الفصل الحادي والثلاثون: يسوع تجاه الفريسيون

الفصل الحادي والثلاثون
يسوع تجاه الفريسيون والصادوقيين
16: 1- 12

وجاء الفريسيون والصادوقيون. غريب هذا التحالف بين فئتين متنافستين بل متعارضتين حتى على المستوى اللاهوتي (لا يؤمن الصادوقيون بقيامة الموتى ولا بالملائكة)، حتى لا نقول على المستوى السياسيّ. فالصادوقيون الذين كانوا "رؤساء" الهيكل، زالوا مع زوال الهيكل سنة 70 ب م. أما الفريسيون القريبون من الشعب فتابعوا رسالتهم وسط الشعب، وانتقلوا إلى الجليل، وشدّدوا على دور الشريعة كمركز حضور الله في قلب شعبه.
أما النصّ الذي ندرس (آ 1-12) فيتألَّف من مقطوعتين. تتحدّث الأولى (آ 1-4) عن علامات الأزمنة. بعد أن طلب خصوم يسوع آية من السماء، آية تدلّ على أن يسوع ليس "نبيًا كاذبًا" لا سمح الله. أعطاهم يسوع الآية بعد الآية، ولكنهم لم يريدوا مثل هذه الآيات. لهذا أحالهم يسوع على آيات (علامات) الأزمنة التي تشير إلى مجيء المسيح ولا سيّما ما قام به يسوع من معجزات. وفي النهاية ترك لهم آية يونان.
وفي المقطوعة الثانية (آ 5-12)، يتحدّث الانجيليّ عن خمير الفريسيين والصادوقيين، والخمير عند مت يدلّ على تعليم هاتين الفئتين وطريقة توجيههم للشعب. فالخمير يخمّر العجنة، يؤثّر فيها. أما خمير خصوم يسوع، فلا يمكنه إلاّ أن يحمل الفساد. فلا يبقى على التلاميذ إلاّ أن يحذروا منه.

1- آية من السماء (16: 1-4)
أ- نظرة عامّة
نحن هنا أمام نصّ أدبيّ متشعّب. غير أن ارتباطه بما سبق يبدو واضحًا: إذا كانت الجموع قد تلقّت علامة (آية) تدلت على سلطة يسوع (رج 15: 32- 19 وما يسبقها، تكثير الأرغفة)، فخصوم يسوع لا يرون في هذه الاشفية وفي خبري تكثير الأرغفة، "آية من السماء"، آية أرسلتها السماء لتجعل الناس يصدّقون أقوال وأعمال يسوع.
وبقدر ما نتقدّم في قراءتنا لإنجيل متّى، تأخذ مسألةُ هذه الآية المرتبطة بسلطة يسوع، أهميّة أكبر. قرأنا عنها في 12: 38-42 (آية يونان)، ففهمناها رفضًا من يسوع أن يقدّم آية أخرى سوى آية موته (لا آية قيامته، رج 12: 39؛ كان يونان في بطن الحوت، والمسيح في بطن القبر). إذا كنا قد تساءلنا في ف 12 حول نوايا محاوري يسوع، فنحن نرى الآن أن الأناجيل الازائية الثلاثة (38:12-39؛ مر 8: 11-13؛ لو 11: 29؛ 54:12-56) تشدّد على أن الخصوم نصبوا ليسوع فخًا. ذاك هو معنى فعل "بايرازو" في هذا السياق.
في نصّ مر 8: 11-13 الموازي، كان جواب يسوع بالسلب اطلاقًا: "لن يُعطى هذا الجيل آية" (ثم تركهم ومضى إلى العبر كأنه رفض أن يتابع الكلام معهم). ثم إن نصّ مر هذا لا يشير أبدًا إلى يونان الذي قد لا يعرفه قراؤه. وسار مت في خطّ مر، ولكنه تأثّر بالمضمون التقليديّ الذي نقرأه في مت 12: 38-42، فلمَّح هنا مّرة أخرى إلى يونان: لن يعطى آية إلاّ آية يونان: فكرازة يونان كفت أهل نينوى. أما تكفي كرازةُ يسوع؟ وإذا كانت الكرازة لا تكفي، فموت يسوع وقيامته سيكونان آية الآيات، كما قال ذلك بشكل خاص الانجيلُ الرابع.
غابت آ 2-3 في عدد من المخطوطات الهامّة مثل السينائي والفاتيكاني. وقد زادهما الناسخ ربّما عائدًا إلى لو 12: 54-56 لأنهما لا يتوافقان مع سياق النصّ هنا. في لو 12، توّجهت هاتان الآيتان إلى الجموع (آ 54: وقال أيضًا للجموع) لا إلى الفريسيّين والصادوقيّين.
هناك فرضيّة قديمة قد يكون لها بعض الصحّة، ونحن نوردها كما قالها أحد الشرّاح: إن المعجزة التي طُلبت من يسوع شبيهة بتلك التي طُلبت من الساحر توداس (رج العاديّات اليهوديّة 20/ 5: 1). وهكذا يتجمّع محازبوه بعد أن يروا في هذا "العمل" آية تدلّ على بداية الثورة المسيحانيّة. هكذا نفهم رفض يسوع القاطع الذي لم يرافقه أي شرح للناس، ولا تعليم للتلاميذ. وبعد أن قطع يسوع الحوار، ترك حالاً الموضع الذي وصل إليه منذ وقت قصير. فقد رأى أن هذا الطلب يجعل رسالته في الجليل عديمة الفائدة ومستحيلة. هي فرضيّة معقولة. لكن الانجيل لا يتوخّى أن يفسّر لنا تصرّف يسوع التاريخيّ في هذا الوضع أو ذاك، بل أن يبرز الأسباب العميقة لخلافه مع رؤساء شعبه.
ب- الدراسة التفصيلية
أولاً: البنية
تروي هذه المقطوعة (آ 1-4) أولاً: ما عمله الفريسيون. ثانيًا: ردّ يسوع على عملهم. ثالثًا: انصراف يسوع المفاجئ. ويشدّد الانجيليّ على جواب يسوع الذي رُتِّبت كلماته في ثلاث درفات: آ 2- 3أ، آ 3 ب ج، آ 4أب.
1- جاء الفريسيون، جربوا يسوع. سألوه (آ 1).
2- جواب يسوع (آ 2-4 ب).
أ- قراءة الطقس (آ 2 ب- 3 أ).
أولاً: تعرفون مسبقًا الطقس الجيد (آ 2 ب).
ثانيًا: تعرفون أيضًا الطقس الرديء (آ 3 أ).
ب- علامات الأزمنة (آ 3 ب ج).
أولاً: تعرفون أن تفسّروا السماء (آ 3 ب).
ثانيًا: لا تعرفون أن تفسّروا علامات الأزمنة (آ 3 ج).
ج- هذا الجيل والمصير الذي ينتظره (آ 4 أب).
اولاً: هو يطلب آية (آ 4 أ).
ثانيًا: لا يعطى له إلاّ آية يونان (آ 4 ب).
3- تركهم يسوع ومضى (آ 4 ج).
ثانيًا: المراجع
إن آ 1 ترتبط بمرقس (8: 11). وآ 4 تتبع المعين (39:12= لو 11، 29). أما آ 2-3 فتطرحان مشكلة. هناك ما يوازيهما في لو 12: 54-56. لهذا ظنّ البعض أن هذا يكفي ليجعل مت 2:16-3 يعود إلى المعين مع لو. غير أن الاختلاف بين هذا النصّ المتاوي ولو 12: 54-56 هو كبير جدًا. على مستوى الالفاظ، 6 كلمات من أصل 27، أو 28 كلمة. الترتيب مختلف. تأتي العاصفة أولاً في لو، ثانيًا في مت. والموضوعان مختلفان. استند لو إلى السحاب والريح. واستند مت إلى لون السماء. غير أن التشابهات تدلّ على ارتباط بين مت 3:16 ب ج ولو 12: 56. وهكذا يعود نصّ مت إلى نصّ لو (ما يسمى اللوقاويّات، أو الامور الخاصة بلوقا)، أو إلى المتاويّات (أي الأمور الخاصة بمتّى).
قد يعود النصّان الى قول واحد ليسوع. انطلق الربّ من مثَل حول الطقس، ثم وبّخ الجمع لأنه لا يقدر أن يدرك مدلولا رسالة يسوع. أما الاختلافات بين نصّ وآخر، فتُعزى الى تحوّلات برزت حين انتقل النصّ إلى صيغته النهائيّة. بما أن النصّ لم يتوافق مع مناخ فلسطيني (يأتي السحاب من الغرب، من البحر، فيحمل المطر. أما الآتي من الجنوب، من الصحراء، فيحمل الحرّ والجفاف). فقد يكون مت انطلق من لو وحاول أن يكيّف كلماته مع الطقس الذي يسيطر على منطقة يعيش فيها.
ثالثًا: التأويل
ما زال مت يتبع مر. فيقدّم خبرًا حول قول من أقوال يسوع. فرغم كل ما عمل يسوع وقال، ظلّ رؤساء اليهود على موقفهم وجرّبوا يسوع، وطلبوا منه طلبًا قد لا يستطيع أن يلبيّه. نحن أمام أشخاص من نوع خاص. يعلنون أنهم يبحثون عن الحقيقة ويطلبون اليقين، ومع ذلك يرفضون الحقّ الذي يواجههم. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، بما أنه لن يعطى لهم سوى آية يونان، فالخبر يعلّمنا أن طريق الله ليست في أن تكرهنا على الايمان بواسطة عجائب ومعجزات. إقناعه يأتي بطريق غير مباشر، بحيث يطلب إيمانًا حقيقيًا.
لا ننسى إمكانيّة وجود رباط بين 15: 32-39 (إطعام أربعة آلاف) و 16: 5-12 (خمير الصادوقيين والفريسيين). بل ورباط بين 15: 32-39 و6: 1-4. فمعجزة إطعام الناس تعود بنا إلى معجزة مماثلة اجترحها إيليا ساعة يذكر 16: 1-4 يونان. فحسب 1 مل 17، شفى إيليا ابن الأرملة، وبعد ذلك تماهى ابنها مع يونان (حسب التقاليد اليهوديّة). وبعد ذلك تمّ الشفاء لابن الارملة بيد ايليا، قيامة من الموت. وفي نظر مت، آية يونان هي قيامة يسوع. قد نكون هنا أمام نمطيّة (تيبولوجيا) في خلفيّة 15: 32-16: 4 طلب هذا الجيل آية ولكن عبثًا. غير أنه أرسلت إليه آية اعظم من إيليا، آية تذكر ما اختبره يونان.
وقد تكون آية يونان اعتراف بطرس. فبطرس سميّ بن يونا (بن يونان) في 7:16. ووحيه الآتي من السماء قد يشبه آية من السماء. ولكن في 12: 40، تماهت آية يونان مع قيامة يسوع. ونجد الشيء عينه في ف 16.
وماذا عن صحّة هذه المقطوعة؟ رجع مت إلى مر 8: 11-13 الذي دار حول كلمة قالها يسوع. غير أن القول حول يونان (في المعين) يرتبط بالربّ (رج 12: 38)، وقد جاء جوابًا إلى الذين طلبوا منه معجزة.
ج- تفسير الآيات
أولاً: الفريسيون والصادوقيون (آ 1)
الفريسيون والصادوقيين تعاهدوا (وهذا لا يعقل) من أجل قضيّة مشتركة ضد عدوّ يُطلّ في الافق (رج 3: 7، كذلك جاؤوا معاً إلى يوحنا). جرّبوا يسوع. طلبوا آية من السماء (في 12: 38، الكتبة والفريسيون طلبوا آية). في الحقيقة، هم لا يطلبون من يسوع آية تدفعهم إلى الايمان، بل يحاولون أن يجعلوه يعثر فيعيّره الشعب. هو سؤال مراء، وهم يعتقدون أنه لا يستطيع أن يعطي مثل هذه الآية. أما بالنسبة إلى القارئ المتعاطف مع يسوع، الذي اختبر معجزة تكثير الأرغفة للأربعة آلاف، فطلبُ آية عجيبة أمرٌ يدعو إلى السخرية، وهو علامة عمى روحي.
"وتقدّم إليه الفريسيون". رج مر 8: 11 (ق 12: 14= مر 3: 6)، الذي لا يذكر الصادوقيين. زاد مت الصادوقيين (الذين يقيمون فقط في أرض يهوذا، عكس الفريسيّين الذين توزعوا في كل أرض فلسطين)، لأنه سوف يتحدّث عن هذا الجيل الذي يضمّ هاتين الفئتين (16: 16؛ 8: 15). "طلبوا آية". رج خر 17: 2 (جرّب العبرانيّون موسى في البريّة، جرّبوا الرب، آ 7)؛ رسالة إرميا 66 (تتحدّث عن الآلهة الكاذبة مع علامات من السماء)؛ لو 16:11؛ يو 26:6 (بعد تكثير الخبز). كانت جملة مرقس طويلة (11: 4 ج د) فأوجزها مت كعادته، وترك فقط ما هو ضروريّ.
أما عن طبيعة الآية المطلوبة، رج 12: 38. لقد عمل يسوع وتكلّم، وهذا كله علامة من السماء. ولكن ما عمله يسوع لا يكفي ليفرض الايمان. هم ينتظرون صوتاً من السماء (يتكلّم كما في عماد يسوع أو تجلّيه)، وهذا ما يتعارض مع كل الآيات الارضيّة التي عملها يسوع حتى الآن. أترى انتظروا من السماء علامة لا لبس فيها، اسكاتولوجيّة، دراماتيكيّة، كونيّة. ق مت 24: 27، 30؛ مر 13: 24-25 (الشمس والقمر يسودّان، تتساقط النجوم)؛ لو 11: 11، 25؛ رؤ 12: 1، 3.
ثانيًا: جواب يسوع (آ 2-3)
"فأجاب وقال لهم" (رج 12: 39). ترد العبارة خمس مرات في مت، 2 في مر، صفر في لو، وهي تبدأ جواب يسوع. "إذا كان المساء قلتم". ق لو 12: 54. "اوديا"، أي الصحو. ويقابله "غاليني" (عاصفة). "خايمون" يعني المطر (24: 20 وز؛ يو 10: 22). هنا العاصفة أو العاصفة التي تحمل المطر (أع 27: 20). نشير إلى أن الصيّادين هم الذين اعتادوا أن ينظروا إلى السماء: يُبحرون أو لا يُبحرون.
"تعرفون وجه السماء". رج لو 12: 56. سقطت لفظة "الأرض" من نصّ مت (نقرأ في لو: وجه الأرض والسماء)، كما سقطت عبارة "أيها المراؤون". إن لفظة "كايروس" تعني الزمن المؤاتي. ترد اللفظة في الجمع (رج 21: 41) وفي المفرد. وهو معنى اسكاتولوجي كما هو الأمر هنا. عاد يسوع إلى الزمن الأخير الذي يحدّده الله، وفيه يطلب من كل انسان أن يأخذ قراره الشخصيّ.
قال انجيل توما (91): "تتحقّقون من وجه الأرض والسماء، ولا تعرفون ما هو أمامكم، ولا تعرفون أن تتحققوا من هذا الزمان". استقلّ انجيل توما عن مت ولو. وقد نكون أمام تقليدين مختلفين.
ثالثاً: جواب يسوع (آ 4)
وختم يسوع كلامه رافضًا طلب الفريسيين والصادوقيّين. ثم انصرف. إن آية يونان التي ستُعطى في المستقبل هي كافية. لا يريد الربّ أن يقوم بعرض يُدهش الناس، ولا أن يفرض على الشعب أن يؤمن. ويُطرح سؤال: كيف نوّفق بين كلام يقول إن آية واحدة تُعطى، مع يقين مت أن معجزات يسوع هي آيات وعلامات (11: 1-24؛ 3:16-4)؟ هل ميّز الانجيليّ بين الآيات في صيغة الجمع، والآية في صيغة المفرد (آية من السماء، آيات فيها طرد الشيطان)؟ ربّما
"جيل شرير فاسق". رج مر 8: 12: "لماذا يطلب هذا الجيل آية"؟ ق مت 38:12. تجنّب مت أن يضع سؤالاً في فم يسوع. وجاء كلامه هنا شبيهًا بما في 39:12. "ولن يعطى آية إلا آية يونان". كان جواب يسوع سلبيًا: "لا تُعطى آية لهذا الجيل" في مرقس. أما مت فتحدّث عن آية يونان. حسب مت، قيامة يسوع هي الآية التي تُعطى لهذا الجيل (38:12-39). ومن السخرية أن يتحدّث النص عن القيامة ساعة ينكر الصادوقيون قيامة الموتى.
"ثم تركهم ومضى" كما في مر 8: 13. ترك يسوع الفريسيين والصادوقيين الذي لم يهتّموا لكلامه. ليس من الممكن إقناعهم بالحقيقة. فتركهم في مشورتهم التي لا شيء يبدّلها. فحتّى قيامة الموتى من القبور لن تقنعهم (28: 11-15، رصد ما قال ابراهيم للغني في لو 16: 31).
العبرة الاساسيّة التي نأخذها من 16: 1-4 هو أنهم وإن رأوا فلن يؤمنوا. فإذا كان الفريسيون والصادوقيون لم يقتنعوا بأعمال القوة (دينامايس، معجزات) التي اجترحها يسوع، فلا تنفعهم آية عظيمة تطلّ من السماء (لو 16: 31). فالحقيقة هي ما لا يراها الانسان حتى يؤمن. لأن الايمان الذي يمسك النفس هو الذي يقود الانسان إلى الإدراك. لذلك فمن العبث أن ننتظر من القلوب القاسية والعقول المغلقة أن تتبدّل حين ترى أعمال القوّة. والمعجزات الانجيليّة التي تشير إلى حضور الله في يسوع، التي تحمل الشفاء والخلاص، تحمل الخير إلى البشر، هذه المعجزات ليست أمورًا خارقة تحاول أن تقنع الرافضين. ما يطلبه الانجيل من الانسان هو محبّة الله وثقة بمسيحه، لا قبولاً عقلانيًا لمعجزات تدلّ على قدرة يسوع. من عادة الله أن يختفي ويصمت حين يتحدّاه اللامؤمن. وأعظم سروره أن يعرّف بنفسه لمن يؤمن. "فمن له يُعطى ويزاد" (13: 12).
د- خلاصة
اجتمع الفريسيون والصادوقيون (غابت أل التعريف من أمام الصادوقيين). الفريسيون وصادوقيّون. هل يعني بعضًا منهم؟ هل يعني أنه ضمّهم في مجموعة واحدة، مع أنهم أعداء، ومع أنهم لم يتّفقوا يومًا على مشروع موحَّد. إنهم يمثّلون العالم اليهودي بمجمله. أما تماسكهم ضد يسوع، فيُبرز خطورةَ السؤال الذي سيطرحونه عليه. قد نكون هنا أيضًا في وضع تاريخيّ يعيشه العالم اليهوديّ ساعة دوّن الانجيل الاول. ما زالوا ينتظرون علامة. ولكن لا ننسى أن العالم اليهودي في سورية وفلسطين في السنوات 80- 90، كان يسيطر عليه الفريسيون بعد أن زال الصادوقيون (رج 3: 7؛ 22: 23، 34. لم تجتمع هاتان الفئتان إلاّ في النصّ الذي نقرأه الآن).
آية من السماء. آية آتية من السماء. هي آية يمنحها الله ليسوع بشكل ظاهر. معجزة تسمح له بأن يمارس رسالته لدى الشعب. نشير هنا إلى أن "السماء" تعني "الله" (ملكوت السماوات أي ملكوت الله). في التقليد الازائي، ولا سيّما في مت، يظهر موضوع الآية في مواضيع ثلاثة: 12: 38؛ 16: 1؛ 3:24. في 12 و16، تُفهم اللفظة في المعنى اليهوديّ الرسميّ، تُفهم كشهادة مسيحانيّة ملموسة تفرض على الناس أن يؤمنوا: كانت نظرة اليهود المسيحانيّة سببًا في عماهم، فانتظروا من يسوع آيات أو براهين تدلّ على قدرته. إن كان هو المسيحَ حقًا، فهو لا يستطيع أن يرفضها. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، تعلن الأناجيل أن يسوع أحاط نفسه بعدد من الآيات، ولكن لا تلك انتظرها اليهود. ومن سخرية القدر أن تكون الآيات التي رافقت حياة يسوع ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالكتاب المقدس (11: 5 ي). أما قرأ الفريسيون الكتاب؟ وإن قرأوه هل عرفوا أن يقرأوه؟ فلو عرفوا لاكتشفوا يسوع، لأن الكتاب كلّه يتحدّث عن يسوع، كما يقوله يوحنا في إنجيله.
ويقدّم يسوع جوابه. يعرفون أن يتميّزوا ويفسّروا العلامات التي تدلّ على طقس جيّد أو طقس ممطر. ولا يعرفون أن يقرأوا علامات الأزمنة وعلامات هذا الزمان (لو 12: 56). إذن، هم عميان. هم لا يعرفون أن يروا آية الله في شخص يسوع ونشاطه، في الاشفية المتعدّدة وتكثير الأرغفة... مثل هذه الآيات كافية من أجل التوبة في يوم الدينونة، في أيام المسيح.
أما تمييز الآيات (دياكريناين في مت، دوكيمازاين في لو، ميّز)، فليست قضية حدث ولا براهين. ففي رأي متّى، اليهود هم مسؤولون عن عماهم. وإذا كانوا ما اكتشفوا علامات الملكوت في شخص يسوع، فلأنهم منذ زمان طويل ابتعدوا عن الينابيع الحقيقيّة للتمييز الروحيّ. عماهم جماعي لا فردي، وهو يعود إلى أجيال وليس ابن ساعة.
إن لفظة "جيل" دلّت أولاً على اليهود في زمن يسوع. ثم دلّت على اليهود الذين هم صورة عن البشريّة التي ترفض المسيح يسوع. تلك هي أقلّه فكرة الانجيل الرابع. قال بولس: "اليهود يطلبون الآيات" (1 كور 1: 22). لن يعطيهم يسوع آية، بل يذكّرهم بآية يونان الذي غرق في البحر ثم نجا من الموت. إنه صورة عن يسوع الذي دخل القبر وذهب إلى عالم الموتى قبل أن يقوم من بين الاموات. فهل يحتاج اليهود العائشون في أيام متّى آية أعظم من هذه الآية؟

2- خمير الفريسيين والصادوقيين (16: 5- 12)
بعد أن رفض يسوع أن يعطي الفريسيين والصادوقيين آية، ها هو يحذّر تلاميذه من تعليم وجهاء الشعب اليهوديّ. يحذّرهم من خمير الفريسيين والصادوقيين (ق مر 8: 14- 21؛ لو 12: 1). بعد نظرة عامة إلى المقطوعة الثانية في هذا الفصل، ندرس تفاصيل آياتها.
أ- نظرة عامّة
كانت هذه الآيات مصدر حيرة بالنسبة إلى الشرّاح. ولكن إن تخلّينا عن الشرح السيكولوجيّ او السيروي الذي نفرضه عليها، يبدو تماسكها الداخليّ وارتباطها بما سبق بشكل مباشر، واضحًا بما فيه الكفاية: حذّر يسوع تلاميذه من الفريسيين والصادوقيين الذين تحدثنا عنهم في آ 1-4، واستعمل يسوع في كلامه نهجًا معروفًا في العالم اليهوديّ. انطلق من كلمة وردت في الحديث مع تلاميذه (الخمير)، فدلّهم على أن هناك خميراً يجب أن يهتمّوا به أكثر من اهتمامهم بزاد اليوم والخبز الذي نسوا أن يأخذوه معهم.
إذن، لام يسوع تلاميذه في أمرين. الأولى، لو اعتقدوا حقًا بالمنظِّم الاسكاتولوجي (ها هي قد أتت الأيام الأخيرة) للوليمة المسيحانيّة التي تمّت حين كثّر يسوع الأرغفة وأطعم بها أربعة آلاف (15: 29 ي)، كما اهتمّوا كل الاهتمام بوجبة الطعام القريبة. الثاني: لو فهموا حقًا بُعد الجدال بين معلّمهم وخصومه، لتكلّموا بين بعضهم عن أمور أخرى غير أمر الزاد في الطريق.
إن المواضيع التي تتضمنّها هذه الآيات، وإن جاءت من خبر مر، تميّز أسلوب متّى، ولا سيّما التقابل بين شكّ التلاميذ وارتيابهم (اوليغوبستوس في آ 8. لفظة خاصة بمتّى في هذا الخبر، قليل الايمان)، وتذكّرهم (أو لا تذكّرهم منيمونواتي) بآيتي الخبز اللتين حصلتا. ولكن يبقى هذا تذكّرًا غير كاف وغير ثابت.
ونقدّم خمس ملاحظات. الاولى: لم يتردّد مرقس ومتّى في الاشارة الى الشكّ واللافهم عند التلاميذ (آ 5) حالاً بعد خبري تكثير الأرغفة. ومع ذلك فقد أشركهم يسوع إشراكًا حميمًا في ما فعل. إذن، لم تكن تلك الآية شفّافة الى درجة تدفع التلاميذ الى الايمان. هذا ما ندركه في انجيل متّى وفي الكنيسة المتاويّة. الثانية: إن مت الذي اعتاد أن يستعمل العهد القديم مرارًا في أخباره، لم يفعل ما فعله مر حين عاد الى إر 5: 21 (الشعب الفاقد اللب الذين لهم عيون ولا يبصرون، ولهم آذان ولا يسمعون)؛ حز 12: 2 (هم بيت تمرّد، لهم عيون ليروا ولم يروا...) (لا نخلط هذين النصين مع أش 9:6-10 الذي ورد في مت 13: 14-15 وز). كان اهتمام متّى تربويًا فأوجز مر. الملاحظة الثالثة: إذ أراد مت أن يجعل نصّه واضحًا على مستوى التعليم، زاد آ 12 التي تقول بوضوح إن الخمير الذي يجب أن نتنبّه منه هو تعليم الفريسيين والصادوقيين. في هذا السياق، قد لا نكون أمام تعليمهم بشكل عام، أو أمام بعض الاشخاص منهم، بل أمام ما يقولونه عن الآيات المسيحانيّة (آ 1). الرابعة: إن المعنى المعطى لتكثير الأرغفة في هذه الآيات، هو عون يحمله يسوع إلى تلاميذه الجائعين، دون أي تلميح الى الوليمة المسيحانيّة في نهاية الأزمنة.
والملاحظة الخامسة والاخيرة: لمّح نصّ مر (آ 15 ب) حين زاد "وخمير هيرودس" إلى كل انواع الاضطهاد حتى ذلك المرتبط بالسلطة السياسية، ولم يكتف فقط بالحديث عن "تعليم" تقدّمه هاتان الفئتان المسيطرتان على الحياة الدينيّة في العالم اليهوديّ.
ب- الدراسة التفصيليّة
أولاً: البنية
تتضمّن هذه المقطوعة ثلاثة أقسام رئيسيّة. بدأت مع مقدّمة إخباريّة (آ 5)، وتواصلت مع حوار امتدّ في آ 6- 11 وانتهت في ملاحظة تُجمل معنى المقطوعة: "حينئذ فهموا" (آ 12). إن الحوار الذي نجد فيه ثلاث "خطبات" قصيرة (عكس مر)، اثنتان ليسوع وواحدة للتلاميذ، قد وُضع في قلب المقطوعة، وهو يبدأ وينتهي باللفظة الواحدة فيشكِّل تضمينًا. نقرأ في آ 6 ب: "إياكم وخمير الفريسيين". وفي آ 11 ب: "إياكم وخمير الفريسيين".
ثانيًا: المراجع
حين نتفحّص هذه المقطوعة، نحسّ أن مت 16: 5-12 ليس مرجع مر 8: 14- 21 (ليس في لو ما يوازي مر 8: 14- 21، بل نسخة عن قول يسوع نجده في مر 8: 15 وز، هو لو 12: 1. قد تكون في المعين أو اللوقاويّات)، ولا مر مرجع مت. فإذا جعلنا جانباً الاختلافات الاسلوبيّة الخاصّة بكل انجيلي، يختلف الخبران أولاً حين يصوّران التلاميذ. فالتلاميذ في مت لم يفهموا بشكل مؤقت مدلول كلمة يسوع. أما في مر، فقلوبهم عمياء، فهم لا يفهمون شيئًا. قد نستخلص من هذا الواقع أمرين. (1) أو أن مت حسب الاتجاه الذي نعرفه عنه في أمكنة أخرى، قد جعل التلاميذ يفهمون. (2) أو أن مر الذي اعتاد أن يدلّ على قلّة الفهم عند التلاميذ، قد حوّل المرجع المتّاويّ بحسب نظرته.
وهناك اعتبار آخر. بعد أن حيّر مت 16: 5-12 الشرّاح، فليس المعنى بصعب لكي نفهمه. والآيات تسير معًا فتؤلّف كلاً متماسكًا. ولكن الامور تختلف عندما نقابل مت هذا مع مر 8: 14- 21. فتفاسير هذا المقطع المرقسي تختلف كثيرًا بعضها عن بعض، والنصّ يطرح عدّة أسئلة. مثلاً، ما هو مدلول "الخبزة الواحدة"، الرغيف الواحد، الذي كان معهم في السفينة (لا نجد هذا في مت)؟ ولماذا بالضبط وبّخ يسوع تلاميذه؟ إذا كان لأنهم لم يفهموا كلامه، فكلامه بدا صعباً. وإن كان وبّخهم لأمر آخر، فلماذا لم يوضحه النصّ؟ في الانجيل الأول، ان استعمال "اوليغوبستوس" في 16: 8، يدلّ على أن التلاميذ تركوا الاهتمام بالطعام في خطّ 30:6 (ما الذي لا يعمل لكم يا قليلي الايمان؟).
ونتابع الاسئلة حول نص مر. ما هو المدلول الذي توّخاه مر حين ذكر هيرودس (جعل مت الصادوقيين محلّ هيرودس)؟ ما هي وظيفة مر 8: 15 (خمير الفريسيين وهيرودس)؟ هل أقحمت الآية الانجيلية هنا فبدت في غير موقعها؟ هل من علاقة بين التشبيه حول خمير الفريسيين وخمير هيرودس في آ 15، وبين معجزَتي تكثير الخبزات؟ أم نفرض أن آ 17- 21 تذكّرنا فقط برد يسوع على جدال التلاميذ في آ 16؟ حين نرى تشعّب النص في مر 8: 14- 21 وكثرة الاسئلة التي يطرح، ونقابله مع مت 16: 5-12 الواضح جدًا، نظنّ أن مت أخذ مر وحسّن تعبيره ولغته. وهكذا نرفض قول البعض الذي اعتبر أن مر أخذ مت. فاذا كان قد فعل حقاً، فلماذا حوّل نصًا واضحًا إلى لغز معقّد؟ وهناك فرضيّة نقدّمها وهي تقول بوجود مرجع أول أخذ منه كل من مت ومر.
ثالثاً: التأويل
إذا أخذنا بأولويّة مر بالنسبة إلى مت، ننسب التبديلات في النص المرقسي إلى الانجيلي الأوّل. (1) اختصر مت خبر مر (رج 16: 19-10 الذي يختلف عن مر 17:8 ج-20). (2) حسّن مت أسلوب مر (نجد في مت: انتبهوا واحذروا. ترك مر حرف العطف). (3) أحلّ مت محلّ هيرودس (مر 8: 15) الصادوقيين (مت 16: 6)، فاستعاد عبارة ثابتة في كنيسته: الفريسيون والصادوقيون. أي كل الطبقة الدينيّة الحاكمة في أورشليم. (4) ألغيت تلميحات العهد القديم في مر 18:8 (إر 5: 21؛ حز 12: 2) التي تطبّق على التلاميذ العميان، لا لأن مت أضاع المراجع، بل بحثًا عن تماسك مع 13:10- 17 (رج 16: 9). (5) ألغيت أجوبة التلاميذ على أسئلة يسوع (مر 8: 19- 20) (قالوا: اثني عشر. قالوا: سبعًا). لا شكّ في أنهم يعلمون. (6) كرّر مت تنبيه 6:16 (= مر 15:8) في النهاية، فشكّل كلامُه تضمينًا. (7) ألغيت خاتمة مر (وقال لهم: أفلا تفهمون بعد؟)، وجعل مت مكانها قولاً يدلّ بكل وضوح على أن التلاميذ يستطيعون أن يفهموا. "عندئذ فهموا".
ثلاثة مواضيع تشرف على الفهم المتاويّ في 16: 5-12: يسوع هو الذي يؤمّن الحاجات الماديّة، حاجات الجسد من طعام وشراب كما الله في البرّية. يسوع هو الذي يعلّم التلاميذ. أما رؤساء اليهود، فما يعلّمونه هو ضلالة خطير. إن الموضوعين الاخيرين (يسوع يعلّم، والرؤساء أيضًا، ولكن أي تعليم) يشرحان السبب للتبديلات (بين نصّ مت ونص مر) التي تحدّثنا عنها. إن وضع يسوع كمربّ قد برز حين خفّف من لافهم التلاميذ، مع الخاتمة: إن كلام يسوع قادهم إلى الفهم. وتبديل آ 15 من مر بحيث صارت "تحذيرًا من الفريسيين والصادوقيين"، وتضمين الجملة في تنبيه يتكرّر مرّتين، يقودان إلى نقطة تدفع التلاميذ إلى الحذر من تعليم الرؤساء الدينيّين في العالم اليهوديّ.
ما هو الاساس التاريخي لنصّ مت 16: 5-12= مر 8: 14-21؟ إن المقطوعة المرقسيّة هي تأليف تدوينيّ. هي لا تفترض فقط معجزتين فيهما أطعم يسوع الجموع (نحن في الواقع أمام تكرار للمعجزة الواحدة. كُتب النصُّ الأوّل لجماعة يهوديّة، والثاني لجماعة وثنيّة) بل تفترضهما في تعبير مرقسيّ. فالواقع الأكيد هو أن قول 16: 6= مر 8: 15 (رج لو 12: 1، خمير الفريسيين الذي هو الرياء) صحيح من الوجهة التاريخيّة. نجده في مر والمعين أو في اللوقاويّات، ولا يبدو مبنيًا في إطار بعد فصحّي، ولا سيّما حين يذكر هيرودس. ولكن الشيء الذي أراد يسوع أن يعنيه بهذه الكلمة هو أمر آخر. هل يشير إلى رياء الفريسيين وخبثهم كما يقول لوقا؟ هل كان مت على حقّ حين قابل بين خمير الفريسيين وتعليمهم؟ هل تطلّع يسوع في ذلك الوقت إلى وضعهم حين طلبوا آية (12: 38؛ لو 8:23)، أو هل اكتفى بميول خصومه الشريرة (استعمال الخمير في النصوص الرابينية)؟ هل كان كلام يسوع تحذيرًا من مسيحانيّة خاطئة، أو جزءًا من البحث عن مصلحة سياسيّة، أو تلميحًا إلى الخطر الذي تشكلّه مؤامرة الاعداء على يسوع؟ كل هذه الامكانيّات قد أشار إليها الشرّاح، ولا نعرف ماذا نختار.
ج- تفسير الآيات
أولاً: نسوا الخبز (آ 5-7)
"وفيما التلاميذ يعبرون" (آ 5). ق مر 8: 14: "نسوا أن يأخذوا خبزًا، ولم يكن معهم في السفينة سوى رغيف واحد". أخذت الكلمةُ الأولى والكلمة الأخيرة في مت آ 5 من مر 8: 14. "والعبر" من مر 13:8. كانوا قد نسوا. نحن في الماضي البعيد. استعمل مت المصدر، فأسند التبديل الذي أدخله في آ 5. في مر جرى الحوار في السفينة وساعة اجتياز البحيرة. أما مت، فحين أدرج "وإذ كانوا يعبرون" قبل "إلى العبر" التي هي آ 13 في مر، فقد أراد أن يوضح أن فاعل "نسي" لا يتضمّن يسوع. فالتلاميذ نسوا، لا الربّ. هذا يعني أن كل ما يلي لم يحصل خلال اجتياز البحيرة، بل بعد أن وصلوا إلى العبر، إلى الشاطئ المقابل.
"قال لهم يسوع" (آ 6). رج 13: 57. زاد مت لفظة "يسوع" كما اعتاد أن يفعل مرات كثيرة. "أنظروا واحذروا". رج مر 8: 15 الذي لم يضع حرف العطف، فحسّن مت النصّ. جعل مت محل هيرودس "الصادوقيين". إذا كان الخمير يعني التعليم الكاذب الذي يقدّمه الفريسيون والصادوقيون، فما هو التعليم الذي يقدّمه هيرودس. وجمع مت الفريسيّين والصادوقيين ليدلّ على أن رؤساء اليهود كوَّنوا جبهة واحدة ضدّ يسوع (3: 7؛ 16: 1).
الخمير. سيقول عنه مت إنه التعليم. إنه يرمز إلى الفساد، والتأثير الذي يفسد هو يدلّ على الميول الشريرة التي وإن كانت بسيطة تتكاثر فتُفسد الكل (33:13)، تؤثّر في الكلّ. وقد يدلّ الخمير فقط على "تأثير" أي شيء على شيء آخر. من هذه النظرة، تتّخذ لفظة الخمير وجهة سلبيّة بسبب ما سبق (احذروا)، وما يصف به يسوع الفريسيين والصادوقيين.
بما أن الخمير يُمنع في اسبوع الفصح، ويُستبعد من بعض الاحتفالات الذبائحيّة (خر 23: 18؛ لا 2: 11؛ 6: 16-17)، فلأن مسيرة "التخمير" ترتبط بالتفكّك والانحلال وهكذا يدلّ الخمير على الفساد. وهناك من زاد: "إن استبعاد الخمير خلال اسبوع الفصح يدلّ على أن التحرّر من الطبيعة... يتضمّن تجديدًا اخلاقيًا وروحيًا، فلا يجب أن تصيبه نجاسة أخلاقية".
"ففكّروا في أنفسهم" (آ 7). نجد العبارة عينها في ترجوم أيوب 3:2. اخذوا يتناقشون ويقدّمون البراهين. إن الاداة "هوتي" هي سببيّة: لأنه إذا كان الرب قد نبّه التلاميذ من خمير الفريسيين، فلأن الزاد الذي معهم ليس بكاف. وقد تتقابل النقطتان في خطبة غير مباشرة. أخذوا يفكّرون: "لم نأخذ خبزًا".
"ديالوغيزوماي" (+ في أنفسهم). لا ترد العبارة أبدًا في السبعينية ولا في لو، بل مرّة واحدة في مر، وثلاث مرات في مت. رج مت 21: 25 الذي يختلف عن مر 11: 31. قد نكون هنا أمام حوار بين التلاميذ.
ثانيًا: فعرف يسوع (آ 8- 10)
قد يكون مت زاد لفظة "يسوع" كعادته، أو أبقى عليها إذا وُجدت. لا يبدو أنها غابت من مر 8: 17 أ حسب السينائي والفاتيكاني والبازي واللاتينية العتيقة. علم فقال لهم: "لم تفكّرون في أنفسكم". زاد مت هذه العبارة ليبرز التوازي مع آ 7. "يا قليلي الايمان" رج 6: 30 (اوليغوبستوس). جاءت اللفظة هنا موافقة للسياق، لأن التلاميذ لم يدلّوا فقط على لافهم كلام يسوع، بل دُهشوا لما رأوا الزاد الذي معهم، وهكذا يستخلص القارئ أن الجدال حول الخبز (آ 7) يقود الى الهمّ والقلق الماديّ.
"أفلا تذكرون" (آ 9)؟ لخَّص مت نصّ مر 17:8 ج- 19. فإذا وضعنا جانبًا فعل "أخذ" (لمبانو)، فكل كلمات مت موجودة في مر. كثّف مت نصّ مر، بدَّل بعض الامور من أجل تحسين الاسلوب. وبالاخصّ ألغى الملاحظة التي تتحدّث عن قلوب قاسية مع التلميح إلى الكتب المقدّسة. "لهم عيون ولا يرون، لهم آذان ولا يسمعون". هذا الكلام ينطبق على اليهود لا على التلاميذ (لهذا ألغاه مت) الذين قيل لهم: "هنيئًا لعيونكم لأنها ترى، ولآذانكم لأنها تسمع" (مت 13:13-17). أجل، لا يستطيع يسوع أن يوبّخ التلاميذ بعد أن هنّأهم. ويقول لنا مت في النهاية: "فهموا أنه يحذّرهم، لا من خمير الخبز، بل من تعليم الفريسيين والصادوقيين" (آ 12). في مناسبة أخرى، تحدّث مر 6: 52 عن الرسل الذين لم يفهموا لأن "قلوبهم كانت عمياء". أما الانجيل الأول فترك هذه الملاحظة جانبًا، وجعل الرسل يعلنون: "أنت ابن الله" (مت 14: 33).
إن فعل "منيمونوو" (هنا فقط في مت) يعني في آ 9 أكثر من نشاط عقليّ. تذكّر (رج "ز ك ر" في العبريّة). تنبّه. اهتمّ. وضع في قلبه. فلا يكتفي التلاميذ بأن يتذكَّروا واقعاً عجائبياً هو تكثير الأرغفة، بل يُلزمون نفوسهم بما تفرضه عليهم هذه المعجزة في الساعة الحاضرة.
ثالثًا: النهاية (آ 11-12)
وطرح يسوع سؤالاً في النهاية لا يحتاج إلى جواب: "كيف لا تفهمون أني لست في شأن الخبز قلت لكم". وهكذا صار قول يسوع واضحًا. لا نفهم الخمير في المعنى الحرفيّ. وهكذا استطاع يسوع أن يكرّر تحذيره، وهو متأكّد أنهم سيفهمون: "إحذروا من خمير الفريسيين والصادوقيين". قال مر آ 21: "أفلا تفهمون بعد"؟ فألغاها مت، لأن التلاميذ سائرون إلى الفهم.
"عندئذ فهموا" (آ 12). ق 13: 51؛ 13:17. "ديداخي"، رج مز 59: 1 حسب السبعينية. ترد هذه اللفظة ثلاث مرات في مت (28:7؛ 33:22. تعليم يسوع وطريقة إعطاء هذا التعليم). أما هنا، فالنصّ يشير فقط إلى التعليم. وترد اللفظة خمس مرات في مر، ومرّة واحدة في لو.
تحدّث مر 15:8 عن خمير الفريسيين وخمير هيرودس. فكأننا أمام خميرين مختلفين. أما مت فتحدّث عن خمير واحد هو خمير الفريسيين والصادوقيين. لقد جمعهم متّى معًا. أترى جهل الخلافات العقائديّة بين الاثنين؟ نجيب: ما اهتمّ متّى هنا بالخصائص العقائديّة لدى هاتين الفئتين، بل نظر اليهم كمشاركين في المؤامرة ضدّ يسوع، في محاولة لإلغاء الكنيسة. أما تعليم الفريسيين والصادوقيين فيشير إلى كل ما يقوله رؤساء اليهود ليمنعوا مسيرة الايمان من الانطلاق. ويُبقوا الشعب في اللاإيمان بانتظار الايقاع بيسوع وقتله.
نشير هنا إلى أن متّى انطلق مما عرفه عن يسوع، مما رآه وسمعه. وأراد أن يطبّقه على كنيسته. حذّر قرّاءه من معلّمي اليهود وسلطة المجامع. فقد كان بعض المسيحيين ما زالوا يؤمّون المجامع. فلا بدّ من التمييز بين ما يقوله المسيح من خلال انجيل متّى. وما يقوله رؤساء اليهود، ولا سيّما الفريسيين في جماعات يهوديّة تشتت في سوريّة وفلسطين واعتادت ارتياد المجامع يوم السبت.
ج- نظرة شاملة
في أي إطار جغرافيّ نحن؟ في 15: 39، بدا يسوع وكأنه ذهب وحده إلى منطقة مغدان. فنرى تلاميذه الآن وقد رافقوه إلى هناك أو تبعوه (مت 8: 1- 13). بسّط مت الخبر، ليركّز الانتباه على تعليم يسوع الذي سنسمعه. ماذا يهمّ إن لم يكن مع التلاميذ إلاّ رغيف واحد (مر آ 11)؟ لا يقال شيء عن هذا الرغيف. أتراه بقي مع ما بقي بعد تكثير الخبز؟ بل سنفهم أن الخبر يتحدّث عن زاد في الطريق. ومن رأى في موقف التلاميذ الذين نسوا أن يأخذوا معهم خبزاً، تلميحاً إلى إهمال لدى الذين شاركوا في الافخارستيا في القرن الاول المسيحي، لا يجد أساسه في النصّ.
تلك هي طريقة متّى: يذكر وحده هنا التلاميذ الذين يذكّروننا بالمسيحيّين في كنيسة متى (7: 1-5؛ 15: 1- 20). ونصّ مت يبدو مبسَّطًا حتى حدود التبسيط، موجزًا حتى حدود الايجاز. لهذا لا نستطيع أن نفهمه إن لم نعد إلى نصّ مر: حين سمع يسوع تلاميذه يتحدّثون عن خبزات نسوا أن يأخذوها معهم، تدخّل لكي يعطيهم دورًا حول خبز آخر، حول "الخمير" الذي يجب أن يكون لهم.
نلاحظ هنا مرّة أخرى ظهور "الفريسيين والصادوقيين". وهذا ما يربط المقطوعة بما في آ 1. وإذ يفسّر لو هنا الخمير بمعنى الخبث والرياء (12: 1)، لا يعطي مرقس أي تفسير، بل تلميحًا سريًا إلى خمير هيرودس (8: 15). وفسّره مت بشكل واضح: الخمير هو التعليم. وهكذا جعلنا الانجيليّ الأول على مستوى الفقاهة والتعليم. فالتعليم حول معنى الخمير، هو فكرة تعود إلى العالم اليهوديّ، وقد تدلّ على تعليم صالح أو تعليم رديء. فكل انسان يحمل في نفسه خميرًا، يمارس تأثيرَا في الذين حوله. وهنا يشير يسوع إلى تعليم الفريسيين ومعهم الصادوقيين. وهكذا نكون أمام احدى كلمات المسيح (في مت)، التي تعلن القطيعة التامّة بين العالم المسيحيّ والعالم اليهوديّ والرسميّ، وهي قطيعة قد تمّت بشكل نهائي ساعةُ دوّن الانجيل الرابع.
تناقش التلاميذ، فسمع يسوع نقاشهم. أو هم فكَّروا في داخلهم، فاكتشف يسوع بشكل عجائبي ما يفكّرون به. إنهم "اوليغوبستوس"، غاب الايمان عنهم. رج 8: 26: 17: 17، 20. لو كان لدى التلاميذ إيمان، لفكّروا (نويوو) وتذكّروا (منيمونيوو). هو تذكّر روحيّ وفاهم يعرف كيف يميّز المدلول الحقيقيّ لتكثير الأرغفة. فموضوع التذكّر الذي هو رئيسي في العهد الجديد (ولا ننسى أيضاً العهد القديم)، تلقّى هنا أبسط تعابيره الانجيلية. لسنا أمام تذكّر موضوعي (هناك شيء موضوع أمامنا!) لأحداث شفّافة، بل أمام تذكّر يساعدنا على اكتشاف بُعد ما حدث. ليس هذا التذكّر هربًا إلى ماض سطريّ يحملنا إلى ما وراء الزمن، بل موقفًا يربطنا بما فعله يسوع. لو "تذكّر" التلاميذ على هذا الشكل تكثير الأرغفة، لكان لهم موقف آخر تجاه يسوع حين كانوا في السفينة.
وجاءت ملاحظة يسوع حوله الخبز أو الخمير. كان التلاميذ قد ظنّوا أنه يلومهم لأنهم لم يأخذوا الخبز الكافي كزاد في الطريق. أو أنه يطلب منهم بأن لا يشتروا لدى الفريسيين (غير معقول). أو منعهم من المشاركة في الاحتفالات اليهوديّة الرسميّة (غير معقول أيضًا). كان متّى مربّيًا ماهرًا، فأوضح كل الايضاح معنى تعليم يسوع بوجه السلطة الرسمية في العالم اليهوديّ والتي توّزعت بين الفريسيين والصادوقيين. وهو موضوع سيعود إليه ف 23، فيدلّ على أن هؤلاء المعلمين الرسميين هم قادة عميان، ما دخلوا ولا تركوا أحدًا يدخل إلى الملكوت. إنهم من نسل الأفاعي وهم يتابعون عمل آبائهم حين يقتلون الانبياء والكتبة. من أجل هذا قالت يسوع لتلاميذه وكرّر قوله: إحذروا خمير الفريسيين والصادوقيين، إحذروا تعاليم العالم اليهوديّ الرسميّ. فهناك خمير من نوع آخر أرسله الآب وهو يخمّر العجين كله (13: 33).

خاتمة
من علامات الأزمنة التي هي علامات خاصة بأيّام مجيء المسيح، إلى آية تظهر في السماء فتدلّ على أن يسوع هو حقًا المسيح المنتظر، وصل الحديث مع يسوع إلى موقف الفريسيين وما فيه من رياء، وإلى تعليمهم وما فيه من فساد على مثال "الخمير". لا يريد يسوع أن يهاجم الفريسيين والصادوقيين، وهو الذي يحترم الأشخاص ولا ييأس من أحد. بل هو يهاجم وظيفتهم كمعلّمين للشعب وقوّاد له. لا معلّم لكم إلاّ الربّ يسوع. ولا أب لكم إلاّ الآب السماوي. فهم التلاميذ هذا الكلام وسيفهمونه بشكل خاص مع ف 23: لكم معلّم واحد وجميعكم إخوة. ولكم مرشد واحد وقائد وهو المسيح. فلماذا تبحثون عن النور حيث لا نور، ولماذا تبحثون عن آبار مشقّقة حين تكونون قرب ينابيع المياه الحية.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM