن يكون النصّ لم يذكر القيامة في البدء كما فعل لوقا.

خاتمة
أي معنى لهذا الخبر؟ نحن أولاً أمام خبر معجزة يشبه شفاء حماة بطرس. وقد وُضع في إطار ليتورجيّ وجعل يسوع في الوسط. لم يهتمّ الخبر إلاّ بيسوع. وُجدت الجموع هنا لتكون خلفيّة للخبر. والوالد (مع ولده) هو مؤمن يقترب إلى يسوع باحترام ويرفع إليه صلاة "ليتورجيّة": كيرياإليسن. يُذكر الولد في فم الوالد. أمّا التلاميذ فلا دور لهم قبل الحوار. ترك متّى المخيّلة جانبًا، ووجّه كل أنظارنا إلى ذاك الذي يجب أن يحتلّ المسرح كله. وهو سيتدخّل باحتفال مهيب.
تجاه يسوع يبدو التلاميذ بقلّة إيمانهم، بعدم ايمانهم. من أجلهم يسوع يتكلّم ويفعل. هم يشبهون والد الولد قبل خروج الشيطان. هو اقترب من يسوع فنال ما طلب. وهم اقتربوا من يسوع وسألوه عن سبب فشلهم. لامهم يسوع على قلّة ايمانهم. وهو يلوم كنيسته اليوم ويلوم جماعاتنا. يا ليت لهم ايمان مثل حبّة خردل. يا ليت هذا الايمان زُرع فيهم ونما كالزرع في الأرض الجيّدة. فليؤمنوا بقدرة المسيح التي لا يقف أمامها شيطان. وليؤمنوا أنه أعطي لهم أن يشاركوا في هذه القدرة. يبقى عليهم أن ينمّوا هذا الايمان بالصوم والصلاة. حينئذ يعملون باسم يسوع، لأن يسوع حاضر معهم.
هذا هو المحيط الليتورجي والفقاهي الذي تكوّن فيه حدث الولد المصروع كما نقرأه اليوم في خبر وحوار. وأتبعنا هذه المقطوعة (17: 14- 20) بالانباء الثاني بالآلام، لنترك موضوع "الضريبة" التي يدفعها يسوع إلى فصل لاحق.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM