الفصل الرابع والثلاثون :التجلّي الالهي

الفصل الرابع والثلاثون
التجلّي الالهي
17: 1- 8

هذا الحدث العجيب قد جعله الازائيون الثلاثة في الموضع نفسه من الخبر: بين اعتراف بطرس والانباء الأول بالآلام، وتعليمات يسوع حوله الآلام التي تنتظر التلاميذ والمجد القريب لابن الانسان. نحن في قلب السرد الانجيليّ. بعد الآن، سيُشرف شخص يسوع وعمله على الخبر. من جهة هو مسيح الله. ومن جهة أخرى سيُرذل ويتألم. ففي هذا الإطار التدوينيّ يجب أن نفهم خبر التجلي. أما تفسير هذه المقطوعة فيأخذ لدى الشرّاح ثلاثة اتجاهات. هناك من يرى سطرة (فكرة في خبر) حول قيامة يسوع أدخلت فيما بعد داخل السرد الانجيلي لكي تسند اعتراف بطرس بالمسيح. وهناك من انطلق من حدث حصل في حياة يسوع وقرأه على ضوء العهد القديم، فرأى فيه موضوع التنصيب الملكي المطبَّق على يسوع في خط عماده. وهناك اتجاه ثالث حاول أن يقرأ النصّ للتعرّف إلى حياة يسوع وتلاميذه.
بعد المقدّمة الاخبارية (آ 1) تجلّى يسوع، تبدَّل لون وجهه وثيابه (آ 2- 3). تكلّم بطرس (آ 4)، فرّد الصوت السماوي (آ 5). سمع التلاميذ (آ 6) وخافوا. ثم تكلّم يسوع (آ 7). وكانت الخاتمة الاخباريّة (آ 8): لما رفعوا عيونهم لم يروا إلا يسوع. جاءت الآيات الأربع الاولى "ترسم" المشهد. وتوخَّت الآيات الاربع الأخيرة أن تبيّن لافهم التلاميذ (وأي انسان يستطيع أن يفهم) أمام الحدث: المجد الالهي والمسيحاني سوف يتمّ في الألم. كانت للتلاميذ الثلاثة نظرة خاطفة إلى المجد، فليستعدوا لطريق الآلام والصلب.

1- سياق الحدث
ينتمي الحدث إلى الحقبة الثانية من حياة يسوع. فالبنسبة إلى الأناجيل الازائيّة الثلاثة، يدلّ إعلان بطرس المسيحاني في قيصريّة فيلبس على مفترق في حياة يسوع ويكوّن انقسامًا وسط معاصريه. من جهة، رفض الشعب اليهوديّ أن يؤمن بمن قدّم نفسه على أنه المسيح. ومن جهة ثانية، تبع بعض التلاميذ ولا سيّما بطرس المتكلّم باسمهم، يسوعَ الذي رأوا فيه المسيح ابن الله الحي. لم تفهم الجموع من هو يسوع، وحسبته "ماسيا" (مسيحًا) وطنيًا جاء يخلّص الشعب من المحتلّ الروماني. أما سلطات الأمة فاحتقرته ورذلته. عند ذاك، تراجع عن العمل مع الجموع وكرّس نفسه لتعليم تلاميذه الذين جمعهم حوله. وسيكشف يسوع لهذه النواة الصغيرة الامينة له والمليئة بالنوايا الطيبة، سيكشف لها تدريجيًا سرّ شخصه عبر المصير المحفوظ له. فالمسيح الذي أعلنه هؤلاء التلاميذ هو أيضاً ابن الانسان الذي يصعد إلى أورشليم ليموت هناك ويقوم.
في التقليد الازائي، يتوزعَّ طريق ابن الانسان هذا عبر ثلاث متتاليات تتضمّن كلُّ واحدة ثلاثة أحداث متقاربة. وتبدأ كل مجموعة بإنباء عن مصير يسوع (16: 21؛ 17: 22-23؛ -18:2-9 اوز). ونقرأ كصدى لهذا الانباء، اللافهم عند التلاميذ: تشكّك بطرس في المرة الأولى (16: 22-23)، وحزن التلاميذ في المرّة الثانية (17: 23)، وقامت أم يعقوب ويوحنا بمحاولة لم تكن في محلّها (20: 20-23) في المرّة الثالثة. وهذا اللافهم عند التلاميذ هو معطية أساسيّة في التقليد المشترك، وقد شدّد عليه كلّ إنجيليّ بطريقته. مثلاً عند مرقس، تبع التلاميذ الخائفون معلّمهم الذي يسير في المقدّمة (10: 32). وعند لوقا الذي بدا مرهفاً في تعابيره العاديّة، شدّد يسوع وألحّ: "ضعوا في أذهانكم هذه الكلمات" (9: 44). ثم أعطاهم يسوع برهانًا كتابيًا دون أن يصل معهم إلى نتيجة (18: 31-34). غير أن يسوع لا يستطيع أن يترك تلاميذه في ضيق آفاقهم، فكان الحدث الثالث الذي يطبّق على التلميذ المصيرَ المحفوظ لابن الانسان. وهكذا نقرأ أولاً تعليمًا حول واجب العودة إلى الطفولة (18: 1- 4 وز). وأخيرًا حول الخدمة والتضحية بالنفس من أجل الكثيرين (20: 24-28 وز). تلك هي اللحمة التي عليها يرتسم صعودُ يسوع إلى أورشليم.
ونرى كل مرة في هذه المتتاليات الثلاث أن للسرّ وجهين على مستوى مصير يسوع كما على مستوى مصير التلاميذ: الوجه المظلم والوجه المجيد. فالتلاميذ يصطدمون كل مرّة بوجه الوحي المظلم. وفي كل مرّة يثبت يسوع في موقفه، ويشرك في مصيره الآتي والمقبل كلَّ من أراد أن يتبعه. وهكذا يصبح الوضعُ مأساويًا. فالصعود إلى أورشليم الذي هو بالنسبة إلى يسوع دخولٌ في المجد، يتّخذ في نظر التلاميذ شكل مسيرة إلى الموت. وما يعرفه يسوع في سر اتّحاده مع أبيه، لا يستطيع التلاميذ أن يقبلوه: فرغم كل ما رأوا هذا الرجل العظيم يعمل، ورغم كل ما سمعوه يقول، فهم ما زالوا يجهلون قصد الله، ويصطدمون بجدار الألم والموت. هم لا يستطيعون أن يقبلوا بواجب تجاوز هذا الجدار لملاقاة الله. كل هذا يبدو معارضًا لطرق الله كما دوِّنت في تاريخ تصرّفه تجاه شعبه المختار.
كيف نرفع هذا الشكّ وحجر العثار؟ الطريقة الوحيدة التي يستطيع يسوع أن يتّخذها، هي أن يعلن بجرأة المجد الذي يأتي بعد الذلّ والموت. ويتبع اعلانَ الموت المتين، اعلانٌ عن القيامة في اليوم الثالث (16: 21). والتعليم حول واجب نكران الذات وحمل الصليب، يتبعه حالاً قول يرينا كيف نربح نفوسنا (16: 24-26)، ثم ندخل في المجد. "فابن الانسان سيأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كل واحد بحسب أعماله" (16: 27). إذن، ينال التلميذ المكافأة من ابن الانسان الذي أعلن يسوع في الساعة الحاضرة مصيره. والذي سيعيد بناء كل شيء في اليوم الاخير، سيصلح كل شيء. هل كادْ يسوع يستطيع أن يفعل شيئًا آخر سوى أن يؤكّد هاتين الحقيقتين. أن يجعل الواحدة تجاه الأخرى كحدثين مقبلين بالنسبة إليه وبالنسبة إلى تلاميذه؟ هناك محدوديّة جوهريّة في تعليم يسوع خلال حياته على الأرض وقبل حلول الروح القدس. فقبل يوم الفصح والقيامة الذي فيه سيمرّ يسوع في ظلمة الموت، لا يستطيع الربّ حقًا أن يزيل حجر العثار والشكّ.
غير أن الآب يستطيع استباق الامور وتقديم الجواب قبل الوقت المحدّد. وهذا ما فعل حين أعطى التلاميذ أن يشاهدوا في لحظة خاطفة مجد الابن بالذات. ذاك هو السرّ الذي تقوله آية أضيفت على تعليم يسوع حول ضرورة التعاطف مع يسوع في حاشه وآلامه: "الحقّ أقول لكم: إن في القائمين ههنا من لا يذوقون الموت حتى يروا ابن البشر آتيًا في ملكوته" (28:26). بعد أن أرانا يسوع المكافأة في اليوم الأخير (اسكاتولوجيا تقليديّة)، ها هو يضمّ إلى هذه النظرة إنباء يجعلنا نتذوّق هذه المكافأة قبل أوانها، ورؤية مسبقة لمجد ابن الانسان. ولقد رأى الانجيليّون في هذا القول إنباءً مباشرًا عن التجلّي. وسار في خطاهم آباء الكنيسة. فإنه وإن يكن هذا هو المعنى الأصلي لقوله يسوع (في القائمين ههنا)، فهناك سمات أدبيّة تربطه بعض الرباط بالحدث الذي ندرس. وبشكل خاص قد تدلّ لفظة "بعض" (القائمين) على التلاميذ المميّزين. وفعل "يروا" يقابل 17: 9 (الرؤيا) ومر 9: 9 (ما رأوا، رج 9: 36). وهكذا أراد الرباط الكرونولوجيّ الذي يندر وجوده في حياة يسوع العلنيّة (بعد ستة أيام، 17: أ)، أن يجمع في إضمامة وثيقة الانباء بهذه الرؤية وتحقيقها.
إذن، توّخى التجلّي بالنظر إلى السياق الذي دُوّن فيه، أن يجعل الرسل يرون مسبقاً مجد اليوم الاخير، كما تركّز في يسوع هذا الذي يرونه معهم كل يوم. لقد كلّم الله هؤلاء التلاميذ الخائفين، المرتعبين: المجد (مجد الله) حاضر منذ الآن في ابن الانسان الذي هو حيّ أمامهم، الذي يرونه بعيونهم ويلمسونه بأيديهم ويسمعونه بآذانهم. فهم يستطيعون منذ الآن أن يسمعوا له، أن يطيعوه، أن يثقوا به. يستطيعون أن يتبعوا يسوع في الطريق الذي يصعد إلى أورشليم، يصعد نحو المجد عبر الصليب.

2- مرمى خبر التجلّي
خبر التجلي غنيّ جدًا، ولكن الفرح الذي ينعم به المتأمّل المشاهد، يصبح حيرة بالنسبة إلى شارح النصّ. فالمواضيع العديدة الواسعة تتلاقى كأمواج البحر، ويصبح مدلولُها متشعّبًا. لهذا، لا بدّ من اكتشاف مرمى الخبر. يتوافق الشرّاح على اكتشاف هذا المرمى في القول السماويّ الذي يدلّ على الهدف الاخير لمدوّن الانجيل، على الهدف الذي أراده الروح القدس. "وإذا صوت من الغمامة يقول: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. فاسمعوا له" (آ 5).
هذا القول الالهي السماوي يستعيد قولاً تردّد في عماد يسوع، ويزيد عليه عبارة "فاسمعوا له". هو يعلن للتلاميذ ثلاثة أمور: يسوع هو ابن الله. هو عبد الله الذي جعل فيه الله مسرّته. هو النبيّ. لنتوقَّف بإيجاز على هذه الاعلانات الثلاثة.
قد تستطيع عبارة "الابن الحبيب" أن تبقى غير محدّدة. حملها لوقا الى نقطة الوصول في خبر العماد حين أورد مز 2. هي تعني المسيح، وتعني أيضًا الابن المولود منذ الازل حسب مز 2: 7: "قال لي: انت ابني وأنا اليوم ولدتك" (لسنا على مستوى مجمع نيقة 325 والكلام حول الابن المساوي للآب). مهما كان المستوى الذي فيه فهم التلاميذ هذا القول في مشهد التجلّي، فإن مدوّن الانجيل قد رأى فيه بلا شكّ اعلانًا عن وجود يسوع قبل الزمن. فكأني بالله يردّ على ما قاله يسوع. فساعة المعمودية، كان قد أعلن الله ليسوع الذي تصرّف كواحد من أبناء عصره وأخذ مكانه بين الخطأة الآتين إلى يوحنا المعمدان، أن هذا هو حقًا ابنه الحبيب. وساعة التجلي أعلن الله للتلاميذ الذين رأوا يسوع يأخذ في حياته دور عبد الله المتألم، أن هذا هو بالحقيقة ابنه الخاص.
ففي هذه الابن الحبيب يجد الله مسرّته. بهذه العبارة الثانية (هي خاصّة بمتّى) التي تذكر بوضوح ما قيل في العماد، يرى الله في يسوع عبد الله الذي نال رضاه، حسب نبوءة أش 42: 1: "هوذا عبدي، مختاري الذي عنه رضيت". لسنا هنا أمام حاش عبد الله، بل أمام الطريقة التي بها يُتمّ عبد الله المهمّة التي سُلِّمت إليه. وكان متّى قد أورد مطوّلاً هذا المقطع ليبرز تصرّف يسوع تجاه خصومه: "لا يكسر القصبة المرضوضة ولا يطفئ الفتيلة المدخنة" (مت 12: 18- 21). وهكذا ختم الصوتُ السماوي طريقة حياة يسوع "الوديع والمتواضع القلب" (29:11). ونحن نستطيع أن ندخل إلى مدرسته ولا نخاف.
والصوتُ الالهي "اسمعوا له"، يميّز حدث التجلي عن حدث العماد. وقد أراد أن يذكّرنا بما قيل في تث 18: 15 (ورد في أع 3: 22): "سيقيم لكم الربّ من بين أخوتكم نبياً مثلي فاسمعوا له في كل ما يقول لكم". وفي خطبة بطرس لشعب أورشليم، تحدّث يسوع القائم من الموت عبر شهادة رسله إلى المؤمنين وطلب منهم أن يتعلّقوا بكلمته. أجل، يسوع هو موسى الجديد، هو النبيّ المنتظر في نهاية الأزمنة (أع 37:7؛ يو 6: 14؛ 7: 40). وفي خبر التجلّي، يسوع هو منذ حياته على الأرض "النبيّ" (لا نبيّ من الانبياء) الذي يجب أن نسمع له اليوم، وإلاّ استُبعدنا من وسط الشعب. فيه ترتبط الحياة الأبدية التي أعلنها التعليم حول طريقة اتّباع يسوع، ووعد بها كل من حمل صليبه، وسار وراء المسيح. إذن، على التلاميذ أن يثقوا بيسوع الناصري الذي معه عاشوا كل يوم، الذي ما زالوا يسمعون تعاليمه.
إن مرمى الخبر يوضح المعنى الذي أشار إليه سياق الخبر. فالله يعلن أن يسوع ابنه الحبيب والخادم الذي يرضى عنه، هو النبيّ الذي يجب أن نسمعه، والذي يجب أن نعمل بتعاليمه. وهذا التعليم قد "بدأ" (16: 21)، وهو يدلّ على طريق المجد عبر الصليب.
إن هذا الوحي، الذي نجده متشابهاً تقريباً في الأناجيل الازائية الثلاثة، يبرزه كلُّ انجيلي بطريقة خاصة. في مر ولو، هو النقطة الاخيرة في الخبر: "وإذ نظروا فجأة حولهم، لم يروا أحدًا إلاّ يسوع وحده معهم" (مر 8:9؛ لو 9: 36). هذا هو المهمّ: "يسوع وحده معهم"، يسوع الذي هو الممجَّد في كيانه السريّ منذ الآن. ودعا مت القارئ ليقتدي بالتلاميذ في ما يفعلون: "فلما سمع التلاميذ سقطوا على أوجههم وخافوا جدًا". وتقدّم يسوع ولمسهم قائلاً: "إنهضوا ولا تخافوا" (آ 6-7)
أمام الله الذي يزور (يفتقد) الانسان، يخاف الانسان. ولكن في مت، لا تسبّب الخوفَ ظاهرةُ التجلّي ولا حضور الشخصين السماويين (مر 9: 6) أو بداية الدخول في الغمام (لو 9: 34). والخوف هو ردّة الفعل الدينيّة المعروفة التي يحسّ بها كل انسان أمام الاقداس: استولى الخوف عليهم ساعة سمعوا الصوت السماويّ الذي يُعطي الحدث معناه الحقيقيّ، ويدعوهم إلى السماع0 والطاعة. غير أن الخوف ليس الهدف الذي يتوخّاه الله في ظهوراته. فيسوع الذي هو سيّد الموت المتعالي، أمر الذين سقطوا بأوجههم إلى الأرض بأن يقفوا. كيف يخافون حين يكونون برفقة المعلّم الذي هو ابن الله؟ وفعلَ يسوعُ بالسلطان الذي سبق وأظهره في معجزاته: مع بطرس حين حقّق الصيد العجيب (لو 5: 10)، ومع التلاميذ الذين رأوه يمشي بمهابة على المياه (14: 27 وز). كما أظهره في ترائيه بعد القيامة (مت 28: 5، 10). فاذا كان الخوف ممنوعًا، وإذا كان النهوض ممكنًا، فهذا لا يعني أننا "نتعوّد" على الصوت السماويّ، ونجعله مع سائر الاصوات التي نسمعها في هذا العالم. فكلمة الله تبقى دومًا جديدة وهي تحرّك من يسمعها. نحن لا نخاف، لأن يسوع هو هنا وحده، هو قريبًا منا في مجده.

3- عناصر الخبر
بعد أن اكتشفنا المعنى العام عبر السياق والصوت السماويّ، نستطيع أن نتوّقف عند العناصر السرديّة فنكتشف المعنى الخاص الذي يتّخذه كل عنصر بالنسبة إلى المجموعة. وهذا ما يكون له أثره من أجل تفسير المشهد كله. نتوقّف عند: الجبل، المجد، موسى وايليا، الخيام (أو: المظال)، الغمام.
أ- الجبل
"وبعد ستة أيام، أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه، وصعد بهم على حدة إلى جبل عال جدًا" (آ 1)0 اعتزل يسوع. ذهب إلى حدة كما اعتاد أن يفعل. صعد إلى منطقة جبليّة قفرة (ق لو 15: 4، ومت 18: 12)، وهذا ما حدث له بعد تكثير الأرغفة. هكذا تجنّب الدعاية الشعبيّة (مت 14: 23 وز؛ يو 6: 15). إن لوقا الذي قال إن يسوع ذهب لكي يصلّي هناك، تحدّث عن "الجبل" بشكل عام (لو 28:9). أما في متّى ومرقس فنحن أمام جبل محدّد، جبل عال جدًا. فعلى الجبال العالية تلتقي السماء والارض. والجبال هي موطىء قدمي الله حين ينزل على الأرض ليزور البشر. ما اهتمّ الانجيليون بتحديد هذا الجبل المميّز لكي يبقي للمشهد بُعده الشامل. هو كل جبل في العالم. أما التقليد اللاحق فرأى في هذا الجبل جبل طابور (أو: تابور) في الجليل. أما النقّاد الذين يهتمّون بالطوبوغرافيا الدقيقة فقالوا "جبل حرمون" الذي يقع شمالي قيصريّة فيلبس. هذا أمر غير مهمّ من الناحية اللاهوتيّة. فالمهمّ هو تحديد هذا الجبل من الناحية السلبيّة. ليس جبل صهيون الذي اختاره الله منذ الأزمنة القديمة. وفي المزمور الذي يلمّح اليه الصوتُ السماويّ، قيل ان اللّه "أقام ملكه على صهيون، جبل قدسه" (أو: جبله المقدّس) (مز 2: 6). إن جبل صهيون هذا كان قد احتفظ في التقليد النبويّ والرابينيّ بمعنى اسكاتولوجيّ: "جبل بيت الربّ يقام على قمة الجبال وفوق التلال: فتأتي إليه جميع الأمم... تعالوا نصعد إلى جبل الربّ" (أش 2: 2-3)، هذا الجبل المقدّس (أش 9:11؛ دا 16:9). وحين اختار يسوع جبلاً آخر غير جبل صهيون، دلّ على أنه نزع التاج عن اليهوديّة. وحسب طوبوغرافيّة متّى اللاهوتيّة، جليل الأمم هو الذي زاره الله. نزل عليه. بل هو افتقد ما وراء الجليل، افتقد العالم الوثنيّ.
لا يدلّ المشهد فقط على اختيار أرض جديدة. فالمشهد هو وحي في حدّ ذاته. والأمر "اسمعوا له" الذي أخذ من تث 18: 15 رأى في يسوع موسى الجديد. وجبلُ العهد القديم الذي هو موضع الوحي الاعظم، حيث تسلّم موسى الوصايا، وحيث صعد ايليا نفسه (1 مل 8:19)، هو جبل سيناء. فالجبل الذي تجلّى عليه يسوع اتّخذ صورة سيناء جديد حيث جاء الله وكلّم التلاميذ. أما العناصر الاخرى فتلتقي حول هذا التفسير: المجد، موسى وايليا، الغمامة. وحتى "الستة أيام" التي سبقت تجلّي يسوع والقول السماوي: فموسى انتظر ستة أيام كلمة الربّ (خر 24: 15-16).
ب- المجد
"وتجلّى أمامهم فأضاء وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور" (آ 2). تجلّى. حرفيًا في اليونانيّة: تبدّل، تحوّل مظهره، اتّخذ وجهًا آخر غير وجهه العاديّ. هكذا اتّخذ القائم من الموت سمات مسافر في أعين تلميذي عماوس (مر 16: 12). إن حلم البشريّة القديم الذي فيه يتحرّر الانسان من عبوديّة الجسد لكي يدخل في حالة مجيدة، قد يجد في هذا الحدث معناه الحقيقيّ. إلاّ أن مشهد التجلّي لا يتجذّر في تحوّلات رمزيّة محضة. وليس نتيجة مجهود الانسان أو طقس سحريّ. التجلي هو حدث صوّره الكتاب في صيغة المجهول ليدلّ على أن العامل الوحيد في هذا المشهد هو الله (هذا ما يسمّى المجهول الالهي). فالله هو الذي يقود آمال الجليان اليهوديّ الى تمامها. كانوا يقولون إن وجوه الابرار تتحوّل إلى جمال شعّ في نهاية الأزمنة، تلمع كالملائكة التي تصبح شبيهة بهم، تمتلىء مجدًا (رؤيا باروك 3:51-10). هذا الرجاء الاسكاتولوجيّ وجد سندًا له في واقع من الماضي (موسى الذي شعّ وجهه بعد حديثه مع الربّ، خر 34: 29)، فصوّر المستقبل: "يشعّ الصديقيون كضياء الفلك. والذين علّموا البرّ للكثيرين، يشعّون كالكواكب إلى الأبد" (دا 12: 3). واليوم أمام أعين التلاميذ المميّزين، صار هذا الرجاء واقعًا منظورًا عبر هذا الانسان يسوع، على الجبل. إذا كان القول السماويّ قد أشار إلى ابن الله الحاضر منذ الأزل، فعمل التجلّي يرينا في يسوع مجده الاخير والنهائي.
حاول الانجيليون أن يعبّروا بأفضل ما يمكن عن هذه الظاهرة. اكتفى مرقس بأن يصوّرها حسب الشكل الذي اتّخذه لباس يسوع. صار مضيئاً. "صارت ثيابه تلمع بيضاء جداً حتى لا يستطيع قصّار على الارض أن يبيّض مثلها" (مر 9: 3). هذا البياض ليس اللون الابيض في المعنى العاديّ للكلمة. إنه "بهاء". إنه لون الواقع السماويّ (دا 7: 9؛ مر 16: 5؛ يو 20: 21) والاسكاتولوجيّ (رؤ 1:13-14؛ 4: 4؛ 14: 14؛ 19: 11؛ 20: 10)، وهو التماهي مع النور (مت) أو البرق (لو). وهذا النور "يحوّل" الوجه الذي يشعّ كالشمس، يبدّل له لونه. إذا كان الوجه مرآة القلب، فإشعاع وجه المسيح يأتي من ينبوع يختفي عادة عن أنظار البشر. وقد عبّر لوقا عن ذلك حين قال إن التلاميذ "رأوا مجده" (لو 9: 32).
إن المجد الذي أعلنه يسوع من أجل نهاية الأزمنة، "ساعة يأتي ابن الانسان مع ملائكته القديسين في مجد أبيه" (مت 16: 26؛ مر 38:8)، في مجده (لو 9: 26)، قد ظهر بشكل مسبق أمام أعين التلاميذ المشدوهة. ولنذكر بشكل موجز ميزات هذا المجد.
المجد هو ما يخصّ الله الذي هو كائن مجيد في معنى خاص جدًا، لأنه وحده قدوس. ولكن في هذه الساعة، قد ولج هذا المجد في انسان، بحيث فاض على ثيابه ووجهه فكشف عمق كيانه. فكشف وجه الله بالذات. فيسوع هو "ضياء مجد الله وصورة جوهره" (عب 1: 3). على وجهه مجد الله (2 كور 8:4). يسوع هو "ربّ المجد" (1 كور 8:2). وهذا المجد الالهي كان قد غطّى بضيائه الرعاة في ليلة الميلاد (لو 2: 9-10). وهو يغطي اليوم انسانًا هو يسوع، فيكشف قبل الزمن ما سوف يصيره عندما "يُخطف في المجد" (1 تم 16:3)، حين يقيمه الله فيعطيه المجد (1 بط 1: 21)، وهكذا يمجّد فتاه وخادمه (أع 3: 13). إن اسطفانس رأى يسوع في مجده (أع 7: 57)، وعمي بولس بنوره على طريق دمشق (أع 3:9). ومجد المسيح في النهاية سيشعّ في المؤمن نفسه (2 كور 3: 18).
يسوع المتجلّي هو ابن الله الذي نستشفّه عبر نجّار الناصرة، عبر المعلّم الذي يرافق تلاميذه. ويُبرز لوقا تأثير المشهد على التلاميذ فيقول: إن الحدث تمّ عند خروجهم من النوم (أو رغم نومهم) كما في الليل. فالتجلّي يبقى ينبوع نور للمسيحيّين الذين ما زالوا يعيشون في الليل دون أن يكونوا من الليل (1 تس 5: 5- 6).
ج- موسى وإيليا
"وإذا موسى وإيليا قد ظهرا لهم يخاطبانه" (آ 3). هناك فرضيّات عديدة حول مدلول هذين الشخصين السماويين. إنهما يرمزان إلى الشريعة والانبياء. ولكن الصوت السماوي يعلن أن نموذج النبيّ الآتي هو موسى لا إيليا. واعتُبرا كالشاهدين اللذين يتكلّم عنهما سفر الرؤيا: استطاع إيليا أن يغلق السماء، وموسى أن يضرب الأرض (رؤ 11: 3-7). ورأت بعض النصوص الرابينيّة في إيليا صورة المسيح المتألم. والحوار الذي يلي مشهد التجلّي، يرينا في ايليا صورة يوحنا الذي اسيئت معاملته (مت 17: 12-13؛ مر 9: 12-13). من الممكن بحسب التقليد القديم (ملا 23:3-24) الذي لمّح اليه يسوع أمام التلاميذ (مت 17: 10- 11، رج مر 9: 11-12)، أن يكون ايليا سابق المسيح. وهذا ما حصل في شخص يوحنا المعمدان. اذن، إن كان إيليا على الجبل فكسابق المسيح. لهذا سمّاه مر 9: 4 قبل موسى (ليعود بعد ذلك إلى الترتيب التقليديّ الذي يجعل موسى قبل إيليا، آ 5). وأورد نصّ رابينيّ: "قال يوحنان بن زكاي: قال الله لموسى: حين أرسل النبيّ إيليا، يجب أن تأتيا معًا" (تثنية رابا 3). من الممكن أن تكون هذه الامور في فكر الانجيليين: موسى النبيّ جاء يحيّي النبيّ الالهي. برفقة إيليا السابق للمسيح. ومهما يكن من أمر، هذان الشخصان اللذان جاءا على جبل سيناء الجديد (صعدا على سيناء القديم رمز الجديد في التوراة) يفهماننا أننا وصلنا إلى تتمّة الزمن.
والتلميح إلى موت يوحنا، إيليا الجديد، كان تفسيراً للموت في الحوار الذي تمّ عند النزول من الجبل. لا يورد لوقا هذا الحوار. في الواقع يبدو أنه لم ينتم في الأصل إلى خبر التجلي بحصر المعنى. غير أن لوقا قد نقل المضمون إلى حوار "حصل" خلال المشهد نفسه: "موسى وإيليا... يكلّمانه عن ذهابه الذي سيتمّه في أورشليم" (لو 9: 31). إن لفظة "ذهاب" تترجم "اكسودس" (في اليونانيّة) الذي لا يعني فقط الموت (كما في اليونانية الكلاسيكية). بل يدلّ على الخروج من هذا العالم، الذي يتضمّن الموت والقيامة والصعود بالنسبة إلى يسوع نفسه. في أع 13: 24، دلّ لوقا على مجيء يسوع إلى هذا العالم بلفظة "اسودوس"، أي دخوله في هذه الدنيا. واذ رأى متى ومرقس في حضور إيليا الذي استشهد في شخص يوحنا السابق، إنباء عن موت يسوع (ذكر في بداية هذه الحقبة خبرُ قطع رأس يوحنا، مت 14: 1-13؛ مر 6: 14-29)، نظر لوقا إلى الوضع من فوق. إن يسوع دخل إلى مجلس الله. وجاءت الكتب تؤكّد في شخص موسى وإيليا، ما يعرفه الابن بفضل اتّحاده بالآب، ما علّمه بعد قيامته: "كان يجب على ابن الانسان ان يتألم قبل أن يدخل في مجده" (لو 26:24، 45-46). وهكذا توضّح التقليد المشترك. فما يجب أن "يسمع" التلاميذ من يسوع، هو ما يعرفونه من الكتب المقدّسة، هو ما يتحدّث به مع الشخصين السماويين، هو فكر الله نفسه وقصده الخلاصيّ من أجل البشر.
د- المظال
"حينئذ أجاب بطرس وقال ليسوع: إنه لحسن أن نكون ههنا. إن تشأ نصنع ثلاث مظال، لك واحدة ولموسى واحدة ولإيليا واحدة" (آ 4). المعنى الأوّل لعبارة "حسن أن نكون ههنا" ليس دلالة على سعادة التلاميذ (هنيئًا لنا). كلا، بل الحمد لله أننا موجودون هنا لكي نصنع ثلاث مظالم (ثلاث خيام، لا ننسى ارتباط التجلي بعيد المظال). لا شكّ في أن بطرس شعر بملء السعادة. ولكن هذا لا نستطيع أن نستنتجه ممّا قال عن المظال.
كان التقليد اليهوديّ يرى في "الخيام الابدية" (لو 16: 9) رمزًا إلى المسكن السماويّ. ثم إن السكن تحت الخيمة يشير إلى زيارة الله الاسكاتولوجيّة. فهو يأتي لكي يقيم مع شعبه. إذن، فكّر بطرس أن نهاية الأزمنة هي هنا، وأنه يجب أن ندشِّن السماء على الأرض لكي يدوم ظهور يوم من الأيام، إلى الأبد.
شدّد كل من مرقس ولوقا على الطابع الغريب لتدخّل بطرس. "لم يكن يعرف ماذا يقول" (لو 33:9). "لم يعرف ماذا يقول" (مر 9: 6). فكأني ببطرس أخطأ حين قال ما قال. هل يريد أن يجعل هذا الزمن المميّز زمنًا أبديًا؟ هل نسي أنه لا يوجد هنا إلا ثلاثة تلاميذ لا الشعب كلّه في التجمّع الاسكاتولوجيّ؟ هل أعطى لنفسه دورًا بأن يصنع لله مقامًا؟ ونستطيع أن نكثر من الاسئلة التي تدلّ على أن بطرس لا يستطيع أن يفهم السرّ الذي يمرّ أمام عينيه، كما لن يستطيع أن يفهم سرّ الجسمانيّة (مر 14: 40). بهذه الطريقة دلّ مرقس كعادته على اللافهم عند التلاميذ. أما متّى فما اهتّم اطلاقاً بتقديم تفسير لاهوتي لكلمة بطرس. فما هو معنى هذه الكلمة؟ لم يخطىء بطرس في الاساس، لانّنا في الواقع أمام زيارة السماء للأرض. فبطرس لا يتطلّع فقط إلى خدمة مفيدة يستطيع أن يقدمها. بل إلى سعادته، إلى انخطافه. فهو يريد أن يثبّت إلى الابد هذه الرؤية السماويّة. يريد أن يبني مظلّة سماويّة لا لموسى وإيليا فقط، بل ليسوع الذي تجلّى أمامهم.
د- الغمامة
"وفيما بطرس يتكلّم إذا بغمامة نيّرة قد ظلّلتهم" (آ 5). ذاك هو جواب الله على اقتراح بطرس. فوظيفة الغمامة تقوم بأن تغطّي، تظلّل، تؤمّن ملجأ. جاءت الغمامة تعطي ظلّها. الخيمة هي من صنع البشر، أما الغمامة فأصلها سماويّ. الخيمة تجعلنا في الظلمة، أما الغمامة فهي نيّرة. هذا ما يشير إليه السياق المباشر، ويؤكّده التقليد البيبلي حول الغمامة، حول السحابة.
للغمامة معان مختلفة في التقليد البيبلي. في هذا المشهد نحن أمام غمامة تحمل شخصًا على مثال ابن الانسان الذي يأتي على الغمام في نهاية الأزمنة (دا 13:7)، بل أمام غمامة تغطّي وتحمي. فتشكّل نوعًا ما خيمة من أجل الله نفسه: الله يصنع من الغمام خباء له وخيمة (مز 12:18). أما هنا فيبدو أن الحدث هو تتمّة لنبوءة احتفظ بها التقليد اليهوديّ حول نهاية الازمنة: "عندئذ يُظهر الربّ من جديد كل آنية العبادة، فيظهر مجد الله والغمامة التي ظهرت في أيام موسى وحين صلّى سليمان لكي يتكرّس الهيكل بالمجد" (2 مك 8:2). فكما غطّت الغمامة في الماضي جبل سيناء فامتلأ من مجد يهوه (خر 40: 34- 35). وكما اجتاحت الغمامة والمجد في الماضي هيكل الرب (1 مل 8: 10- 12)، هكذا سيكون في نهاية الأزمنة. فالمجد الذي ترك الهيكل (حز 10: 3- 4)، سيعود مع الغمامة. وعلى جبل التجلّي الذي ينيره المجد المشعّ على وجه يسوع وعبر ثيابه، نزلت الغمامة التي هي علامة حضور الله بالذات. إن هذا الواقع الذي يدلّ عليه تطوّر لفظة "شكينه" التي دلّت في الاصل على المسكن والمقام، وفي النهاية على حضور الله، صارت اسم الله. هذا الظلّ هو الذي غطّى مريم العذراء في يوم البشارة (لو 1: 35). فهنا وفي التجلّي سيستعمل فعل "ابيسكيازو" الذي يدلّ على تدخّل خاصّ من قبل الله.
ما هو دور الغمامة؟ إنها لا تغطّي فقط الاشخاص السماويين الثلاثة، بل تغطّي التلاميذ الثلاثة أيضًا. هذا ما يقوله النصّ عند لوقا وحده. ولكن سياق مت ومر يصل بنا إلى النتيجة عينها. فالملاحظة مهمّة، لأنها تدلّ على أن التلاميذ ليسوا فقط مشاهدين من الخارج، بل دخلوا هم أيضًا في حدث يتجاوزهم ولكنه يعنيهم. فالنبوءة التي وردت أعلاه، تدلّ على الظروف التي فيها يأتي المجد والغمام: "إن الموضع الذي فيه خُبّئت "أواني العبادة، سيظلّ مجهولاً حتى يجمع الله شعبه ويرحمه رحمة" (2 مك 7:2). فاذا تذكّرنا السياق الكبير الذي فيه أدرج حدثُ التجلّي، وهو سياق تكوين جماعة التلاميذ التي تصوّر مسبقًا الكنيسة وتحقّقها، نقول إن هذا التجمّع يتمّ لا في وحدة التلاميذ الثلاثة الذين يمثّلون مجموعة الرسل كلها، بل في وحدة التلاميذ مع يسوع والشخصين السماويين. فالتجمّع الذي تألف من تلاميذ التأموا حول الكلمة، قد كرّسته الغمامة التي غطّت المجموعتين، مجموعة السماء (يسوع، موسى، إيليا) ومجموعة الأرض (التلاميذ الثلاثة). فيسوع لم يتجلّ فقط من أجل نفسه، بل من أجل التلاميذ الذي سيسمعون له. وهؤلاء التلاميذ رأوا أنهم يكوّنون بعد اليوم جماعة مع يسوع، بل مع السماء، بقدر ما يسمعون الكلمة.

4- نظرة شاملة إلى مشهد التجلّي
أ- في أصل الخبر
هناك تأثيران لعبا دورهما في تكوين خبر تجلّي يسوع: الحدث الذي حصل. الشكل الادبي الذي استُعمل لكي يوصل إلينا هذا الحدث.
لا يستطيع خبر التجلي أن يكون خبر ظهور فصحيّ (بعد القيامة) جعله التقليد في حياة يسوع العلنيّة كصورة مسبقة عن القيامة. في هذه الحالة، يجب أن نلغي عناصر عديدة، إن هي غابت انتزعت من الخبر طابعه الخاص: ففي الظهورات الفصحيّة، يُحجب المجدُ حجبًا كاملاً عن أعين التلاميذ. ولا تلعب الغمامة أي دور. ولا يتدّخل موسى وإيليا. وما قاله بطرس من كلام لن يكون له معنى إطلاقاً. ولا نستطيع أن نجعل من خبر التجلّي ظهور المسيح في المجد. فمع أن المجد هو هنا، فيجب أن تُلغى سائر العناصر. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، يتضمّن الحدث معطيات عديدة تتوافق توافقًا تامًا مع اشارات أكيدة من حياة يسوع على الأرض. مثلاً: الاعلان المسيحانيّ. اختيار التلاميذ الثلاثة. اللافهم عند التلاميذ. وهكذا يُدعى القارئ لكي يفهم السرّ كجواب الله على إنباء أعلنه يسوع حول مصير ابن الانسان على مفترق حياته العلنيّة.
ثم إن حدث التجلّي قد ورد في تقليدين أدبيّين مختلفين. فالتذكّرات التاريخيّة قد تلوّنت بالتفسير اللاهوتي الذي جعل من يسوع موسى الجديد، ومن الجبل جبل سيناء الجديد. هذا لا يعني أننا أمام سطرة استنبطتها الجماعة انطلاقاً من نصوص الخروج (كما قال بعض الشرّاح): فهناك اختلافات كبيرة بين الاحداث التي يوردها الخروج وما يوردُه إنجيل متّى: طريقة ظهور الغمام، معنى الستّة أيام، تدخل بطرس.
أما المرجع الأدبي الثاني فهو ظهور ابن الانسان في رؤيا دانيال: فمقابلة مت مع دا 10 تعلّمنا الشيء الكثير: نجد في ترتيب متشابه مواضيع النور والبهاء والصوت والسماع والوقوع على الأرض، واللمس والنهوض والرؤية. غير أن الاختلافات عديدة بحيث لا نستطيع أن نقول إن مت نسخ دا. على كل حال، كل هذه المواضيع لا تصبح محدّدة إلا في مت.
وأخيرًا نستطيع أن نجد مرجعًا شبيهًا بالمرجع السابق أو بالاحرى رسمة في أربع مراحل تكون إطاراً لعدد كبير من التيوفانيّات. أن نكون أمام موسى أو إيليا على جبل سيناء. أو أمام أخنوخ أو يوحنا في سفر الرؤيا، نجد عادة أربع مراحل: الصعود، الظهور الالهي، المهمة (كلمة أو شريعة)، العودة إلى الأرض. ولكنّنا نجد هنا أيضاً اختلافات عديدة مع الخبر الانجيليّ. ففي قلب المشهد لا نجد الملاك المفسّر بل التلاميذ الثلاثة. والتلاميذ (لا الوسيط كما في عالم "السحر") هم الذين يتّخذون موقعًا تجاه الحدث، ويسوع نفسه هو الذي يُنهض التلاميذ الذين سقطوا بوجوههم إلى الأرض.
حين نتعرّف إلى هذه "الأشكال" الادبيّة، لا ننسى القيمة التاريخيّة للخبر، بل إن هذه المعرفة تتيح لنا أن نكتشف المدلول التعليمي للحدث. وهذا ما نحاول القيام به على مختلف مستويات التفسير.
ب- التقليد الإزائي المشترك
في الاساس ورد الحدث بشكل وحي وصل إلى التلاميذ. فالذي أنبأ بمصير ابن الانسان وأفهم التلاميذ ما ينتظرهم من مصير مباشر، هو يسوع الناصري، بل هو ابن الله الحبيب الذي يجب أن نسمع له، الذي يجب أن نحيا حياته. بالغمامة تكرّس التلاميذ المميّزون الذين هم صورة مسبقة عن الغمامة الاسكاتولوجيّة، ليسوع الذي تجلّى أمامهم. هي لحظة خاطفة كشفت للتلاميذ البُعد الجديد لحياتهم: حين يعيشون من كلمة يسوع، يعيشون في حضرة الله. وإذا كانوا بعد ذلك قد رأوا يسوع وحده، فهذا يعني أن المسيرة تتواصل بعد أن أضاء عليها نور آت من عالم السماء. والتلاميذ الذين رافقوا المعلّم في الطريق إلى أورشليم هم صورة مسبقة عن الكنيسة في طريقها إلى السماء. وعلى هذا الجبل، على جبل سيناء (الجديد) الذي يشرف على المسيرة في البريّة، ترتفع الكنيسة عن الأرض وتمرّ إلى السماء في شكل من الأشكال. فتكتشف البُعد السماوي الذي يعطي معنى للتاريخ الذي تحياه، للصليب الذي تحمله والذي يقودها إلى مجد يسوع نفسه، فيوحّدها بيسوع الذي تجلّى على الجبل كما سوف يقوم بمجد عظيم بعد ساعات الآلام والصلب والقيامة.
ج- نظرة كل من الازائيين
شدّد مر على طابع السرّ الالهي الذي لا يُفهم. وتفسير: "جواب" بطرس يشبه تفسير صمت بطرس في بستان الزيتون. لقد عمَّق الانجيل الثاني الهوّة التي تفصل الانسان عن سرّ يسوع. أما مشهد التجلّي فهوا ابيفانيا المسيح المعلّم أمام التلاميذ الذين أخذت منهم الحيرة كل مأخذ فصاروا مثل النساء بعد ظهور يسوع لهنّ في أحد القيامة (مر 8:16): "ما أخبرن أحدًا بشيء لأنّهن كن خائفات".
وأبرز متى البعد الكرستولوجيّ للسرّ. فلفت انتباهنا أولاً إلى يسوع ثم إلى الله. صوّر لنا وجه يسوع. والتلاميذ سمّوه "الرب". وبطرس بدأ كلامه بلفظة مليئة بالوقار: "إن شئت" (نتذكّر "لتكن مشيئتك" في الصلاة الربية). في يسوع يجد الله مسرّته. وأخيرًا يلمس يسوعُ التلاميذ، يُنهضهم كما من الموت، فكانت فعلته فعلة الله مع هؤلاء الذين سقطوا من خوفهم إلى الأرض. والغمامة "المضيئة" تذكّرنا بغمامة سفر الخروج التي قادت الشعب في مسيرته عبر البريّة. إن التجلّي بحسب مت هو كرستوفانيا (ظهور يسوع المسيح)، هو كشف عن البعد السرّي لشخص يسوع.
ورتّب لوقا خبره بالنظر إلى لاهوت التاريخ، لاهوت قصد الله. هذا الخبر هو قمّة حياة يسوع مع تلاميذه. فمسيرة التاريخ لا يتوزّعها فقط فعل "داي" (يجب، ينبغي)، بل هي تتجسّد في حدث، تتجسّد في يسوع نفسه. ففي هذا الانسان ينضمّ الذل مع المجد انضماماً عجيباً. فتجاه ليلة الآلام والنزاع نجد ليلة التجلّي المضيئة والمجيدة. ففي مسيرة التاريخ التي تبدو مرارًا مظلمة، يُشرف حدثُ التجلّي بنوره على صعود يسوع إلى أورشليم. على طريق المجد الذي يمرّ عبر الصليب.
د- حدث التجلي كما في يوحنا
إن حدث التجلّي ترك أثره في يو، في حدث مجيء اليونانيين إلى يسوع (يو 12: 20-32). بعد أن أعلن يسوع أن الساعة أتت حيث يتمجّد ابن الانسان، وأنَّ على تلاميذه أن يتبعوه في ذلّه وفي مجده، عبّر عن الخيار الذي وجد نفسه أمامه بدون تردّد: "حينئذ سُمع صوت من السماء يقول: لقد مجّدت وسأمجّد أيضًا". نحن نكتشف هنا الصوت السماوي ومجد التجلّي، كما نجد رباط هذا المقطع من يوحنا مع النزاع في جتسيماني. فالسياق الذي فيه أدرج التجلي من إنباء بمصير ابن الانسان، من تعليم للتلاميذ (والجمع حسب مر 34:8 ق يو 34:12)، من لافهم لدى التلاميذ، كل هذا نجده هنا في لوحة واحدة تعلّمنا الشيء الكثير: أوجز يوحنا الحدث في عبارة بسيطة: الصوت السماويّ الذي يعلن مجد يسوع.
ولا نستشفّ هذا المجد عبر وجه يسوع وثيابه، بل هو يعني اسم الآب. ولكن حين عاد هذا المجد إلى الآب بشكل مباشر، لم يعد محصورًا في برهة من الزمن، بل امتدّ في الماضي وفي الحاضر. لم نعد فقط أمام قمّة حياة يسوع، بل أمام مركز إشعاعه. ومعجزات يسوع بشكل خاص هي "آيات" نكتشف من خلالها أعمال الآب، تجلّي مجده. هذا ما يقوله مطلع الانجيل: "رأينا مجده" (يو 1-14) كما قال لوقا في خبر التجلي: "رأوا مجده" (32:9). حسب يوحنا لم يكن التلاميذ وحدهم مميّزين حين رأوا يسوع، بل يستطيع كل المؤمنين، بل ينبغي لهم أن يروا مجد يسوع عبر الأعمال التي عملها والأقوال التي قالها فيحقّق هكذا ما تقوله خاتمة المطلع: "هو أخبرنا عن الآب".
هـ- تأوين الحدث
نقرأ في 2 بط 1: 16-18 شهادة قد تكون سابقة للتدوين الاخير للرسالة. هي تستلهم الحدث الانجيليّ وتدلّ على الدور الدفاعي في حدث التجلّي: جاء المشهد في الجوهر دون التفاصيل: لا غمام، لا خيمة، لا وجود لموسى وإيليا. وجاء الصوت من السماء لا من الغمام. والجبل ليس أي جبل كان، بل الجبل المقدّس. ويشدّد الكاتب على مجد يسوع وكرامته. غير أنه لا يورد التوجيه القائل "اسمعوا له". فما أمر به الصوت السماويّ قد مارسه بطرس ساعة صار شاهد عيان لجلالة يسوع.
فإن كان بطرس قد أورد الحدث، فلكي يُسند تعليمه حول مجيء الربّ في نهاية الأزمنة، وهكذا يردّ على الذين يشكّون في هذا المجيء (2 بط 3: 4- 5). هو لم يرجع إلى الظهورات الفصحيّة كما فعل سائرُ الكتّاب، هو لم يرجع إلى الصعود الذي يُتوّج حياة يسوع على الأرض ويعلن عودته. لماذا اختار التجلّي؟ لأنه اعتبر أن الظهورات الفصحيّة والصعود ليست جزءًا من "خبرة" التلاميذ كما كان التجلي. فالصعود الذي عُرف في مبدأه في الخبرة، صار مجهولاً في نهايته، بعد أن جعل بين يسوع وتلاميذه هوّة لن تردم قبل نهاية الأزمنة. وقد أرادت الظهورات الفصحيّة التي تدل على تماهي القائم من الموت مع يسوع الناصريّ، أن تشير إلى حضور حقيقيّ لذاك الذي يمرّ في الموت. أما خبرة التجلّي فتعود بنا إلى حقبة تسبق موت يسوع، وتؤكّد في الوقت عينه حضوره في المجد. وهكذا يندرج الحدث في مسيرة تاريخية تستطيع أن تكون موضوع ما "عاشه" التلاميذ ورأوه بعيونهم. التجلّي هو هجمة المجد في عالم الشقاء. إنه يستبق زمن النهاية بشكل ملموس، ويؤكّد واقع هذه النهاية.
لم يورد بولس أبدًا حدث التجلّي. ولكن أضاء عليه مجد الربّ على طريق دمشق. وهذا المجد الذي هو على وجه المسيح ينعكس على وجهه. فحدث تاريخ يسوع قد "التهمه" حدثُ الفصح (في شكل من الاشكال)، ومجد الابن القائم منذ الازل. ولكن المسيحي هو الذي يؤوّن كل يوم تجلّي يسوع. هذا ما تدلّ عليه 2 كور. ففي ألفاظ تذكّرنا بخبر التجلّي، يدلّ بولس على الوحدة بين الألم والمجد، فيميّز تمييزًا تامًا بين طبيعة الايمان الفصحي وطبيعة خبرة المجد على الأرض. لا شكّ في أن جسد الشقاء سيتجلّى فيصبح مثل جسد المسيح الممجَّد في اليوم الأخير (فل 3: 21). ولكن بولس يؤكّد أن الرسول يعرف منذ الآن وفي جسده، وعبر ذلّ الوضع الرسوليّ، يعرف حقًا المجد في خبرة ليست خبرة الايمان. فالايمان الفصحيّ يتحدّد موقعه في ما وراء الموت. يُدرك يسوع الذي يحيا الآن ولم يعد للموت عليه من سلطان. أما الخبرة الرسوليّة فتعرف المجد ولكنها تعرفه عبر الذلّ.
وهكذا يلتقي برلس مع أقوالى الانجيليين الذين بيّنوا أن مجد التجلّي يتوجَّه إلى الذين يصعدون درب الصليب. فآلام هذه الحياة لا توازي المجد الذي سيكشف لنا يومًا. ولكن الرسول يكتشفه منذ الآن في جسده المائت (2 كور 4: 11، 17). إن الرسول هو على الأرض استباق لمجد السماء، وتجلي يسوع يتمّ فيه في كل أوان: "نعكس كما في مرآة وجه الرب، فنتحوّل إلى تلك الصورة بعينها المتزايدة في البهاء" (2 كور 3: 18).
غير أن هذا التأوين للتجلّي لا يأخذ كل معناه إلا إذا ارتبط ارتباطًا متواصلاً وواضحًا بحدث من الزمن الماضي. هكذا يصبح حدث التجلي النموذج الاول للخبرة الصوفيّة: يجتاح السرّ الفصحيّ قلبَ الزمن في توسّعه لا في نهايته. وإذ ننتظر أن يشعّ نورُ الفصح بدون نهاية وبدون ظلال، يبقى نور يسوع المتجلي مضيئاً للذين يسيرون نحو المجد السماوي. وعبر هذا الاستباق الخاطف للمجد النهائي، كما اختبره الرسل بشكل لا يضاهى، يعرف المؤمن أن السماء تعمل اليوم على الأرض، وأن المجد يمرّ عبر الصلب.

خاتمة
إن التجلّي يلقي ضوءًا على صعود ابن الانسان إلى أورشليم، ويتجدّد موقعه قبل ذلك الصعود في التقليد القبل إزائي. "يجب على ابن الانسان أن يذهب إلى أورشليم ويلقى أشدّ الآلام من الشيوخ والأحبار والكتبة ويُقتل ويقوم في اليوم الثالث" (16: 21). لقد أراد الله للتلاميذ الذين لا يستطيعون أن يفهموا الطريق الذي يريد أن يتبعه يسوع معلّمهم أن يستشفّوا المجد السرّي لابنه. وطلب منهم أن يسمعوا تعليمه. نحن هنا في إطار جليانيّ، كما في رؤيا. على جبل عال جدًا حيث تتّصل السماء بالأرض. مع موسى وإيليا. وهكذا اتّحد العهد القديم، بالعهد الجديد في مشهد واحد عاش منه التلاميذ فربطوا سيناء بالجبل الذي كان يسوع عليه. ويسوع الذي هو موسى الجديد بعالم الأنبياء الذين يحملون كلام الله إلى البشر. ولكن يسوع ليس فقط ذاك الذي يحمل كلمة الله. إنه كلمة الله بالذات. وإن أراد التلاميذ أن يسمعوا له يستطيعون. ولكنهم يستطيعون أن ينظروا إليه، فيتعلّموا منه ومن طريقة حياته كيف يكون السامع لكلام الله العامل بمشيئته.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM