الفصل7 والعشرون: يسوع وبطرس يمشيان على المياه

لفصل السابع والعشرون
يسوع وبطرس يمشيان على المياه
14: 22- 36

إن معجزة السير على المياه قريبة من معجزة تهدئة العاصفة: ففي كلا الحالين يتحكّم يسوع بعناصر الطبيعة. وحسب متّى، كانت الريح شديدة. ولكن، لما صعد يسوع إلى السفينة سكنت الريح (آ 30، 32). هذا ما قرأناه في خبر تسكين العاصفة: "وإذا اضطراب عظيم غشي البحر حتى إن الامواج غمرت السفينة" (8: 24). ذكر الإزائيون الثلاثة العاصفة التي سكنت (لا يوحنا)، ولكن يوحنا روى المعجزة الأخرى (6: 12- 21) التي أغفلها لوقا تحاشياً للتكرار. فقد وجدها قريبة من تهدئة العاصفة.
قد نخاطر إن تساءلنا عن الزمن التاريخيّ الذي فيه مشى يسوع على المياه. ولكن من الواضح أن التقليد ربط سريعاً هذه المعجزة بتكثير الأرغفة. وهذا ما يشهد له ثلاثة أناجيل (14: 22-23؛ مر 6: 45-52؛ يو 6: 16- 21).
أما المقطوعة التي نقرأها الآن، فتشكّل وحدة متماسكة جدًا: نكتشف فيها خمسة أجزاء
1- جملة تشكّل انتقالة بين تكثير الأرغفة والسير على المياه، ولكن هذه الجملة ترتبط ارتباطًا أعمق بالمعجزة الأولى منها بالمعجزة الثانية (آ 22).
2- اعتزال يسوع في الجبل (آ 23). انفرد ليصلي.
3- يسوع يمشي على المياه (آ 24-27).
4- بطرس يمشي على المياه (آ 28-32).
5- الخاتمة (آ 32): "فسجد له الذين كانوا في السفينة".

1- نهاية تكثير الأرغفة (22:14)
حين يستعيد يوحنا خبرًا من الأناجيل الازائية، فهو يقدّم تفاصيل تساعدنا على إدراك مدلوله. وساعة يُفرد مكانة واسعة للخطب اللاهوتيّة، فهو يقدّم لنا أمورًا قد تبدو "تافهة"، ولكنها تساعدنا على الدخول في مسيرة الخبر. هذا ما نجده هنا.
بعد خبر تكثير الأرغفة وإشارة حوله عدد الذين نعموا بهذا الطعام (14: 21)، يتابع متّى كلامه بشكل مباشر فيقول: "وفي الحال اضطرّ يسوع التلاميذ أن يركبوا السفينة ويسبقوه الى العبر ريثما يصرف الجموع" (آ 22).
عرفنا فيما سبق أن يسوع كان قد عبر بحيرة الجليل من الغرب إلى الشرق ليُفلت من الجموع التي تحاصره من كل جهة: لقد أراد من اعتزاله أن يؤمّن بعض الراحة لتلاميذه (14: 13 رج مر 6: 31-32: هلموا واستريحوا قليلاً). ولكننا لا نفهم بعد تكثير الأرغفة لماذا "اضطر يسوع" تلاميذه ليصعدوا في القارب ويسبقوه إلى بيت صيدا ريثما يطلق هو الجموع (22:14؛ مر 6: 45). لا شكّ في أن مثل هذه الطريقة في التصرّف تفترض هدفًا خاصًا من قبل يسوع، غير أن متّى لا يقول لنا شيئًا.
هناك مرّات نكتفي فيها بالعودة إلى مرقس لنجد تفاصيل الغاها متّى، وهكذا نحدّد ما نقص في الانجيل الاول. مثلاً، لا يقول متّى شيئًا يُبرز إعجاب يسوع بالذين حملوا إليه المخلّع في كفرناحوم. غير أن مرقس يعلمنا أن هؤلاء الناس لم يتردّدوا أمام الصعوبة وكثرة الجمع، فصعدوا إلى سطح البيت (9: 2؛ ق مر 2: 4: 5). أما هنا فلا يقول لنا مرقس شيئًا لم يقله متّى. غير أن يوحنا ينيرنا. فهو يعلمنا أن الشعب أراد بعد تكثير الأرغفة، أن يأخذ يسوع ويجعله ملكًا. لقد تحمّست الجموع أمام هذه المعجزة، فرأت فيها علامة مسيحانيّة، كما اجتذبتها آمال منافع ماديّة (يو 6: 26؛ رج 4: 15 والسامريّة التي تطلب من هذا الماء لئلا تعطش)، فعزمت على إعلان يسوع ملكًا.
غير أن يسوع يعرف أن "مملكته ليست من هذا العالم" (يو 18: 36). ولهذا رفض أن يخضع لهم. ثم إن مت لا يجهل أن تجربة المسيح الممجّد ما زالت تكمن لتلاميذه: فرغم تعليم المعلّم، ظلّت نظراتهم قريبة جذا من نظرة العالم الذي يحيط بهم (مت 16: 22). إنهم مهدَّدون أيضًا بأن تقتلعهم هذه الحركة الشعبيّة. إذن رأى يسوع أنه من الفطنة أن يبعد الرسل عن الجمع، فاضطرّهم أن يركبوا السفينة (14: 22). ومع أن لفظة "اوتيس" او "اوتيوس" (في الحال) تبقى ضعيفة ولاسيّما عند مرقس، يجب أن نحافظ على مدلولها الحقيقيّ هنا: وفي الحال، وعلى الأثر (14: 22؛ مر 6: 45): إنها تدلّ على العجلة التي تصرّف بها يسوع ليُبعد تلاميذه عن سحر الغرور البشريّ.
ويبدو خبر يوحنا أقرب إلى الحقيقة التاريخية حين يتحدّث عن صرف الجموع: ففي مثل هذه الظروف، يبدو من الصعب أن نصرف أناسًا أخذ منهم الحماس كل مأخذ. غير أن يسوع هرب بشكل خفر. فلما رأت الجموع أنه غاب عن بصرها ذهب كل واحد في طريقه. هذا ما يبدو معقولاً.

2- صلاة يسوع (14: 23)
تمَّ تكثير الأرغفة على شاطئ بحيرة الجليل أو بالقرب منها، على بضعة كيلومترات الى الجنوب الشرقيّ من بيت صيدا (رج لو 10: 10؛ ق مر 45:6). في منطقة مقفرة، بعض الشيء (مت 13:14). في بلاد تراخونيتس، حيث السكان قليلون. وبما أنهم وثنيون، فهم لا يتراكضون الى يسوع على مثال أهل الجليل. وسنرى بعد ذلك أيضًا كيف أن يسوع بحث على بعض الهدوء في فينيقية (15: 21)، أو في جهة قيصريّة فيلبس، في تراخونيتس أيضًا (16: 13؛ رج مر 8: 27؛ لو 9: 18).
منطقة مقفرة. أتكون جبليّة؟ ليس الأمر أكيدًا. لهذا لا نشدّد هنا على معنى لفظة "جبل" (23:14؛ مر 46:6). فهي لا تتوخّى أن تعطينا تحديدًا جغرافيًا، بل أن تصوّر إطارًا روحيًا، وأن تتذكّر أحداثًا أخرى في حياة يسوع (عظة الجبل، التجلّي على الجبل) كما في حياة الشعب المختار (جبل سيناء). وهكذا يعني "الجبل" مكانًا منعزلاً وقفرًا.
اهتمّ متّى بهذا التفصيل لأنه لم يكتب فقط مثل مرقس: "ومضى يسوع إلى الجبل" (6: 46). بل شدّد فقال: "صعد يسوع إلى الجبل، منفردًا". وبعد ذلك قال: "كان هناك وحده". نحن نعرف أن متّى يرينا يسوع على الجبل: في التجربة الثالثة، أخذ الشيطان يسوع على جبل عال جداً (8:4). أما لوقا فقال فقط بأنه اقتاده إلى "مرتفع"، الى "مكان أعلى". وعلى الجبل ألقى يسوع عظته الاولى، عظة الجبل (5: 1)، لا بعد أن نزل من على الجبل كما قال لو 17:6. والتجلّي تمّ على الجبل (17: 1). وكذلك الظهور في الجليل (16:28) قبل الصعود وإرسال التلاميذ الى العالم كله.
يرى متّى أن هذه الجبال توجِّه أنظارنا إلى موسى، وتدلّ على أن يسوع هو موسى الجديد، ذاك الذي يجب أن نسمعه وحده (17: 5، 8). بالاضافة إلى ذلك، يبقى الجبل الموضع الأهم للظهورات الإلهيّة (خر 19: 20). فعلى جبل التجلي (6:17)، كما على جبل الجليل حيث ظهر يسوع بعد قيامته (17:28)، سجد التلاميذ. فالجبل هو موضع اللقاء مع الربّ (1 مل 19: 9-13)، وموضع الصلاة. وسيشدّد لوقا على هذا الأمر بطريقته: فمع أنه لا يحدثنا عن مشي يسوع على الماء، فهو يرينا إياه أيضاً يقضي ليلته في الصلاة على الجبل (12:6). ويعلن أن يسوع ساعة تجلّى على الجبل كان يصلّي (29:9). فساعة كان يسوع يريد الصلاة، كان يصعد الى الجبل (لو 28:9).
بعد تكثير الأرغفة، اعتزل يسوع على الجبل، ذهب إلى مكان قفر وبعيد عن الناس. وهناك توجّه بصلاته الى الآب. إن مشروع إطعام الجموع يمثّل بالنسبة إلى يسوع تجربة النجاح السريع السهل. إنه يشبه التجربة الثانية (مت 4: 5-7) التي تقوم باجتذاب الناس إليه بأمور مدهشة، ساعة يرى الآب أنه يجتذب الجميع إليه (يو 12: 32) بارتفاعه على الصليب (ثم عن يمين الآب). في هذه التجربة، توجّه يسوع الى ذلك الذي أرسله لكي يثبّته في خطّ رسالته بما فيها من آلام وصلب قبل أن تصل الى مجد القيامة. تلك كانت أيضًا ردّة فعل يسوع في كفرناحوم، ساعة تمّت أشفية عديدة، فلاقى نجاحًا منقطع النظير، فهتفت الجموع: "ما أحسن ما صنع". وتصرّف يسوع في ذلك الوقت كما تصرّف هنا: اعتزل "في موضع قفر" (مر 1: 35). وعمل الشيء عينه ساعة دخل في الآلام: "امكثوا ههنا ريثما أصلّي" (مر 14: 32 ي وز).
غير أن متّى أراد أن يُبرز سمة لم يبرزها مرقس: فبدلاً من أن يرينا في الوقت عينه القارب في عرض البحر، ويسوع وحده على البرّ (مر 6 :47)، تحدّث أولاً عن يسوع، فقال: "وعند المساء كان هناك وحده". نجد في هذه العبارة صورة عن صلاة يسوع. أما يوحنا فلم يشدّد على عزلة يسوع في مكان قفر، بل على الظلمة التي لفّت المكان. "ولما كان المساء، انحدر تلاميذه الى البحر" (يو 6: 16). فالظلام كان قد انتشر (آ 17). لهذا لم يعرفوا يسوع. وهكذا نجد هنا أيضًا موضوع النور والظلمة العزيز على قلب يوحنا (رج يو 30:13).

3- يسوع يمشي على المياه (24:14-27)
أ- يسوع رب عناصر الطبيعة
في معظم المقاطع التي فيها يلامس يوحنا موضوع النور والظلمة، نحسّ أنّنا في مناخ الانجيل الرابع. وهنا اكتفى الإنجيليّ بذكر المساء والظلام، ليُبرز ما وجده من خبر عند الازائيين. توخّت صورة المشهد (تسكين العاصفة) عند مرقس أن تفتح أمامنا جوًا روحيًا: جاء المساء. هبّت الريح. جهد التلاميذ أنفسهم ولكن عبثًا (مر 6: 48). أما ردّة فعلهم بحضرة يسوع، فسوف تكتشف السبب العميق لهذا الجوّ (لهذا الوضع): خافوا، ما عرفوا يسوع، كان إيمانهم ناقصًا. هذا ما قاله يسوع بوضوح الى بطرس في الخبر المتّاويّ.
حين رأوا يسوع يمشي على البحر، ظنّوه خيالاً، شبحًا. يجب أن نقابل هذا الحدث مع خبر لوقا، خبر ظهور يسوع القائم من الموت على التلاميذ المجتمعين في اورشليم: هنا أيضًا ظنّوه خيالاً (لو 24: 37). لهذا وجب عليه بأن يعرّف عن نفسه: "أنا هو" (لو 39:24؛ مت 27:14). في كلا الحالين تصرّف يسوع كشخص غير خاضع لنواميس الطبيعة. وهكذا دلّ على ألوهيّته.
هذه الملاحظة تقرّب تقريبًا أعمق السير على المياه من تسكين العاصفة: من يستطيع أن يقوم بمثل هذه المعجزات إلاّ الله؟ إن خبر البدايات الكهنوتيّ كان قد صوّر الخلق كانتصار قدرة الله على المياه (تك 1: 1ي؛ مز 104: 5-9: جعلت للمياه حدّ لا تتجاوزه ولا تعود تغطي الأرض). واعتبر الحكماء البحار (الاوقيانوس) كقوّة ساحقة تهدّد الانسان وتحمل إليه الخطر (مز 69: 3. بلغتُ إلى قعر المياه والسيل غمرني؛ 107: 25-27: يهبطون الى الأعماق). الله وحده يستطيع أن يكبح جماحها. نقرأ في مز 8:65: "تُهدّئ عجيج البحار، عجيج أمواجها". وفي 93: 4: "صوت الرب في الاعالي أعظم من صوت المياه العظيمة وطغيان أمواج البحر" (رج أي 38: 3-4، 8- 10).
ترى التوراة أن الاوقيانوس يرمز الى قوى الشرّ، لان الكائنات السطرية (على مستوى الميتولوجيا) التي هي أعداء الله وأعداء شعبه، قد أحدرت إليه: لاويتان، رهب، والفرعون نفسه. نقرأ في أي 7: 12 بلسان أيوب: "هل أنا الأوقيانوس (البحر) أو وحش البحر (تنين) لتجعل حرسًا ضدّي". وفي مز 89: 11: "أنت الذي سحقت رهب مثل القتيل، وبقوّة ذراعك بدّدت أعداءك". رج خر 15: 1 ي؛ ق 2 بط 2: 4؛ يهو 6؛ رؤ 9: 11؛ 7:11.
إن سير يسوع على المياه يدلّ على أن جميع الخلائق تخضع له. أنها كلها قد وُضعت "تحت قدميه" (مز 7:8). إنه حقًا "مخلّص العالم" (يو 4: 42). فبهاتين المعجزتين في البحر، يبدو أن يسوع يتمّ ما نسبه المرّتل إلى يهوه في مز 107: 23-30: "نزلوا إلى البحر على السفن، ومارسوا مهنتهم على المياه العظيمة. فرأوا أعمال الرب ومعجزاته في اللجج. بكلمته قامت ريح عاصف وهيّجت الأمواج. كانوا يصعدون إلى الأعالي ويهبطون إلى الأعماق... فصرخوا إلى الرب في ضيقهم، فأخرجهم من شدائدهم. وحوّل العاصفة الى صمت وسكنت الأمواج. ففرحوا إذ سكنت، وقادهم الله الى ميناء ابتغوه".
هكذا شكّل ظهورُ يسوع الماشي على المياه تيوفانيا، كما سيقول متّى بوضوح في الخاتمة التي هي خاصّة به: سجد له التلاميذ وقالوا: "حقًا أنت ابن الله" (آ 33). ففي مثل هذا السياق، يتّخذ لقب ابن الله معناه القويّ. فالتأكيد الذي نراه في الانجيل الرابع "إغو ايمي" (أنا هو) يرتدي هنا أيضًا القوّة عينها، ويلمّح إلى اسم يهوه الإله الذي هو (يو 8: 24، 28؛ 13: 19). وهكذا يلتقي متّى مع يوحنا في إعلان لاهوت المسيح بهذه العبارة السامية: أنا هو، أنا يهوه. والربّ الذي فعل مع شعبه حين جعله يعبر البحر الاحمر، قد فعل الآن في يسوع: "لمّا صعد يسوع إلى السفينة، سكنت الريح" (آ 32).

4- الكنيسة
لو لم يستنر خبرُ متّى بخبر مرقس، لما استطعنا أن نقول إن القارب في الانجيل الأول يرمز الى الكنيسة. ولكن المقابلة جاءت معبّرة بشكل خاصّ. فحين يقول مرقس في لغة عاديّة إن التلاميذ تعبوا وهم يجذّفون، فضّل متّى عبارة غير عاديّة: "وأمّا السفينة فكانت في وسط البحر تكدّها الامواج، لأن الريح كانت معاكسة" (آ 24). قد نظنّ أننا أمام صورة أدبية. ولكن هذه الصور لا تنتمي عادة إلى أسلوب متّى. فهو لا يصحّح النصّ المعروف إلا لأسباب فقاهيّة أو لاهوتيّة. وهنا نكتشف في خاتمة الخبر سبب هذا التصحيح: عرف "الذين كانوا في السفينة" في يسوع على أنه ابن الله. لقد آمنوا به (آ 33). وهكذا يبدو متّى أنه رأى في القارب، في هذا القارب، رمزًا إلى الكنيسة (رج 23:8؛ 15: 39).
وجّه مرقس انتباهه إلى التلاميذ. أما متّى فإلى الكنيسة. غير أن الوضع الذي يشيران إليه هو هو: نحن في الليل. ابتعد يسوع، والعاصفة (أو: الريح) تعترض القارب في مسيرته.
لوحة لافتة ومؤثرة. وقد كرّرها التقليد الازائي أكثر من مرّة. نحن نجدها في ثلاثة ظروف بأشكاله متشابهة تقريبًا: ففي بداية رسالة يسوع، وبعد يوم من التعب، اعتزل يسوع الناس دون أن يشعر به أحد. ذهب إلى القفر، والليل ما زال مخيّمًا. وهناك صلّى. كان التلاميذ عرضة للحيرة والاضطراب. وفي النهاية، وجدوا يسوع من جديد. وهدأ قلقهم (مر 1: 35-28). ونجد العناصر عينها في خبر المشي على المياه. ونقرّبه من خبر تسكين العاصفة مع اختلاف بسيط يشير إلى أن يسوع كان نائمًا ولم يكن غائبًا (مت 8: 24-27). وأخيرًا نجد وضعاً مشابهًا في نهاية رسالة يسوع، في بستان الزيتون. أخذ يسوع معه ثلاثة تلاميذ واعتزل عن الآخرين. ثم ابتعد أيضًا عن الثلاثة الحميمين (مت 26: 36-39). الوقت ليل. والتلاميذ ضاعوا، فناموا من "الحزن" (لو 22: 4- 5). جاء يسوع إليهم ولكنهم لم يفهموا آلامه. ليس من قبيل الصدف أن يأتي السير على المياه بعد تكثير الأرغفة، والنزاع في بستان الزيتون بعد تأسيس الافخارستيا: فتكثير الأرغفة يصوّر مسبقًا الافخارستيا التي هي طعام الانسان الذي يسير في ظلمة الايمان.

5- بطرس يمشي على المياه (14: 28-32)
أ- شخص بطرس
اكتفى مرقس ويوحنا بأن يتحدّثا عن يسوع الذي مشى على المياه. أما متّى فتذكّر أيضًا كيف مشى بطرس على المياه للقاء يسوع. وهكذا نجد حالات عديدة يتفرّد فيها متّى بتقديم شهادة عن بطرس. مثلا، وعدُ يسوع لبطرس (16: 17- 20): أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة. الدرهمان اللذان وُجدا في فم السمكة فدفعا الضريبة عن يسوع وعن بطرس (17: 24-27). ونلاحظ أيضًا أن متّى يزيد تفصيلاً على لائحة الرسل حين يصل الى بطرس: "الأولى سمعان" (2:10). في خبر شفاء حماة بطرس، لا يذكر متّى مع بطرس "اندراوس مع يعقوب ويوحنا" كما فعل مرقس (مت 8: 14؛ رج مر 1: 29). وحدثُ السير على المياه يشدّد على قلّة الايمان عند بطرس. هذا ما يعطيه بُعدًا خاصًا على المستوى التاريخيّ (لسنا أمام مديح). فنحن لا نستطيع أن نشكّ بصحّة هذا الواقع "متذرّعين" بالقول إن متّى "خلق" ثلاثة أخبار خاصة حول بطرس لكي "يعظّمه". فهنا كما في الإنباء الأول بالآلام والقيامة تلقّى بطرس توبيخًا لا مديحًا. "يا قليل الايمان، لم شككت، لم ارتبت" (31:14). "إذهب خلفي يا شيطان" (23:16).
قد نستطيع القول إن موقف بطرس الماشي على المياه يصوّر موقفَه قبل القبض على يسوع وبعد القبض: اندفاع سخيّ انطلق من إيمان عميق، ثم ضعف. ولكن حالاً بعد ذلك، كان اندفاع جديد نحو يسوع الذي غفر له وخلّصه وتراجع (26: 75069؛ لو 22: 61).
حين نلاحظ هذه التقاربات، لا نستطيع أن نستنتج بالضرورة أن السير على المياه يشكّل فقط نبوءة "بعد الحدث" قد دوّنت في أسلوب رمزيّ (أي لم تحصل، والانجيلي اخترعها من عنده). كلا. فما نستطيع أن نكتشفه هنا هو طبع بطرس بما فيه من حماس. والنعمة حوّلته شيئًا فشيئًا، من رجل يخاف إلى رجل صار شهيدًا. غير أن السمات الاساسيّة في طبعه ظلّت هي هي ولم تتبدلّ: فبطرس ظلّ بطرس حتى بعد القيامة. لهذا، فحين ظهور يسوع على شاطىء بحر الجليل، ما إن قال التلميذ الحبيب "هذا هو الرب"، حتى ألقى بطرس نفسه في الماء (أخذ يسبح هذه المرّة. لم يغرق) ليذهب الى لقاء "الربّ" (يو 21: 7).
لا شكّ في أن خبر متّى يتضمّن بعض الامور الملتبسة. ما هو المعنى الدقيق للكلمة التي وجّهها بطرس الى يسوع: "إن كنت انت هو، فمُرني أن آتي إليك على المياه" (آ 28). هل عرف بطرس يسوع على مثال التلميذ الحبيب الذي هتف بعد القيامة: "هذا هو الربّ" (يو 7:21)؟ حينئذ قد تكون الرغبة في لقاء يسوع سريعًا حرّكت في بطرس هذا الاندفاع القويّ. أو هل يكون بطرس تردّد وشكّ، فطلب علامة على مثال ما فعل توما فيما بعد؟ قال: "إن لم أضع إصبعي في موضع المسامير وأضع يدي في جنبه لا أؤمن" (يو20: 25). ولا ننسى أن اليهود أيضًا طلبوا علامة. كل هذا يعني أن متّى أعاد قراءة الحدث على ضوء القيامة، بما فيه مسيرة بطرس على المياه. فالماء يدلّ على العالم وما فيه من شرّ. وعلى بطرس والرسل أن يسيروا فيه مهما كان خطر الغرق كبيرًا. يتحلّون بالايمان. وإن سقطوا فيد الرب هي هنا. وستكون مسيرتهم ثابتة بعد القيامة.
نستطيع أن نرى في بطرس تجسيدًا لمسيرة الايمان في قلب الانسان. هو يؤمن، ولكن إيمانه ظلّ سريع العطب. فحين فكّر في يسوع ووثق به، ظلّ قويًا. ولما تطلّع الى وضعه البشري وما فيه من ضعف، أخذ يغرق. غير أنه صرخ: "يا رب نجّني"، فأمسكه يسوع وخلّصه. نحن هنا أمام صورة حقيقيّة عن صراع الانسان من أجل المسيح: بالايمان والمحبّة يرتبط الانسان بالمسيح ولا شيء يفصله عنه. كما نشير إلى أن صرخة بطرس هذه (نجّني يا ربّ) صارت صلاة المؤمنين بعد القيامة، لأن يسوع هو الربّ حقًا. فلا نحاول أن نكتشف بالتدقيق ما كانت صرخة بطرس في ذلك الوقت، وما كان إيمانه. فمتّى يقرأ النصّ على ضوء القيامة وبالنظر الى واقع كنيسته التي تلاطمها الامواج. اين إيمانها؟ فلتتمسّك بالربّ وحده.
ب- التلاميذ
هناك تعارض ظاهر بين خاتمة مرقس وخاتمة متّى، قد حيّر الشّراح للوهلة الاولى. قال مر 6: 51-52: "دُهشوا في أنفسهم أشدّ الدهش لأنهم لم يفهموا شيئًا من أمر الأرغفة، بل كانت قلوبهم عمياء". وأما متّى فقال: سجدوا أمام يسوع قائلين: "حقًا أنت ابن الله" (14: 33).
يدلّ هذا الاختلاف دلالة نموذجيّة على الاختلافات التي أدخلها في الاناجيل الخيارُ الفقاهي الذي أخذه كل انجيليّ. فشدّد مرقس على أن سرّ يسوع ظلّ مغلقًا على التلاميذ حتى القيامة (بل ظلّ يحيّر النسوة، بعد القيامة: استحوذت عليهن الرعدة وانذهلن ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كنّ خائفات، 8:16). أما متّى فحاول أن يقدم للمسيحيين مثالاً من خلاله الاشخاص الذين يدورون في فلك يسوع. فالمجوس سجدوا ليسوع وكأنهم عرفوا أنه الله. وفي قيصريّة فيلبس، لم يقل بطرس فقط: أنت المسيح (كما في مر 29:8). بل "أنت المسيح ابن الله الحيّ" (مت 16: 16). وبعد القيامة سجد شهود القيامة على جبل الجليل (17:28). بالاضافة الى ذلك، اختلفت مسيرة مرقس الانجيلية عن مسيرة متّى. فأراد أن يكون اكتشافُ المسيح تدريجياً. وفي النهاية فقط سيعلن قائد المئة "في الحقيقة كان هذا الرجل ابن الله" (15: 39). أما متّى فجعلنا مند البداية في زمن ما بعد القيامة. منذ البداية يسوع هو الرب. ولهذا سجد له التلاميذ حين رأوه يفعل ما لا يفعله إلاّ الرب (يهوه): هدّأ البحر والرياح.
ج- حضور يسوع
بدا متّى في البداية معارضًا لمرقس حول ردّة فعل التلاميذ خلال مسيرة يسوع على المياه. ويبدو أيضاً في خلاف مع يوحنا له معناه. ففي التقليد الإزائي "صعد يسوع إلى القارب فسكنت الريح" (آ 32؛ مر 6: 51). أما في الانجيل الرابع فيبدو وكأن يسوع يرفض أن يصعد الى القارب. "أرادوا أن يأخذوه في القارب، ولكن القارب وصل حالاً إلى الأرض حيث كانوا يقصدون" (يو 6: 21).
المقابلة بين يوحنا ومز 107: 30 تشير إلى مرمى الانجيلي وما فيه من رموز. فقد أراد أن يقدّم لنا حقيقة عميقة: ما إن صار يسوع هنا حتى بلغنا نهاية السفر ووصلنا الى مبتغانا. إنه هو هدف حياتنا. إنه "الطريق والحقّ والحياة" (يو 14: 6). أما مرقس ومتّى فأرادا أن يعلّماننا أن حضور يسوع يهدّئ الاضطراب ويخلّصنا من "الاعداء" التي تتمثّل في البحر والمياه. وكل هذا يتمّ في القارب الذي يدلّ على الكنيسة.
بعد أن نعطي المعنى الروحي للسير على المياه، نقدّم ملحقًا يشرح 14: 34-36.
أ- المعنى الروحي للخبر
إن ساعات الضيق التي عاشها الاثنا عشر خلال حياة يسوع العلنيّة، صارت بالنسبة الى الانجيليين رمزًا إلى وضع الكنيسة ساعة الاضطهاد: فيسوع بصعوده ذهب وحده الى الآب وترك التلاميذ يجاهدون في هذا العالم حتى عودته. إنهم يعيشون في ليل الايمان. واليوم لا يختلف وضعُ الكنيسة عمّا كان عليه في زمن الانجيليين. وقد تُضطهد الكنيسة هنا أو لا تضطهد هناك. ولكن عليها أن تجاهد في كل آن. وعلى المسيحيين أن يعبروا في ليل الايمان وهم يتطلّعون إلى يسوع مبدئ إيمانهم ومكمّله.
والانسان الذي يلتقي المسيح لا يرى فيه المخلّص في لحظة وبشكل نهائي. فالايمان مسيرة طويلة داخل وضع الانسان بما فيه من ضعف وتردّد ورفض وخيانة، وعلى تلميذ المسيح الذي تحرّكه التجربة في كل وقت، أن يعرف أن يسوع لا يتركه في وسط العاصفة. فالمسيح وحده يستطيع أن يخلّصه من هبّات الرياح ومعاكسة الأمواج.
فإن استند المؤمن إلى المسيح حقّق معجزات أعظم من تلك التي حقّقها بطرس حين مشى على المياه. بل من تلك التي حقّقها يسوع نفسه. قال: "الحق الحقّ أقول لكم: من يؤمن بي يعمل هو أيضاً الأعمال التي أعملها، بل يعمل أعظم منها لأني ماض الى الآب" (يو 14: 12). وإن ضعف إيمانُنا على مثال ما حدث لبطرس، تكون صرختنا: "يا رب نجّنا". أمسك يسوع بطرس وأقامه. وتلميذ المسيح يعرف أن إيمانه سريع العطب، وأنه قد يسقط بعد سنوات عديدة من الحياة المسيحية. فما عليه إلاّ أن يصرخ مع والد الولد المصروع: "أؤمن يارب. فأعن قلّة إيماني" (مر 9: 24).
ب- ملحق (14: 34-36)
وينتهي ف 14 بإجمالة تجعل يسوع يصل إلى جنسارت الواقعة على الضفة اليمنى من البحيرة، بين مجدلة وكفرناحوم (مر 6: 53، لو 5: 1). وها نحن نثبّتها في آخر هذه المقطوعة التي تتحدّث عن الرب الذي مشى على المياه ودعا بطرس ليمشي معه.
مضمون هذا المقطع: أشفية عجيبة يجترحها يسوع في أرض جنسارت. وهو شفاء يحمل الخلاص، لأن كلمة واحدة تدلّ على الشفاء والخلاص. وهو شفاء يحمل الحياة كما اعتادت السريانيّة ان تفعل حين تترجم فعل "سوزو" اليوناني بفعل "أحيا".
إن هذه المقطوعة الصغيرة، شأنها شأن المقطوعة السابقة والسبع التابعة، لا تجد ما يوازيها إلاّ في مر (53:6-56). أما لو فتجاهل مضمون هذه الآيات وان استطعنا أن نجد عنده بعضاً من تعابيرها. إنها تشكلّ في مت حاشية من مجموعة الحواشي العامة حول نشاط يسوع العجائبي (رج 4: 24؛ 9: 35؛ 14: 34-36؛ 29:15- 31). إذا جعلنا 9: 35 جانبًا، كل هذه الحواشي المتاوية تجد ما يوازيها في مر. لهذا نستفيد كل الافادة إن عرفنا أن نكتشف التحوّلات التي قام بها مت. مثلاً هنا، بسّط نصَّ مر وحسّنه من الناحية اللغويّة، ولكنه حافظ بدقّة على الوجهة الاصيلة التي فيه: هو خبر يدلّ على الطريقة المدهشة التي شفي فيها هؤلاء البؤساء: لمسوا فقط ثوب يسوع.
هل تدفعنا هذه الحواشي إلى الظن أن يسوع شفى حسب التقليد الانجيلي، كل المرضى الذين حملوهم إليه دون تمييز؟ هنا نسوق ثلاث ملاحظات. الأولى، تبدو هذه الحواشي أمرًا شاذًا في مجمل الأخبار الانجيلية التي تسرد أشفية اجترحها يسوع. ففي مجمل الحالات، عندما يشفي يسوع مريضًا فهو يشفيه بطريقة شخصيّة، يدخل معه في حوار مهما كان الخبر قصيرًا. الثانية، حسب الفكر الانجيلي، أشفية يسوع هي آيات (علامات) تدلّ على أنه حقاً قد تسلّم سلطته من الله لكي يبدأ عهد الخلاص. من هذه الوجهة ليس عددُ هذه الآيات هو الذي يهمّ، بل ما يميّزها في حياة يسوع وعلى ضوء العهد القديم. الثالثة، غير أن هذه الحواشي تذكّرنا بأن المسيح كما نراه في مت بشكل خاص، قد أعطي مهمّة تدعوه إلى أن يمارس خدمته لدى الشعب كله، لا من أجل بعض المميّزين، أو بعض الاخصّائيين في الحياة الدينية (مثل الكتبة والفريسيّين). حين ترك هذه الجموع الغفيرة تلمسه، اعتبر الفريسيّون ذلك رجسًا ونجاسة. كيف يسمح يسوع للخطأة أن يلمسوه؟
من أجل هذا سيكون الموضوع الرئيسي في المقطوعة التالية (15: 1- 20): الطاهر والنجس: موقف يسوع وتقليد الشيوخ.
حين نقرأ نصّ مت، نلاحظ أن القارب لم يعبر حقاً (دياباراسنتس، رج 9: 1؛ 13:14) بحر الجليل. اكتفى مت بأن يستعيد ألفاظ مر. جنسارت هي سهل صغير يقع غربي بحيرة طبرية. وقد بُنيت مدينة على اسم هذا السهل حيث كانت القلعة القديمة: كنارت (تث 3: 17؛ يش 11: 2؛ 19: 35). لهذا السبب سمّيت البحيرة، بحيرة جنسارت (لو 5: 1، وحده)، كما سمّيت بحيرة الجليل (مت 18:4؛ مر 1: 6؛ 7: 31) وبحيرة طبريّة (يو 6: 21: 21: 1 والكتابات الرابينيّة)
عرف أهل (اندرس، رجاله، عبارة خاصّة بمتّى، 7: 24؛ 12: 41) تلك المنطقة بيسوع. لسنا هنا أمام معرفة إيمانية (7: 16؛ 11: 27؛ 17: 12؛ رج 1 كور 13: 12). بل معرفة شخص شاهدوا وجهه من قبل وتذكّروا معجزاته. قد تعود هذه المعرفة "الخارجيّة" إلى أبعد من ذلك، لا سيّما وأنهم جاؤوا بجميع مرضاهم إلى يسوع. لمسه هؤلاء المرضى، بل يسوع نفسه لمس الأبرص وما خاف أن يتنجّس منه بل طهّره (3:8). كما لمس أعين أعميي اريحا فأبصرا في الحال (20: 34). أما هنا، فسمح لهم يسوع بأن يلمسوه. على هذا اقتصر الحوار بينه وبين هؤلاء المرضى. لا شكّ في أنهم حين لمسوه دلّوا على إيمان ضمنيّ. وهكذا نفهم أن يسوع، حسب النصّ الانجيلي، لم يفرض دومًا ايمانًا معلنًا وواضحًا لدى الذين يريد أن يشفيهم. فحركة اليد أو العين تعبّر عن القلب، شأنها شأن الكلمة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM