الفصل الثلاثون: طعام شعب الله الجدي

الفصل الثلاثون
طعام شعب الله الجدي
15: 29- 39

كثّر يسوع الارغفة وأطعم خمسة آلاف ما عدا النساء والاولاد. وبقيت اثنتا عشرة سلّة تكفي المجموعات التي سيؤسّسها الرسل الاثنا عشر حتى نهاية العالم. بهذا أسّس يسوع الجماعة الكاملة من أجل نهاية الأزمنة. فما الحاجة بعد أن يقوم بمعجزة أخرى يطعم فيها أربعة آلاف ما عدا النساء والاولاد؟ في الواقع، كانت معجزة عظيمة جداً تأمَّل فيها المؤمنون بعد القيامة: تأمّل فيها الآتون من العالم اليهوديّ، فجاء تأمَّلهم مرتبطاً بالاثني عشر. وتأمّل فيها الآتون من العالم الوثنيّ فجاء تأمّلهم مرتبطاً بالسبعة (أع 6: 1 ي) الذين اختارهم الرسل، وأطلقوهم إلى المجموعات اليونانيّة. وهكذا بعد هاتين الخبرتين، تأسّس شعب الله الجديد، وتأمّن له طعام يقود إلى الحياة الابديّة.

1- نظرة عامّة
أ- اشفيّة على شاطىء بحر الجليل
نبدأ بالكلام عن حاشية تتحدّث عن أشفية على شاطئ بحر الجليل (آ 29- 31). ثم نعود إلى تكثير الأرغفة السبعة (آ 32-39). بعد خبر لقاء يسوع مع السوريّة الفينيقيّة، وضع مت هنا إجمالة تتحدّث عن نشاط شفائيّ قام به المسيح بشكل عام دون تحديد هويّة الاشخاص الذين شُفوا. كم نحن قريبون من الاجمالات التي توّزعت انجيل مرقس. هذه الايات (آ 29- 31) تبدو كمقدّمة لخبر المعجزة التي فيها كثّر يسوع الأرغفة السبعة وأطعم بها أربعة آلاف (آ 32- 39). ونودّ هنا أن نسوق الملاحظات التالية:
- إذا عدنا إلى تصميم الأخبار كما أوردتها الأناجيل الإزائية، نرى أن آ 29- 31 تقابل في مر خبر شفاء أصم أخرس (مر 7: 31-37). فنقول: إما أن مت ترك عمدًا خبر مرقس ولم يكيّفه وانجيله كما اعتاد أن يفعل؟ عند ذاك يجب أن نعرف لماذا فعل ما فعل. وإما أنه تبع نصاً سابقًا لمرقس. وإما أنه مستقل كل الاستقلال عن مرقس. هذه الفرضيات الثلاث تجد حتى الآن من يدافع عنها. ونحن نأخذ بالفرضية الأولى: ترك مت مر عمدًا.
- إذا عدنا إلى تصميم انجيل متّى، تبدو آ 29- 31 وكأنها تدخلنا إلى الخبر الثاني عن تكثير الخبز، وهو يتبع مباشرة هذه الايات (آ 32-39). ماذا فعل متّى؟ عاد بيسوع إلى الجليل، وجعله يتّصل مرة ثانية بالجموع التي أضاعت طريقها بعد أن جاءت من البعيد (من العالم الوثني). إنها تشكّل أيضًا شعبه الخاص. هذه الجموع الغفيرة ذُكرت في هذا المدخل (آ 30). وستُذكر مرّة أخرى في آ 32 حيث قالت يسوع: "إني مشفق على هذا الجمع فإنهم معي منذ ثلاثة أيام". فبعد القيامة، سيتعرّف العالم الوثنيّ إلى يسوع ويدخل هو أيضًا في الكنيسة أمّا الآن فنحن أمام الباكورة.
- إذا توّقفنا عند نظرة متّى، لا نستطيع أن نتخيّل خبر تكثير الأرغفة خارج حدود الشعب المختار، وبعيدًا عن جموع المرضى. لا شكّ في أن مت روى لقاءات شخصيّة ليسوع مع وثنيّين، مثل قائد المئة في كفرناحوم (8: 5- 13)، والسوريّة الفينيقيّة في نواحي صور وصيدا (15: 21-28). ولكنه لا يصوّر لنا المعلّم وقد تحرّكت أحشاؤه حين رأى شقاء الجموع في المدن الكبرى الموّزعة في فينيقيّة أو سوريّة. فالجموع التي نشاهدها في هذه المقطوعة "تمجّد إله اسرائيل" (آ 31). أيكون هذا عمل الوثنيين؟ كلا. وهنا نتذكّر ما فعله نعمان السوري الذي نال الشفاء على يد النبي أليشاع. قال: "علمت أن ليس في الأرض كلها إله إلاّ في اسرائيل" (2 مل 5: 15).
- هذا ما يدفعنا إلى القول، رغم الإطار الضيّق الذي سجننا فيه متّى، إن الخبر الثاني لتكثير الأرغفة قد حدث في العالم الوثنيّ. لهذا جعل الانجيليّ الأوّل خبر الأشفية يسبق الطعام العجائبيّ. وهكذا احتفلت الكنيسة الآتية من العالم الوثني بتأسيسها. فعل يسوع فيها ما فعله في أرض اسرائيل: شفى المرضى ثم أطعم الجموع. غير أن أولى كلمات مت تدلّ بوضوح على أن يسوع عاد إلى الجليل (ولماذا لا يكون جليل الأمم الذي فيه أطلق يسوع تلاميذه إلى العالم كله، 28: 16). غير أن هذه الملاحظة المتاويّة تلفت نظرنا، لا سيّما وأن النصّ الموازي في مر يجعل يسوع ينتقل إلى دكابوليس، إلى المدن العشر، إلى العالم الوثني.
- إذا قاربنا هذه الحاشية حول نشاط يسوع العجائبي العام من نصوص متاويّة أخرى مشابهة (4: 13؛ 4: 23- 25؛ 9: 35-36؛ 21: 14)، نفهم أننا أمام فئة من النصوص التدوينيّة. كتبها متّى ليذكّرنا بالطابع المستمرّ لنشاط يسوع. أو هو وجدها في مراجعه فأخذ بها. مع 23:4-25؛ 9: 35-36، أحاط بعظة الجبل التي هي شرعة الملكوت. ومع 15: 29- 31 دعى الجموع الوثنية للدخول في شعب الله الجديد.
ب- تكثير الأرغفة السبعة
أولاً: معجزة تكثير الأرغفة في الأناجيل
قدّمت لنا الأناجيل ستة أخبار عن تكثير الأرغفة (13:14- 21؛ 32:15-39؛ مر 30:6-44؛ 8: 1-10؛ لو 9: 10-17؛ يو 6: 1-13). نجد خبرين في كل من مت ومر. وخبرًا واحد في كل من لو ويو. هذا التنوّع الكبير يفهمنا أن الجماعات المسيحيّة الأولى اهتمّت اهتمامًا خاصًا بهذا الحدث من حياة يسوع. وما انزعجت حين قرأت نسختين عند كل من مت ومر، وإن كانت الاختلافات كبيرة بين نسخة وأخرى. أما لوقا فدلّ مرّة أخرى على اهتمامه بخبر منسّق (1: 3)، فتحاشى ما اعتبره تكرارًا في مت ومر، وقدّم نصاً وازى مر 6: 30-44. ماذا يقول الشرّاح في هذه الروايات الست عن تكثير الخبز. هناك سبعة اتجاهات.
- التفسير العقلاني. نجده خصوصًا عند رينان الفرنسي: اعتزل يسوع في البريّة، فتبعه إلى هناك عدد كبير من الناس. عاشوا في التقشّف، ومع ذلك لم يموتوا جوعًا. فمن الطبيعيّ أن يروا في هذا الوضع معجزة. وقال آخرون في الخطّ عينه: تقاسم يسوع والتلاميذ زادهم، فاجتذب مثالُهم الجمعَ، ففعل مثلهم.
- التفسير الميتولوجيّ: هذا الخبر هو تضخيم أسطوري لما نقرأ في 2 مل 4: 42-44. أما الهدف فهو تصوير سلطة يسوع العجائبية. وقالت بولتمان الشيء عينه دون أن يربط الخبر بالعهد القديم.
- التفسير الرمزيّ: هذا الخبر هو تمثّل رمزيّ لتعليم يسوع للجموع. علّمهم المقاسمة، فاخترع خبرًا يدلّ على هذه المقاسمة. فكأننا أمام مثَل من الامثال (لوازي).
- التفسير الجلياني (أو: الرؤيوي): إن يسوع أعطى تلاميذه طعامًا مسبقًا عن الوليمة المسيحانيّة في الملكوت الآتي.
- التفسير الاجتماعي: ساعد يسوع البشر في شقائهم الطبيعي، وطلب من الكنيسة أن تفعل مثله. إن يسوع قد أعلن بهذه الفعلة أنه سيأتي يوم لن يبقى على الأرض أناس جياع.
- التفسير الافخارستي: حين كثّر يسوع الأرغفة، هيّأ تلاميذه ليؤمنوا يوماً أن جسده ودمه سيوزَّعان على المؤمنين في شكل الخبز. في هذا الخط قال الآب بنوا في بيبليا أورشليم: "إن لم يكن هذا الخبر بعدُ الافخارستيا، فهو صورة عنها واستعداد". هذا ما قاله آباء الكنيسة، واعتقد به الانجيليّون أنفسهم. هنا نستطيع أن نقابل الالفاظ التي تصوّر هذا التوزيع الاحتفالي للخبز مع ألفاظ العشاء الأخير (26: 26). ونقرأ يو 6 الذي يربط بهذه المعجزة الخطبة حول خبز الحياة.
- التفسير الكنسي: يركّز على شخص المسيح، راعي إسرائيل الحقيقيّ، الذي يجمع شعب الله الذي تشتّت وكاد أن يضيع.
ثانيًا: مت 15: 32-39
في هذا النصّ نرى يسوع يستقبل أربعة آلاف ويطعمهم (رج مر 8: 1- 10). فإذا قابلنا هذا النصّ مع 13:14- 21 (= مر 8: 1-10)، نراه يشدّد على جوع الجموع كما يفعل مر 2:8-3. يبدو أن مت يتبع مر، ولكنه يحسّن كعادته صياغة النصّ: ذكر السمك في آ 34، وكسر الخبز في آ 36. أما عند مر الذي ذكر السمكات متأخّرًا، فأجبر على الحديث عن مباركة ثانية وتوزيع ثان (مر 7:8: باركها وأمر أن تقدّم). لا شكّ في أن مت تبع مر، ولكنه حوّل الخبر تحويلاً جوهريًا، فحسَّنه على المستوى الاخباري.
نلاحظ أن مت يذكر السمك مع الخبز، وهذا ما لا نجده في نصّ مر الموازي، ولا تفرضه الممارسة الافخارستيّة في أيامه. لا شكّ في أن الخبر الأول (14: 13- 21) قد أثرّ على الخبر الثاني (15: 32-39). أي الخبرين أقدم؟ أما بولتمان فيرى في الخبر الثاني نسخة ثانوية مختلفة عن الخبر الأول. وذلك لثلاثة أسباب. الاول: يبدأ الخبر بمبادرة من يسوع (هذه المسيرة تجعل يسوع العامل الرئيسي في الحدث). الثاني: حلّ محلّ الشكل السردّي (تحنّن عليهم في صيغة المجهول، مر 6: 34)، عبارة في أسلوب مباشر (أنا أتحنن، مت 15: 32). الثالث: إن طلب التلاميذ في مر 36:6 (إصرفهم لكي يذهبوا إلى الضياع) قد تحوّل إلى تفكير شخصيّ لدى يسوع (مر 8: 3: إن أنا صرفتهم).
مثل هذه البراهين تساعدنا على تحليل النصوص واكتشاف خصائصها. ولكنها لا تتيح لنا أن نحدّد الزمن الذي دوّنت فيه، لأننا لا نكتشف مقطعًا لا يكون فيه يسوع السيّد غير المنازع في الطعام. إذن، تبدو الاخبار الانجيليّة الستة حول تكثير الأرغفة، تدوينات فقاهيّة تجعل السامع (أو: القارئ) أمام سرّ المسيح الذي رتّب "المائدة" ترتيبًا لا يجاريه فيه أحد. تجاه هذا الواقع الاساسيّ، تبدو الاختلافات التدوينيّة بسيطة نسبيًا. وإذ نقرأ هذه المقطوعة، سنحاول أن نكتشف تطوّرًا حقيقيًا في النظرات الكرستولوجيّة.

2- الدراسة التفصيليّة
أ- البنية
نستطيع أن نقابل هذا المقطع مع 14: 13- 21 الذي يحدّثنا أيضًا عن إطعام الجمع. غير أننا نجد هنا ثلاثة أقسام رئيسية: مقدّمة تحدّد موقع المشهد (15: 29- 31؛ رج 13:14-14: في كلا الموضعين يدلّ يسوع على شفقته فيشفي المرضى). حوار بين يسوع والتلاميذ (15: 32-44؛ رج 14: 15-18). المعجزة في حدّ ذاتها. وهي تتضمن ثلاثة أمور: توزيع الخبز (15: 36؛ رج 14: 19). نتيجة هذا التوزيع: أكل الجمع وشبع (15: 37 أ؛ رج 14: 20 أ ب). ملاحظة حول ما بقي مع عدد الآكلين (37:15 ب-38؛ رج 20:14ج-21).
ب- المراجع
إن المقدّمة إلى خبر إطعام الاربعة الآلاف (آ 29-31) هي عمل تدوينيّ وإحدى المقطوعتين في 13: 53-17: 27 التي لا تعود إلى مرقس (الثانية هي 17: 24-27، يسوع يدفع الضريبة). أما في مكانها في مر، بين خبر السورية الفينيقيّة ومعجزة الخبز، فنجد مر 7: 31-37 الذي يتحدّث عن شفاء الأصمّ والابكم. لماذا ألغى مت هذا الخبر؟ لأنه يتجنَّب كل ما يُشتمّ منه رائحة "سحر". كما أنه لم يهتمّ، شأنه شأن مر، بالسرّ المسيحانيّ (رج 8: 4). وهو لا يفرح بأن يرى يسوع "يتنهّد" أو يُعصى أمرُه. ولماذا يُدخل حاشية في سفَر طويل لم يحدث خلاله شيء؟ بالاضافة إلى ذلك، حين قدّم مت إجمالة عن الشفاء بين إيمان الكنعانية وتكثير الأرغفة بدلاً من خبر شفاء شخص واحد، فقد أبرز التوازي بين خبرَي تكثير الأرغفة. فالمقدمة هنا (29:15-31) تشبه المقدّمة إلى الخبر الأول (14: 13-14: شفى مرضاهم).
مع أن مت أغفل مر 7: 31- 37، إلاّ أنه تأثّر به في مت 15: 29- 31. فألفاظ مر هي ألفاظ مت. ثم إن الوصول إلى بحر الجليل، وحمل المرضى إلى يسوع (أو حمل مريض) وشفاء الاصم الاخرس أو شفاء الخرس، وتعجّب الجموع أو هتافها، كل هذا يشكّل عناصر مشتركة بين مت 29:15- 31 ومر 7: 31- 37.
أما آ 32-39 التي تورد خبر المعجزة، فهي ترتبط فقط بنصّ مر 8: 1- 10. نقول كل هذا في فرضيّة المرجعين في إطار النظريّة الإزائية، وفي القول بأن مر سابق لمتّى. ثم إن خبري مت قريبان الواحد من الآخر أكثر ممّا نجد في مر. فبما أن مر هو السابق، سنجد لماذا قام بهذا التبديل أو ذاك. ولكن إن كان مت هو الأقدم، عند ذاك نتساءل لماذا خفّف مر من التشابه بين الخبر الأول (6: 32- 44) والخبر الثاني (8: 1- 10).
ج- التأويل
إن مدلول مت 15: 29-39 (معجزة عطاء) هو في درجة كبرى مدلول 14: 13- 21. يتحدّث الخبر أولاً عن شفقة يسوع بحيث أمّن الزاد للجموع من عنده. وفي الوقت عينه، يشير الخبر إلى الافخارستيا والوليمة الاسكاتولوجيّة. فقد يكون هذا الخبر قد توخّى أن يقدّم يسوع كالنبيّ الاسكاتولوجيّ الآتي في ملء الزمان. أما الفرق الأهم بين الخبرين، فهو أن الثاني توخّى أن يعبر عن اعتقاده بأن مجيء يسوع بدأ يُتمّ المواعيد الاسكاتولوجيّة التي جعلها التقليد اليهوديّ على جبل صهيون.
رغم التشابهات العديدة بين الخبرين (هذا ما شدّد عليه متّى)، وتداخل معنى الأول في معنى الثاني، هناك اختلافات عديدة هامّة بين المعجزتين أقلّه في التفاصيل. (1) وحده الخبر الثاني يتمّ على الجبل. (2) في الخبر الأول جاءت كلمات التلاميذ تدعو يسوع إلى اجتراح المعجزة. في الثاني، تعود المبادرة كلُّها إلى يسوع (رج يو 6: 5). (3) لا تظهر التلميحات إلى 2 مل 4: 42-44 بوضوح في الخبر الثاني كما في الخبر الاول (إطار يهوديّ. اذن عودة إلى التوراة). (4) في ف 15 قيل لنا فقط إن الجمع ظلّ مع يسوع ثلاثة أيام. (5) اختلفت كلمات البركة بين نص وآخر. "اوخارستيساس، إكلاسن" (شكر وكسر) في 36:15 هي قريبة من العبارة التقليدية التي نقرأها في لو 17:22؛ 1 كور 11: 24 (لهذا اعتبر بعض الشرّاح أن الخبر الأول تأثّر بتقليد مت ومر، والخبر الثاني بتقليد لوقا وبولس). بينما "اولوغيسان كاي كلاساس" (بارك وكسر) في 14-19 هي أقرب إلى كلمات التأسيس في مت 26: 26= مر 4: 22. (6) في 19:14 فقط، رفع يسوع عينيه إلى السماء. (7) اختلفت الأعداد: في 14: 13- 21، كان مع التلاميذ 5 خبزات وسمكتان (إذا جمعنا الاثنين نكون أمام الرقم 7. رقم الكمال). ملأوا 12 قفة. وعدد الآكلين كان 5000. أما في 15: 29-38، فكان مع التلاميذ 7 خبزات وقليل من السمك. وملأوا سبع سلال، وعدد الآكلين 4000 ما عدا النساء والاولاد. (8) الكلمة التي دلتّ على "القفة" (أو: السلّة) هي في 14: 20 "كوفينوس" (ما يقابل القفة). وفي 15: 37: "سبيريس" (سلّة) كل هذه الاختلافات ما عدا الأول تعود الى التقليد (= مرقس) وشارك مت بعض الشيء في هذا المجال.
أما التبديلات الكبرى التي أدخلها الانجيل الأول على مر 8: 1-10 فنوجزها في أربعة. (1) أبرز التوازي بين المعجزتين (رج 34، 36، 37، 38). (2) استغنى عن بعض التفاصيل غير المفيدة فأوجز النصّ كله (آ 32، 33، 36). (3) أعاد النظر في النصّ وحسّنه (آ 34، 39). (4) جعل مقدّمة للخبر تفترق عن مقدمة مرقس (7: 31-37). تحدّث عن عمل يسوع حين شفى العديد من المرضى.
وعاد الشرّاح إلى اوغسطينس وهيلاريوس، فرأوا أن الجمع في المعجزة الاولى يهودي، وفي الثانية وثنيّ. جعل مر 8: 1 موضع المعجزة في دكابوليس، المدن العشر. في الخبر الاول هناك خمس خبزات و 12 قفة (أسفار الشريعة الخمسة، الاسباط الاثنا عشر). في الخبر الثاني 7 سمكات، 7 سلالة: ارتباط مع الوثنيّين (سبع وصايا في نوح، الخدّام السبعة في أع 6). العدد 4000 هو 1000 (رقم كبير جدًا) × 4 (أقطار العالم الاربعة). أما العدد 5000 (50× 100) فيدلّ على "شعب الله في نهاية الأزمنة". في مت 15: 29، ذُكر بحر الجليل ولم يذكر مرّة ثانية في الانجيل الأول إلاّ في 18:4 مع مقطع عن الجليل، جليل (أرض) الأمم. بعد إطعام الخمسة آلاف، جمعت الكسر في "قفة" (كوفينوس) وهي لفظة ترتبط بالعالم اليهوديّ (14: 20). وفي 15: 37 استعملت لفظة أخرى. وأخيرًا وبعد الخبر الثاني فقط، هتف الجمع ومجّد "إله اسرائيل" (هذا ما يدلّ على أن المتكلِّم ليس بيهوديّ). وهكذا أطعم يسوع اليهود أولاً ثم الأمم (رج مر 7: 7): دعي البنين أولاً يشبعون.
ماذا نقول في هذه الملاحظات التي انطلقت من الآباء؟ قد توافق نصّ مرقس. أما بالنظر إلى مت فنقول. (1) لا يقول متّى إن يسوع هو في دكابوليس. (2) هناك نقاش حول معنى الارقام. (3) لا شيء يساعدنا على وصف بحر الجليل بهذه الصورة. (4) المدلول الحقيقيّ للفظة "كوفينوس" و "سبيريس" غير معروف بالضبط. (5) عبارة "إله اسرائيل" نجدها أيضًا في التقليد البيبلي على شفة اليهود. (6) إن مت يسمي الأمم دومًا "هوي اوخلوي" وحين عاد إلى مر أبعد مسيرة يسوع عن أرض غير يهوديّة (وثنيّة) (ق 15: 29 مع مر 8: 1). (7) وإن نمطيّة صهيون تكون أكثر تعبيرًا إذا كان الجمع الذي أطعمه يسوع في المرّة الثانية هو يهوديّ أيضًا (رج 15: 29). وخلاصة الكلام إن يسوع في 15: 29-39 يتابع رسالته وسط الخراف الضالّة من بيت اسرائيل.
موقفان متعارضان. ونحن نميل إلى الموقف الأول الذي يمكن أن يُنتقد، لأننا في هذا المجال لن نجد شيئًا يحمل اليقين كلّه. ويبقى موضوع أخير هو التشابهات بين الخبرين. هناك ثلاثة تفاسير ممكنة. حدثان متشابهان وقعا في ما قبل الفصح. هناك حدث واحد كُتب في تقليدين. كرّر مر خبرًا وجده في مرجع واحد أو أكثر من مرجع. أكثرُ الشرّاح يأخذون بالموقف الثاني أو الثالث. هناك تكرارات عديدة في الكتاب المقدس مثلاً (السلوى في خر 16 وعد 011 المياه من الصخر في خر 17 وعد 20. خبر جليات في 1 صم 17 و2 صم 21...). أما بالنسبة إلى الانجيل، فالخبران سُردا في الطريقة عينها. نجد في يو 6: 1-15 تشابهًا مع الخبرين. ثم إن المعجزتين جاءتا في متتاليتين متوازيتين. وهناك سؤال التلاميذ الذي يتكرّر من خبر إلى خبر. بعد أن شهدوا ما فعله يسوع في الخبر الاول، كيف يتجاسرون أن يسألوا بعد؟

3- تفسير الايات
أ- مقدّمة الخبر (آ 29- 31)
أولاً: جبل سيناء وجبل صهيون (آ 29)
"وانتقل يسوع من هناك" (آ 29). ق مر 7: 31 الذي يلي خبر المرأة السوّرية الفينيقيّة "ماتاباينو+ اكايتن" (انتقل من هناك). ترد ثلاث مرات في مت (11: 1؛ 9:12) ولا ترد أبدًا عند لو ومر. بحر الجليل (رج 18:4). عادت العبارة إلى مر 7: 31. "وصعد إلى الجبل". ق 5: 1-2؛ 14: 23؛ 23: 2. "ماتاباس" (انطلق)، "اناباس" (صعد): الانطلاق والوصول إلى الموضع. هناك من افترض أن هذه المعجزة حصلت بعد عظة الجبل.
هناك سؤالان مهمّان حول آ 29 ب. أولاً. علاقتها مع يو 6: 3 (صعد يسوع إلى الجبل وجلس مع تلاميذه). الخبر هو هو (صعد الى الجبل)، وكذلك الألفاظ، والسياق هو هو: الاشفية التي يجترحها يسوع. ماذا نقول؟ مصادفة، أم عاد يو إلى مت، أم هو استعمال مستقلّ لتقليد مشترك (رج مت 14: 14 ولو 9: 11، لا إشارة إلى الشفاء في مر 6: 30-44؛ 8: 1-10). قد نأخذ بالتقليد المشترك. أمّا لماذا تحدّث متّى عن الجبل؟ لكي يربط عمل يسوع مع
الرجاء الاسكاتولوجي المركّز على جبل صهيون. إذن، متّى هو الذي اهتمّ بالاشارة إلى الجبل. والحقيقة ذاتها تنتطبق على يو 6. أراد أن يصوّر يسوع على أنه موسى الجديد (ونقول الشيء نفسه عن مت). أيكون أن مت ويو أخذا من مر أو من تقليد استقى منه مرقس دون أن يشدّدا على مفهوم الجبل؟ ربّما.
والسؤال الثاني حول آ 29، هو خلفيّته البيبلية أو اليهوديّة. إن الجبل في هذه المقطوعة هو موضع التجمّع والشفاء والغذاء. ثم إن الخبر الذي يلي يستبق الوليمة المسيحانيّة. بينما آ 30- 31 تشيران إلى أش 35: 5-6 (حينئذ تتفتّح عيون العميان...) وتستعيدان مت 11: 5 (وهكذا يربطنا السياق الواسع بالتتمة الاسكاتولوجيّة). كل هذا يشير إلى جبل صهيون كنمط ينظر إليه المؤمنون. فصهيون هي في الانتظار اليهوديّ، الموضع الاسكاتولوجيّ الذي فيه يجتمع اسرائيل المشتّت (رج إر 3: 10-12؛ حز 34: 14)، وموضع الشفاء (أش 35: 5-6؛ إر 8:31؛ مي 4: 6-7)، وموضع العيد المسيحانيّ (أش 6:25-10؛ إر 31: 12- 14، حز 26:34-27). ثم نلاحظ أنه إن كان من تلميح إلى أش 35: 5-6، ومت 14: 30- 31 فهذا المقطع التوراتيّ هو جزء من حجّ اسرائيل إلى جبل صهيون. وهكذا تكون جميع عناصر النصّ حاضرة: الجموع الملتئمة، شفاء العرج والشل والعمي والخرس. التلميح إلى أش 35: 5-6، وعيد العطاء الوافر، ونشاط "إله اسرائيل" الاسكاتولوجيّ، والجبل، كل هذه العناصر ترتبط بجبل صهيون. جمع مت هذه العناصر في حدث يوافق بشكله نمط صهيون الاسكاتولوجيّ. جمع الخراف الضالّة من اسرائيل على الجبل حيث يشفي مسيح إله اسرائيل مرضاهم، ويعطيهم الغذاء الوافر. أما قلب هذه الصورة، فقد تبدلّ لأن حضور المسيح هو الذي يعطي الحدث أساسه الاسكاتولوجيّ، لا إعادة بناء الهيكل. ومع ذلك، فتأثير اسكاتولوجيّة صهيون واضحة في الطريقة التي بها بنى متّى آ 29- 31.
ولكن يُطرح سؤال حول "اوروس" (الجبل). كيف نربط ذلك بجبل صهيون، ساعة تكون خلفيّة نصوص أخرى (5: 1-2؛ 14: 23، 17: 1) هي جبل سيناء (هذا ما نجده أيضًا في النصوص الرابينيّة مثل شرح خر 18:20)؟ الجواب نجده في مز 68 (في المدراش علاقة مع جبل سيناء وجبل موريا أي جبل صهيون)، حيث يمتزج سيناء مع صهيون (رج ترجوم نيوفيتي في خر 4: 27 حيث حوريب= سيناء، هو لقب صهيون: جبل مقدس الرب). ونقرأ في أش 2: 2-3 أن الشريعة تخرج من صهيون. هنا يلعب جبل صهيون وظيفة سيناء الاسكاتولوجيّة، الذي هو جبل الشريعة. وهكذا جمع مت صهيون مع سيناء. فدلّ على يسوع كموسى الجديد الذي فيه تتمّ المواعيد المعطاة لصهيون. وهكذا انطلق من التقليد اليهوديّ وأعطاه بُعدًا مسيحاويًا.
ثانيًا: شفاء المرضى وإعجاب الجموع (آ 30- 31)
"فأقبل عليه جموع غفيرة معهم عرج وشلّ..." (آ 30). لن نتوقّف هنا عند التقليد النصوصي مع اختلافات عديدة في المخطوطات. هناك أربع فئات من المرضى. نجد ثلاث فئات في مت: العميان (27:9 ي؛ 11: 5؛ 12: 22؛ 20: 30؛ 21: 14). العرج (11: 5؛ 21: 14). الخرس والصم (9: 32 ي؛ 11: 5؛ 12: 22). "ألقوهم عند قدميه" (مثل تلاميذ). رج أش 52: 7 حول أقدام المبشريّن، حاملي "الانجيل". "فشفاهم"، رج 4: 24؛ 12: 15 (شفاهم جميعًا)؛ 19: 2 (هناك)؛ 21: 14. قول عام ومطلق. ق 14: 14 (شفى مرضاهم) كمدخل إلى إطعام الخمسة آلاف.
"فتعجّب الجموع" (آ 31). ق 27:8؛ 33:9؛ 27: 14. "حين رأوا الخرس يتكلّمون...". ق 11: 5؛ أش 35: 5-6. وشرح خر 18:20 حيث يقال أنه لن يوجد على جبل سيناء أعمى ولا أخرس ولا أصمّ ولا أعرج. نقرأ في مر 37:7: "فتعجبّ الناس اعجابًا كبيرًا، وقالوا: لقد أحسن في كل ما صنع. إنه يجعل الصمّ يسمعون". "ومجّدوا إله اسرائيل". رج 9: 8 (ومجّدوا الله). إن عبارة "إله اسرائيل" (لا ترد إلا هنا في مت) هي لقب معروف يتكرّر في أسفار التوراة وما يستلهمها. مثلاً، خر 5: 1؛ 1 مل 1: 48؛ 1 أخ 16: 36، مز 41: 13؛ 59: 5؛ 68: 35؛ 6:69... يرد هذا النداء في اطار ليتورجيّ.
ب- حوار بين يسوع والتلاميذ (آ 32-34)
"أما يسوع". وهكذا نعود إلى مر 8: 1 أ: "وفي تلك الأيام إذ كان الجمع غفيرًا ولم يكن لهم ما يأكلون". ترك مت هذه المقدّمة، وبدأ الحوار حالاً مستندًا إلى آ 29- 31. "دعا تلاميذه" (مع الضمير). نلاحظ هنا كما في يو 6: 5 أن المشهد يبدأ مع كلام يسوع (ق مت 14: 15 ومر 6: 35 حيث يتدّخل التلاميذ). "أُشفق على هذا الجمع". رج مر 8: 2 أ. هذا الفعل نجده في مت 9: 36 وفي أول خبر عن تكثير الأرغفة (14: 14= مر 6: 34). في مر 8: 1- 2، هناك تبدلّ في الحاضرين وفي الزمن (الساعة تقدّمت). فالجموع في مر 7: 31-37 وفي 8: 1-10 قد تبدّلت. أما في مت، فالجمع الجائع هو ذاك الذي حمل مرضاه إلى يسوع.
"هم معي منذ ثلاثة أيام". رج مر 8: 2 ب. ونشدّد على عبارة "ثلاثة أيام". تدلّ في التقليد البيبليّ على الضيق الذي بعده يحمل الله العون والخلاص (16: 21). على كل حال، الوضع ملحّ. وذلك منذ ثلاثة أيام. من بقي في يده زاد؟ قد تخور قواهم في الطريق. "إن تي هودو" (ب. درك). نجد هذه العبارة في مر 3:8؛ 9:27: 33، 34؛ 10: 52. رج مت (قد يكون أخذها عن مر) 5: 25؛ 15: 32؛ 21: 8 مرتين؛ 21: 32. قد يكون لها مدلول رمزي أو لا. أما هنا فليس لها إلاّ مدلول واقعيّ.
"فقال له التلاميذ" (آ 33). نجد تصالبًا في آ 32-34. قال يسوع (آ 32). قال له تلاميذه (آ 33). قال لهم يسوع (آ 34 أ). قال له التلاميذ (آ 34 ب). "من أين لنا خبز"؟ رج مر 8: 4؛ يو 6: 5. في القفر (في الصحراء) على مثال الشعب مع موسى. وسيفعل يسوع، موسى الجديد، ما فعله الأول حين أطعم شعبه المنّ. التلاميذ وحدهم لا يستطيعون. أما يسوع فيستطيع. وهناك مسؤوليتهم في إعطاء الجمع خبزاً كما أمرهم يسوع. نشير إلى أن القفر يقابل المدينة. إذن، ليس من قرى قريبة يستطيع الناس أن يذهبوا إليها ليأكلوا.
فقال لهم يسوع: "كم رغيفًا عندكم" (آ 34). رج مر 8: 5. في مت، لا يطرح يسوع السؤال. فهو يعرف. "سبعة ويسير من صغير السمك". نقرأ في مر 8: 5 فقط: "سبعة" (أرغفة). وهكذا زيد السمك. ق 36:15 الذي يختلف عن مر 8: 6. قد يكون أساس الاضافة في مر 8: 7 (وكان معهم أيضًا يسير من صغار السمك). نقرأ "اختيديون" (سمك صغير) مرتين فقط في العهد الجديد. في مت 15: 34 ومر 7:8. هي تصغير "اختيس" (سمك). هكذا دلّ التلاميذ على أن ما معهم لا يساوي شيئًا تقريبًا.
ج- المعجزة (آ 35- 39)
هناك مباركة الخبز وتوزيعه (آ 36)، وشبعُ الجموع (آ 37 أ)، وجمعُ الكسر التي فضلت (آ 37 ب-38). بدأ يسوع فأجلس الجموع (آ 35). وفي النهاية "صرف الجموع" (آ 39). نحن مع تضمين حول لفظة "الجموع".
"أمر الجمع أن يتّكئوا" (آ 35). اعتاد المسيحيون الأولون أن يتقبّلوا الافخارستيا وهم واقفون. ولكن يبدو أن التلاميذ كانوا جالسين في العشاء الأخير (26: 20؛ مر 14: 18؛ لو 22: 14؛ يو 13: 4). "اناببتو" (هنا في مت. يرد ست مرات في السبعينيّة، اتكّأ). يُستعمل هذا الفعل أيضًا في مر 6: 40 ويو 6: 10. وهو يعني: جلس للطعام. نتذكر عبارة في التلمود: "حين يهيّئون له الطعام، يجلس الشعب على الأرض".
"أخذ السبعة الأرغفة والسمك". ترك مر لفظة السمك. رج مت 14: 19. وشكر. رج ما قلنا في التأويل وارتباط هذا النصّ بإطار لوقاوي (في العالم الوثني). أعطى يسوع التلاميذ، والتلاميذ أعطوا الجموع. نحن هنا في جوّ الافخارستيا حيث يوزّع التلاميذُ الطعام.
"فأكلوا جميعهم وشبعوا" (آ 37). رج 14: 20= مر 6: 42. زاد مت "جميعهم". أجل خبز الرب هو من أجل الجميع، ولا يُستبعد عند أحد. "ورفعوا ما فضل من الكسر". لسنا هنا أمام الفتات، بل أمام خبز كُسر وهُيّئ من أجل الذين سيأتون فيما بعد. "وكان الآكلون" (آ 38). ق مر 8: 9 (نحو أربعة آلاف). رج مت 14: 21 وقد تكرّر النصّ هنا في 15: 38.
"وبعد أن صرف الجموع صعد إلى السفينة". ق 14: 22 وبنية العبارة في 5: 1؛ مر 8: 9-10. "ذهب إلى تخوم مغدان" (هناك اختلافات تقول: مغدلة او مجدل). قال مر 8: 10: "منطقة دلمانوتا (مع اختلاف في المخطوطات: ملاغادة، مغايدا، مغيدا). ترد، "مغدان" هنا فقط في كل الكتاب المقدس. وكذا نقول عن دلمانوتا في إنجيل مرقس. لا نستطيع أن نحدّد موقع مغدان. قد تكون قرب شاطىء بحر الجليل. قد نكون هنا أمام اسمين مختلفين لقرية صغيرة تقع على شاطئ بحر الجليل.

4- الوجهة اللاهوتيّة والروحيّة
اقترب الجمع مع مرضاه من يسوع. ودلّت عبارة "وآخرون كثيرون" على أن النصّ يريد أن يشدّد على العدد الكبير من المرضى وعلى خطورة أمراضهم، لا على نوعيّة هذه الأمراض. فنحن نرى في هذه اللائحة ثلاثة أمراض دلّت منذ زمان بعيد على ضيق الشعب الذي ينتظر مخلّصاً: العرج، العميان، الصمّ (أش 35: 5-6). وإذا كانت الجموع قد مجّدت إله اسرائيل، فقد دلّت على أنها عرفته ونسبت إليه المعجزات التي اجترحها يسوع. وقد تكون هذه الجموعُ الأمّم الوثنيّة التي اكتشفت إله اسرائيل في نشاط يسوع، كما اكتشف نعمان السوري إله اسرائيل في أليشاع الذي شفاه.
وجمع يسوع تلاميذه ليُسمعهم أنينه وحبّه من أجل هذا الجمع. ونلاحظ أن يسوع في مت، يحاول أن يشرك تلاميذه في همومه، لأنهم مسؤولون معه. ولا يتأسّف يسوع فقط على جوع ماديّ يصيب الناس الذين يحيطون به. بل هو يتطلّع بالاحرى إلى جوع مسيحانيّ. لقد ظلّت هذه الجموع ثلاثة أيام دون أن تأكل، لأنها فضّلت أن تبقى مع يسوع الذي استشفّت فيه ذاك الذي يجمع في نهاية الأزمنة قبائل اسرائيل المشتّتة.
قالت يسوع في آ 32: لا أريد (او تالو). عبارة خاصّة بمتّى (7: 12؛ 11: 14؛ 3:22؛ 23: 4، 37)، وهي تشدّد على سلطان يسوع الذي يتمّ في الحنان والمحبّة. ليس يسوع شخصًا يحرّك الجموع ويزرع الاضطراب. هو لا "يستعمل" الناس لأغراضه الخاصة، بل يستقبلهم، يجمعهم، يُطعمهم.
ونرى هنا أنه ليس التلاميذ هم الذين قلقوا من أجل الجموع، بل يسوع نفسه: ليس لهم شيء يعطونه للناس. بل لم يتخيّلوا ثانية واحدة أن يسوع يستطيع أن يخرجهم من هذا المأزق. ولكن يسوع فعل مرّة أولى في إطار العالم اليهوديّ مع خمسة أرغفة وسمكتين. وها هو يفعل في العالم الوثنيّ مع سبعة أرغفة وبضع سمكات صغيرات. أمر الجموع فجلست. وقدّم لها الطعام.
حين نقرأ خبر تكثير الأرغفة، نرى أن الانجيل لم يصوّره، بل أشار إليه بحركة سريعة. فالكاتب لا يريد أن يشدّد على تكثير الأرغفة بقدر ما يشدّد على جمع كل الشعب مع يسوع لكي يشبعه. يشبعه من طعام ماديّ، ويفتحه على عالم اسكاتولوجي. وبعد هذا العمل الذي حاول أن "يخفي" سلطة يسوع المسيحانيّة، قطع الربّ كل اتصال مع الناس لكي يتجنّب "ثورة" دينية ووطنيّة. هذا ما أشار إليه يوحنا حين قال بعد تكثير الارغفة: "وإذ علم يسوع أنهم عازمون أن يأتوا ويختطفوه ليقيموه ملكًا، اعتزل في الجليل وحده" (يو 15:6).

خاتمة
خبر ثان لتكثير الارغفة بعد خبر أول. وهو يشدّد تشديدًا خاصًا على حنان يسوع، وعلى جوع الجموع. لا شكّ هي الجموع الوثنيّة الجائعة إلى الخبز، بل إلى كلام الله كما يقول النبيّ ميخا. اتّخذ يسوع المبادرة ولم ينتظر الرسل. فهل لهم أن يتحرّكوا وهم "مسجونون" داخل عالم يهوديّ يتحاشى الاتّصال بالعالم الوثنيّ. التلاميذ أضعف من أن يعطوا طعامًا. ولكن ما هو مستحيل عليهم، غير مستحيل على يسوع. أجلسوا الجموع، فأجلسوها. وأعطي الخبز. وكان ذكر السمك مرّتين ونحن في محيط هلنستي اتّخذ من السمكة رمزًا للتعارف بين المسيحيّين وهي تعني: "يسوع المسيح ابن الله المخلّص". وهكذا انطلق مت، كما فعل قبله مر، من خبر واحد، فقرأه في إطار يهوديّ ثم في إطار وثنيّ بحيث وصل خبز الحياة إلى جميع البشر. ففي المسيح ليس يهوديّ ولا أمميّ، بل جميعهم واحد بعد أن نالوا العماد الواحد.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM