الفصل الخامس والثلاثون: يسوع وإيليا

الفصل الخامس والثلاثون
يسوع وإيليا
17: 9- 13

انتهى حدث التجلّي. وعاد التلاميذ الثلاثة إلى الحياة العاديّة مع يسوع الذي يجب أن يسمعوا له لأنه ابن الآب. الذي يجب أن يسمعوا له لأنه صوت الآب وكلمته. عند ذاك طلب منهم يسوع أن يحفظوا السرّ، أن لا يخبروا أحدًا بالرؤيا. نحن هنا في موضوع جلياني حيث يطلب "الملاك" عادة من الرائي أن لا يعلن ما كشفت له السماء. كما أننا في خط "السرّ المسيحانيّ" الذي شدّد عليه مرقس وتبعه متّى، فدّل على أن يسوع لا يقطع المراحل بسرعة، كما أنه لا يريد أن يخطئ الناسُ حول عمق مسيحانيته التي هي ألم قبل المجد وموت قبل القيامة. وكان حوار بين يسوع وهؤلاء التلامذة المميّزين، فأسسّ كلامه على ملا 23:3 الذي يرى في إيليا سابقًا للمسيح، سابقًا يهيّئ الشعب للقاء المسيح بعد أن يجمعه في الوحدة والامانة. ولكن يسوع سيبيّن لهم أن إيليا قد جاء في شخص يوحنا الذي رفضه الشعب بانتظار أن يرفض يسوع: مصير يوحنا هو صورة مسبقة عن مصير يسوع.

1- نظرة إجمالية إلى النصّ
روى مت في خطى مر (9: 5-13) هذا الحوار بين يسوع وتلاميذه، حين كانوا نازلين من جبل التجلي. هنا نقول أيضاً إن مت استعمل مر بطريقته الخاصة، فترك ما اعتبره نافلا (مر 9: 10: فحفظوا الوصية متسائلين: ما معنى: متى قام من الاموات)، بل ما قد يظهر له مهماً (مر 9: 12 ب: إنه مكتوب أولاً أنه يتألّم كثيرًا). فركّز الاهتمام على جوهر نص مر (آ 9، 13: لا تخبروا أحدًا... إيليا قد جاء): إن ألم إيليا يتماهى بشكل واضح مع آلام يوحنا المعمدان، وهذا ما لم يشدّد عليه مر. وزاد متّى كعادته خاتمة تربويّة حول موضوع الفهم الذي هو عزيز على قلبه (رج 13:13، 14؛ 10:15؛ 16: 12).
هذا هو موقف أول. وهناك موقف ثان يعتبر أن مت ومر كانا نصّين مستقلّين، ولكنهما استقيا موادهما من التقليد الشفهيّ. أما البرهان الأهمّ في هذه الفرضيّة، فهو أنه لا يمكن لمتّى أن يقرأ مر 9: 12 ب ويلغيه، لأنه اعتاد أن يبحث عن استشهادات في العهد القديم. فكيف يلغي هذا الاستشهاد لو قرأه عند مرقس؟ ولكننا نستطيع أن نقدّم جوابًا على هذه الفرضيّة قائلين بأن مت لا يأخذ باستشهاد عام، بل يطلب الايراد الواضح الذي نجده في نصّ معيّن.
إن مثل هذا الحوار بين يسوع وتلاميذه، قبل حدث رئيسيّ في حياة يسوع، مهمّ جداً بالنسبة إلينا، لأنه صدى لمناقشات حرّكها هذا الخبر في الاوساط المتّاويّة. من هذا القبيل، تبدو آ10-13 مميّزة في مت: فهو يردّ بلا شكّ على اعتراض قدّمه الفريسيون في زمانه (7: 29؛ 8: 19؛ 9: 13؛ 13: 52).

2- دراسة تفصيليّة
أ- البنية
نجد في هذه المقطوعة مشهدًا واحدًا مع محادثة بين يسوع وتلاميذه الثلاثة. (أما مر 9:9-13 فيقسم المقطوعة إلى مشهدين آ 9-10 ثم آ 11-12). فبعد مقدّمة إخبارية قصيرة (آ 9 أ)، نسمع أمر يسوع (آ 9 ب: لا تخبروا أحدًا). ويأتي سؤال من التلاميذ الثلاثة، بطرس ويعقوب ويوحنا (آ 10). وفي حركة ثانية نسمع جواب يسوع (آ 11-12). وتأتي الخاتمة بشكل تفسير تدوينيّ قدّمه الانجيليّ في خطّ لاهوته (آ 13): "ففهم التلاميذ عندئذ أنه كلّمهم عن يوحنا المعمدان".
ب- المراجع
إن مر 9:9-13 الذي لا يجد ما يوازيه في لوقا (مع أن لو 9: 36 ب يدلّ على معرفة بما في مر 9:9-10)، هو بلا شكّ مرجع مت 9:9-13، كما سبق وقلنا. فمرقس يترك بعض الغموض في نصّه. ففي آ 10 يبدو التلاميذ وكأنهم يجهلون كل شيء عن القيامة العامة. وفي آ 12، أضاع أثر إيليا بمناسبة قول عن ألم ابن الانسان، بحيث كمّل الفكرة الأولى في آ 13. أورد مر مرتين الكتب المقدّسة، ولكن ليس هناك ما يشير إلى النصّ الانجيلي. هذا ما يحيّرنا، لا سيّما وأن مر لا يُعنى كثيرًا ببراهين مأخوذة من النبوءات. واللغز الأكبر هو أن مر لا يقول أبدًا ما يعني: لماذا لم يتابع كلامه ويقل لنا ما يعرفه، وهو أن إيليا هو يوحنا المعمدان؟
لا نجد أيًا من هذه الصعوبات في مت. فيستحيل على من يمعن النظر في نصّ متّى، أن يجد فيه الأمور المحيّرة التي وجدناها في مر (تسير الأمور من الأقل وضوحًا إلى الأوضح). ولكن حين واجه مت نصّ مر أوضح كل شيء.
ج- التأويل
إن هذا الخبرَ الاعتراض (أي المبنيّ على اعتراض) الذي يفترضه يوستينوس (الحوار 49) في شكله المتّاويّ، يصل بنا إلى عدّة أهداف. الأول، يحرم النقد اليهوديّ من برهان قوّي ضد اسكاتولوجيّا قد تحقّقت في شخص يسوع. قالوا: بما أن إيليا لم يأت بعد، فالسيناريو الاسكاتولوجيّ لا يمكن أن يظهر. الثاني، يُبرز هذا المقطع مرّة أخرى التوازي بين يسوع وسابقه، وهذا موضوع معروف في مت. الثالث، الأمر بحفظ الصمت إلى أن يقوم ابن الانسان من الاموات (آ 9)، لا يشير فقط إلى اختلاف بين حقبة قبل فصحيّة وحقبة بعد فصحيّة، ولا يعلن فقط أنه لا يمكن أن تعلن الحقيقة كلها عن يسوع حتى يُتمّ رسالته. بل يجعل من بطرس ويعقوب ويوحنا سلطة تحمل هذا التقليد عن يسوع.
أدخل الانجيليّ الأول ثلاثة تعديلات رئيسية على مرجعه المرقسي. الأول، ألغى مر 9: 10 (آ 9). الثاني، زاد خاتمة جديدة (آ 13). الثالث بدّل موقع مر 9: 12 ب بحيث جعله في سياق موافق.
إن مر 9: 11- 12 أ+13 الذي بدا مستقلاً عن خبر التجلّي، هو جواب على اعتراض يُعلن التتمة في نهاية الأزمنة. فقد كان هناك انتظار يهوديّ حول إيليا، خلق مشكلة في تفكير الناس. "يجب أن يأتي إيليا أولاً". إن كلمات مر تدلّ على أنه يلمّح إلى أن إيليا يكون السابق للمسيح. ولكن هذا ليس بأكيد جداً. وإيليا المنتظر بأن يأتي "قبل يوم الربّ العظيم الرهيب" (ملا 4: 5)، قد أعطيت له عدد من الأدوار الاسكاتولوجيّة المختلفة. ما الذي يتبع ذلك؟ الاعلان المسيحي الذي يقول بأن النبوءات قد تمت، بأن المسيح قد أتى، بأن قيامة الموتى قد بدأت (27: 51-53). هذا ما جعل المعترضين يقولون إن ايليا لم يأت. وعلى هذا قد يكون مر 9: 11- 12 أ+13 قد انطلق من كلمة يسوع تماهي بين يوحنا وايليا، فأجاب بأن إيليا قد أتى في الواقع في شخص يوحنا المعمدان الذي لم يُستقبل الاستقبال الحسن، بل عُومل باحتقار. هل كل هذا قد تمّ قبل الفصح والقيامة؟ في الواقع، قد أعلن يسوع أن ملكوت الله قد جاء وهو في وسط الشعب. أن الشيطان انحدر من السماء، وقُيّد. وأن زمن التتمة قد أطلّ. ولكن يجيب معترض: أين هو إيليا لم يظهر بعد؟ أجاب يسوع بهذا الكلام حين رأى في خدمة يوحنا المعمدان تتمّة انتظار إيليا.

3- تفسير الآيات
أ- ولما نزلوا من الجبل (آ 9)
نتذكّر هنا ما قلناه عن الجبل في 17: 1. جبل الخطبة الأولى، جبل التجلّي، جبل الجليل في نهاية انجيل متى. كل هذا يدلّ على جبل سيناء، الذي يصعد عليه يسوع لأنه موسى الجديد.
توجّه يسوع إلى المجموعة الصغيرة من التلاميذ الذين شهدوا التجلّي. أوصاهم، أمرهم. فعل "اناتايلو" أخذه مت من مر، ولكنه يميّز أسلوب مت. هو يدلّ على أمر محدّد، على وصيّة واضحة. فيه تلتقي ألفاظ مت مع ألفاظ يوحنا. رج 4: 6 (يوصي ملائكته بك)؛ 19: 7 (أوصى موسى)؛ 28: 20؛ ق يو 14: 31 (أعمل بما أوصاني الآب)؛ 15: 14 (صنعتم ما أوصيتكم به)، 17 (فما أوصيتكم به). لقد أمر يسوع تلاميذه بوضوح أن لا يقولوا لأحد شيئًا مما رأوا. جعل مت في الاسلوب المباشر ما رآه عند مر في اسلوب غير مباشر، ليجعل المعنى أوضح.
وندهش حين نقرأ اللفظة المستعملة للحديث عن التجلّي: "هوراما" (الرؤية). لا ترد هذه اللفظة إلا هنا في مت. أما مر فيجهلها ويكتفي بالقول "أن لا يخبروا أحداً بما رأوا" (9: 9، ها ايدون). أما أع فيستعمل "هوراما" تسع مرات. 7: 31 (عن موسى والعليقة)؛ 9: 10 (قال الرب لحنانيا في الرؤيا)؛ 10: 3؛ 10: 17، 19... في اليونانيّة الكلاسيكيّة تدلّ هذه اللفظة على كل ما يشاهده الانسان. أما في السبعينيّة اليونانيّة وفي سفر الأعمال، فتدلّ بشكل خاص على رؤى نبويّة (دا 19:2؛ 4: 10؛ 9:7؛ أي 7: 14؛ تك 15: 1؛ خر 3:3). هذه اللفظة خاصة بلغة دانيال الذي أثرّ كثيرًا في نصّ متى.
حبن استعمل الانجيلي "هوراما" هنا، أعطى مشهد التجلّي تفسيرًا غير التفسير الذي نجده في الخبر نفسه (17: 1-18) حيث لا نجد نفوسنا أمام رؤية من النوع الجليانيّ اليهوديّ. بهذه الطريقة استطاع متّى أن يُفهم محيطَه معنى التجلّي فهمًا أفضل. ويمكن أن تكون الكلمة قد اتخذت هنا معنى معروفًا: ما رؤي، ما حصل، الحدث. إن مر 9: 9 الموازي لهذا النصّ (رج أع 7: 31) قد يُسند هذا المعنى. ومهما يكن من أمر، سواء تحدّثنا عن ظهور أو رؤية، فهذا الحدث السرّي يتحرّك في مقولات توراتيّة مميّزة. ليس له مدلول في ذاته، كالانخطاف مثلاً، بل يتضمّن كلمة (آ 5)، ثم تعليمًا بشكل حوار (آ 9-12) يصل بنا إلى فهم التلاميذ لما حصل (آ 13). إن الحدث الغريب هو هنا في خدمة كلمة واضحة كل الوضوح، وإن صعبَ قبولها أو فهمها في إطار اللاهوت المتاوي.
إن قابلنا هذا المنع الذي يفرضه يسوع مع 8: 14 (منع يسوع الابرص)؛ 16:12 (أوصاهم أن لا يشهروه)، نجده خاصًا جدًا. فعلى التلاميذ أن يصمتوا، أن لا يقولوا ما رأوا حتى "يقوم ابن البشر". لا شكّ في أن يسوع أراد أن يتجنّب كل تحرّك مسيحانيّ في الشعب يمزج الدين بالسياسة. بعد القيامة، زال ذاك الخطر، لأن الصليب الذي وقع بين التجلّي والقيامة، سيزيل دفعة واحدة كل الاحلام المسيحانيّة التي تتكلّم عن سلطة عالميّة. هي كلمة تاريخيّة ليسوع، وقد شدّد مر أنهم لم يفهموها (9: 10). أما مت فاعتبرها تفسيرًا وفقاهة. إن هذا المنع يعبّر عن جوهر النظرة المتاويّة إلى المسيح الذي أتى ليخدم ويتألّم (16: 23 ي؛ 20: 28).
إن اللفظة المتّاويّة التي تتحدّث عن القيامة (اغايرو)، تفهمنا أن هذه القيامة هي عمل الله. يسوع يُقام (المجهول اللاهوتي). أي الله يقيمه. وهكذا نكون مع مت في إطار يهوديّ اعتاد أن لا يذكر اسم الله. أما مر فاعتبر أن المسيح يقوم بقدرته الالهيّة.
إذا كان مت قد استقى من مر، فقد أعاد اللون الفلسطيني لموضوع قد يفهمه الناس انتفاضةَ حياة لدى يسوع (رج مر 8: 31؛ 9: 31). استند بعض الشرّاح إلى هذه الآية ليؤسّسوا النظريّة المعروفة حول السرّ المسيحانيّ. بحسب هذه النظريّة، نسبت الأناجيل الازائية بدون حقّ إلى يسوع منعًا يرجع في الواقع إلى المعلّمين المسيحيين الأولين الذين حاولوا أن يشرحوا بهذه الطريقة آلام يسوع وموته. لا شكّ في أن هذه التعابير لم تظهر في وجهتها التامّة إلاّ في الأناجيل. ولكن هذا لا يمنع أن يكون مدلولها قد صوّر حقًا يسوعَ الخادم، والمسيح الذي عاش في التاريخ كما نقول في قانون الايمان: في أيام بيلاطس البنطي.
ب- إيليا ويوحنا المعمدان (آ 10-13)
نتذكّر هنا وجه إيليا في العالم الجليانيّ اليهوديّ (3: 4؛ 17: 3): "ها أنا أرسل لكم إيليا النبي قبل أن يجيء يوم الربّ العظيم الرهيب" (ملا 4: 5). يأتي إيليا ليدلّ على الطاهر والنجس. ليقرّب ويبعد. وحسب رابي يهودا: "لكي يقرّب لا لكي يبعد". "إذا كان الاثنان قد أودعا، واحد وزنة والآخر شيئًا يساوي ألف دينار، وطالب كل منهما بأكثر من ذلك يعطى كل واحد شيئًا قليلاً، ويباع "الغرض" الآخر ويعطى لكل منهما شيئًا زهيدًا ويوضع الباقي جانبًا حتى مجيء إيليا".
إذ أراد الكتبة اليهود أن ينكروا مسيحانيّة يسوع، كانوا يقولون إن إيليا ما جاء بعد. نحن هنا أمام اعتراض مميّز للعالم اليهوديّ على الايمان المسيحيّ في أولى مجادلاته مع محيط فلسطيني ثم سوري. إن فعل "داي" (ينبغي) في فم الكتبة، يرتدي المعنى الذي ارتداه في فم يسوع حسب مت: في مخطّط الله، ينبغي أن يأتي إيليا أولاً (بروتون).
ونصل إلى آ 11. ففي خبر التجلّي، عارض مت مر، فجعل موسى قبل إيليا (آ 3). وها هو الآن يعود إلى منظار مر، فيجعل إيليا قبل موسى. مقابل هذا، ألغى الايراد الكتابيّ الذي وجده في مر حول آلام ابن الله، لأنه وجده غير واضح ولأنه يوّد الآن أن يركّز الانتباه على إيليا ويوحنا المعمدان. لا يُنكر يسوعُ التعليم اليهوديّ حول أولويّة ايليا بالنسبة إلى المسيح (يأتي قبل المسيح). وإذ أورد ووسّع ملا 4: 6 حسب السبعينيّة، أفهمنا أن حدث السابق قد حصل وتمّ. وصيغة الحاضر في فعل "ارخوماي" لا تدلّ على أن إيليا مزمع أن يأتي، أو هو في طريقه إلينا. بل ينبغي عليه أن يأتي (هو "ارخومانوس"، 11: 3 أ. أنت هو الآتي). نحن أمام حاضر تعليميّ لا يتوقّف عند الماضي أو الحاضر، بل يعني لا شكّ في أن إيليا يسبق المسيح، يأتي قبل المسيح. في العالم الرؤيوي اليهوديّ، على إيليا أن يأتي ليرتّب كل شيء في اسرائيل "لئلاّ آتي (أنا الله) وأضرب الأرض بالحرم" (ملا 4: 6 ب. أي الموت والدمار). إذن، كانت صورة إيليا كفالة دينيّة من أجل أيام المسيح: ولكن هذا القول قد جعل عليه المسيح المتاويّ علامة استفهام.
فإذا كان إيليا قد جاء (رج آ 13)، فكل النظام الديني لدى الكتبة ينهار، لأننا لا نستطيع البتّة أن نرى هذا "الترتيب" الذي يسبق العيد المسيحانيّ العظيم. إذن، على المسيح أن يأتي. أو هو قد أتى وسط شعب لم يقدر أن يتعرّف إليه، ولا أن يتقبّله. هذا هو معنى الاداة الهائلة التي تدلّ على أن كل شيء تمّ، وأن المسيح قد أتى. وهكذا قطع يسوع الطريق على كل حنين إلى الماضي، وكل حمّى دينيّة (24.15:14) حصل مثلها الكثير في منطقة الجليل. وهذا يعني أيضاً أن ظهور ايليا مع موسى على الجبل، لم يكن ذاك المجيء الاستعداديّ الذي ينتظره كل انسان. فإيليا سوف يأتي في وسط شعبه، يجمع عائلاته وعشائره. بل سبق له وأتى، فلا حاجة إلى الانتظار بعد.
معرفة إيليا، التعرّف اليه، يعني قبوله كالسابق. وقد كان الأمر كذلك، ولكن بطريقة غير الطريقة التي فيها انتظره اليهود. فالفعل "عرف" (7: 16؛ 27:11) يجد فاعله أولاً في الكتبة. "أتى ولم يعرفوه". مع أنه كان من الواجب عليهم أن يعرفوه. ثم ينطبق فعل "عرف" على الشعب كلّه. فإيليا هذا ما استطاع أن يفعل ما طلب منه أن يفعل، لأن شعبه اتّخذ المبادرة ورفضه، وأخضعه للألم والموت. هذا الشعب لم يترك السابق يفعل، فكان الخاسر الأكبر.
بين مصير إيليا (أو: يوحنا المعمدان) ومصير يسوع، قد جعل مت تواصلاً أساسيًا (وكذلك). لسنا هنا أمام خطأ عارض، بل أمام إرادة وتصميم. وبين رفض السابق ورفض المسيح، لسنا أمام تسلسل كذاك الذي يربط العلّة بالنتيجة: ففي رفض الاول، تمّ منذ ذلك الوقت رفض الثاني، يوم مات يوحنا، بدا في نظر مت، كأن المسيح بدأ يموت.
انطلق بعض الشرّاح من هذه العبارة ليدافعوا عن طرح يقول: إن يسوع اعتبر نفسه إيليا. غير أن مت جعل من يوحنا المعمدان صورة إيليا ليجعل من يسوع المسيح المنتظر. ولكنّها فرضيّة ضعيفة، لأنّها تمزج ما قاله متّى مع ما قاله لوقا. فالانجيل الثالث هو الذي يحدّثنا عن يسوع كإيليا الجديد. وهذا ما نتوّسع فيه الآن.

4- يسوع إيليا الجديد
اهتّم لوقا بأن يتجنّب كل تماه بين يوحنا المعمدان وإيليا (ما عدا في أخبار الطفولة)، لأنه رأى أن يسوع هو إيليا الجديد. فقد رأى أن يسوع يحقّق في شخصه وفي رسالته سلسلة من السمات التي تميّز الانتظار البيبلي واليهوديّ لعودة إيليا.
هذا ما أشار إليه أولاً أع 3: 20- 21. فيسوع، لا يوحنا المعمدان، هو الذي يحقّق تجديد كل شيء، وهو عمل احتفظ به العالم اليهوديّ لإيليا في نهاية الأزمنة. يسوع هو "ذاك الذي تحتفظ به السماء لزمن التجديد الذي تكلّم الله عنه بفم أنبيائه القديسين" (أع 3: 21). ويقدّم أع أيضًا صعود يسوع بشكل يذكّرنا باختطاف إيليا. وهكذا نفهم أن لوقا يرى في يسوع إيليا، النبيّ الآتي في الأزمنة الأخيرة (أع: 1: 9؛ مر 16: 19 أ؛ رج 2 مل 2: 11؛ تك 5: 24). في هذا المنظار تستنير عدد من السمات الخاصّة بالمسيح يوردها الانجيل الثالث.
أ- "وردّه إلى أمّه" (لو 7: 15)
وننطلق من إقامة ابن الارملة في نائين، وهو خبر تفرّد به لوقا (7: 11- 17). ففي 7: 22 أرسل يسوع يقول ليوحنا المعمدان في سجنه: "الموتى يقومون". واعتبر أنه يستطيع أن يكتشف علامةً مسيحانيّة في هذه المعجزة التي تمّت لابن الارملة. فإيليا وأليشاع قد شفيا كل منهما وحيد أرملة (1 مل 17: 14-24؛ 2 مل 4: 21-37). فالعالم اليهوديّ يرى أن إيليا سيلعب دورًا هاماً في قيامة الموتى.
ولوقا قد اهتمّ اهتمامًا خاصًا لكي يبيّن العلاقة الدقيقة بين معجزة يسوع ومعجزة إيليا. نائين موضع المعجزة، مدينة قريبة من شونم حيث أقام اليشاع الولد. على باب المدينة التقى يسوع بالجنازة. نحن أمام تفصيل يدلّ على اتصال أدبيّ بين حدث أرملة صرفت صيدا وخبر لوقا (لو 12:7؛ 1 مل 17: 10). الميت هو ابن وحيد لأرملة. وبعد أن أقامه يسوع ردّه إلى أمّه (لو 7: 12 ,15؛ 1 مل 17: 12، 23 حسب السبعينيّة). والهتاف الأخير الذي يعلن "قام بيننا نبيّ عظيم" (لو 16:7)، يفهمنا أن شهود المعجزة أدركوا التوازي بين معجزة اجترحها يسوع ومعجزة إيليا (رج يو 6: 14). ونلاحظ بطريقة عابرة أن يسوع يصوّر رحمة يسوع تجاه "ابن وحيد"، ليس هنا فقط، بل مع الولد الذي يقع في داء الصرع (37:9-43). وبعد الشفاء، أعلن الانجيلي: "ردّ يسوع الولد إلى أبيه" (لو 9: 42).
إن حدث الابن الوحيد الذي أقامه إيليا قد أثّر في فكر لوقا. والكلام عن الارملة التي أحسنت إلى إيليا قد أثّر أيضًا في الانجيليّ الثالث، فذكر الخدمة التي تؤدّيها ليسوع نسوة تبعن يسوع في رحلاته الرسوليّة (لو 8: 1-3). إنهنّ امتداد لأرملة صرفت صيدا.
ب- "جئت لألقي على الأرض نارًا" (لو 49:12)
بدأ ابن سيراخ مديحه لإيليا بهذه الكلمات: "قام إيليا كالنار، وتوقَّد كلامه كالمشعل" (48: 1). تكلّم إيليا فأغلقت السماوات، وحلّ الجفاف في اسرائيل (1 مل 17: 1). وصلّى إيليا فنزلت النار على المحرقة على جبل الكرمل (1 مل 18: 37-38). مرتين أنزل إيليا نارًا من السماء على جيش أحزيا (2 مل 1: 9-13). لهذا لا نعجب إن ربط العالم اليهوديّ شخص إيليا بالتنقية بالنار في نهاية الأزمنة.
أراد يعقوب ويوحنا من يسوع أن يعلن مسيحانيّته، فطلبا منه في غضبهما على قرية سامريّة: "أتريد يا رب أن نأمر النار لتنزل من السماء، وتحرقهم كما فعل إيليا" (لو 9: 54؛ 2 مل 1: 10-12)؟ غير أن يسوع رفض هذا الاقتراح الذي يعارض كل المعارضة روح رسالته. هو ما جاء ليهلك بل ليخلّص.
ومع ذلك، فيسوع نفسه هو الذي قال: "جئت لالقي على الارض نارًا. وكم أنا متشوّق لان تشتعل" (لو 49:12). بدا يسوع هنا مثل إيليا الجديد. ولكنه تجاوزه، لانه جاء ليخلّص لا ليدّمر. فالنار لا تدمّر فقط، بل هي تنقّي. والنار التي حملها يسوع، أي نار هي؟ في الكتاب المقدس، النار تعبّر بشكل رمزيّ عن قداسة إله الحبّ الذي لا يرضى أن يقاسمه أحدٌ قلبَ شعبه (تث 4: 24؛ 6: 15). الذي يتفقّد خلائقه ليجعلها تسير مع مخطّطه الخلاصيّ (زك 2: 9؛ أش 4: 4) أو ليزيلها إن هي رفضت (أش 66: 15؛ صف 1: 18؛ ملا 3: 2؛ حز 28: 18). وفي لو 12: 49 تُذكر هذه النارُ بموازاة عماد سوف يتقبّله يسوع (لو 12: 50)، وهو عماد يرمز إلى موته حسب قوله مشابه نقرأه في مر 10: 38.
غير أن العماد الطقسيّ الذي تقبّله يسوع في الاردن، يُلقي ضوءًا على هذا الموضوع: "ساعة اعتمد يسوع هو أيضًا، كان في الصلاة فانفتحت السماء، ونزل الروح القدس عليه بشكل جسديّ، مثل حمامة" (لو 4: 21-22). هناك تقليد أورده يوستينوس الذي اتصل بجماعة الابيونيين فكمّل هذه الصورة التيوفانيّة: "ولما نزل يسوع في الماء، اشتعلت النار في الاردن" (الحوار 88).
وهكذا تتوضّح رسالة من أخبر به يوحنا المعمدان. "هو يعمّدكم بالروح القدس والنار" (لو 3: 16). وإذ امتلأ يسوع من الروح القدس بعد عماده (لو 4: 1)، صار جديرًا برسالته الفدائية. فجعل نار كلمته تمتدّ خلال حياته على الأرض، ولا تظهر كنار انتقام، بل ككلمة نعمة وخلاص نتمسّك بها ونتقبّلها. ففي الناصرة بيّن يسوع أن نبوءة أش 61: 1-2 قد تمّت: حلّ روح الله، فحلّت سنة نعمة، لا سنة "انتقام" كما قال أشعيا. وموتُ يسوع سيكون عماده في الروح والنار. وبعد ذلك، أرسل يسوع نار الروح على تلاميذه يوم العنصرة (أع 1: 5؛ 3:2).
ج- "تكلّم عن خروجه الذي يتمّه" (لو 9: 30)
خلال حدث التجلّي، ظهر يسوع في المجد يحيط به موسى وإيليا، السابقان اللذان ماتا بشكل سريّ، فلم يعرف أحد أين وُضع جسدُهما. ولكنّهما سيعودان في نهاية الأزمنة كما تقول الرؤى اليهوديّة. ونلاحظ حسب لو 9: 31 أن موسى وإيليا يشاركان يسوع في مجده (مت 3:17؛ مر 9: 4) ويتحاوران معه عن "خروجه" (اكسودوس، مثل خروج الشعب من مصر) الذي يتمّه. ما معنى لفظة "اكسودوس"؟ تدلّ على الذهاب. وهو عمل عجيب يدلّ على قدرة الله التي خلّصت شعبه. أما المجد الذي هو مجد موسى وإيليا، فيأتي من "اختطافهما" الذي أنهى حياتهما على الأرض ووضع حدًا لآلامهما خلال الرسالة النبويّة التي قاما بها. وبعد حدث التجلّي، يبدأ لوقا قسمًا جديدًا في إنجيله، هو صعود يسوع إلى أورشليم. والعبارة الأولى: "وإذ كان زمن ارتفاعه (اختطافه) من هذا العالم قد اقترب، صمّم أن ينطلق إلى أورشليم" (9: 51). نجد هنا لفظة "انالمبسيس" التي ترتبط بفعل "تمّ" "بليرون". وها نحن نبحث عن حدث بيبليّ يقابل هذا "الاختطاف" (الارتفاع). هنا نعود إلى دورة إيليا و"اختطافه" (2 مل 2: 9- 11). خلال مسيرة طويلة يصوّرها لو 9: 51- 19: 27: يصعد يسوع إلى أورشليم ليُخطف، ليرتفع مثل إيليا، ساعة تتمّ أيام آلامه وموته وقيامته (9: 51) أي خروجه الذي تحدّث عنه مع موسى وإيليا. والعلاقة بين مقدّمة هذا الصعود إلى أورشليم وحدث التلاميذ الذين يريدون أن ينزلوا نارًا من السماء على قرية سامريّة (9: 54)، تدلّ على أن دورة إيليا هي موضع استلهام للوقا.
ولكن تفحّص الصعود إلى أورشليم يكشف أيضًا عن هدف لوقا في أن يبيّن أن يسوع هو إيليا الصاعد إلى الموضع الذي منه سيُختطف بعد أن يمرّ في الآلام التي وعد بها جميعُ الانبياء. ومع أن لوقا تبع مر 9، إلا أنه حوّل كلام مر عن سفر ينطلق من الجليل إلى أرض اليهوديّة عبر الاردن (مر 9: 30؛ 10: 1)، فصار هذا السفر صعودًا نحو أورشليم عبر السامرة مرورًا في أريحا (لو 9: 52؛ 18: 35؛ 19: 1). وهذا ما يجعلنا نستشّف موضوع إيليا الذاهب مع اليشاع في رحلته الاخيرة من الجلجال إلى أريحا مرورًا ببيت إيل. إذن، يرى لوقا أن يسوع سافر سفرة إيليا الاخيرة نحو اختطافه الذي سيعرفه في نهاية" خروجه" الفصحي.
ونلاحظ تشابهات واختلافات بين صعود إيليا وصعود يسوع. أوصى إيليا اليشاع أن يبقى حيث هو (2 مل 2: 2، 4، 6). وأوصى يسوع تلاميذه بأن يبقوا في أورشليم لينتظروا فيها الروح القدس. ما استطاع إيليا أن يعطي روحه لأليشاع (2 مل 2: 9-10). أما إيليا الجديد فقال: "ها أنا أرسل عليكم ما وعد به أبي" (لو 49:24). ورث أليشاع رداء إيليا العجائبي (2 مل 13:2)، وارتدى التلاميذ قوّة من العلاء (لو 24: 49). تحيّر أليشاع الذي لم يبق في يده سوى رداء إيليا. أما التلاميذ فكانوا فرحين بعد الصعود، وكانوا ينتظرون الروح الذي وُعدوا به (لو 24: 52؛ 2 مل 2: 12).

خاتمة
وأوصى يسوع تلاميذه أن لا يقولوا لأحد شيئًا ممّا شاهدوه. هكذا اعتدنا أن نسمع في الرؤى الجليانيّة. وبالاضافة إلى ذلك، لم يحن الوقت بعد لكي يكشف سرّ يسوع الذي هو المسيح ابن الله الحيّ. فالشعب ما زال على مستوى التقاربات. يسوع هو في مت موسى الجديد الذي يلقي عظته على جبل شبيه بجبل سيناء. وهو في لو إيليا الجديد الذي جاء ليتمّ ما عمله إيليا خلال حياته على الأرض. وسوف ننتظر الآلام لكي يدخل الرسل في "نفق" مظلم لن يخرجوا منه إلاّ في القيامة. وبانتظار ذلك يجب أن يبقى مشهد التجلّي في قلب هؤلاء الثلاثة الذين شاهدوا مجد ابن الله على جبل "طابور" بانتظار أن يروا ذلّه على جبل آخر هو جبل الزيتون.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM