الفصل الثامن والعشرون: جدال حول تقليد الشيوخ- الظاهر والنجس

الفصل الثامن والعشرون
جدال حول تقليد الشيوخ- الظاهر والنجس
15: 1- 20

مع بداية ف 15، ننطلق من تقليد الشيوخ، ولا سيّما حول الطاهر والنجس، لنصل إلى الايمان بالمسيح ولا سيّما مع تلك الكنعانية التي نالت ما أرادت. تقليد الشيوخ هو مجموعة تفاسير الشرائع التي انتقلت بشكل شفهيّ في المدارس الرابينيّة، والتي ستدوّن في المشناة وفي التلمود. سمّاها مرقس تقليد البشر (7: 8) أو تقليدكم (أيها الشعب اليهوديّ) في 7: 9، 13 (رج مت 15: 3، 6). أما يوسيفوس، فدعاها تقاليد الآباء. وهي تتمحور بشكل خاص حول الطاهر والنجس، حول غسل الأيدي، حول الاطعمة التي يستطيع المؤمن أن يأكلها أو لا يأكلها. فرائض عديدة جعلت الشعب ييأس من ممارستها كلها، فاعتبره الفريسيون نجسًا. الفريسيون يعرفون. أما الناس "فهم ملعونون، لأنهم لا يعرفون الناموس" (يو 7: 49).
بعد نظرة عامّة، نتوقف مطوّلاً عند الدراسة التفصيلية قبل أن نستخلص ما يجب استخلاصه من أجل حياتنا الروحيّة ووضع الانجيل في حياتنا اليوم.

1- نظرة عامّة
يسوع وتقليد الشيوخ. هذا هو موضوع هذه المقطوعة التي يتوسّع فيها مت مطوَّلاً ويرافقه في ذلك مر 7: 1-23، الذي سيشرح بعض الأمور من أجل قرّائه الآتين من العالم الوثنيّ. أما لوقا الوثنيّ ابن الوثني، فلم يهتمّ بهذا الموضوع كلّه، كما تحاشى أمورًا عديدة تمتّ إلى الناموس اليهوديّ ولا سيّما في عظة السهل (لو 6: 20- 49) التي تقابل عظة الجبل (مت 5-7) وما فيها من عودة إلى فرائض الناموس وتجاوز هذه الفرائض من أجل كمال يجعلنا نقتدي بالآب السماويّ (مت 5: 48).
إن قراءة سريعة لهذا المقطع (آ 1- 20) تجعلنا نرى ارتباطه بالمقاطع السابقة. نحن هنا مرّة أخرى أمام تصرّف تلاميذ يسوع (آ 2 أ: تلاميذك يتعدّون تعاليم الشيوخ) كما خلال تكثير الأرغفة (13:14- 21) أو مسيرة يسوع على المياه برفقة بطرس (14: 22-33). لا شكّ في أن يسوع هو في قلب الخبر، ولكنه يردّ على سؤال طُرح على التلاميذ. ذاك هو مدلول كل هذا القسم من الانجيل المتاويّ الذي يصل بنا الى الخطبة الكنسيّة في ف 18.
إن لموضوع التلاميذ الذي يظهر بشكل واضح منذ 7: 1- 5، مدلولاً عميقًا، يتعدَّى بعمقه الناحية السيروية المحضة. فما يُطرح على التلاميذ من أسئلة خلال حياة يسوع على الأرض، يُطرح في الواقع على كنيسة متّى التي ما زالت تتعامل مع العالم اليهودي حوالي سنة 80 ب م. اتّهم الفريسيون والكتبة تلاميذَ يسوع، لأنهم لم يغسلوا أيديهم قبل الأكل. وها هي الجماعة اليهوديّة التي ظلّت على اتصال مع كنيسة متّى، تتّهم هؤلاء المسيحيين المتهوّدين في شأن الطاهر والنجس. أبناء كنيسة متى يهود صاروا مسيحيين، ولكنهم ظلّوا يمارسون عدداً من الشرائع اليهودية التي ذكرها يعقوب في "مجمع أورشليم" سنة 49-50: "الامتناع عن نجاسة عبادة الاوثان، عن الفحشاء، عن المخنوق، عن الدم". وقد يكون هناك أمور أخرى حافظت عليها جماعة متّى (ربما ظلّت تحافظ على السبت...)، ولكن اين الحريّة التي جاء المسيح يحملها إلى المؤمنين؟ لهذا كان جواب يسوع إلى الكتبة والفريسيين. والجواب ذاته سوف يحمله متّى إلى هؤلاء اليهود الذين يريدون أن يعودوا بالمسيحيين الى اليهودية المحضة. أو يعودوا بهم من الايمان بيسوع المسيح إلى تعلّق حرفيّ بالشريعة (غل 2: 15-16). نحن أبناء سارة، لا أبناء هاجر، نحن أبناء الحرّة، لا أبناء الأمة (غل 4: 21-28). هذا ما قال متّى لكنيسته.
حين نقابل نصّ مت مع نصّ مر، نكتشف نهج مت، كما نكتشف الفكرة المشرفة على توسيعه: ألغى متّى الشروح المطوّلة التي قدّمها مرقس حول الاغتسال الطقسيّ لدى اليهود. لأن لا مكان لهذه الشروح في وسط مسيحيّ متهوّد، وقريب من فلسطين. ثم إن متّى تصرّف كمربٍّ ناضج، فوضع الجواب الأساسيّ في فم يسوع حالاً بعد السؤال الذي طرحه الفريسيون (آ 3: تتعدون وصية الله= مر 9:7-13). بالاضافة إلى ذلك، تفرّد متّى فجعل في هذا الموضع الكلمة الرهيبة التي وجّهها يسوع ضد عميان يقودون العميان (آ 12- 14؛ رج لو 6: 39). وتفرّد متّى أيضاً فجعل بطرس يدخل في الجدال حول الطاهر والنجس (آ 15). وهكذا صارت بنية المقطوعة مكثّفة، منطقيّة، وتربويّة عند متّى أكثر منه عند مرقس.
ظنّ بعض الشرّاح أن متّى خفّف من قوّة نص مر في هذه المقطوعة (وهكذا فعل أيضًا في معرض الحديث عن السبت)، لأنه ما زال مهتماً بالاغتسال الطقسيّ. قد يكون متّى خفف بعض العبارات الشعبيّة التي وجدها في مر، ولكنه في العمق جاء أقسى من مرقس، في التعارض الذي أقامه بين التقليد الرابيني (أو: الشيوخ) وسلطة المسيح في إعادة تفسير شريعة الله ووصاياه.
وبمختصر الكلام تقدّم هذه المقطوعة (15: 1-20) فكرتين جديدتين كل الجدّة من أجل العالم اليهوديّ في أيام يسوع وأيام متّى: الفكرة الأولى والاساسيّة هي أن يسوع يرفض ما يفعله الكتبة حين يعتبرون نفوسهم المفسّرين المكلّفين تكليفًا رسميًا بتفسير شريعة الله. ففي ف 5-7 (وإن بطريقة أخرى)، قدّم المسيح نفسه كالمفسّر الاسكاتولوجيّ الوحيد المكلّف بقراءة الشريعة. والثانية هي أن المسيح في صراعه مع الكتبة، يتوخّى فقط أن يفسِّر شريعة موسى. هو لا يحمل أفكارًا جديدة لا أساس لها في العالم اليهوديّ (وبالتالي في العالم الشرقيّ)، بل تفسيرًا جذريًا لوَحْي في التاريخ يقدّم إرادة الله للبشر. وما يقوله عن الطاهر والنجس هو تطبيق لهذا المبدأ: ما ينجّس الانسان هو ما يشوّه علاقاته مع اخوته بحسب الروحانيّة التي يرتكز عليها الناموس الموسويّ. ويبقى أن الفرائض حول الطهارة بحسب الشريعة (رج لا 11-16)، لم يلغها يسوع في ذلك الوقت، ولكنه طرح حولها أسئلة أساسيّة (22: 34-40) ستعود إليها الكنيسة وتتحرّر منها شيئًا فشيئًا. فكل ما في العهد القديم لا يقود الكنيسة إلى المسيح، تستغني عنه الكنيسة.
تردّد علمُ التفسير الكتابي حول اتجاهين بالنسبة إلى موضوع تقليد الشيوخ، والطاهر والنجس: هل المسيح (كما في مت) يُلغي الشريعة الطقسيّة حول الطاهر والنجس (ومعها كل الفرائض التي لا تتعلّق بالحياة مع القريب)، أو يجعل الشريعة الطقسيّة خاضعة للشريعة الأخلاقيّة؟ قال أحد الشرّاح: "علّمنا يسوع أن نجعل النجاسة بحسب الشريعة بعد النجاسة الاخلاقيّة التي هي وحدها مهمة". ولكن ماذا يبقى من مهمّ بعد هذا الذي يهمّ حقًا؟ نستطيع أن نتخيّل على المستوى التاريخيّ أن المسيحيّين المتهوّدين ظلّوا أمناء لبعض الفرائض الطقسيّة. ولكن ألحّت عليهم متطلّبات الرسالة والصراع مع اليهود، فدخلوا في مسيرة من القطيعة بدءاً بالفرائض حول الطهارة. ونحن نرى المراحل الهامّة لهذه المسيرة في اللاهوت البولسيّ والمتّاويّ.
ورأى شرّاح آخرون بُعد هذه الاقوال عن الطاهر والنجس بفم المسيح كما أوردها متّى: ما اكتفى يسوع بأن يلغي الصوم، ويقلّل من الاهتمام بنقاوة الأيدي حسب تقليد الشيوخ، بل سمح بأكل اللحوم التي تحرّمها شريعة موسى (لأنه اعتبر جميع الأطعمة طاهرة، رج مر 7: 19). وهكذا كانت القطيعة بين يسوع والفريسيّين تامة.
إن توصيات الرابينيين حول النجاسة ووسائل الطهارة، احتلّت مكانة كبرى في التقوى اليهوديّة في الزمن الذي دُوّن فيه الانجيل، أكثر منه في أيام المسيح وما بعد (حوالي سنة 40). نشير هنا إلى أن القسم السادس من التلمود يعالج هذا الموضوع. ونقرأ مثلاً: "إذا دخل العشارون (أو: جباة الضرائب) إلى البيت، صار البيت نجسًا. إن كان معهم وثنيّ وقالوا إنهم لم يدخلوا نستطيع أن نصدّقهم. ولكننا لا نصدّقهم إن قالوا إنهم دخلوا وقالوا شيئًا".
أما الاغتسال فقد لدب دورًا كبيرًا عند الاسيانيين. كانوا يستحمّون في أحواض وُجدت آثارها في قمران. "لا يدخل الكافر في الماء لئلا يمسّ طهارة الناس المقدسين. فليس الانسان بطاهر ما لم يرتدَّ عن شرّه" (نظام الجماعة 3:5-4). "لا يغتسل المرء في مياه وسخة أو في كميّة من الماء لا تكفي لكي تغطّيه كله. ولا ينقَّى بهذا الماء إناء في نقرة صخر لا يوجد فيها كمية الماء التي تكفي لتغطي الانسان كلّه. إن لمسها الانسان صارت الماء كلّها نجسة".

2- الدراسة التفصيليّة
أ- البنية
إن مت 15: 1-20، شأنه شأن مر 7: 1-23، هو خبر ينطلق من اعتراض، ويبدو في ثلاثة مشاهد. يصوّر المشهد الأولى يسوع مع الفرّيسيّين والكتبة (آ 1-9). والمشهد الثاني مع الجموع (آ 10- 11). والمشهد الثالث مع تلاميذه (آ 12-20). يشبه المشهد الأول المشهد الثالث، لأن كلا المشهدين يبدأان بسؤال يتوجّه الى يسوع.
إن المشهد الثالث يربط المشاهد الثلاثة معًا. ففي آ 12 وآ 15، سُئل يسوع حول جوابه للفريسيين على اعلان آ 11، حول مدلول هذا الاعلان. وهكذا يصبح المشهد الثالث تفسيرًا للمشهد الثاني. غير أن يسوع يعلن في نهاية كل هذا المقطع: "وأما الأكل بأيد غير مغسولة فلا ينجسّ الانسان" (آ20). هذا ما يعود بالقارئ إلى الوراء، إلى السؤال الذي طُرح في البداية: "لماذا يتعدّى تلاميذك تقليد الشيوخ؟ فإنهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون" (آ 2). هذه الخاتمة تدلّ بوضوح على وحدة هذا المقطع (آ 1-20).
ب- المراجع
من الممكن أن نقول إن مت 15: 1-20 هو أقدم من مر 7: 1-23. وبالتالي هو لا يرتبط به. فالانجيل الأول لا يتضمّن شرحًا عن غسل الأيدي لدى اليهود (عكس مر 7: 2-4). ولا يتضمّن الملاحظة التي أوردها مر 7: 19 ج التي تعلن جميع الأطعمة طاهرة. وتعليم مت هو أقرب إلى تعليم يسوع ممّا يرويه مرقس. وهكذا نستخلص أن مر 7: 1-23 هو ثانوي، أي أعيدت صياغته بالنسبة إلى الأمم الوثنية، فعكس موقفًا من فرائض الشريعة.
إن هذا الاستنتاج ليس بضروريّ. وكل هذه الملاحظات لا ترضي الشارح الذي يعرف أن انجيل متّى كُتب بيد يهوديّ لجماعة هي بأكثرها من أصل يهوديّ. وأن متّى كان أكثر تحفّظًا من مرقس في ما يخصّ مراعاة الشريعة. لهذا، فإن الاختلافات بين مر ومت، قد تفسّر إنطلاقًا من اهتمامات الانجيل الأول.
بالاضافة إلى ذلك، هناك عدد من النقاط تجعل مت يرتبط بمر في هذه المقطوعة. (1) سؤال بطرس في 15: 15 (فسّر لنا هذا المثل) يعود إلى قول يرد في آ 11 (ما يدخل الفم). إن آ 12-14 تقطع المسيرة الطبيعية للمتتالية. فخبرُ متّى يفترض سؤالاً بدون آ 12-14، وهذا ما نجده في مر. (2) إذا وضعنا 15: 1 جانبًا، وهو يتحدّث عن "الفريسيّين والكتبة"، فإن مت يقول دومًا "الكتبة والفريسيّين" (لماذا قال هنا: الفريسيّين والكتبة؟ رج مر آ 1). لماذا ترك أسلوبه هنا؟ قد يقال أن مت تبع مراجعه. ولكن مرجعه هنا هو مر نفسه: "واجتمع اليه الفريسيون وبعض الكتبة". (3) في مت دعا يسوع الجموع لتأخذ تعليمًا جديدًا (15: 10). ونقول الشيء عينه عن مر 7: 14 حيث الترتيب هو سمة من سمات التدوين المرقسيّ. (4) إن فعل "إبسبوراوماي" يظهر في مت 15: 17 وفي مر 18:7 (ينحدر، يدخل). هو يظهر ثماني مرّات في مر، ومرّة واحدة في مت. أي هنا. وهكذا يكون الفعل مرقسيًا وقد أخذه مت من مر.
ج- التأويل
ما زال مت يتبع المتتالية المرقسيّة. لهذا، لن نجد رباطاً موضوعياً بين 15: 1- 20 وبين المواد التي تحيط بهذه المقطوعة.
تلعب هذه المقطوعة ثلاث وظائف: هي أولاً هجوم على التقليد الفريسيّ: فليس لهذا التقليد سلطة كسلطة التوارة. لهذا فالتوراة تحكم عليه وتشجبه (آ 1-9). وهي ثانيًا هجوم على الفريسيين أنفسهم: حياتهم تدلّ على الرياء، فلا يستطيع المؤمن أن يتبعهم (آ 12-14؛ رج 16: 5-12). وهي ثالثًا وأخيرًا تعليم حول الطهارة: النجاسة التي تفوق كل نجاسة هي التي تخرج من القلب البشريّ (آ 15- 20).
لا نرى في ف 15 (مثل بعض الشرّاح) إلغاء لشرائع الطهارة كما في العهد القديم. فهذا ما يعارض سائر النصوص المتاويّة (17:5-20). ثم إن مت ألغى قولاً حاسمًا أورده مر 19:7: "أعلن جميع الأطعمة طاهرة". بالاضافة الى ذلك، تكشف آ 12- 14 (جدال الفريسيين) التي أدرجها مت هنا، وآ 20 التي جعلها بشكل خاتمة (آ 20، وأما الاكل بأيد غير مغسولة)، أن الانجيليّ لا "يهاجم" العهد القديم، بل الفريسيين وتقليدهم.
هناك عدّة تبديلات كبيرة قد أدخلت الى مر 7: 1-23. فبالاضافة الى ما ذكرنا، نلاحظ ما يلي. (1) لا يستعيد مت عادة غسل الايدي (مر 3:7-4) لأن جماعة متّى اليهوديّة تعرف ذلك. (2) أبرز التوازي بين عدد من الأقوال. مثلاً ق آ 2أ مع آ 3، ثم آ 4 مع آ 5 وآ 11أ مع آ 11 ب. (3) أوجز متّى عددًا من أقوال مرقس فأزال التكرار. رج آ10، 17، 19. (4) ألغى لفظة "قربان" (مر 7: 11). (5) إن المقطع الذي تحدّث فيه مر عن القربان (7: 9-12) جُعل قبل الاقوال المأخوذة من أشعيا (6:7-8). هذا التحويل يدلّ على تطوّر منطقيّ، ويجعل تعليم الشريعة يسبق تعليم الأنبياء (رج 17:5؛ 12:7؛ 22: 40). (6) إن لائحة الرذائل في مر 7: 21-22 هي 13 كلمة وفي مت 7 كلمات فقط.
نجد جدالاً حول التقليد التاريخي لمتّى (مر 7: 1-23). يعتبر بعضُ الشرّاح أن 7: 1-8 كانت مقطوعة وُجدت في محيط فلسطيني، وقد زاد عليها مر آ 9-13 (الجماعة تهاجم) ثم آ 15. كما زاد تفسيرًا سبق مرقس للآية 15 في آ 18 ب- 19. ثم دوّن آ 20-23 (آيات هلنستيّة). وقال شارح آخر: قلبُ النصّ هو 9:7-13. في التقليد السابق لمرقس، نما عبر زيادة آ 15 ثم آ 17-19 و20-23، وأخيرًا آ 6-8. وفي النهاية ألَّف مر آ 1- 5. وفي رأي ثالث: يمثّل 7: 1-2، 5، 9، 10أ، 11-13أ مقطوعة سابقة لمرقس ذات قيمة تاريخيّة، أما آ 15 (نجد شكلها الاصلي في آ 18ج +20) فهي قول مستقل. رأي رابع: وافق على ما قيل عن آ 15، وظنّ أن 7: 1، 5-13 هي وحدة مأخوذة من حياة يسوع. ورأي خامس يرى في 7: 1-5، 15 صعوبة تاريخيّة شرحها المدوّن المرقسي (آ 2-4، 8، 13، 23). ثم جاء دفاع مسيحيّ (آ 6-8) وما قيل عن القربان (آ 9-13) وتفسيران سابقان لمرقس (7: 15، في آ 18-19، تفسير طبيّ، آ 20-22، تفسير أخلاقيّ).
يبدو أن الرأي الأول هو أقرب الى الحقيقة: إذا وضعنا جانبًا التدوين المرقسي (آ 2-4)، كانت 7: 1-8 مقطوعة مستقلّة وقد زاد عليها مرقس أو سابقه آ 9-13، وهي خبر صراع خسر مقدّمته حين أدرج في السياق الحاضر. ولكن يجب أن نقول إن 7: 1-8 تأسَّس على لقاء تاريخي أعطى فيه يسوع تعليمًا، واستعادته الكنيسة الأولى. أما آ 15 فهي قولٌ مستقلّ جاء إلى مرقس مع تفسير مسيحيّ ارتبط به. وأخيرًا، إن كانت مادة آ 1-13 قد وُضعت من أجل الجدال المسيحيّ مع المعارضين اليهود، فإن آ 15 وما ارتبط بها، قد استُعملت بسبب لائحة الرذائل في إطار تعليم خلقيّ في جوّ الفقاهة.

3- تفسير الآيات
أ- يسوع مع الفريسيين والكتبة (آ 1-9)
"وتقدّم إليه الفريسيون" (آ 1). أوجز متّى نصّ مر 7: 1-4، وتجنّب التعميم (جميع اليهود)، وترك معلومات يعرفها سامعوه. وسأل الفريسيون يسوع (آ 2) الذي جعلوه مراقبًا على تلاميذه الذين يتجاوزون تقليد الشيوخ، وخصوصًا في ما يتعلّق بغسل الايدي. لم يقل مت إذا كان هناك ما حرّك السؤال. إذا كان الفريسيون شاهدوا حقًا تصرّف تلاميذ يسوع. قال مرقس: "لا يسيرون" (أو باريباتوسين، آ 5). فجعل مت في آ 3: تعدى، تجاوز (باراباينو).
"التقليد" (بارادوسيس) يعود إلى تقاليد الفريسيين الآتية من خارج التوراة، وقد دوّنت في المشناة. وبما أن الصادوقيين يكتفون بالتوراة المكتوبة، فما كانوا يتقيّدون بهذه التقاليد التي جعلها الفريسيّون على مستوى التوراة المكتوبة.
"لا يغسلون أيديهم". ق لا 15: 11 حسب السبعينيّة. جمع مت نصّ مر 7: 5 ج (يأكلون بأيد نجسة) مع مضمون آ 2-4 الذي يعود الى عادة غسل الايدي. "أكل خبزًا"= أ ك ل. ل ح م، في العبرية، رج تك 31: 54؛ خر 2: 20.
إن عادة غسل الايدي لم تكن في الاصل من أجل الصحّة، هـان يكن هذا الهدف واردًا عندهم (تك 43: 24؛ 2 مل 3: 11؛ إر 2: 22؛ ق يو 13: 1- 5). لقد انتقلت إلى الحياة اليومية متطلّباتُ الطهارة لدى الكهنة. ففي خر 17:30- 21 طُلب من الكهنة أن يغسلوا أيديهم وأرجلهم قبل الدخول الى خيمة الاجتماع. وفي لا 15: 11 لا تنتقل النجاسة إذا كان الانسان قد غسل يديه بالماء.
"وأنتم لمَ تتعدون وصيّة الله"؟ رج 2 أخ 24: 20. نقرأ في وصيّة لاوي (كتاب منحول 14: 3): "أردتم أن تدمّروا نور الشريعة التي أعطيت لكم لإنارة كل انسان، وعلّمتم وصايا تعارض وصايا الله الحقّة". وقالت وصيّة أشير (7: 5): "لا تهتمّون بشريعة الله، بل بوصايا البشر". ما قاله مرقس بشكل إيجابي، قدّمه متّى في شكل سؤال.
قالت الله (ق مر 15: 10، بدلا قال موسى). هكذا بدا التناقض كبيرًا جدًا. هل نسوا أن وصايا موسى هي وصايا الله. رج خر 20: 12 (تث 16:5)؛ 21: 17 (لا 20: 19؛ تث 16:27). "وأنتم فتقولون" (مر 7: 11). تجاه "قال الله". القربان هو تقدمة للاله (حز 20: 28). بعد ذلك صار يدخل خزنة الهيكل (مت 6:27). هكذا ينتقل شيء ما من الاستعمال الدنيويّ إلى الاستعمال الدينيّ. ولكن الفريسيين حين يقدّمون ما يقدّمون لله، فتهرُّبًا من مساعدة الوالدين. عند ذاك تصبح التقدمة لله، ولا يستفيد منها إلا الذي قدّمها. وهكذا ينسى المؤمن وصيّة الله حول إكرام الوالدين. وينسى ما يتعلّق بالتضامن العائليّ. ما تنتفع مني قربان. فكأنه يقول: لا تستطيع أن تنتفع ممّا أملك.
"تُبطلون وصيّة الله باسم تقليدكم". الوصيّة هي "نوموس" في السينائي ومخطوطات أخرى. "انتولي" في السريانيّة الحرقليّة وعدد من المخطوطات اللاتينينة. أما اللفظة الحقيقية فهي: "لوغوس" (كلمة، كلمة الله). ترك مت ما قاله مر: "وأشياء أخرى كثيرة من أمثال ذلك" (مر آ 13). وفي آ 7 أورد نصّ أش 13:29 حسب السبعينية. خوف الرب هو وصيّة نحفظها غيبًا، نردّدها، ولا نعمل بها. نشير هنا، إلى أن نصّ أشعيا قد ورد في عدد من أسفار العهد الجديد (روم 9: 20، 8:11؛ 1 كور 1: 19) في موضع هجوم على التقليد اليهوديّ، وفي إشارة الى الرياء الذي عُرف به الفريسيون.
ب- يسوع مع الجموع (آ 10-11)
توقّف يسوع هنا عن توجيه كلامه الى خصومه، وتطلّع إلى الجمع. وهذا ما يقابل تبديلاً في براهينه. في آ 2-9 ردّ على هجوم على التلاميذ الذين لا يحفظون تقليد الشيوخ. إذن، الموضوع هو السلطة. أما مع آ 10 فالموضوع هو النجاسة والطهارة.
"ثمّ دعا الجمع" (آ10). ألغى مت "عاد" (من جديد، أيضًا، بالين). فليس من دعوة سابقة توّجهت الى الشعب. أراد يسوع أن يعطي الشعب تعليماً. ولكن كما في ف 13، هو يفسّر تعليمه لأخصّائه (رج آ 15: قال بطرس: فسرّ لنا المثل). "اسمعوا وافهموا". رج 2 صم 20: 16؛ أش 6: 9؛ مت 13: 9، 18، 23، 43، 52. أما مر 7: 14 فقال داعيًا إياهم الى الانتباه: "اسمعوا لي كلكم". نلاحظ هنا أن متّى يميّز بين الفريسيين واليهود، ولا يفعل مثل يوحنا. فالانجيل الأول يوبّخ فقط الفريسيين. أما الجموع فيعطيها تعليمًا.
"ليس ما يدخل الفم ينجّس الانسان" (آ 11). قد نكون هنا أمام مثل أو قول حكميّ. هو قول جذريّ جدًا بحيث لا نجد مثله في الجذرية في التقليد المرتبط بيسوع. هنا نتذكّر مناندرس: "كل ما يحمل نجاسة يأتي من الداخل". وفيلون الاسكندراني: "الانسان الشرير والكافر هو نجس في المعنى الحقيقي". سكستوس: "لا يتنجّس الانسان بالطعام والشراب اللذين يأخذهما، بل بأعمال تنتج عن طباع سيّئة" (قد يكون أخذ هذا الكلام عن مت). ونجد اختلافة نصوصيّة: "نقاوة النفس لا نقاوة الجسد". قال مر 7: 15: "ليس شيء ممّا هو خارج الانسان يمكنه إذا دخل الانسان، أن ينجّسه، بل ما يخرج من الانسان هو الذي ينجّس الانسان". أوجز مت، نصّ مر وبدّل عددًا من الألفاظ، فأبرز التوازي بين شقّي الآية. ولكنه زاد لفظة "فم" (مرتين)، وسهّل قواعد الصرف والنحو، وجعل كل هذا في نكهة ساميّة. فكانت النتيجة نصًا أفقر وأوضح: "ليس ما يدخل الفم ينجّس الانسان، بل ما يخرج من الفم هو ينجّس الانسان".
لماذا زاد "الفم" هنا وفي آ 17-18؟ ليس فقط من أجل الوضوح. بل تذكّر المعين في 12: 34: "من فيض القلب يتكلّم الفم". إن "أشياء" مر التي تخرج من الانسان (آ 15) ومن قلب الانسان (آ 321. رج القلب في أش 13:29)، ذكّرت متّى بالمثل الأول فعبّر عنه وفسّره كما في 15: 11. فالذي يدخل الفم هو الطعام والشراب، وما يخرج منه هو الاشياء الشريرة التي يُنتجها فمٌ شرير. وقد يكون هذا النصّ قد قيل ليجعل من القربان (أو: النذر) كشيء يخرج من الفم فينجّس الانسان.
مع أن "كوينوو" يعني أشرك، فهو يعني هنا "نجّس" (4 مك 7: 6). هذا المعنى الخاص يفسَّر بتحويل لفظة "كوينوس" (مشترك). فقد استُعملت في 1 مك 1: 47، 62 في معنى: نجّس بحسب الطقوس (رج ط م ا في العبريّة). وهذا هو المعنى في العهد الجديد (مر 2:7؛ أع 14:10؛ 8:11؛ رؤ 27:21).
إن مر 7: 15= مت 15: 11 (ما يدخل الفم لا ينجّس الانسان) يُعتبر قولاً تلفّظ به يسوع لدى عدد من الشرّاح. أما عبارة مرقس "أعلن جميع الأطعمة نقيّة" فهي تفسير لقول يسوع هذا. في الواقع، ألغى يسوع الشرائع المتعلّقة بالأطعمة والتي نجدها في سفر اللاويين. وفي خطّ هذا الموقف يبدو أن بولس الرسول قد عرف هذا القول وفسّره كما فسّره مرقس (روم 14: 14: ما من شيء نجس في ذاته). ولكن هناك عددًا من النصوص المسيحيّة (أع 10: 15، 28؛ روم 14: 14، 20؛ 1 تم 4: 4، تي 1: 15) والنصوص اليهوديّة تقابله. ثم إن خصوم يسوع الذين اتّهموه تحدّثوا عن السبت والتجديف، ولم يتّهموه في أمور الطهارة والشريعة حول الأطعمة.
فماذا نقول إذن في آ 15؟ لم يكن الأمر معروفًا في البداية، ولكن فُهم كذلك فيما بعد. إن مر (يتبعه مت) سمّى هذا القول "مثلاً". هذا يعني أنه يحتاج إلى تفسير. وهكذا تكون هذه الآية قولاً اخلاقيًا أو تحريضًا فقاهيًا. وقد أعطيت لشعب اهتمّ بممارسة الشريعة ممارسة حرفيّة. فكان هذا القول حول أهميّة القلب الذي يحدّد الباقي.
ج- يسوع مع تلاميذه (آ 12- 20)
"عندئذ تقدّم إليه الرسل". ق 14:9؛ 15: 1؛ 19:17؛ 18: 21؛ 20:20. نحن هنا أمام نصّ تدوينيّ (أي أعاد متّى تدوينه). في مر، ترك يسوع الجموع وذهب إلى البيت حيث سأله تلاميذه عن معنى المثل. "أتدري أن الفريسيين تشككوا"؟ ق آ 1 حيث ذُكر الفريسيّون. وآ 6 حيث تظهر "الكلمة" (لوغون). لا نجد شيئًا في مر يقابل هذه الآية. تشكّكوا، كادوا أن يعثروا ويقعوا في الخطيئة، لهذا رفضوا يسوع. اختلف الفريسيون عن التلاميذ الذين سألوا يسوع، فظنّوا حقًا أنهم فهموا. في النهاية ستعكس ردة الفعل عندهم ما كان يجب أن يُقال. نلاحظ أن متّى لا يهاجم اليهود كيهود، بل يهاجم تقليد الفريسيّين.
في آ 13-14 نفهم أن الفريسيين ليسوا فقط على خطأ حين يتحدَّثون عن غسل الايدي والقربان، فهناك أمور أخرى في تقليدهم يجب أن تُرذل. وإذا عدنا إلى ف 23، لا نجد حديثاً عن رفض التقليد كله. "كل غرسة لم يغرسها الآب". ق 3: 10؛ لو 17: 6؛ يو 15: 1-8. "فيتايا" (غرسة) ترد مرّة واحدة في العهد الجديد كله. هي تدلّ على الفريسيين لا على تعليمهم. "اكريزوو" (غرس). رج 13: 29؛ أش 60: 21 (يكون شعبك كله صدّيقين وإلى الأبد يرثون الأرض. هم فرع غرسي وعمل يدي). هذا النصّ هو واحد من عدد كبير من النصوص التي تتحدّث عن شعب الله الذي هو غرسة الله (إر 32: 41؛ أش 5: 1-7؛ حز 19: 10-4، أخنوخ الحبشي 10: 16؛ 84: 6؛ 93: 2، 5، 10؛ اليوبيلات 1: 16؛ 7: 34). أما ما نقرأ في مت 15: 13، فهو كلام هجومي يقول: لا نجد غرسة الله في اسرائيل. اغتاظ الفريسيون بسبب المسيح فدلّوا على أنهم ليسوا خاصة الله. لهذا سيُقلعون (13: 29) في الدينونة الأخيرة.
"أتركوهم إنهم عميان". ق 10: 24-25، لو 39:6-40. فالقول عن العميان سيعود إلى التلاميذ، لا إلى الفريسيين. ولأننا لا نعرف موضع هذا الكلام في رسالة يسوع، لا نستطيع أن نُدرك الهدف الأصلي. رج مت 23: 16، 24. في الظاهر، هناك سلطات دينيّة سمّت نفسها "قادة العميان" (روم 2: 19). "إذا كان أعمى يقود أعمى". ق لو 6: 39: وضرب لهم أيضًا هذا المثل: "هل يستطيع أعمى أن يقود أعمى؟ أوليس كلاهما يسقطان في حفرة"؟ وضع مت صيغة الجمع لأنه يتحدّث عن الفريسيين. وترك الشكل الاستفهاميّ (هل يستطيع)، لأن يسوع لا يطرح سؤالاً، بل يعلن حقيقة. والسقوط في بئر هو علامة الشقاء أو الكارثة، التي تحلّ بالانسان. رج مز 7: 15؛ أم 26: 7؛ أش 24: 18؛ 48: 44. وقال ترجوم رأوبين: "روح الزنى يقود الشاب كأعمى في بئر". "بوتينوس" بئر، وربّما الشيول (رج 12: 11) الذي يسمّى أيضًا البئر (ش ح ت).
"فأجاب بطرس وقال له" (آ 15) ق 36:13. هي المرة الثالثة في هذه المقطوعة نجد هذه العبارة (آ 3-13). في مر نقرأ أن تلاميذه (في البيت) (أي تلاميذ يسوع) سألوا عن المثل. ولكن في مت، بطرس وحده يتكلّم. "المثل" هو كلام خارق يصعب فهمه. وهذا هو الوضع هنا. إن سؤال بطرس يعود الى آ 11، لا إلى آ 12-14. لا شكّ في أن رفض التعليم الفريسي في آ 12-14، يساعدنا لكي نفهم لماذا أدخل الانجيليّ بطرس هنا. بما أن يسوع نزع كل مصداقية عن التعليم الذي ينقله حرّاس التقليد، ها هو ينقل تعليمًا آخر الى بطرس حارس التقليد الجديد. وفي الحقبة بعد الفصحيّة، حين يعلن صخر الحقيقة الربط والحلّ (19:16)، فهو يفعل على أساس تعليم تسلّمه من يسوع.
في أع 10- 11 وفي غل 2، يُذكر بطرس في الجدال حول الطهارة الطقسيّة، وقيمتها بالنسبة الى الأمم. ونتساءل: هل ضمّ التقليد المتاويّ الرسول مع هذا الموضوع؟ هل ذكرت جماعةُ متّى بطرس كأساس تعليم حول الطاهر والنجس؟
"فقال: (ق 18:14، 29؛ 18:26) أو أنتم أيضًا بلا فهم" (آ 16)؟ هنا تبع متّى نصّ مر وطرح يسوع سؤالاً ثانيًا (آ 17) حول ما يدخل الفم. بدأ فعرض هنا الشقّ الاول من القول الذي قرأناه في آ 11 (ليس ما يدخل الفم ينجّس) في آ 18، سيعود إلى الشق الثاني (ما ينجّس الانسان)، فيقول ليست الامعاء هي الانسان الحقيقيّ. يدخل فيها الطعام ولكنه لا يؤثّر على الانسان.
"وأما ما يخرج من الفم" (آ 18). بعد أن شرح يسوع ما ينجّس الانسان، أعلن أن "أهواء الشرّ هي فينا". ق روم 10: 8 مع العلاقة الوثيقة بين القلب والفم. وتُذكر الآن لائحةُ الشرور التي يزرعها القلب في عمق الطبيعة البشريّة.
إن لائحة الرذائل معروفة في العهد الجديد (مت 15: 19= مر 7: 21- 22؛ روم 1: 29- 31؛ 1 كور 6: 9-10؛ 2 كور 12: 20؛ غل 5: 19-20؛ أف 3:5، 5؛ كو 5:3، 8؛ 1 تم 1: 9-10؛ 2 تم 2:3- 5؛ تي 3:3؛ 1 بط 4: 3؛ رؤ 9: 20، 21؛ 8:21). لا تعود هذه اللائحة الى العهد القديم، (ما عدا الوصايا العشر وهو 4: 2)، بل إلى الفلسفة الهلنستيّة (وخصوصًا الرواقيّة) التي دخلت الى المسيحيّة عبر اليهوديّة الهلنستيّة. قد استعملت هذه اللائحة في الفقاهة والتعليم المسيحي، ثم استعملت للحديث عن الوثنيين أو الهراطقة.
إن لائحة مت (لأسباب فقاهيّة أو تتعلّق بالذاكرة) قد تأثّرت بالقسم الثاني من الوصايا العشر (رج 1 كور 9:5-10؛ 1 تم 9:1-10). فبعد "الافكار الشريرة" نجد القتل والزنى والفسق والسرقة وشهادة الزور والتجديف. هذا ما يقابل الوصايا السادسة، السابعة، الثامنة، التاسعة (لا تقتل، لا تسرق...) وهي تتبع إكرام الوالدين (رج مت 15: 4). ولكن هناك اختلافين بين قول مت والوصايا. استعمل مت لفظتين للحديث عن الزنى (الزنى والفسق، رج مر 19:10؛ 1 كور 9:6؛ عب 13: 4). ولفظتين للحديث عن كلام السوء (رج روم 13: 13). وهكذا كان في خطّ خر 20: 13-17. أراد مت أن يكون له سبع ألفاظ. والرقم 7 هو علامة الكمال.
"ذلك هو ما ينجّس الانسان" (آ20). رج آ 18 ب؛ مر 23:7: "فجميع هذه الأشياء تخرج من الداخل وتنجّس الانسان". "أما الاكل بأيد غير مغسولة...". وهكذا نعود إلى آ 2. ونكون في تواز مع آ 19. وهكذا قدّم متّى جدالاً حول تقليد الفريسيين، لا حول الشريعة المكتوبة. فغسل الايدي قبل الطعام، نجده لا في الشريعة بل في تقليد الشيوخ.
ماذا نقول في كل هذا؟ أولاً: اعتقد متّى أن الشريعة وكتب الانبياء تبقى شرعيّة (17:5-20). واعتقد أيضًا أن الأمم الوثنيّة تشارك في الخلاص (28: 16-20). حين أمسك بهاتين الحقيقتين دلّ على أمرين هامين. من جهة حافظ على الشريعة ولم يتخلّ عنها (15: 4-9). ومن جهة أخرى، بدأ بإصلاح عميق على ضوء تعليم المسيح: يجب أن يُقيّم التقليدُ اليهوديّ في إطار العهد الجديد، وقد يُرذل، كما حدث في مجال غسل الايدي قبل الطعام. ثانيًا: لماذا أدرج مت آ 12-14 حول الفريسيين الذين هم قادة عميان؟ لا شكّ بسبب العالم الرابيني في أيامه. فعلى المؤمنين أن يميّزوا. ثالثًا: في آ 18 نقرأ: "ما يخرج من الفم يصدر عن القلب وهو الذي ينجّس الانسان". إن التشديد على القلب، على الوجه الباطني في الديانة، هو ما يميّز الانجيل. وهذا ما أراد متّى أن يبرزه على خطى مرقس.

4- الوجهة اللاهوتيّة والروحيّة
نجد أربعة مقاطع: احتجاج الفريسيين، جواب يسوع، المثل الانجيلي، تفسير المثل.
أ- احتجاج الفريسيين (آ 1-2)
وُجد الكتبة والفريسيون في كل أرض فلسطين. أما هؤلاء الذين يتحدّث عنهم متّى هنا، فقد جاؤوا من أورشليم، من إطار السلطة المركزيّة. لهذا يرهب الناس سطوتهم. وقد اعتاد مت أن يجمع الكتبة والفريسيين في معارضتهم ليسوع (5: 20؛ 38:12)، والكتبة ورؤساء الشعب في ما يخصّ موت يسوع (2: 4؛ 16: 21؛ 21: 15...). لم يكن الفريسيون كلهم من الكتبة، ولكن مجمل الكتبة انتموا إلى حزب الفريسيين. ونحسّ أن الكتبة كان في زمن تدوين الانجيل الأول الخصوم المباشرين لجماعة متّى، وإن كانت صورة "الكاتب" لا تظهر في مت دومًا في وجه سلبيّ (8: 19؛ 52:13؛ 2:23؛ 23: 34).
بدأت آ 2 فطرحت اعتراضًا أساسيًا هو تجاوز التقليد. ثم جاءت الحالة الخاصة حول الاغتسال الطقسيّ. بسّط مت نصّ مر وجعله أكثر وضوحًا. أما تقليد الشيوخ فهو مجمل التفاسير التي زيدت على الشريعة وانتقلت شفهيًا من جيل الى جيل في مدارس الرابينيّين. سمّاها يسوع "تقليد البشر" أو "تقليدكم" (مر 8:7، 9، 13 مت 3:15، 6). وسمّاها يوسيفوس المؤرخّ: تقليد الآباء. واعتبرها الفريسيون ويوسيفوس وفيلون مهّمة، شأنها شأن الشريعة. أما الصادوقيّون فتركوها واكتفوا بالشريعة.
لم يأخذ يسوع موقفًا سلبيًا مبدأيًا تجاه تقليد الشيوخ هذا. أي لم يكن موقفه موقف الصادوقيين. بل هو عارض هذا التقليد بمناسبة مسائل خاصّة، ولا سيّما حين تبدو المتطلّبات الأساسيّة في شريعة الله في جوّ خانق بسبب هذا التقليد. كما هو الأمر هنا. وكما في ممارسة الفرائض المتعلّقة بالسبت.
إن فعل "باراباينو" لا يظهر في العهد الجديد إلاّ هنا (آ 2) وفي آ 3. غير أنه يرد مرارًا في السبعينيّة مع معنى "تعدّى على (تجاوز) العهد" (خر 16: 59؛ 17: 15 ي؛ 7:44؛ رج 2 مك 7: 2؛ 4 مك 9: 1). أما الاغتسال الذي عرفته كل الديانات القديمة، فقد لعب دورًا هامًا في الديانة الاسرائيلية القديمة ولا سيّما على مستوى شعائر العبادة (خر 8:30 ي؛ تث 6:21؛ مز 6:25 حسب السبعينيّة). طُبّق غسل الايدي أولاً على خدّام الهيكل من كهنة ولاويين، ثم على الشعب المؤمن قبل الطعام وبعده في الروحانيّة الفريسيّة. وجاءت فرائض تطبيقه أكثر من أن تُعد وتُحصى.
ب- جواب يسوع (آ 3- 9)
استعاد مت هنا مر 9:7-12، فقدّم هجومًا معاكسًا ليسوع، هجومًا واضحًا ولاذعًا. وبدأ بأداة (لماذا) هي لفظة بلاغيّة. فيسوع لا يطرح سؤالاً بالمعنى الحصري للكلمة. بل يشجب خيانة الفريسيين للشريعة ووصايا الله. وهو لا يردّ بشكل مباشر على اتهام الفريسيين للتلاميذ (آ 2). غير أن معنى هذا الهجوم المعاكس هو واضح: إذا كان تلاميذي قد تجاوزوا تقليدكم (وهو أمر لا أنكره)، فأنتم تتجاوزون تجاوزًا فادحًا وصيّة الله بالذات. وبعبارة أخرى، إن الهدف من تقليدكم هو توضيح وصايا الله وتطبيقها. ولكن اتّخذ عندكم هذا التقليد في حدّ ذاته من الأهميّة بحيث حلّ محل الوصيّة، بل خنقها.
نتجنّب هنا تفسيرين خاطئين. الاول، يجعل من يسوع صادوقيًا فيرفض في المبدأ تقليد الرابينيّين. والثاني، يجعل يسوع في عالم المثُل، في عالم بعيد عن الواقع، بحيث يرذل كل شريعة مكتوبة أو تقليدية على حساب الشريعة غير المكتوبة. فكأن الانسان يستطيع أن يعيش بلا شريعة.
إن المسيح الذي يقدّمه مت، لا يعارض في المبدأ، التقليدَ الفريسي أو الرابينيّ. هو يعرف أن الشريعة يجب أن تُشرح وتفسّر لكي تطبَّق في حياة الناس. ولكنه يشجب هذا التقليد حين يخون بشكل ملموس ينبوعه الذي هو وصايا الله. وهكذا وضع يسوع على المحكّ امكانيّة الكتبة في تفسير الكتب المقدّسة تفسيرًا يعطيها كامل معناها. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لا يقدّم يسوع نظرات أخلاقيّة خاصّة تعارض نظرة الفريسيين: إنه يعود إلى وصايا الله كما عُرفت في تاريخ الشعب، ولكنه يُرجع إليها متطلّبات لا مساومة فيها لكي يبعدها عن الأنانيّة أو الكذب والطمع. إن اللفظة اليونانيّة التي تعني "وصيّة" هي "انتولي" حسب السبعينيّة (في العبرية: م ص و ه). استعمل مت هذه اللفظة بشكل عام في صيغة الجمع (19:5: من يتعدّى واحدة من هذه الوصايا؛ 19: 17).
طُرح سؤالان رئيسيّان على علم الاخلاق عند الفريسيين في زمن يسوع. وسيستعيدهما متّى ويقدّمهما بشكل جذري. الأول، يدور حول أمانة التطبيقات الرابينيّة للشريعة الأساسيّة التي أعطاها موسى. والثاني، يدور حوله "أعظم الوصايا" (22: 36- 40). رأى مت أن يسوع قد قدّم أفضل جواب على هذين السؤالين. ما يريده يسوع ليمس نظرة دينيّة خاصّة تفرّقه عن سائر الناس، بل أن يكون كلامه شهادة نبويّة حول المعنى الأساسي لمشيئة الله.
جاءت آ 4-6 تصوّر اتهام يسوع الذي عبّرت عنه آ 3. وأورد مت هنا العهد القديم كما أورده مرقس (7: 10)، فدلّ بكلامه كيف أن تنظيمًا دينيًا ثانويًا يستطيع أن يلغي شريعة الله. هذه الشريعة قد عبرّ عنها أولاً الدكالوغ أو الوصايا العشر (20: 12). ثم ظهرت في نصوص أخرى (خر 17:21؛ لا 19:10؛ تث 16:5). فالمسيح في انجيل متّى، لا يكتفي بأن يطلب عودة خارجيّة الى الدكالوغ. إنه يكشف وصيّة الله على أساس الكتاب المقدّس كلّه. فكما يقول مر 7: 11 (في خط مواز لمتّى) بشكل واضح، "هاجم" يسوع شريعة "القربان" أو "النذر الخاص". فهذه اللفظة العبريّة (ق ر ب ن) قد ارتدت مدلولات ثلاثة. الاولى: العطيّة، خصوصًا تلك التي نقدّمها الى الاله (حز 28:20؛ 42:40). الثاني: خزنة الهيكل كما يقول يوسيفوس في الحرب اليهوديّة (رج مت 27: 6). الثالث: هي عند اليهود لفظة قانونيّة دينيّة بها نُخرج شيئًا من الحياة الدنيويّة لنجعل منه تقدمة لله. إلى هذا المعنى الثالث يلمّح النصّ الذي نقرأ. لقد حكم يسوع على الفريسيين، لأنهم يستفيدون كذبًا من اللفظة والحرف ليتخلّصوا من المتطلّبات الأوليّة التي نجدها في الوصايا العشر.
وربطت آ 7-9 يسوع بتقليد عظيم هو تقليد الانبياء حين ندّدوا بكثرة الكلام الذي لا يصل بنا إلى العمل. وهكذا يعيش المؤمن في السراب والغرور. وترتدي لفظة "مراؤون" هنا معناها المتاويّ الدقيق: لا يتظاهر الفريسيون بأنهم متديّنون، بل هم مراؤون بكل معنى الكلمة، وقد سقطوا في فخّ تقوى خارجية تبعدهم عن الله (رج 6: 2-3؛ 7: 5؛ 22: 18؛ 23: 13). ويبقى التعارض بين القلب والشفتين: إن يسوع لا يشجب كل كلمة عن الله على حساب ديانة باطينيّة (لا نصلّي صلاة جمهورية. لا نقدّم تقدمة ولا ذبيحة). فهو قد علّم، وما شجب يومًا التعليم الرابيني في مبادئه. أما ما يشجبه يسوع، فهو كلام يغيّبنا عن الوضع الحقيقيّ للانسان أمام الله. نلاحظ هنا أن الموضوع لا يعالج التقوى والورع وشعائر العبادة، بل التعليم. فالفريسيون يُضلّون الشعب بتعليمهم، ويوهمونه أنه يعيش الأمانة لله (آ 14). ولكن الأمر ليس هكذا. قال الرب: "هذا الشعب يكرّمني بشفتيه. أما قلبه فبعيد عنيّ".
ج- المثل الانجيليّ (آ 10- 14)
إن نهاية المقطوعة (آ10-20) تسير بحسب نهج يميّز العالم اليهودي كما يميّز انجيل متّى، فتحمل خاتمة عامة للجدال السابق حول الطهارة. وهذه الخاتمة تجد تعبيراً تاماً عنها في آ 11. أما ما تبقىّ فيبُرز هذه الكلمة الاساسيّة التي أوردها مر أيضًا، وإن لم يكن في ألفاظ لافتة.
ذكُرت "الجموع" في آ 10. وهذا أمر هام جدًا. فيسوع في صراعه ضدّ الفريسيين يفكّر (بحسب متّى) بشكل خاص بمجمل الشعب الذي أضلّه تعليم الرابينيّين. فالشعب لا يحمل الحقيقة في داخله، بل هو يحتاج إلى من يعلّمه إياها. وإن تركنا الشعب وسجيّته، صار جماعة من العميان. وإن لم نعطه التعليم الصالح، فهو سائر الى الهلاك (9: 36؛ 14: 13؛ 21: 8). أجل، الجمع عنصر مهمّ في إنجيل متّى. وهناك أيضاً فعل "فهم" (رج 13: 51) الذي ركّزنا عليه في تحليلنا للنصّ.
بدأ الجدال حوله الطهارة بسؤال حول الاغتسال الطقوسيّ (آ 2)، وتوضّح الآن في سؤال عمّا يأكله الانسان أو يتلفّظ به في سؤال حول الفم وحول دوره في حياة الانسان. هل ما يدخل فيه ينجّس الانسان؟ أو هل ما يخرج منه؟ كان اليهود يأخذون حذرهم حين يمارسون طقوسًا تتوخّى أن تحفظ الانسان من نجاسات تأتي من الخارج. أما يسوع فقدّم نظرة جديدة تقول إن الشرّ هو في الانسان. وما ينجّس الانسان هو ما يقوله، هو ما يُخرجه من فمه من تجديف أو كلام جارح يسيء الى القريب، لا ما يدخله إلى فمه.
قرأ بعضهم هذه الآيات فاعتبر أنه أمام تعارض بين تقوى باطنيّة (داخليّة) وتقوى خارجيّة تتوقّف عند صلوات نردّدها وذبائح نقدّمها. ولكن كلمة يسوع ترتدي بُعدًا آخر. فهي تفترض أن الانسان ليس طاهرًا في حدّ ذاته. فلو كان الامر كذلك، فما كان على المؤمن إلاّ أن يحفظ نفسه من نجاسة العالم (لأن لا نجاسة فيه ولا خطيئة! يا للكلام الغريب في نظر الفريسي الذي اعتبر العشّار وحده خاطئًا). ولكن الانسان نجس في الداخل. فمن قلبه تخرج جميع شروره وخطاياه. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، إن هذه العبارة (آ 11) تفترض أن النجاسة ليست شيئا جامدًا، بل هي تقوم بعدد من الأفعال والأقوال والتصرّفات العمليّة التي تخرج من قلب الانسان الخاطىء وتشكِّل لحمة حياته اليوميّة.
تلك كانت الفرضيّة الانتروبولوجيّة في عظة الجبل (ف 5-7). فنحن لسنا هنا أمام ديانة روحانيّة تعيش في الغيوم وتنسى الواقع. ليس الانسان هو الذي يبحث عن تقنيات دقيقة للاقتراب من الله. فهذه التقنيات قد انتهت. فقلب الانسان شرّير وهو يُنتج طوعًا ما ينجّس الانسان. لهذا، كان من المهم أن نفهم في آ 11 عبارة "ما يخرج من الفم" على ضوء عبارة آ 18 التي توضحها: بالقلب. فعمق الانسان الذي يصدر عن القلب ويخرج بالفم ينجّس الانسان كله، لانه يتجاوز شريعة الله بأفعال وأقوال ملموسة.
وهكذا نفهم أن الفريسيين تشككوا من مثل هذه العبارة البريئة، التي ترينا إياها الاناجيل الاربعة وقد مارسها يسوع في حياته. فهو ما خاف أن يلمسه أحد. هو يذهب إلى النجسين، إلى البرص، إلى المرضى، ولا يجعلنا يومًا نشعر بخطورة حالتهم "حسب الشريعة". وحين يتّصل بالنجسين، يبقى أمينًا للشريعة في جوهرها (رج 9: 9-13).
أما آ 12-14 التي هي خاصة بمتّى، فما انتمت أولاً إلى هذا السياق. فالمثَل الذي يُذكر في آ 15 هو مثَل آ 11 لا مثل آ 12-14. ثم إننا نجد آ 14 بشكل آخر في لو 6: 39. غير أن الفكرة التي تعبّر عنها هاتان الآيتان تليق بهذا السياق: اعتبر الفريسيون أنهم يشكّلون غرسة (فيتايا) الله الحقيقيّة، أنهم المسؤولون الوحيدون عن الشعب المختار. ولكن هذا الاعتبار صار موضوع تساؤل بعمل يسوع وتلاميذه. ففكرة الغرس التي طُبِّقت على الشعب المختار، تجد أصولها في أش 60: 21 وقد انتشرت انتشارًا واسعًا في العالم اليهوديّ المتأخر ولا سيّما عند الاسيانيين. "حين تحصل هذه الأمور في اسرائيل، يتثبّت مجلس الجماعة في الحقّ، كغرس أبدي" (قاعدة الجماعة 8: 5؛ رج 11: 8؛ وثيقة صادوق أو وثيقة دمشق 1: 7؛ اليوبيلات 1: 16؛ 7: 24 ب، 21: 24؛ أخنوخ 10: 16). ف "فردوس الله وأشجار الحياة، هي قدّيسوه. وغرسهم تجذّر إلى الأبد. لا يُقتلعون خلال كل أيام السماء، لأن اسرائيل هو حصّة الله وميراثه" (مزامير سليمان 14: 2-3).
د- تفسير المثَل (آ 15- 20)
اعتبر الفريسيون أنهم "قادة"، ولكنهم في الواقع قادة عميان. أرادوا أن يتشبّهوا بما في العالم الهلنستيّ بعد أن اتّصلوا بالعالم اليونانيّ، ولكن متى يدعو المؤمنين إلى أن يتركوهم وشأنهم فيسقطوا في الحفرة وحدهم.
"أعمى يقود أعمى، كلاهما يسقطان في حفرة". هذا المثل، كما قلنا، ينطبق على آ 11 لا على آ 12-14. فيسوع يجيب بطرس ويجعل أيضًا الفرائض الطقسيّة المتعلّقة بالاطعمة (آ 17) على مستوى الاغتسال (آ 20). هي تفترض أن ما ينجّس الانسان يأتي من الخارج، وكأن داخل الانسان نقيّ كله. فعارض يسوع هذه الانتروبولوجيا المتفائلة، بالتأكيد على أن قلب الانسان شرّير، على أنه ينبوع أقوال وأعمال تشجبها الشريعة. ما ينجّس الانسان ليس أن يأكل من هذا الطعام أو ذاك، أن يغسل يديه أو لا يغسل يديه. ما ينجّسه هو عصيانه للشريعة كما يفهمها يسوع ويفسّرها. هنا نفهم أهميّة المسيحيّة التي حرّرت الانسان من هذه الفرائض التي تجعله أسيرما يجب أن يأكل أو لا يأكل. ونفهم أن تفسير الشريعة بهذه الطريقة ينتزع من الفريسيين مهمّة قيادة الشعب. فلا قائد إلاّ يسوع. ولا معلّم إلاّ هو.

خاتمة
جدال حول التقليد، جدال حول الطاهر والنجس. تقليد الأقدمين هو مجموعة تفاسير الشريعة التي انتقلت انتقالاً شفهيًا في المدارس الرابينيّة. ومن هذه التقاليد الاغتسال قبل الأكل الذي جعلته شريعة موسى من أجل الكهنة قبل القيام بأعمال العبادة، فطُبِّق على جميع المؤمنين في إطار التقوى الفريسيّة. وكان لها امتداد في ما يُسمّى "قربان" الذي كان تقدمة لله (حز 20: 28)، ثم لخزانة الهيكل (مت 27: 6)، فصار عبارة قانونيّة ودينيّة نتهرَّب بها من مساعدة الوالدين. وارتبط بموضوع التقليد ما يتحدّث عن الطاهر والنجس. شدّد اليهود على "وسخ" يأتي من الخارج، أما يسوع فقدّم نظرة جديدة تعتبر أن الشرّ هو في قلب الانسان، ومن داخله يخرج. فالكلام الجارح والكذب... هذا ما ينجّس الانسان. الخطأ في حقّ القريب، هذا ما ينجّس الانسان. وحياة في المحبّة الاخويّة تدلت على نقاوة الانسان العائش بحسب وصايا الله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM