الفصل التاسع والعشرون: المرأة الكنعانية

 

الفصل التاسع والعشرون
المرأة الكنعانية
15: 21- 28

كان موضوع المقطوعات الثلاث السابقة (مت 15: 1- 20) تصرّف التلاميذ (الذين يتعدّون تقليد الشيوخ، آ 2). أما هذه المقطوعة فمن الواضح أنها تتركّز على تصرّف يسوع، على مثال خبر قائد المئة (في كفرناحوم، 8: 5-13) الذي نقرِّبه من هذا الخبر. ففي الحالتين، يتّصل يسوع بالعالم الوثني الذي كان مفصولاً عن العالم اليهودي بعدد من التقاليد والفرائض. يذكّرنا هذا النصّ من خلال تصرّف يسوع أننا أمام سؤال خطير يُطرح على كنيسة متّى في السنوات الثمانين. فأقوال يسوع وأفعاله تُروى لكي توجّه الجماعات المسيحيّة في خياراتها التاريخيّة، لا لتغذّي ذكريات عاطفيّة عن يسوع. في هذا المنظار نستخلص معنى هذا الخبر العميق: لا يحقّ للوثنيين الدخول المباشر إلى الخلاص (إلى الكنيسة، إلى الملكوت). ولكن إن آمنوا كما آمنت هذه المرأة، لن يمنعوا بعد ذلك.
هذا ما نكتشفه في خبر المرأة الكنعانيّة التي أعطاها يسوع "ما تريد" (آ 28). بعد أن ندرس سياق الخبر، نحلّل النصّ، ونستخلص في النهاية لاهوتًا من أجل الكرازة.

1- سياق الخبر
أ- مجموعة الخبز
إن مجموعة الخبز (13:14-12:16؛ مر 6: 30-26:8) التي يشكّل خبر الكنعانيّة جزءًا منه، كان موضوع دراسات كثيرة. ويبدو أن مرقس خلق هذه المتتالية، وكرّر بعض الأمور، وتوسّع في مواد أخذها من مراجعه. واستعاد متّى نصّ مرقس وأوجزه وقام بتحويله ببعض لمسات تدوينيّة.
أما البُعد الحقيقي لهذه المجموعة فنحن نقرأه في متّى ومرقس. هذه المجموعة تبدأ مع اعتراف بطرس بالمسيح في قيصريّة فيلبس. هذا الاعتراف الذي اعتبره الانجيليون منعطفًا هامًا في حياة يسوع (مت 13:16-20؛ مر 27:8-30). فالمجموعة تهيِّئ تحوّلاً في رسالة المعلّم، وتعلن عناصرها الرئيسية: تحوّل يسوع عن الشعب المختار، واتّجه نحو الأمم الوثنيّة. وترك الجموع جانبًا لأنها ترى دون أن ترى، وتسمع دون أن تسمع ولا تفهم، وكرّس نفسه بشكل خاص لتكوين تلاميذه. في هذا السياق يُدرج خبرُ الكنعانيّة، ومن هذا السياق يتّخذ مدلوله الحقيقيّ: إنه يعلن دخول الوثنيين إلى الخيرات الاسكاتولوجيّة، ويشكّل تعليمًا للتلاميذ. هذا ما يدلّ عليه موضعه بعد الجدال حول تقاليد الفريسيين (مت 15: 1-20).
ب- نصّ متّى ومرقس
إن خبر المرأة الكنعانيّة (15: 21-28) هو خبر المرأة السوريّة الفينيقية كما رواه مر 7: 24-30. أدرجا في ذات السياق، وتوخيّا ذات الهدف، فبديا متوازيين توازيًا تامًا. تضمّنا البنية ذاتها، وارتبطا بالفن الادبي الواحد. بُني الخبران بشكل حوار، فكان كل واحد منهما مثالاً للمؤمنين. ارتبطا بتقليد أقوال الرب أكثر مما ارتبطا بنقل أفعاله وما فيها من معنى عميق. هذا ما يبدو واضحًا في مرقس وأكثر وضوحًا في متّى. وحين نقابل النصّين المتوازيين مقابلة سريعة نصل الى الملاحظات التالية:
أولاً: في التقديم الأدبي، اختلف انجيليّ عن الآخر. دوّن متّى خبرًا تاريخيًا، بل خبرًا ليتورجيًا. أما مرقس فأعطى سرده للحدث شكل خبر من الاخبار المختلفة التي يتناقلها الناس الذين عرفوا يسوع. ونبحث في التفاصيل. في نصّ متّى تُسّمى المرأة باسم قديم ودينيّ يذكّرنا بالعهد القديم (آ 22: امرأة كنعانيّة). وتُذكر أيضًا عبارة "من بيت اسرائيل" (آ 24). صلاة المرأة ليتورجيّة وتدخل في قالب معروف: "يا سيّدي، ابن داود، ارحمني. يا سيّدي اغثني" (آ 22-25). ونستطيع أن نقول الشيء عينه عن الفعل الذي يدلّ على اقتراب التلاميذ من معلّمهم (آ 23). وأخيرًا، إن التشديد الصريح على الايمان في نهاية الخبر، يسجَّل كاملاً في المجموعة التي أشرنا إليها (آ 8): إيمانك عظيم أيتها المرأة. أجل، إن مقطوعة مت ليست "تقريرًا" كُتب حالاً بعد الحدث. وهي تختلف عن مقطوعة مرقس الذي يرتاح في فنّ السرد والخبر.
جاءت مقدمة مرقس مليئة بالتفاصيل، وذكرت الظروف (7: 24). وجاءت نهايتُها تصويرًا يبقى في الذاكرة ويسحرنا (آ30). تجنبّ العبارات الارتهابيّة وسمّى المرأة: السوريّة الفينيقيّة (آ 26). استعمل الألفاظ الدنيويّة المعروفة، لا تلك المأخوذة من التوراة، وأعطى نصّه لباسًا إخباريًا، ونوعّ الحوار، فجعله تارة في خطبة مباشرة وطورًا في خطبة غير مباشرة (آ 25-26).
ثانيًا: ونكتشف الفرق بين نصّ متّى ونصّ مرقس على مستوى المضمون. فموقف الخبر في متّى موقف لاهوتيّ متصلّب: لقد جاء يسوع فقط من أجل اليهود (آ 24، 26: لم أرسل إلا إلى الخراف الضالّة من بيت اسرائيل). والايمان العظيم لدى هذه المرأة الوثنية، هو الذي انتزع منه عطيّة شذّت عن القاعدة العامّة (خبز البنين للبنين لا لصغار الكلاب): "إيمانك عظيم أيتها المرأة" (آ 28). أما خبر مرقس فقدّم خبراً مخفّف اللهجة: اليهود أولاً ثم الوثنيون. زاد لفظة "أولاً" فقال: "دعي الاولاد أولاً يشبعون" (مر 7: 27).
وخلاصة القول، استعاد متى خبر مر، ولكنه كيّفه مع محيطه. فهذا المحيط المسيحيّ انطلق من العالم اليهوديّ، فبدا متحفظاً بالنسبة إلى دخوله الوثنيين في الكنيسة. إذا كان متّى أكثر تشدّدًا من مرقس، فهذا يعود إلى المحيط المتحفّظ الذي كُتب له. ولا يعني إطلاقًا لانه كتب نصّه قبل نصّ مرقس.
ج- الكنعانيّة وقائد المئة
لا نستطيع أن نقرأ خبر الكنعانيّة دون أن نتذكّر خبر الضابط الروماني في كفرناحوم (8: 5-13). فإن كان يبدو أن الخبرين يعودان إلى مرجعين مختلفين، إلاّ أن السؤال الذي يطرحانه هو هو. دوّن كل من متّى ولوقا (7: 1- 10) خبر قائد المئة، ولم يذكره مرقس. فهذا يعني أن الانجيليين الاول والثالث قد عادا إلى المعين. فنقاط التقارب كثيرة بين خبر الكنعانية وخبر ضابط كفرناحوم. غير أن نقاط الاختلاف كثيرة، ويتحدّد موقعها على مستوى اللاهوت. إن مت 15 (الكنعانية) بدا أكثر تشدّدًا على مستوى العالم المسيحي المتهوّد من مت 8 (خبر الضابط) حيث قبل يسوع حالاً بأن يذهب الى قائد المئة الوثنيّ: "هاءنذا آتي وأشفيه". ولولا ممانعة قائد المئة لكان يسوع ذهب إلى بيت ذلك "الوثنيّ". وعلى كل حال، أعطاه من خبز البنين وامتدح إيمانه الذي لم يجد مثله "عند أحد في اسرائيل" (8:10). بل جعل أبناء المشرق والمغرب (أي الوثنيّون) في ملكوت السماوات. أما أبناء الملكوت (أي اليهود) فيُلقون في الظلمة البرانيّة (آ 12).
لا شكّ في أن الكنعانية أعلنت إيمانها بالمسيح، إبن داود، على ما فعل اليهود، فكانت في خطّ بطرس، بل في خطّ يعقوب. كأني بها قبلت أن تصير يهوديّة قبل أن تصير مسيحيّة. قبلت أن تُختن بحسب شريعة موسى لكي تخلص (أع 15: 1). أما قائد المئة فيمثّل خط بطرس الذي استغنى عن الختان، وربط الخلاص فقط بالايمان بيسوع المسيح. نحن مع قائد المئة في كفرناحوم، أبعد ممّا نعرف عن قائد المئة الذي ذهب إليه بطرس في قيصريّة (أع 10: 11). لا شكّ في أن الروح القدس لم ينتظر العماد لكي يحلّ على كورنيليوس وأهل بيته، ولكن النصّ حافظ على التراتبيّة التي وجدناها في مرقس: اليهود أولاً ثم الوثنيون. أما عند قائد مئة كفرناحوم (مت 8)، فقد حلّ الآخرون (أي الوثنيون) محلّ الاولين (أي اليهود) على ما في رسالة بولس إلى روما.

2- تحليل النصّ
أ- البنية
بعد المقدّمة (آ 21) نقرأ حوارًا بين يسوع والكنعانية (آ 22-28 ب) تتبعه حاشية (آ 28ج) تتحدّث عن المعجزة: "فشُفيت ابنتها من تلك الساعة". فالعنصران الأول والأخير في هذه البنية (آ 21، 28ج) جاءا سريعين وبسيطين، فكوّنا إطارًا إخباريًا للعنصر المركزيّ الذي هو أهمّ شيء في الخبر.
إن المقدّمة تربط الخبر بما سبق، وتشكّل خلفيّة لما يلي (آ 21). فالاشارة الطوبوغرافية تقدّم الإطار الوثني الضروريّ لمسيرة الخبر. وحين زاد الكاتب "صور وصيدا" (قد وجد ذلك في المرجع المشترك، رج مر 7: 24)، أبرز الطابع الارتهابي والبيبليّ الذي أراد أن يسم به مجمل الخبر. فقد اجتمعت صور وصيدا مرارًا في العهد القديم (أش 23: 1ي؛ إر 25: 22: كل ملوك صور وكل ملوك صيدون؛ 27: 4؛ 47: 4؛ يه 28:2؛ 1 مك 5: 15) كما في العهد الجديد (مت 11: 21؛ مر 8:3؛ لو 13:10). أما نهاية المقطوعة (آ 28 ج) فتجعلنا نلاحظ المعجزة دون أن نعرف كيف حصلت. إن كلمة الله تكفي. هل نتحدّث عن شفاء عن بعد؟ هذا ما لا يقوله النصّ. ولكن السياق يفترضه.
إن مر 7: 30 يشير بوضوح الى شفاء تمّ عن بعد، والسياق العام يفترضه: فنحن لا نرى المريضة بل أمّها. والمقابلة مع شفاء خادم الضابط الرومانيّ، تجعلنا في الخط عينه. نقرأ في مت 8: 5-13 أن يسوع لم يذهب الى بيت الضابط ولم ير غلامه. وفي لو 7: 1- 10، لاحظ المرسلون حين رجعوا الى البيت أن "الغلام قد تعافى". وفي يو 6: 46-53، أرسل يسوع الضابط الملكيّ لكي يذهب الى البيت ويتأكّد من شفاء ابنه.
إن الايجاز في بداية المقطوعة ونهايتها، يُبرز جسم الخبر في ملء اتّساعه (آ 22-28 ب). يُقدّم الشخصُ الثاني بشكل سريع، ويُجعل على المسرح من أجل الحوار (آ 22 أ). أشرنا الى تسمية المرأة تسمية قديمة ترتبط بالعالم الديني والتوراتي. فلفظة "كنعاني" لا تحمل بُعدًا جغرافيًا خاصًا (هل هي فلسطين فقط؟ هل هي الساحل الممتدّ من مصر الى تركيا؟) بل بُعدًا لاهوتيًا. يجب أن تفهم بالمقابلة مع اسرائيل. وهناك صراع بين الاثنين، بين عابدي الاله يهوه، وبين عبّاد البعل. "كنعان" هي أرض الموعد، ولكنها تحمل تجربة متواصلة للشعب اليهوديّ. وكما كانت عداوة واحتقار متبادل بين اليهود والسامريين، كذلك كان تباعد "الاسرائيليّ" عن "الكنعانيّ" الذي يؤثّر بحضارته على إيمان بني اسرائيل.
جاءت تلك المرأة من المنطقة التي يتوجّه إليها يسوع. وكان اللقاء على الحدود بين العالم اليهوديّ والعالم الوثنيّ. أترى لا يريد يسوع أن يذهب إلى العالم الوثنيّ من أجل الرسالة (أما ذهب ليرتاح من جدالات الفريسيين؟)؟ أتراه لا يسمح لهذه المرأة الوثنيّة أن تتعدّى حدودها؟ يبدو متّى وكأنه لا يريد اتصالاً بين العالم اليهوديّ والعالم الوثنيّ، وذلك بسبب موقفه المتشدّد. كأنه لا يريد ليسوع أن يعبر إلى أرض وثنيّة، إلى أرض غريبة. هكذا لامت كنيسة أورشليم بطرس لأنه دخل على رجال غير مختونين وأكل معهم (أع 11: 2-3).
بدا يسوع وكأنه لا يريد أن يرى ولا يسمع. غير أن المرأة فرضت نفسها بصراخها. "أقبلت تصيح" (آ 22). والفعل اليوناني المستعمل يدلّ على صياح الشياطين حين يخرجون من أحد الناس. مثلاً، نقرأ في مر 1: 23-24 عن انسان فيه روح نجس فصاح: "ما لنا ولك، يا يسوع الناصريّ". وهكذا صرخ "لجيون" وفيه شياطين كثيرون (مر 7:5). فكأننا هنا نسمع صياح الابنة من فم أمّها "لأن فيها شيطانًا يعذّبها" (آ 22).
أما الحوار بين يسوع والمرأة فتضمّن أربع محطّات سنتفحّصها بالتفصيل. ونضع في رأس كل مقطع السؤال والجواب، النداء وردّة الفعل.
ب- جسم الخبر
أولاً: صلا المرأة وصمت يسوع (آ 22 ب- 23 أ)
- "يا سيدي، يا ابن داود، ارحمني. إن ابنتي بها شيطان يعذّبها جدًا" (قالت المرأة).
- أما هو (يسوع) فما أجابها بكلمة.
يتضمّن تدخّل المرأة عنصرين. العنصر الأول: الصلاة. يا سيّدي، يا ابن داود، ارحمني. والعنصر الثاني: الباعث على الصلاة. إن ابنتي بها شيطان يعذّبها جداً. بدت عبارة الصلاة ليتورجيّة وكأنها مأخوذة من التوراة أو من كتب الصلاة في العالم الديني الشرقيّ مع طلب الرحمة. فكأني بمتّى يصلّي بفم هذه المرأة كما اعتادت جماعته المسيحيّة المتهوّدة أن تتوجّه في صلاتها إلى يسوع. هو الرب والسيّد. هو المسيح وابن داود. ودلّت الصلاة على إيمان الوثنيّة التي حصلت في النهاية على مبتغاها، حصلت على شفاء ابنتها.
يبدو الاعلان الايماني في البداية وخاتمة الحوار بشكل تضمين أدبيّ رائع (آ 22، 28 أ). اكتفت الأمم بأن تشير إلى مرض ابنتها (كما فعلت مريم في عرس قانا الجليل). هي لم تطلب معجزة ولا شفاء. بعد ذلك ستقول: يا سيّدي أغثني. ولكنها لا تحدّد طلبها. فيسوع يتقبّل طلبها مهما كان، ويعطيها ما تريد.
كان الناس يعتبرون في ذلك الوقت أن سبب كل مرض هو تأثير روح شرير. فما إن يخرج الروح الشرير حتى يُشفى الانسان. وهكذا يرتبط كل مرض بتقسيم وإخراج الشياطين. هناك امرأة حدباء. قال لو 13: 11: "بها روح سقم، روح شيطانيّة". في الواقع هي مريضة. ومع ذلك يقول يسوع: "ربطها الشيطان منذ ثماني عشرة سنة". أطلقها يسوع بعد أن كانت أسيرة الشيطان. ولكن النصّ يقول حالا فيما بعد: "وضع يديه عليها (باركها، أعطاها قوّته ونعمته)، فانتصبت في الحال. وجعلت تمجّد الله" (لو 13: 12-13). وكذا نقول عن الأخرس في لو 11: 14. هو مريض لأن به شيطانًا. خرج الشيطان فتكلّم الأخرس. وهذا ما نقوله هنا عن ابنة المرأة الكنعانيّة. هي مريضة وتحتاج الى شفاء. يكفي أن يخرج الشيطان منها لكي تُشفى في الحال (مت 28:15).
طلبت المرأة، ولكن يسوع ظلّ صامتًا. فكأني به يرفض صلاة الأمم من أجل ابنتها. تلك هي طريقة يسوع. تلك هي طريقة الله. يعرف ما نحتاج إليه، ويعطينا إياه ساعة يشاء هو. هناك مرّات (نجدها في الانجيل، المخلّع في إنجيل يوحنا) نجده يستبق طلباتنا، ومرّات أخرى يريدنا أن نطلب ونلحّ في الطلب (لو 11: 5- 13). طلبت هذه المرأة، وألحّت رغم تدخّل التلاميذ الذين أرادوا أن يسكتوها. وفي النهاية نالت ما طلبت. قرعت ففُتح لها الباب.
ثانيًا: تدخّل التلاميذ وجواب المعلّم (23ج- 24 ب)
- "إصرفها فإنها تصيح في إثرنا" (قال التلاميذ).
- "لم أرسل إلاّ إلى الخراف الضالّة من بيت اسرائيل" (قال الرب).
لقد توازى الطلبُ والجواب توازيَا تامًا. طلبت المرأة مرّتين من يسوع أن يشفي لها ابنتها. ورفض يسوع مرّتين طلبها. واستعاد الرسل صلاة المرأة ليتيحوا ليسوع أن يوضح رفضه، أن يبرّر رفضه. كما أن طلبهم يدلّ من جهة أخرى على أنهم لم يفهموا المعلّم. ففي مجموعة الخبر، دلّ التلاميذ مرارًا على هذا اللافهم. ما استطاعوا أن يتجاوزوا مستوى الواقع الماديّ ليصلوا إلى الواقع الروحيّ. ما اهتمّوا بالبُعد العميق لشفاء يُمنح لشخص وثنيّ، يُمنح لهذه الكنعانيّة (التي قد لا تستحقّ لأنها وثنيّة، كما لم تستقّ الخاطئة أن تلمس يسوع لأنها خاطئة، لو 39:7). وإن هم طلبوا من يسوع أن يستجيب طلبها، فلكي يرتاحوا من الصياح الذي يُزعجهم.
برّر يسوع موقفه بكلمة لها وقعها. نحن أمام "قول" مستقلّ نستطيع أن نعزله عن السياق. أما بدايته فتشبه بداية سلسلة من الأقوال اعتاد فيها يسوع أن يعبّر عن وعيه لرسالته. فالعبارة في حدّ ذاتها تحدّد موقعه في خطّ الانبياء، وتوافق موافقة تامّة السياق المسيحيّ المتهوّد لهذه المقطوعة. فصورة "الخروف" والاشارة "إلى بيت اسرائيل"، تتعارضان كل التعارض مع تسمية "الكنعانية". كل هذا يذكّرنا بالعهد القديم (هل يذهب يونان النبي اليهودي إلى نينوى الوثنية؟ هل يمكن أن تكون راعوت الموآبيّة الوثنيّة امرأة صالحة؟ هل توجد مخافة الله في جرار؟ رج تك 20: 11). كما يجعلنا في إطار الكنيسة الأولى والصراع حول الختان والشرائع حول الأطعمة.
نبدأ فنقول إننا لا نجد في جواب يسوع الكلام الحرفيّ الذي قاله الرب للكنعانيّة. فلو كان كذلك، لكان أورده مرقس أيضًا. قال يسوع في متّى: "لم أرسل إلاّ الى الخراف الضالّة من بيت اسرائيل". أما مرقس فجاء كلامه مختلفًا بعض الشيء: "دعي الأولاد أولاً يشبعون" (7: 27). فلم يذكر أبدًا بيت اسرائيل. أما ما يقابل هذه العبارة في مرقس فسنعود إليه في آ 27- 28 ب.
حين نقرأ متّى نجد أن يسوع اتّخذ عنده موقفًا متشدّدًا من الوثنيين، هو موقف المسيحيّين المتهوّدين. وهكذا كان الانجيل الأول مرآة لكنيسة متّى. أجل، أرسل يسوعُ إلى يهود ضلّوا الطريق ويجب أن يعودوا إلى الحظيرة. فاليهود الأمناء يشكّلون الجذع المشترك بين الجمع والجماعة المسيحيّة. فالذين ظلّوا يهودًا ولم يؤمنوا بيسوع اعتُبروا خرافًا ضالّة، خانوا اسرائيل الجديد في يسوع، صاروا أبناء ضالين في جماعتهم التي صارت جماعة يسوع. أما الوثنيّون فلم تفكّر بهم الجماعة المسيحيّة المتهوّدة، مثل عدد من كنائسنا التي تنغلق على ذاتها وتنسى أهمية الرسالة.
مثل هذا القول يعبّر عن موقف متشدّد لا يمكن أن يكون موقف يسوع. أخذه المسيحيون المتهوّدون الذين اعتبروا أن حمْل الكرازة الانجيليّة إلى الشعب اليهوديّ هو رسالتهم الأولى. وبما أن الشعب الوثني ظلّ خارج هذه النظرة، استغنى لوقا عن ذكر خبر المرأة الكنعانيّة. فالنساء الوثنيات عديدات في حياة الكنيسة الاولى وقد أظهرن غيرة كبيرة للرسالة. نذكر فيبة، تلك الشماسة في رومة، وليدية أول المرتّدين والمرتّدات في كنيسة فيلبي.
ثالثًا: صلاة الكنعانيّة الثانية وجواب يسوع (آ 25 ب-26 ب)
- "يا سيّدي (يا ربّ)، أغثني" (قالت المرأة).
- "لا يحسن أن يؤخذ خبز البنين ويلقى لصغار الكلاب" (قال يسوع).
وعادت الكنعانية الى صياحها. قد يبدو ابتهالها عفوياً. في الواقع، هو يذكّرنا بالعهد القديم وبصلاة مسيحيّة. وسيصبح دعاؤها دعاء المسيحيين لمن هو الربّ. بعد أن شرح يسوع تصرّفه للتلاميذ، حاول أن يفهم المرأة أيضًا لماذا فعل ما فعل. جعل نفسه على مستواها، وكلّمها لغة بسيطة، لغة الصور. ونحن لا نفهم المقابلة بين الاولاد والكلاب إلا على خلفيّة العهد القديم. اليهود هم الابناء، والوثنيون هم الكلاب. الكلب يكون خارج البيت. أما الابن فيقيم في البيت. وهكذا استعادت هذه العبارة بشكل واضح التعارض الذي ذُكر في القسم الأول بين العالم اليهوديّ والعالم الوثنيّ.
واستعمل النصّ التصغير "الكلاب الصغيرة" (التي تدلّل) فخفّف بعض الشيء من حدّة التعارض، وتعاطف مع الوثنيّين، وهيّأ القارئ للنعمة التي ستنالها هذه الوثنيّة في آخر المطاف. إن التصغير يشدّد على الطابع الذي يعامل "الكلاب الصغار" وكأنهم من البيت. إذا وضعنا هذه الحاشية جانبًا، يبقى جواب يسوع في معنى مسيحيّ متهوّد متشدّد. وهناك اختلافة نصوصيّة تقوّي هذا الموقف المتشدّد. فتركت بعض المخطوطات "لا يحسن" وأحلّت محلّها: "لا يسمح".
رابعًا: تدخّل المرأة الاخير وجواب يسوع (آ 27-28 ب)
- "أجل يا سيدّي (يا رب)! بيْدَ أن صغار الكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أربابها" (قالت المرأة).
- "إيمانك عظيم، أيتها المرأة! فليكن لك كل ما تريدين" (قال يسوع).
شكّل العنصران الاولان (أولاً) توازيًا. وها هما العنصران الأخيران يُبنيان بشكل تعاكس وتصالب: طلبت المرأة شفاء ابنتها، فلجأ يسوع الى صورة الكلاب الصغار لكي يرفض لها طلبها. فأخذت المرأة الصورة وطبّقتها على نفسها مكتفية بما أعطى لها مهما كان قليلاً. حينئذ تراجع يسوع ومنح لها ما أرادت. "شفيت ابنتها من تلك الساعة".
كان جواب الأم على رفض يسوع جوابًا رائعًا. فاستندت إلى بصيص أمل استشفّته في جواب يسوع السلبيّ. وتابعت "الكنعانيّة" الكلام، فتعلّقت حالاً بالصورة التي رسمها يسوع، وتوسّعت فيها موضحة عناصرها. "صادقت" على الطرح المسيحيّ المتهوّد، واكتفت بأن تسأل الشواذ عن القاعدة. هذا ما فعله قائد المئة في كفرناحوم حين قال ليسوع بأنه لا يستحقّ أن يستقبله في بيته. وإذا كانت المرأة طلبت بعض الفتات، فهي في الواقع تطلب المشاركة العاديّة في الخيرات المسيحانيّة. لا شكّ في أنها مشارَكة محدودة، ثانويّة، جارحة، ولكنها في الواقع أول انفتاح، مهما كان ضيّقًا، على العالم الوثنيّ.
وفي النهاية، تراجع يسوع أمام إيمان هذه المرأة. وقد شدّد على دهشته وابتهاجه بواسطة آية التعجب التي لا ترد مرارًا، والتي نقرأها في بداية جوابه: "ما أعظم إيمانك"! وابراز الصفة "عظيم" يشدّد على الطابع الليتورجيّ والارتهابي الذي يربط العبارة بمجمل الحوار. وهذا ما يتأكَّد لنا حين نلقي نظرة الى نصّ مرقس الموازي. "من أجل هذا الكلام اذهبي. لقد خرج الشيطان من ابنتك" (مر 7: 29). أجل، لسنا في مت أمام كلمة شفاء، بل إن يسوع أقرّ بأن المرأة انتصرت عليه، فأجبرته على أن يعمل لها المعجزة. هذه هي طرق الرب الذي يقبل أن يكون ضعيفًا أمامنا. هذه هي حكمة الرب التي تصبح جهلاً أمام البسطاء والأطفال. أجل، سيتعلّم يسوع من هذه المرأة المؤمنة كيف يتكلّم مع الوثنيين، كما تعلّم في مناسبة أخرى كيف يتكلّم مع السامريين (يو 4: 1- 42). فالمعلّم المعلّم هو الذي يعرف أن يتعلّم.
قدّم لنا مت 15: 21-28 حوارًا مبنيًا بناءً محكمًا، تحيط به بعض العناصر الاخباريّة. ويختفي الخبر ليحلّ محله جدال لاهوتيّ يتحدّد موقعُه في أرض المسيحيين المتهوّدين. الخيرات المسيحانيّة حقّ محصور بأعضاء الشعب المختار. ولكن ما الذي ربط هذا الشعب بالله؟ لا عدده، ولا حكمته، ولا استحقاقاته، بل ايمانه بالله (رج سفر التثنية). وما الذي يربط بالله هذه المرأةَ الوثنيّة فيجعلها هي أيضاً من أهل البيت؟ إيمانها. فبإيمانها شاركت في الخيرات المسيحانيّة التي ستنفتح بعد القيامة على جميع الأمم، لا على أفراد معدودين. فلقبُ الايمان يتغلّب على لقب الانتماء الى الشعب المختار. وهكذا وُلد لاهوت جديد سيحمل لواءه بولس الرسول الى الأمم فيرجعون من الظلمة الى النور وينالون ميراثًا مع القديسين (أع 26: 18).
إن خبر المعجزة يخضع كله للحوار بين يسوع وهذه المرأة الكنعانيّة. جاءت البداية موجزة والخاتمة، والانتقالات سريعة وبسيطة بين عناصر الحوار. ولم يرو الكاتب المعجزة. فقد تمّت عن بعد، بكلمة يسوع للمرأة. ولكن أهميّة المعجزة، ليست في المعجزة بل هي في حوار يصل بنا إلى الخيرات المسيحانية التي ينعم بها الوثنيون، شأنهم شأن اليهود.

3- لاهوت هذه المقطوعة
إن المقطوعة التي حلّلناها، قد حرّكت أقلّه ثلاث مسائل لاهوتيّة. المعجزة، الايمان، انفتاح الانجيل.
أ- المعجزة
نستطيع أن نجادل إلى ما لا نهاية حول طبيعة النصّ. هل هو خبر معجزة؟ هل هو حوار تحيط به عناصر عجائبية؟ هل هناك واقع أساسيّ انطلق منه التقليد ليروي الخبر؟ مثل هذا الجدال قليل الاهميّة بالنسبة إلينا. فإن كان هذا الجدال لا يشكلّ العنصر المركزيّ في المقطوعة، فالمعجزة هي معطية رُسمت بوضوح، فكانت شهادة واضحة عمّا فعله يسوع.
المعجزة هي علامة الخيرات الاسكاتولوجيّة والمسيحانيّة. هي اجتياح الملكوت في عالمنا. هي الغذاء يصل إلينا من خلال أعمال خلاص قام بها يسوع خلال حياته على الأرض، وبها يُتمّ الخلق من خلال أشفية تعيد إلى العميان البصر وإلى الصمّ السمع. تجعل اليد اليابسة صحيحة، والجلد الأبرص طاهرًا، والجسد الميت حيًا. هذا ما يحقّقه يسوع، فيدلّ بذلك على أنه يخبرنا عن إله الحياة. يبقى على الانسان أن يتقبّل هذا الوحي في الايمان.
ب- الايمان
إن كلمة يسوع الأخيرة قد شكّلت مرمى الخبر، وأظهرت اهتمام الخبر بالايمان. فإيمان الكنعانيّة هو في جوهره ثقة واتكاله. وهذه المرأة اتكلت بأعماق كيانها على يسوع المخلّص، وانتظرت منه الخلاص المرتجى. حين أعلنت أن يسوع هو الرب وابن داود، تبنّت قانون الايمان اليهوديّ. غير أن ايمانها هو أكثر من علم ومعرفة: هو التزام يجنّدها كلها. لقد جعلت كل حياتها في صرختها، فولجت إلى أعماق الله، وبفضل إيمانها نالت ما أرادت.
إن الجمع في القول الأخير بين: "الايمان" و"تريدين" (إيمانك عظيم، فيلكن لك ما تريدين، آ 28) له معناه العميق: فهذه المعجزة التي تميّز أسلوب متّى، تكشف دومًا عن ديناميّة داخليّة في خبر المعجزة كما في المعجزة نفسها (مت 13:8: إذهب وليكن لك بحسب ايمانك؛ 29:9: ليكن لكما بحسب إيمانكما، رج 9: 22؛ مر 5: 34؛ 10: 52؛ لو 7: 50؛ 8: 48؛ 17: 19؛ 42:18).
المعجزة هي جواب الرب على ايمان الانسان، الذي يعبّر عن هذا الايمان بالصلاة. هذا الايمان الذي ليس فضيلة منفعلة (حيث لا نفعل شيئًا، بل نكون كآلة يحرّكها الله) بل موقف فاعل جداً. وقد شدّد متّى تشديدًا كبيرًا على ما فعله هذا الايمان. تغلّب على جميع العوائق والصعوبات، وفي النهاية نال ما أراد. لقد حاربت الكنعانيّة وألحّت، وهاجمت فغُلب يسوع، وما أحلاها غلبة! فكأني به أجبر على اجتراح المعجزة من أجل ابنة الكنعانيّة. أما شبّه نفسه بذلك الذي لجّ عليه صاحبه، فقام من النوم وأعطاه ما طلب (لو 11: 5-8)؟ أما شبّه نفسه بذلك القاضي الظالم الذي ينتظر "الايمان على الأرض" لكي يفعل (لو 18: 1-8)؟
ج- انفتاح الانجيل
يبدو أن انفتاح الانجيل على العالم الوثنيّ هو المرمى الرئيسيّ لهذه المقطوعة. فالتوتّر الحاصل بين تشدّد مسيحيّة متهوّدة وتكوين مسيحيّة أمميّة (آتية من الأمم الوثنيّة)، واضح في خلفيّة الخبر. وهذا ما يكشفه بوضوح استعمالُ الألفاظ: الكنعانيّة من جهة وبيت اسرائيل من جهة ثانية يجعلاننا في مناخ معين.
لقد عالج متّى مسألة الرسالة إلى الوثنيين منطلقًا من وجهة مسيحيّة متهوّدة. انطلق من حياة كنيسته وما فيها من انغلاق، وأظهر ما فيها من احتقار لاخوتهم الآتين من الامم الوثنيّة. هل يقبل المسيحي بهذا بعد أن عرف أنه ليس يهودي ولا أمميّ، لا عبد ولا حرّ، لا رجل ولا امرأة، بل كلهم واحد في المسيح. أخذ متّى النصّ من مرقس وأعاد تفسيره فقال: رغم امتيازات الشعب المختار، فطريق الخلاص بالايمان مفتوحة للوثنيّين. تحدّث مرقس إلى الوثنيّين في رومة، فبيّن لهم الوضع المميّز للشعب اليهوديّ. يُعطى لهم أولاً خبز البنين. ويعطى ثانيًا إلى الوثنيين. وتحدّث متى إلى يهود متشدّدين دخلوا إلى المسيحيّة، فبيّن أن الايمان لا الشريعة، هو الذي يفتح للمسيحيّين الطريق إلى المسيح.

خاتمة
ما زالت مسألة المعجزة موضوع نقاش في أيامنا. أما نصّ متّى فيعطي اتجاهاً حقيقياً لبحثنا دون أن يردّ على جميع الاسئلة. يبقى علينا أن لا نضيع في جدالات حول واقع الظاهرة العجائبية، بل نكتشف فيها علامة تدلّ على الملكوت الآتي وتكرز به.
والايمان ما زال يحدّد اليوم الوضعَ المسيحيّ. فالخبر الذي قرأناه يلقي الضوء على بعض الوجهات التي تسترعي اهتمامنا. الايمان هو التزام الانسان بكليته. لهذا نشدّد على الوجهتين: وجهة التزام فاعل لا يتراجع بل يلحّ على مثال هذه المرأة حتى يصل إلى مبتغاه. ووجهة التزام الانسان بكليته لكي يكون إيمانه أكثر من محبَّة بالقول واللسان، بل بالعمل والحق.
وأخيرًا، إن الصراع بين مسيحيّة متهوّدة ومسيحيّة أمميّة أمر تجاوزه الزمن اليوم. ولكن الصراع الذي عرفته الكنيسة الاولى ما زال حاضراً اليوم. هل هناك مكان في كنائسنا للغريب؟ للغريب عن محيطنا، عن بلدنا، عن ديننا، عن إطارنا الاجتماعيّ. فالخطر الكبير الذي يتربَّص بجماعتنا هو الانطلاق والعيش في عزلة يملأها الخوف من جهة (من الآخر) والتكبّر من جهة اخرى مع احتقار له. فكم يجب على كنائسنا أن تجد في تاريخها الالهام، والقوّة الضروريّة لكي تتجاوز دومًا نفسها، لكي تصل إلى الآخر، وبالتالي إلى الآخر الآخر الذي هو الرب يسوع.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM